المعرفة ومخاطبة الآخر : ميشيل شودكيفتش نموذجًا
بقلم: ثريا إقبال
يتناول كتاب ميشيل شودكيفتش ختم الأولياء Le sceau des saints الصادر عن دار كاليمار سنة 1986 علاقة مؤلفات الشيخ الأكبر بالقرآن والنموذج النبوي من خلال محورين مركزين ، هما مفهوما “الختم” و”الولاية” وهما قبل كل شيء مصطلحات قرآنيان الأول يتعلق بنبي الإسلام محمد عليه السلام من حيث كونه خاتم أو ختم الأنبياء وهو الجامع لكل الكمالات التي اختص بها الأنبياء من قبل. أما الثاني ، أي أولياء الله ، فيتعلق بتلك الفئة من المسلمين الذين وصلوا على ذروة الكمال إسوة بالأنبياء ، وبذلك صح عليهم قول “الأولياء ورثة الأنبياء”.
وحول مفهوم الولاية ، يذكر ميشيل شودكيفتش أن كل نبي ، حسب الشيخ الأكبر ، يعتبر مصدر هداية بوصفه وارثا لهدي الأنبياء الذين سبقوه ، وأن إرثه يجب أن يتناول من ثلاثة جوانب وهي : الأعمال والأحوال والمعرفة ، وهذه الأخيرة هي الأهم ويجب أن تكون هدف الدين كله. كما يشير ميشيل شودكيفتش أن “للولاية” أهمية قصوى عند ابن عربي باعتبارها منطلق كل ما يتعلق بالسلوك والتجربة الروحية ، علاوة على أن “نظام الولاية” كما وضعه ابن عربي يعتبر سابقة كبرى في تاريخ التصوف الإسلامي ، إذ لم يتطرق أحد من قبله إلى دراسة هذا الموضوع سوى الحكيم الترمذي في كتابه “ختم الأولياء” وذلك من ثلاثة قرون خلت ، حيث يطرح 557 خمسمائة وسبعة وخمسون سؤالا يتعلق بالولاية والأولياء ، يشرح كيفية علو الولاية على النبوة والرسالة في آخر مراحل الإسلام ، وذاك ما أثار عليه نقمة فقهاء زمانه. فكان ابن عربي أول من أجاب عن أسئلة الترمذي وأعاد طرح مسألة الولاية وعلاقتها بالنبوة ، فأوضح أن كل ولي على قلب نبي يرثه ، وبما أن النبي محمد عليه السلام هو جامع الأنبياء والرسل ، فكل وارث من أي كان ، فإنه لا يرث في نهاية الأمر سوى من العلم المحمدي ، لأن النبي محمد هو أصل ومنتهى كل نبوة.
ويستند الشيخ الأكبر ، لشرح هذه الفكرة على مفهومي الحقيقة المحمدية (أقدمية النبي عن كل كائن في الكون) والإنسان الكامل (في شخص النبي محمد اجتمعت كل الصفات). لذلك فإن ولاية كل ولي ليست سوى مساهمة في ولاية النبي الذي هو في الوقت نفسه ختم الأنبياء وختم الولاية الكونية. من جهة أخرى ، يتناول ميشيل شودكيفتش في هذا الكتاب مسألة “الولي الكامل” أو ما يسميه الشيخ الأكبر “الملامي” أو “الملاماتي” ، ذاك الذي يرث مباشرة عن النبي عليه السلام ولا يظهر عليه شيء من الكرامات أو خرق العادات ، بل يتحقق كماله عبر عبوديته المحضة ، وتقيده بالشريعة والفرائض. وهكذا يستنتج أنه من المفارقة أن يتحقق طريق الكمال فقط بتطبيق الشريعة ، وهنا أيضا إشارة إلى مفهوم الرحمة والمحبة إذ يتساوى الولي وعامة المؤمنين في الوصول إلى القرب الإلهي.
أما ترجمات ميشيل شودكيفتش فتتميز بالدقة والإتقان والجمال لأنه ينقل إلى لغته الفرنسية التي يعرف خباياها ويتقنها إلى أبعد الحدود ، كما أنه على دراية تامة ودقيقة بأسلوب ابن عربي وسمة كتاباته وخصوصية معجمه وإيقاع جمله وكذلك لإلمامه بالتفسير والفقه وعلوم القرآن بلغة عربية فصيحة مكنته من قراءة النصوص في أصولها. وذلك ما وفر له شروط المفسر النزيه الذي لا يميل إلى مذهب خاص لنقل مضامين الفكر الأكبر على هواه مثلما كان الشأن لبعض من أراد أن يضفي على هذا الأخير طابعا حلوليا أو مسحة شيعية أو مسيحية. كما أنه لم يرض أبدا الاقتصار على ترجمة مختصرة وسريعة ولم يبدل أو يغير أو يبسط نزولا عند رغبة القارئ الغربي أو أي قارئ متسرع. وخير دليل على ذلك ، كتاب
Les illuminations de la Mecqueالفتوحات المكية، الصادر عن دار سندباد سنة 1988 وهو أنطولوجية لمجموعة من النصوص المختارة من الفتوحات قام بترجمتها مجموعة من المتخصصين في الفكر الأكبري ، اختارها وقدم لها وأشرف عليها ميشيل شودكيفيتش. وعن ظروف إصدارها ، يقول ميشيل شودكيفيتش في الطبعة الثانية التي صدرت بالنصوص الفرنسية فقط سنة 1997 عن دار ،
Collection Spiritualitژs Vivantes Albin Michel أنه لما اتصل به المدير التنفيذي لمؤسسة Rothko Chapel يطلعه على رغبة هذه الأخيرة في إصدار سلسلة حول ابن عربي تعرف القارئ المهتم بفكره من خلال مختارات قصيرة مصنفة حسب بعض المواضيع التي يسهل تناولها من الفتوحات ، لم يقبل بالعرض لأن التبسيط والتجزيء مضر بالنص الأكبري وبالقارئ المتأني. لذا تم الاتفاق على ترجمة أبواب بكاملها تتعلق بأهم المواضيع التي يرتكز عليها الفكر الأكبري ، فصدرت في عمل قيم يعتبر مرجعا أساسيا للباحث والمهتم. وقد يتفاجأ قارئ الأنطولوجية بعدم توحيد المصطلحات التقنية للمعجم الأكبري بين المترجمين وربما يرجع ذلك لضرورة احترام حرية التأويل لكل منهم فمسألة “الأعيان الثابتة” مثلا تترجم تارة بـLes haeccژitژs ژternelles وتارة بـLes entitژs immuables ولكن هذا الاختلاف راجع أيضا لطبيعة أسلوب ابن عربي الذي ينهل بغزارة في الإمكانيات التي تتيحها له تعددية المعاني في اللغة العربية ، فــلا يتوانــى في استعمال الكلمات الواحدة بمعـــان مختلفة فـــي الفقـــرة نفسها. مثلا: كلـــمة وجـود يمكن أن تعني الكائن ، L’گtre أو الوجود
L’existence أو الخلق الموجود Le Monde crژe أو مصدر فعل وجد Le fait de trouver ونفس الأمر بالنسبة لكلمة حـق التي تعني تارة حقيقة Vژritژ وتارة تحقق Rژalitژ وتارة أخرى الله Dieu من جهة أخرى قد يندهش قارئ هذه الترجمة من المساحة اللامألوفة التي تحتلها المقدمات والهوامش وذلك لأن نصوص الفتوحات مليئة بإشارات ورموز يجب الإمساك بها ومراجع داخلية وخارجية من الضرورة معرفتها للتوصل إلى فهمها داخل متن معرفي شامل. وسأستدل على ذلك بمثل من المقدمة التي وضعها ميشيل شودكيفيتش لكتاب “الفتوحات المكية” المترجم والذي يتعلق بخطبة الفتوحات. ويذكرنا ميشيل شودكيفيتش أنه إذا كان كل مسلم يبدأ عادة كتابته بخطبة (une doxologie) من شطرين: التحميد والتصلية ، فإن الخطبة عند الشيخ الأكبر تحتل مكانة كبرى ، فهي ليست فاتحة للموضوع بحكم العادة وإنما تكون دوما تقديما لأهم الأفكار والمواضيع التي سيتطرق إليها الجزء التالي. فلننظر كيف ترجم ميشيل شودكيفيتش خطبة الفتوحات وكيف استخرج منها أهم المواضيع والأفكار المؤسسة للموسوعة وكذلك كيف ربط كل جزء منها بسنده القرآني وبالنصوص الداخلية والخارجية التي تحيل عليها.