الطرق إلى الله

الطرق إلى الله

الطرق إلى الله 

بقلم: الشريف حاتم بن عارف العوني 

الطُّرُقُ إلى الله تعالى أكثر من أن تنقص عن عدد السالكين !!
قالها الشيخ ، فقال التلميذ : ولكن الشرع حدد سبيل الله وصراطه المستقيم ، وأنه صراط واحد ، وجعل ما سواه من السُّبُل سُبُلَ الغواية والشيطان ؟!
فأطرق الشيخ ساكتا بلا جواب ، وسكت الجميع ، حتى ظنوا أن الشيخ لن يتكلم ليلتئذ!
لكن الشيخ بعد إطراق طويل ، رمق التلميذ بنظرة سريعة ، فوجده واجما محمرّ الوجه يكاد وجهه يغيب في صدره من شدة الأسف!!
فقال الشيخ للتلميذ : هذا أول تلك السُّبُل ، يا بُني !!
فسُرّي عمن في المجلس كله : أن الشيخ تكلم ؛ إلا ذلك التلميذ ، فقد ازداد وجوما وإطراق رأس !
فأتم الشيخ حديثه ، وقال : يا بني ، جاء جوابك على كلامي وكأنه اعتراض عليه ببدهيات الشرع ، مما لا يخفى على أحد ، مما يوجب عليك أن لا تحسن الظن بنفسك على حساب إساءة الظن بشيخك ، فتظن نفسك عرفت ما غاب عنه ، وهو من بدهيات المعرفة التي لا تغيب عن أحد ! (وأتم الشيخ قائلا : ) فسكتُّ عن جوابك ، لأرى واردك فيه : هل هو وارد رحماني أم وارد شيطاني ، فلما رأيتك منكسرًا حياءً علمتُ أنه واردٌ رحماني ، لكنك استعجلته في قلبك قبل أوان اكتماله ! فجاء على هيئة اعتراضِ المعجَبِ بنفسه ، المسيءِ بالظن إلى شيخه !! ولو أني حين رمقتُك رأيتك مزهوا باعتراضك ، متهلل الوجه به ، لعلمت أنه وارد شيطاني ، جعلك تظن أنك قد أظهرت علمَك وأنك غلبتَ شيخك!!
فبكى التلميذ ، وجاء يتكلم ويعتذر ، فقال الشيخ : قبلنا عذرك قبل الاعتذار !
يا بني ، لو كانت سُبُل الله تقل عن عدد السالكين لوجب أن تكون بكلامك السابق قد سلكتَ سبيل غواية !!
يا بُني ، صراط الله واحد ، لكنه مسالك بعدد أنفاس الخلائق .
يا بُني ، شرع الله واحد ، لكنه يتسع لإيصال الناس كلهم إلى رضوان الله تعالى .
يا بُني ، أرأيت ذلك الصحابي الذي كان مكثرا من شرب الخمر ، فاتسع له باب حب الله ورسوله ، فولج منه إلى حصنٍ حصين يحميه من الطرد .
يا بني ، أرأيت الفضل بن العباس محرما رديفا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحج ، يرمق امرأة وضيئة الوجه معجبًا بحسنها كانت تخاطب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، تالله ما خرج من سبيل الله إلا ليدخل في سبيله تعالى بصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجهه عن المرأة ، حين أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيده الشريفة ذَقَـنَ الفضل فعدّل وجهه عن النظر إليها ، وكأن شيئا لم يكن .
لئن اتسع سبيلُ الله تعالى ذلك الجيل ، في مثل موقف الفضل بن العباس (رضي الله عنهما) وهو في تلك الحال الفضيلة من الحج ، وفي مثل تلك البقعة الشريفة ، وأجل من ذلك وأعظم : أن كتفه تلتصق بكتف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ووجهه في مرآة وجه سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم)وأخشاهم وأخشعهم ، فما ضاق سبيلُ الله عن الفضل بأن اكتُفي لإعادته إليه بأن صُرف وجهه برفق عن المرأة الوضيئة. 
يا بني ، تالله لو أدرك الجنيد زماننا أو الشيخ عبد القادر الجيلاني ، لسلكا بالناس مسالك غير التي كانت تصلح الناس في زمانهم ؛ لاختلاف الحال .
ولو أدرك ابن عطاء الله السكندري زماننا لكتب دستورا من الحِكم ، تَسْلُك بأهل زماننا ، كما سلكت الحكم العطائية بأهل زمانه .
يا بني ، كما اتسع سبيل الله للأغنياء والفقراء ، وللملوك والسوقة ، وللأقوياء والضعفاء ، مع تباين ما بينهم التباين التام ، فكذلك تتسع سُبل الله أهل الغفلات كما اتسعت لأهل الذكر!
يا بني ، كم نجا غافل ، وكم هلك عابد ! الأول : بانكساره وذله وعدم يأسه في رحمة الله، والثاني : بعُجبه وتكبره وثقته بعمله .
يا بني ، ما أحوج أهل زماننا لحكم عطائية تناسب زمانهم وواقعهم ، مع افتقارهم إلى حِكَم زمن ابن عطاء الله !
فرفع التلميذ رأسه ، ورأى الشيخ في فمه كلاما ، فقال له : قُل يا بُني ؟
فقال التلميذ : فهمت يا شيخي أن على شيوخ السلوك المعاصرين ترتيب الناس على مراتب بحسب طبقاتهم في أحوال الطاعة والمعصية ، وأن لا يكون تسليك الناس كلهم على مرتبة واحدة ؟
فقال الشيخ : فَـقُهتَ فالزمْ !
يا بُني ، لا أضر ممن حَـمّلَ هزيل البدن ضعيفَ القُوى ما لا يحمله إلا أشدُ الناس وأقواهم بدنا ؛ إلا من حمّل خَوّار العزيمة الإيمانية ما لا يحمله إلا راسخ العزيمة حازم القوة الإيمانية .
يا بني ، للعصاة مسلكهم إلى الله تعالى وللطائعين مسلكهم ، ومسلك العصاة قد ينجيهم وهم عصاة !
– أترى إتباع السيئةِ الحسنةَ .
– أترى انكسار القلب ودمعة الذل لله تعالى . 
– أترى الرضا بآلام المقادير ومصائب الدنيا على أنها جزء من عقوبة عصيانه ، يرى العاصي أنه مستحق لأكثر منها ، فيحمد الله أنه ما عوقب بأكثر منها ، ويحمده مرة أخرى أنه عاجله بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة .
– أترى استغفار القلب واللسان .
– أترى إحسان الظن بأهل الطاعات وحبهم وطلب بركة دعائهم . 
ذلك كله هو عمل عصاة ، وهم عصاة ، وهو من أسبابهم في النجاة .
ما أحوج شيوخ السلوك – يا بُني – إلى تجديد علومهم ، وعدم الجمود على مسالك السالفين .
ما أحوج الناس إلى شيخ طبيب ، يحرص على العلاج الإيماني ، فإن عجز عند تفشي الداء : فأن لا يزيد استشراؤه في مريض الطاعة فلا يموت إيمانه ، فإن عجز : فأن يريح المريض حتى يلقى الله تعالى وهو على عقد الإيمان ولو مع العصيان ، فرحمة الله تسعه ، وعفوه أكبر من ملء الأرض خطايا = خيرٌ من أن يلقى الله بعقد الإيمان قد انحلّ ، وحلّ مكانه عقد القنوطِ فالتمردِ والكُفْران !
يا بني ، كان الناس يبكون على فوات النافلة والطاعة المستحبة ، فصرنا نفرح ببكائهم على فعل الكبيرة ! فكيف لا تتباين مسالك العباد إلى الله ، وهم بهذه الطبقات المتباينة ؟!
يا بني ، ليس المقصود تغيير الشريعة ، فالحرام حرام ، وستبقى الكبائر كبائر ، لكن كما جعل النبي (صلى الله عليه وسلم) لمدمن الخمر سبيلَ حب الله والرسول مسلكا لنجاته ، مع إصراره على كبيرة شرب الخمر ، وهو في ذلك الجيل الذي يجد الطائعون عليه أعوانا ، فكيف يضيق السبيل إلى الله تعالى على عصاة في زماننا ، يجدون فيه الأعوان على العصيان لا على الطاعات ؟!
يا بني ، لكل زمان دولة ورجال ! ولكل زمان مسالكُ وسالكون !
يا بني ، حب الله لعباده أوسع من حب الأم بأبنائها ، أترى كيف تُوسِّعُ الأم لابنها العاصي أبواب المعاذير لتجعله عندها طائعا ، وهي تتضرّر بمعصيته لها ، وتؤذيها مخالفته ، فكيف بمن لا تضره معصية عاصٍ ولا تنفعه طاعة طائع ، وهو أشد حبا لخلقه من الأم بأبنائها ، وهم من أهل توحيده ؟!
يا بني ، ما أقرب الطريق لكل من قصده ، وما أبعده عمن أدبر عنه !
يا بني ، عند الله مغانم كثيرة ، لا تنقبض يداها المبسوطتان عن كل سائل مهما قَصُرت يمينُه ! بل ربما سبق العطاء إلى قصير اليد عند الكريم وتجاوزت طويلَ اليد ؛ لأن قصيرها أحوج !
ثم سكت الشيخ !!
وهناك تهللت وجوه التلاميذ بدموع الرضا والفرح ، واستضاءت بسعة الرجاء في الرحمة ، وانصرفوا راشدين !!

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!