ماذا نستفيد من التصوّف فى العصر الحاضر؟

ماذا نستفيد من التصوّف فى العصر الحاضر؟

 

ماذا نستفيد من التصوف فى العصر الحاضر ؟

بقلم: أ.د. حامد طاهر

هل يوجد فى التصوّف الإسلامىّ ما يمكن أن نستفيده منه فى الوقت الحاضر؟

والإجابة بكل تأكيد : نعم ، وسوف نفصّل مجالات الإفادة من التصوف فيما  يلى:

أولاً : فى وقفه الإنسان مع نفسه لتقييم موقفه من الدنيا

الإنسان المعاصر فى غمرة السعى إلى توفير وسائل معاشه، وتأمين إقرار مستقبله يكاد ينسى الغاية الحقيقية من وجوده. ومن المعلوم أن هذه الغاية تتعلّق بصدق التوجه إلى الله تعالى بالعبادة ، وادخار العمل الصالح الذى ينفعه فى الآخرة. وبالطبع هنا معادلة صعبة إذ كيف يندفع فى دروب الحياة المادّية ليحصل لنفسه ولأسرته على ما يكفيها ويرضيها ، ثم يحقق فى الوقت نفسه هذا الجانب الروحى المتعلق بالآخرة ؟!

لا شك أن متطلبات الحياة الدنيا تكاد تستغرق جهود الإنسان فى السعى من أجل امتلاك المال، وجمع الثروة، وإشباع الشهوة ، إلى جانب تحقيق الجاه، والتمتع بنفوذ السلطة. وهو فى أثناء ذلك كله ، يصارع ويحارب ، فيدخل فى اشتباكات ويعقد تحالفات ، وقد ينجح مرة ، ويفشل مرات ، ثمّ هو بعد ذلك كله يجد نفسه منهكا من الصراع ، وقد يصيبه المرض فيقع طريح الفراش، ولا يكاد يتناول كوب الماء ليوصله إلى فمه إلا بمعونة الآخرين !

قليل جدًا من الناس هم الذين يدركون – وهم فى غمرة هذا الصراع – أن مسئوليتهم تنقسم إلى قسمين ، أحدهما للدنيا والثانى للآخرة ، فيحاولون على قدر الطاقة المزاوجة بينهما ، وقد يتغلب جانب على جانب آخر ، ولكن الإنسان العامل هو الذى يسرع بإقامة التوازن بينهما ، فيجرى ويتوقف ، ويتعب ويستريح ، ويأخذ من الدنيا ما قدر له ويعطى الباقى للمحتاجين.

أما الصوفية ، فقد قرروا لأنفسهم بالطبع موقفا ثالثا : فلم ينغمسوا فى الدنيا ، ولا حاولوا إحداث التوازن بين الدنيا والآخرة ، ولكنهم اختاروا طريق الآخرة وحده، ومن ثم فقد كرسوا كل جهودهم على العمل من أجلها ، بل وتفرغوا تماما لها ، حتى أنهم تركوا الدنيا ومباهجها وملذاتها غير عابئين بها ، بل بلغ بهم الحال إلى وصفها أحيانا بـ (المزبلة) !

لا نطالب الناس جميعا بأن يحذوا حذو الصوفية ، وإنما أن يتبعوا الطريق الثانى ، المتوازن والمعتدل ، والذى يجمع بين جانبى الدنيا والآخرة ، لكن ما يمكن أن يستفيدوه من الصوفية أنهم حين يتعاملون مع الدنيا لا يستهلكون أنفسهم تماما فيها ، ولا يعتبرونها هى وحدها غاية الغايات ، بل إنها مجرد معبر إلى الآخرة ، وهى محدودة فى الزمان والمكان والأحوال.. إن الصوفية يضربون لنا أروع الأمثال على قوة الإرادة أمام مغريات الدنيا المادية، والزائلة دائمًا ، وكذلك على بعد النظر عن الواقع الضيق الذى يحسبه كثير من الناس خطأ أنه مساحة واسعة بغير حدود !

ثانيًا : فى مجال التربية

يقدم الصوفية لنا منهجًا فى التربية ، يكاد يتجاوز أحدث ما وصلت إليه أساليب التربية الحديثة ، سواء فى الغرب أو الشرق، من مستويات. وبالطبع يقوم هذا المنهج الصوفى على عدة أسس ، كما يتضمن عددًا من المراحل : وله أهداف محددة فى كل مرحلة، ثم هدف نهائى لها جميعا.

وقبل أن نشير إلى أهم معالم هذا المنهج ، تجدر الإشارة إلى شيوخ التصوف الذين كانوا يتولون الإشراف على تربية المريدين وبماذا كانوا يشعرون إزاء هذه التربية

يقول ممشاد الدينورى : إن عينى لتقر بالفقير الصادق ، وإن قلبى ليفرح بالمريد المتحقق !

وهذا معناه أن عملية التربية بالنسبة للشيخ أو الأستاذ لم تكن عملاً مفروضا أو وظيفة يتقاضى عنها الشيخ أجرًا ماديا من المريد، وإنما كانت ناتجة عن حبّ حقيقى لإفادة المريد، والأخذ بيده فى طريق التصوف الشاقّ. وقد أوصى الصوفية بضرورة الشيخ للمريد.. يقول أبو يزيد “من لم يكن له شيخ فإمامه الشيطان” !

وهذا الشيخ هو الذى يتابع صدق المريد فى توجهه نحو التصوف، فالخداع أو النفاق أو الرياء مرفوض هنا تماما.

ومن أهم ما يبدأ به المريد : تصحيح عقيدته مع الله تعالى ، ثم الخروج من المال ، والجاه ، وقطع علاقته تمامًا بأمور الدنيا.

ومن واجب المريد نحو الشيخ أن يتأسى به فى جميع حركاته وسكناته ، وأن يحسن الظن به ، وألا يخفى عنه سرا حتى يتمكن الشيخ من تقويمه أولاً بأول ، كما ينبغى عليه أن يقصّ عليه أحلامه ، لكى يضع له المنهج الذى يخلصه من أضرارها.

ويجب على الشيخ بعد أن يستوثق من صدق المريد أن يلقنه ذكرًا من الأذكار ، ويأمره أن يذكر ذلك الاسم بلسانه ثم يأمره أن يسوى قلبه مع لسانه ثم يقول له : اثبت على استدامة هذا الذى كأنك مع ربك أبدًا بقلبك ، ولا يجرى على لسانك غير هذا الاسم ما أمكنك.

كذلك يأمره أن يكون أبدًا فى الظاهر على طهارة ، ولا يكون نومه إلا غلبة (أى غير مقصود منه) وأن يقلل من غذائه على التدريج شيئا بعد شىء حتى يقوى على ذلك ، ولا يأمره أن يترك عادته التى نشأ عليها دفعة واحدة.

وعلى الشيخ ألا يسمح للمريد فى أول الطريق الصوفى بالأسفار ، فإنها تشتت الجهد ، والبال ، وإنما عليه أن يحثه على خدمة الفقراء ، ومساعدة كل من يحتاج إلى المساعدة من خلق الله 00 وهنا أمران محظوران تماما ، وهما : أخذ الهدايا من النساء ، ومصاحبة الفتيان ؛ لأنهما يفتحان على الصوفى باب الفساد !

وبالطبع ليس المطلوب من استعراض أهم معالم المنهج التربوى عند الصوفية أن نأخذه بالكامل ، وإنما الإفادة من بعض أساليبه مثل صدق الشيخ مع المريد ، وحرصه على إنجاح مسعاه ، والتعرف من حياته على كل كبيرة وصغيرة حتى يتمكن من حل مشكلاته على الفور ، وأخيرًا فإن العلاقة بين الشيخ والمريد ليست علاقة إجبار أو قهر ، وإنما هى مجرد صحبة ، يتعاون فيها الاثنان من أجل هدف محدد.

ثالثا : تحقيق التوازن المعقول بين الجسد والروح

لو سألنا الناس جميعا فى عصرنا الحاضر : ما هو الهدف الأساسى من جهدهم الذى يبذلونه ، وأعمالهم التى يقومون بها ، وأغراضهم التى يتصارعون فيما بينهم من أجل الوصول إليها ؟ لوجدنا أن الإجابة تتمثل فى إشباع حاجات الجسد ، والدوران فى فلك المادة ، ولعلنا لا نكاد نعثر على واحد منهم يهتم بتلبية مطالب الروح ، وتطلعات القلب إلى علاقة صادقة وصافية مع         الله تعالى.

ومن الواضح أن التصوف يقدم لنا صفحة جميلة تمتلئ بتجارب تلك الفئة التى فضلت الروح على الجسد ، وأدركت منذ البداية أن النفس البشرية ، بنوازعها وأهدافها ومتطلباتها التى لا تتوقف، هى سبب البلاء ، ولذلك فإنهم حاولوا بحسم إخماد شهوتها ، وإيقاف رغبتها .

قال أحد الصوفية : اشتهت نفسى الشواء فحرمتها منه أربعين سنة !

ومثله ما قاله الآخر الذى اشتهت نفسه الماء البارد فحرمها منه نفس المدة !

ومن جانبنا نؤكد مرة أخرى أن دعوة الإسلام تتضمن ضرورة الاهتمام بجانب الجسد وجانب الروح معا ، وهما فى الواقع جناحان ضروريان لكى يحلق بها الإنسان ، وبواحد منها فقط لا يستطيع الطيران!

رابعًا  التزوّد المستمر من الحكمة الصوفيّة :

لقد ترك لنا أعلام الصوفية المسلمين ثروة رائعة من الأقوال التى أصبحت تجرى مجرى الأمثال ، بل وصلت إلى مستوى الحكمة التى هى خلاصة تجربة عقلية وروحية، تتميز بالصدق والأصالة ، ومن ذلك :

الفضيل بن عياض :

ذو النون المصرى :

 

بشر الحافى :

سرى السقطى :

الحارث المحاسبى :

شقيق البلخى :

أبو يزيد البسطامى:

أبو سليمان الدارانى:

حاتم الأصم :

أحمد بن أبى الحوارى:

أحمد بن خضرويه :

-إنى لا أعتقد إخاء الرجل فى الرضا ، ولكنى أعتقد إخاءه فى الغضب إذا أغضبته .

-أشتهى مرضا بلا عواد !

-ثلاثة خصال تقسّى القلب : كثرة الأكل ، وكثرة النوم ، وكثرة الكلام.

-لم أر أجهل من طبيب يداوى سكران فى وقت سكره .. لن يكون لسكره دواء حتى يفيق ، فيداوى بالتوبة.

-الأنس بالله نور ساطع ، والأنس بالخلق غم واقع

-يا معشر المريدين : من أراد منكم الطريق فليلق العلماء بالجهل ، والزهاد بالرغبة ، وأهل المعرفة بالصمت !

-الصبر الجميل هو الذى لا شكوى فيه للناس !

-لا تكون كاملاً حتى يأمنك عدوك ، وكيف يكون منك خير وأنت لا يأمنك صديقك ؟!

-الدعاء : ترك الذنوب !

-بحسبك أنّ أقوامًا موتى تحيا القلوب بذكرهم  وأنّ أقوامًا أحياء تقسو القلوب برؤيتهم!

أقوى القوة غلبتك نفسك ، ومن عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز ، ومن أطاع من فوقه أطاعه من دونه !

-أعرف طريقا مختصرًا إلى الجنة : لا تسأل أحدًا شيئا ، ولا تأخذ من أحد شيئا ، ولا يكن معك شىء تعطى منه  أحدًا !

حسن الخلق: احتمال الأذى ، وقلة الغضب ، وبسط الوجه ، وطيب الكلام.

-من لم يشكر الله على النعمة فقد استدعى زوالها !

-من أراد أن يعرف معرفته بالله فلينظر إلى ما وعده الله ووعده الناس : بأيهما قلبه أوثق ؟!

-إذا أردت أن تكون فى راحه : فكل ما أصبت ، والبس ما وجدت ، وارض بما قضى الله عليك.

-إن الله تعالى أمر العباد ونهاهم فأطاعوه ، فخلع عليهم الخلع، فاشتغلوا بالخلع عنه.. وإنى لا أريد من الله إلا الله !

-قعدت يومًا فى محرابى ، فمددت رجلى ، فهتف بى   هاتف : من يجالس الملوك ينبغى أن يجالسهم بحسن الأدب !

من أراد واعظا بينا، فلينظر إلى اختلاف الليل والنهار !!

-من كان الصدق وسيلته كان الرضا من الله جائزته.

العجله من الشيطان إلا فى خمس : إطعام الطعام إذا حضر ضيف ، وتجهيز الميت إذا مات ، وتزويج البكر إذا أدركت، وقضاء الدين إذا وجب والتوبة من الذنب إذا أذنب.

الدنيا مزبله ومجمع الكلاب.. وأقل من الكلاب من عكف عليها ، فإن الكلب يأخذ منها حاجته وينصرف ، والمحب لها لا يزايلها (يتركها) بحال !!

-إنى لأقرأ القرآن ، فأنظر فى آية فيحار عقلى منها ، وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم ، ويسعهم أن يشتغلوا بشىء من الدنيا وهم يتلون كلام الرحمن؟ أما لو فهموا ما يتلون ، وعرفوا حقه ، وتلذذوا به ، واستحلوا المناجاه به لذهب عنهم النوم ، فرحًا بما رزقوا ووفقوا!

الطريق واضح ، والحق لائح ، والداعى قد أسمع فما التحير بعد هذا إلا من العمى !!

-قال له رجل أوصنى : فقال : أَمِتْ نفسك حتى تحييها

يقول الشيخ أحمد الشرباصى فى تقديمه لكتاب طبقات الصوفيّة للسلمي  :

فى زحمة الحياة ،  وصخب المادة ، والنفاق الناس عن نداء الروح ، وهتاف المثل العليا يرتفع صوت ليتحدث عن أسلوب فى التربية والتهذيب الروحى ، قد أصلح فسادا ، وقوّم اعوجاجا ، وخرّج أبطالا ذلك هو أسلوب التصوف الإسلامى الصحيح القويم ، البعيد عن تحريف المبطلين ، وتشويه المغرضين. وهذا الصوت يعلم أنه يدافع عن قضية مظلومة ، كثر أعداؤها وإن كثر فى الوقت نفسه أولياؤها وأصدقاؤها وهو يقدم إلى أحباء التصوف لعله يكون شاهد صدق للصوفية ، يؤيد حقهم ، ويزكى قولهم وإلى أعدائه أو الظانين به ظن السوء لعله يصحح لهم فهما خاطئا ، أو يقوم فى حكمهم اعوجاجا سببه الغرض أو المرض.

[/mom_row]

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!