سعاد الحكيم ورحلة المرأة الصوفية في العصر الحديث
وُلدتُ لنفسي في التاسعة من عمري، وضعت قدمي في سفينة إبحاري، نشرت شراع البحث والتأمل، وجريت في محيط الدهر. كنت على امتداد أطوال سنيّ حياتي أحنُ للرسوّ في مرفأ قادر – ومريد أيضاً – على الإحاطة بألوان كينونتي كلها، وكنت أستجيب لإغراء المرافئ الأصيلة العالية، أقترب منها وألقي إليها ألواح وجودي جميعها، وما أكاد ألتقط الأنفاس، حتى تتدخل أقدار تُخرجني – طوعاً أو كرهاً – عن ذاك المدار. فأعود راضية مرضية الى محيط الدهر، تجري بي سفينة إبحاري بين أهل زماني، فلا يفقدني مكاني.
واليوم، عندما أقلب صحائف يوميات الربان، تتوالى أمامي إرساءات وإبحارات، وتُلامس أناملي لحظات تاريخية داخلة في ذاتي وخارجة عنها، ومن عجب الأشياء، أن هذه اللحظات التي تقاسمتها مع الآخرين، سواء أكانت في نهار روحي أم في ليل نفسي، فهي عندما ارتفعت من الزمان والمكان، لم يطوها الوقت ولم تحفظها أشرطة الذاكرة بل تحولت الى لبنات شاركت في بناء ذاتي، أصبحت جزءاً مني، لا مجرد نقش أو طبع، فكل إنسان التقيته وقاربته، وكل مكان أقمت به وارتحلت عنه، وكل فكر ساورته أو حاورته، هو جوهري في كينونتي، أنا هو وهو أنا في سياق مختلف.
وحيث إن الواحد منا حين ينظر بعين عقله الى مسار حياته يحولها الى “نص” قابل لقراءات متعددة يختلف فيها المنطوق به والمسكوت عنه، أجدني أستسلم الى نفس القدر، وأنظر الى “نص” حياتي في مرآة عقلي. وأنتقي منه إرساءات بنيوية ولحظات حميمة، قد يوافقني في قراءتها من يعرفني وقد لا يوافقني.
إرساءةٌ أولى .. قيمٌ وقيم
إنني الابنة الأكبر لعائلة بيروتية محافظة، ولولا صوفية أبي لكانت إمكاناتنا المادية تركت في فمي طعماً من “وهم الحرمان”، كان أبي من القلة من الناس، الذين يجدون أن ثروة الإنسان الحقيقية في ملء قلبه لا فيما تملك يده، وأن قوته البشرية الملموسة قطاف تراكم روحاني لا نتاج تراكم مادي.
منذ التاسعة من عمري، أتصل الحديث بيننا، ولست أدري لماذا نظر إلي ككائن مميز، ودفعني الى النظر الى ذاتي على أنني “قيمة” في أطوار الوجود، هل كان ذلك بدافع تربوي أم بدافع صوفي رؤيوي؟! المهم، أن نظرة الإكبار هذه التي بدأني بها والدي، أثرت في صورتي عند ذاتي طوال العمر، وتحول ما هو تربوي أو إيحائي، الى شيء ملموس وبنيوي، أصبحت أتعامل مع نفسي على قاعدة من الرقي الإنساني الرافض لعيش أي شكل من أشكال التوحش المادي.
في طفولتي الأولى، ورغم مشاركتي لأبناء جيلي في سماع أو قراءة قصص “الساحرات والجميلات”، فإن خيالي لم يتفاعل معها ولم يصور واقعة أتماهى فيها مع سندريللا أو الأميرة النائمة في الغابة، وفي المقابل، كانت قصص أبي التي تروي أحداثاً من حياة الأولياء والصالحين تحرك ليس فقط طاقتي التصويرية وإنما طاقتي الحيوية كلها، وأكتفي بأن أورد واحدة من هذه القصص، التي وضعتني في وقت مبكر أمام نوعين من القيم يؤسسان لنمطين من الحياة: كان لهارون الرشيد ابن زاهد، خرج من قصر أبيه تورعاً. وقصد الحلال اليقين في كل شيء يحيط به، من مأكل وملبس ومسكن. أقام في غرفة متواضعة مفتوحة على البرية، عرف هارون الرشيد بمكانه، قصده للزيارة وبنية العودة به الى القصر، عندما رأى هارون الرشيد الحال المزرية التي يعيش فيها ابنه، تحركت فيها مشاعر متضاربة، وبدأ – بحسب الرواية – يلفت نظره الى سوء وضعه، ويشير الى حال السقف والجدران الأثاث وغيره، ثم أردف ذلك كله بأن قال لابنه: يا ولدي إنك تُحرجني أمام ناسي، كيف تكون ابني ويكون هذا حالك؟ لم يُجب ابن هارون الرشيد وإنما دعا أباه الى الانتقال معه الى خارج الغرفة، الى البرية المجاورة. جلس وأباه على مقعد، وقال له: يا أبي هل ترى هذا الطائر هناك على الشجرة، قال هارون الرشيد: نعم أراه. فقال الابن: أدعه ليقف على كفك. فقال هارون الرشيد : لا أستطيع يا بني، كيف أكلم الطير، أو أجعله يُطيع إشارتي؟ ففرد الابن كفه في الهواء، وأشار الى الطير أن يأتي ويحط على كفه. فأقبل الطير وحط على كف ابن هارون الرشيد. هنا التفت الابن الى أبيه وقال: وأنا أيضاً يا أبي، أنت تُحرجني أمام ناسي. كيف تكون أبي ويكون هذا حالك؟
وأقول، بغض النظر عن صدق هذه الرواية أو اختلافها، فإنها، وأمثالها جعلتني أعي مبكراً أن ناس هذه الدنيا فريقان، ولكل فريق امتداده الإنساني محلياً وعالمياً: فريق يتجه في تفكيره وبناء ذاته وجهة مادية برانية، وفريق يتجه في تفكيره وبناء ذاته وجهة روحانية جوانية. لقد وعيت وجود هذين الفريقين وعياً علمياً لا وعياً صدامياً، لأن النصوص التي رسمت هذا الوعي كانت نصوصاً صوفية، مختومة بالمحبة الإنسانية الشاملة، ويحسن تعايش المتناقضات المجتمعة أو المتجاورة.
واليوم عندما أفكر في بداياتي أجد أنه حظ عظيم أن يحظى الإنسان بمن يلفته الى مصادر قوى غيبية إيمانية، غير قوة المال وقوة الجاه الماديتين، وخاصة في غياب القوى المادية أو عدم تلبيتها لكل الأهواء النفسية، وصمودها أمام المنافسة. فالطفل في بدايات وعيه يشبه برد الحديد المنثور، فإن التأم شمل ذاته بجاذبية مادية صار ضحيتها طوال عمره، وإن التأم شمل ذاته بجاذبية إيمانية روحانية، يدخل معركة الحياة يتأثر بالحاجات والبلاءات ، يبكي ويحزن، ولكنه يظل متماسك البناء لا يتدمر، لأن الجاذبية الإيمانية لم تترك فراغاً بين ذراته يسمح بطروق التخلخل.. وكم دخلت محناً في حياتي, ساعدتني قراءتي الإيمانية للأحداث، ومحاولة اكتشاف المراد الإلهي منها، على الخروج سالمة بل أشد قوة وتماسكاً.
شاركت والدي عالمه، أحببت رجاله ونساءه، ورفعت عالياً قيماً إسلامية راقية، تؤكد على التطهر وتصفية النفس، والعبودية لله وحده، والمحبة للناس جميعاً، والقدرة على العفو والتسامح، وأن الإنسان، لا يقدر بما يملك من مال أو يحتل من مركز بل يقدر بحجمه الروحاني .. الإنسان ذات، لا فضل لذكر على أنثى، ولا لغني على فقير، ولا لملك على مملوك إلا بقيمته الروحانية التي تجعله في مراتب القربى من الله، وقد تعامل أبي معي وجدانياً على أنني ذات إنسانية، من وراء جنس الذكورة والأنوثة، وكان يرى في أنا الأنثى الامتداد الإنساني له في شرق لا يرى الامتداد الإنساني إلا عبر النسب المادي الذي يعطيه الذكور من الرجال.
إرساءة ثانية .. فلسفة وعلوم صوفية
شغفتني المدرسة وهيمني الدرس وعشقت رسوم الحروف على الورق، وظننت أن الإنسان من الممكن أن يصل الى مرحلة يعرف فيها كل شيء، واجتهدت في أن أصل، كنت في المرحلة الابتدائية، وقد بقي بيني وبين الشهادة الأولى سنتان، وكنت لا أزال أخطئ في إملاء بعض الكلمات الفرنسية وأعجز عن إعراب بعض الجمل العربية، فأنظر الى السنتين اللتين تفصلاني عن الشهادة الابتدائية وأقول لنفسي: “لا بأس بعد سنتين سأعرف كل شيء عندما أنال الشهادة، ومع الشهادة الابتدائية أفقت على الواقع المعرفيّ للإنسان، وعلى نسبية المعرفة الإنسانية، ولا أقول على عجزها، ولكن ذلك لم يوقفني، بل أردت بشدة أن أكمل تعليمي.
مرضتُ مرضاً أقعدني في الفراش قرابة سنة كاملة، كانت آلام بدني تجتاح عقلي وروحي، وفي ساعات انحساره كنت أتأمل في معنى الجسد وصحته وفنائه. وفي الموت والرغبة فيه والخوف منه، في أساسيات الحياة وسعادة الإنسان، لقد طلع التأمل عندي في أفق المرض، فعاينت ضآلة الإنسان وقلة عرفانه ولا شيئيته، ورغم ذلك كانت أشعة العلم تُدفئ فراش مرضي، إذ كانت صديقتي تأتيني يومياً بدفاترها المدرسية فأتابع عبرها سير الدرس في الصف . ورغم غيابي سنة كاملة، جاء نجاحي برتبة جعلت مديرة المدرسة تنوّه بحالتي في الحفلة الختامية للعام الدراسي، مؤكدة أن التعلم إرادة إنسانية قبل كل شيء.
عندما أنظر مادياً الى مرضي قد أجده شراً وبلاء، ولكن عندما أنظر إليه بعين إيماني أجد أنه كسب وخير. إذ بالإضافة الى ساعات التأمل والتعبد والتقرب بالضعف الى القوي العزيز سبحانه، مكنني هذا المرض من إتمام تعليمي، ففي بيئة محافظة، ورغم اللاتمييز الجنسي على مستوى الوجدان الذي عاملني به والدي، فإن التمييز لم يلبث أن طفا على السطح على مستوى الاجتماع. وتساءلت هل هي ازدواجية: الذكر كالأنثى على مستوى الذات والقيمة الروحانية وأمام الله، وليس الذكر كالأنثى في الاجتماع الإنساني والعمران البشري؟! على كل الأحوال، مبارك كان هذا المرض الذي دفع الطبيب لأن يقول لوالدي: عليك أن تراعي مرادها في ذاتها، فهي مريضة ولا تحتمل الحرمان من أمر تريده بشدة، خاصة أن مرادها شرعي وعقلي، ووافق والدي على مشروعي وهو أن أكون معلمة في المستقبل.
تقدمت بامتحان الدخول لدار المعلمين بعد نيلي الشهادة التكميلية، لكنني وبالموازاة مع دراستي في دار المعلمين أعددت نفسي للتقدم لامتحان شهادتي البكالوريا بقسميها، اللذين يخولاني متابعة تعليمي الجامعي.
دخلت الجامعة اللبنانية في السنة نفسها التي مارست فيها التعليم الابتدائي في ضيعة لبنانية، وفي الجامعة كان عقلي ينمو بالمعرفة المكتسبة، ومن عجب الأشياء، أن المعرفة العقلانية الفلسفية المكتسبة تصالحت في أعماقي مع المعارف الوجدانية بحيث لم تنكر واحدتهما الأخرى، وكنت أتعجب من نفسي، اقتنعت بالمنطق الأرسطي بقدر اقتناعي بالمنطق الصوفي على تباينهما. تتبعت كل خيط يوصلني الى معرفة، أحببت الفلسفة الغربية حباً يقارب أو يكاد يزيد أيضا على الفلسفة العربية، ولكنني عندما أردت الاختصاص العالي، وقفت في الاختيار، ورغم نشأتي الصوفية فإنني آثرت آلا تكون علوم الصوفية موضوع دراستي. أردت أن تظل قناعاتي الشخصية ملكي والتصوف جزءاً من حياتي الشخصية ولا يتحول الى جزء من حياتي العامة .. ولكن، الإنسان يريد والله يفعل ما يريد، تسارعت الأحداث حتى وجدتني عروساً ترجع من شهر العسل، وتطرق أبواب الجامعة اليسوعية بحثاً عن أستاذ مشرف يقنعها بعلمه وتستطيع الاستمرار معه الى مرحلة الدكتوراة خارج لبنان، تقصيت الأنباء كلها، فعلمت أنه يوجد أستاذ مهم عراقي الأصل فرنسي الجنسية، مختص بالعلوم الصوفية.. فقلت في نفسي: عسى هي مشيئة الله.
طلبت مقابلة الأستاذ، وذهبت الى المقابلة في بهاء عروس في العشرينيات، شعر مرفوع بيد مزين، وقبة من الفرو، وكعب عال، وجوارب شفافة، ووجه لا تنقصه الألوان، حضر الأستاذ الى قاعة المقابلة، راهب يسوعي بزي مدني بسيط، وبدن رقيق ورصانة بيضاء، شعرت بأن صورتي لم تعجبه، ربما لم يلمح في جدية العلماء، جلس وجلست على المقعد نفسه، وبعد مقدمات وأسئلة قال لي: ما الموضوع، أو الشخصية التي ترغبين في العمل حول فكرها؟ وأقول، لقد فاجأني السؤال، كنت أنتظر أن أتباحث معه، أن يطرح أمامي موضوعات، أن نختار سوياً، إلا أن لهجته الهادئة والصارمة ولا أقول الحماقة شغلتني، فوجدتني أقول: محيي الدين بن عربي، وقد فاجأني جوابي في اللحظة نفسها التي سمعه فيه الأستاذ المشرف، ولكن ما كان قد كان، فما كنت لأتراجع، نظر إلي بعلياء نظرة استنكار، ومرر بصره من شعري المرفوع الى كعبي العالي، وقال: من؟ قلت: ابن عربي. قال: ابن عربي صوفي صعب، لن تتمكني من فهم نصوصه، ثم انطلق يثنيني عن الموضوع، ويوجهني لاختيار موضوعات صوفية أقل صعوبة، وعندما اصطدم بعنادي غير المبرر، قال: أقبل على شرط أن تكون أطروحة الماجستير عن تلميذ ابن عربي وهو صدر الدين القونوي، سأعطيك كتابه الذي يفسر فيه “فاتحة الكتاب” تفسيراً صوفياً يجد أصوله في مدرسة ابن عربي، فإن تمكنت من فهم الكتاب يكون لنا موعد آخر.
أخذت الكتاب ومضيت. أربعمائة صفحة أستطيع قراءتها في ثلاثة أيام، ولكن ما إن بدأت القراءة حتى ارتفع سور الصين أمام عقلي. لم أفهم شيئاً رغم كوني ربيبة التراث الصوفي، عانيت كثيراً، كابرت، رجعت الى كتب ابن عربي لأفهم كتابات القونوي، كونت أفكاراً عامة، وذهبت لمقابلة أستاذي، وافتتحت صفحة إنسانية من العلاقات الطيبة القائمة على احترام الآخر واحترام فكره وتوجهاته.
عملت سبع سنوات في صحبة أستاذي المشرف. ثلاثاً منها في بيروت وأربعاً كنت أسافر فيها الى باريس، إذ كان قد انتقل للتعليم في السوريون، لقد اجتزنا معاً الصور البرانية للتلاقي في الجوهر الإنساني على أرض نصوص النفري وابن عطا الله السكندري والمصطلح القرآني، موضوعات شغلت كثيراً أستاذي، واتسمت علاقتنا بحميمية المحبة وتبادل المعرفة ، وسمحت بانفراجات يرى الواحد منا فيها الآخر في معاناته على مسار إحقاق كينونته، ومن كان بالأمس يستنكر عملي في نتاج محيي الدين بن عربي، أصبح طالباً له ومصراً عليه، خاصة بعد أن كنت قد صرفت النظر عن دراسة ابن عربي أثناء عملي في القونوي، وإعدادي لمؤلفاته كلها استعداداً لبناء أطروحة دكتوراه حوله وحول فكره.
إرساءة ثالثة .. محيي الدين بن عربي
إن قلت إن نتاج ابن عربي يضع بين أيدينا الحلقة المفقودة التي تربط العلوم الإسلامية بعضها ببعض، تربط علوم العقيدة، بعلوم أصول الفقه والاجتهاد، بعلوم الصوفية، سواء أكان الصوفي من أهل العمل والصفاء أم كان من أهل الحال الوجداني، إن قلت ذلك، لا أكون مبالغة أو متحيزة لفكر الشيخ الأكبر، ورغم ضخامة هذه المقولة، فإنها موضوعية في حدود حقلها الذي هو العلوم الإسلامية.
وعلى الرغم من الفائدة العلمية التي جنيتها من دراستي لكتابات الشيخ الأكبر، على المستوى الشخصي البنائي، وأيضاً على المستوى الوظيفي، إذ أوجدت نصوصه مادة تخصصي وبالتالي حصولي على أعلى شهادة جامعية، كما كانت مادة لكثير من كتبي وأبحاثي ومشاركاتي في مؤتمرات عالمية ومحلية. لقد أعطى صورتي العلمية الكثير من الملامح .. ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، فإنني سأترك هنا علاقتي به التي أسميها علاقة “العارف بالمعروف” لأنها موجودة في كتبي، لأتكلم عن علاقتي الإنسانية به.
منذ بدايات مطالعتي لـ “الفتوحات المكية” شعرت بوجوده الروحاني القوي يطوف أحياناً في المكان الذي أقرأ فيه، وأحسست بمشيئته الواضحة أن يرفق بي لأعرفه، فبدأت أتلمسه كشخص يريد فينجح أو يفشل، يقيم أو يهاجر، يحب حتى العشق، يعرف كثيراً كثيرا، يعرف آلاف العلوم الإلهامية ودوّن أسماءها في فتوحاته، ورغم ذلك يجهل – أحياناً – أشياء قريبةً قريبة تمس شخصه والايام القادمة من مساره.
عجبت لشخص وثق بمعارفه المنامية، دونها دون خوف من الاخر ودون ان تحدثه نفسه ، كما تفعل نفوسنا.
وعجبتُ لشخص، تجاوز الأربعين من العمر، عرف ما عرف وأقعد في مقاعد المعلمين لبني جنسه، تحلق حوله التلاميذ في السفر والحضر، ثم جمعته الأقدار في مكة المكرمة بفتاة اسمها نظام بنت مكين الدين، فنظم فيها الشعر وأهداها ديوانه “ترجمان الأشواق”. ومهر الديوان بتقديم صريح كشف فيه عن المكانة الخاصة التي تشغلها نظام في وجدانه وفكره. أحدث الديوان ضجة، وخاصة في مدينة حلب التي كانت ملتقى صوفياً آنذاك، فعمد الشيخ الأكبر الى تفسير رموز الديوان وتوجيه معانيه وجهة صوفية روحانية عرفانية، تجعل المرأة وكل أشيائها رموزاً، وكذا أحوال الحب البشري إشارات لا عبارات. لقد ظل ابن عربي حياً كإنسان، رغم عروجه في منازل المعرفة، ولم تمنع مشاعر المحبة الإنسانية الشاملة مشاعره من أن تتحمور حول شخص بعينه، وكان هذا الشخص “نظام”. رغم الإنكار الشديد الذي قوبل به الديوان في الوسط الصوفي الإسلامي، فإن الشيخ الأكبر لم يُنكر شعره، ومشاعره تجاه شخص “نظام”، بل اكتفى بأن يرسم عالماً موازياً للعالم الملموس.. ولم تحدثه نفسه، كما تحدثنا، بأنه يعتبر قدوة في مجاله، ولم يكتف بأن يكن لنظام مشاعر سرية ، بل ظل ذاته، نقياً كالنار، وأراد أن يدون نبض مشاعره تماماً كما يدوّن نبض إلهاماته وفتوحاته.
وعجبتُ لشخص، قطع هذا التاريخ، ثم بعد الخمسين من العمر يحدث له “امتحان”.. لقد أسرّ الى تلميذه المقرب القونوي، بأنه بعد الخمسين امتحن، والقونوي دوّن هذا الحديث بعد أن تجاوز هو الخمسين من العمر وحدث له امتحان، فأخبرنا عن حدوث امتحان للشيخ الأكبر وعن حدوث امتحان له، وأردف بأن قال: ولم يقل لي ابن عربي ما هو هذا الامتحان. والقونوي أيضاً لم يُخبرنا ماذا كان امتحانه.. والامتحان في اللغة الصوفية يشبه الامتحان في لغة المدرسة، وكما أن المعلم يمتحن قدرات الطالب العلمية في الجبر أو الهندسة أو القواعد أو غيره، سواء خطياً أو شفهياً أو بأي شكل من أشكال اختبار القوى، كذلك يحدث للصوفي في مراحل تحققه فيمتحن تثبيا له في منزلة معينة. وقد كنت أظن أن السلك الصوفي يُمحتن في بداياته ولا يمتحن في النهايات، لأنني كنت أظن أنه إن تجاوز قواطع البداية وعوائقها ينطلق محرراً الى الأبد، ولم أكن أرى هذا الخط الذي هو أحد من السيف وأرق من الشعرة والذي يعيش عليه الإنسان الصوفي – طوال حياته الدنيوية – مطمئناً حذراً في الوقت نفسه.
رسمت لمحيي الدين بن عربي في نفسي صورة عقلية، لم أتصوره يوماً رجلاً يمشي على الأرض، الى أن رأيته للمرة الأولى في واقعة منامية، قامة عربية إسبانية مديدة، وبشرة تلوحها سمرة نقية، واندفعت أسأله عن كذا وكذا.. عشرات من الأسئلة التي تتعلق بألفاظه وأفكاره، وهو لم يرفع بصره نحوي، وإنما بطرف خفيّ يجيبني بحرج وبصوت منخفض، كيلا يزعج “شخصاً” كنا معاً في حضرته. كان هو يعرف مقامه ويتأدب معه وأنا لم أكن من العارفين. وكانت تلك الواقعة فاتحة وصال إنساني لم يشبه فصال، على الأقل من جهتي.
إرساءة رابعة .. الأسرة الدندراوية
ولدتُ لأب ينتسب الى جمع مسلم، اسمه “الأسرة الدندراوية” .. أسسه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واحد من الأولياء المصلحين، هو سيدي محمد الدندراوي ، الملقب بالسلطان. لم يلتق أبي بالسلطان الدندراوي، وإنما انتسب الى جمع الأسرة الدندراوية في زمن ابنه أبي العباس الإمام. كنت على أبواب السادسة من عمري حين قدم سيدنا العباس الإمام الى بيروت للمرة الأخيرة، أخذني أبي معه عندما توجه للسلام عليه، كان سيدنا العباس يقيم في منزل يقع بين حديقتين يفصل بينهما ممر ضيق جداً يمتد بين السور وبين جانب من جوانب البيت، كنت ألعب مع غيري من الأطفال في الحديقة الأمامية للمنزل، وكان الكبار قد أعطوا الأوامر بألا نرفع أصواتنا ولا نصرخ ولا نصدر ضجيجاً لأن سيدنا العباس يرتاح في الحديقة الثانية.
عندما عرفت بحيز الأرض الذي يحمل شخصه لم أتمكن من المضي في اللعب، أردت أن أراه وبشدة، فتسللت في غفلة من الصغار والكبار عبر الممر الجانبي الضيق واقتربت بحذر من الحديقة الهادئة. كانت السكينة تفرد أشعتها على كل شيء حتى ورق الشجر وحركة الطهر.. رأيته، وكانت المسافة شاسعة بين قاع طفولتي وسقف كماله. كان يلبس البياض، ويجلس على كرسي منامة قماشي بلون البياض، وذراعاه مبسوطتان على يديّ الكرسي. ونظرت كالمسحورة لا الى وجهه وعينيه كما هو مألوف، بل الى يديه. هل نظر إلي وابتسم، لا أستطيع أن أعرف، لم أكلمه لم يُكلمني. وانتقشت صورته الى أبد دهري على حدقتي. كانت المرة الأولى التي يلفتني فيها جزء من بدن الإنسان، كثيراً ما تأملت بعدها في كوني أخذت برؤية يديه، وتوسعت في التفكر في اليد ودلالاتها، وأدركت علاقة يد الإنسان بأعماله، وكثيراً بعدها ما كنت أنظر الى يديّ من أقابل من رجال الدنيا ونسائها علي أرى مرسوماً عليها ما كانوا يكسبون. وكثيراً أيضاً ما أنظر الى ظاهر يديّ عقب مطلق علم، خير أم شر، أرقب أثر ذلك عليهما .. واليوم، أنحني إكباراً لشخص يُمضي أكثر من أربعين عاماً من حياته لا يفرد جسده على فراش، بل ينام ليله على كرسي منامة قماشيّ، لأنه في صبح أحد الأيام فاتته الصلاة لاستغراق بدنه في النوم مرتاحاً في سريره!
أوصلت الأسرة الدندراوية لروحي غذاءها. ولكن في الوقت نفسه فتحت نوافذ في ذاتي أطل منها على أحوال العالم حولي.. رأيت شعوباً تموت من الجوع والمرض ولا تجد مأوى ، ورأيت صوراً من المسلمين تحتاج الى مجلدات من التعليقات، رأيت الفقير – فقير النفس – يسكن منازل الأغنياء ويلبس أثوابهم، والجاهل – جاهل العقل لا جاهل المعلومة – يعلو منابر العلماء ويمسك بصولجانهم، وأراذل القوم تتخطى رقاب أفاضلها لتكون في الصفوف الأولى في كل محفل. رأيت الثقة ترتفع من بين الناس، فإن قيل عن شخص، لم يكن قد رأى منه أحد إلا طُهراً، إنه مدنس، لا يدافع عنه أحد من معارفه، بل على العكس، يقول الكثيرون: لقد كنا به مغشوشين لقد اختلط كل شيء في هذا العالم، وويل لمن يحاول أن يسبح في هذا الطوفان فإنه لن يسلم من أن تبتل ليس أثوابه فقط بل عروق روحه!
عندما كنت منشغلة بالطريق على حدائد صفات ذاتي، كنتُ أظن أن الإسلام بخير، كيف لا وأنا أراه يلبي حاجات الإنسان كلها: معتقدات لا يتمزق فيها الإنسان بين عقله وروحه، وعبادات ترقي إنسانه وتقربه من ربه. وكانت أمام عقلي ووجداني عشرات من النماذج البشرية التي وصلت من خلال الإسلام الى كمال إنساني يجسدها عليه مطلق مخلوق. لم أكن أتصور الضرر الكبير إليّ يلحقه المسلمون بالإسلام.
واليوم، بعد أن انتزعت حواسي من التعلق بصور وراء الوجود الملموس، استطعت أن أرى حولي بوضوح أكبر. رأيت التطبيق السيئ لمبادئ الإسلام الصحيحة في أكثر من مكان، رأيت كيف تتحول أحكام الإسلام العادلة في التطبيق السيئ الى قهر وظلم وبهتان. الزوج يظلم زوجته والزوجة تنافق زوجها وكلاهما يكتب على أهوائه الشيطانية حروف اسم الإسلام. رب العمل يسرق عامله والعامل يسرق رب عمله والطرفان يعنونان عملهما باسم الإسلام، يدمر اقتصاد دول وتذبح شعوب والاسم هو الإسلام، يتعصب متطرف لرأيه وينصب جنة وناراً ويتجلى مميتاً جباراً والاسم إسلام.
تقول لي ابنتي بانفعال: أمي أنا أقر أن الإسلام عظيم لأنني عاينته في صورته النقية، ولكن ما يحدث على الأرض مخجل. كم تظنين أنه يوجد بين جهل الشباب من يحظى بمعرفة صحيحة بالإسلام، معرفة تجعله يصمد – عقلانياً لا تعصباً – أمام معاول تنهال كل يوم لتُحدث ثغرة في سوره العظيم، مستغلة التمزق السياسي الدموي بين المسلمين، والفهم التعسفي للتشريعات التي تخص المرأة والزواج والإرث، وخلافه؟! أمي أنا رأيت الإسلام وعشته، ولكني لا أعرفه في كلمات أنقلها الى أصحابي.
لا أجيب ابنتي، بل ينصرف نظري الى صحائف الفكر الدندراوي، وأشير لها بأن كل ما تطلبه هنا عبارات قليلة معدودة ، تضع علامات ثابتة على طريق المعرفة .. إنه فكر يعيد ترتيب العالم حولنا، جغرافياً وتاريخياً. لا أقول ذلك لأنني مقتنعة به وواحدة من المنتسبين إليه، بل أقول ذلك من واقع صدقي مع نفسي ومع الأجيال القادمة بمن فيهم أولادي.
إرساءة خامسة .. أساور من ذهب
كنت حاملاً بابنتي الثانية، حين توفي أبي في السبعينات، ذهبت وزوجي بعد منتصف الليل الى منزل أهلي، حين نظرتُ إليه ممدداً في سريره دون حراك، لم أنفعل، لم أبك، بل شعرت بعبء الواجب، فأنا أكبر اخوتي والوقت غير مناسب للاستسلام للحزن والبكاء. وكأنما استجابت أعماقي لقراري العقلي بتأجيل الحزن والبكاء الى وقت آخر، فلم يظهر على ظاهري ما يقع على المُصاب بفقد عزيز، أو لكأنني أردت أن آخذ فسحة من الوقت ليستوعب عقلي غياب والدي وموته.. المهم، أنه في انشغال الكل بعواطف الفقد وتقبل العزاء كنت مشغولة بالتفكير في أمر الجنازة والغداء وخلافه.. أمضيت أسبوعاً كاملاً بنهاراته وأمسياته في منزل أهلي، لا دموع في عيني، ولا خواطر في رأسي .. محوّ كامل، وقفٌ لكل تفكير بانتظار أن أنفرد بنفسي .. وبدنٌ يتحرك ويؤدي المطلوب منه!
خلوت بنفسي بعد أسبوع، أغلقت عليّ باب غرفة الاستقبال في منزلي، وبكيت طويلاً وعميقاً غيابه لا فقده، لقد مات قبل أن ينهي مشاريعه ويحقق أحلامه، ومن منا يمهله الموت حتى يحقق مشاريعه كلها؟!
بكيته في غيب وحدتي، إنها إحدى عاداتي ، لا أدري الحسنة أم السيئة، إذ نادراً ما أشارك الآخرين لحظات ضعفي وأحزاني. كنتُ قبل وفاة والدي أشعر كأن نهر الدنيا يجري من أزل الوجود الى أبده بين برين: برّ هو حياتنا الدنيا، والبرّ الثاني هو “البرزخ” عالم بين الدنيا والآخرة. وكنت منذ وعيت الحياة والموت وعرفت أشخاص حياتي ، أعرف من منهم هو من سكان هذا العالم ومن منهم هو من سكان العالم الآخر. كان كل شيء مرتباً، وجاء موت أبي ليخلخل المعادلة، لقد انتقل شخص أعرفه في هذا البر الى البر الثاني. وانفتح بهذا الانتقال العالمان عندي، ليس روحانياً كما في السابق بل بدنياً ومادياً، وذقت حساً مدى قرب واحدهما من الآخر.
رُزقت بثلاث بنات، ولم يخطر لي خاطر في أن تكون واحدة منهن صبياً ذكراً، كنت وفية لعهد الرّضا .. بعد سنوات عشر من ابنتي الثالثة حملت رابعاً.. أمضيت الأشهر التسعة وعلى باب كهف صمتي يتراكم كلام الآخرين، الكل “يريد” أن أنجب ذكراً! أقول، لقد شعرت بأثقال الاجتماع البشري أنا التي أقدس الروابط كلها، العائلية والاجتماعية والأممية .. قبل أسبوع من الولادة، وفي لحظة ضعف توجهت بوجه قلبي الى ربي وسألته أن يرزقني صبياً أدرأ به مطالبة المجتمع إياي بالغلام، لكأن الأمر بيد الإنسان!
في غرفة الولادة، قال لي الطبيب إنها فتاة جميلة.. أمر غريب. إن الصبي عندما يولد في الدنيا لا يجد نفسه مضطراً لأن يدفع ثمناً ليكون مقبولاً من الأهل، أما البنت فلا بد من أن تحمل صفات تضاف الى شخصها حتى يستسيغها المجتمع بمعظم أهله! سمعت عبارة الطبيب، فنسيتُ غرفة العمليات والولادة والألم، وذكرت لحظة توجهت بوجه قلبي الى ربي وسألته أن يرزقني صبياً. وشعرت شعور من يسقط في امتحان، لقد سقطت أمام نفسي للمرة الأولى في حياتي .. طوال عمري حرصتُ على ألا أريد شيئاً لم يرده الله (جل وعلا). وكانت العلامة عندي على الإرادة الإلهية هي الإذن الإلهي بحدود المراد. وخجلت من الله (جل وعلا)، إذ كيف أريد ما لا يريد .. وكيف سمحتُ للآخرين بأن يندسوا فيما بيني وبين ربي (جل وعلا)؟! وكنت لا أزال بين يدي الطبيب يكمل جراحته حين بدأت باستغفار الله (جل وعلا)، والتوبة عن الالتفات الى غير .. وشعرت ببرد رضا يقع في صدري وينتشر في جسدي كله، حمدت الله وسبحانه وصعدت الى غرفتي سعيدة قريرة العين بطفلتي.
وبدأت أفواج “المهنئين” وغرقت في زحمة العادات الاجتماعية والعبارات المأثورة المتداولة في مناسبات مماثلة، وقليل منا من يدقق في الأقوال المتداولة في الزيارات ليرى كم يمارس الاعتراض على المشيئة الإلهية دون وعي منا.. سمعتُ كثيراً من العبارات، رفضتُ معظمها في الشكل. إلا أنها ومع الأسف تسربت، عبر أقنية أعرفها ولا أعرفها، الى أعماقي .. وما كان رضا شاملاً لكينونتي إذا به ينحسر عن بعض أجزائي ويكشف عن نقاط ضعف في وجودي. وأدركت أن ما نوهبه من أحوال سيئة، كالتوبة والصبر والرضا، يتطلب منا بعد ذلك جهداً إنسانياً للإمساك به ورعايته حتى يصبح جزءاً من وجودنا ثابتاً وراسخاً.. إلا أن كل ذلك لم يمنعني من القسوة على نفسي ومساءلتها: الى أي مدى أنت صنيعة مجتمعك وتسيرك قناعاته؟ ألا تعلمين أن العيش على مفترق العوالم فيه خطر كبير، وأن الكائنات البرزخية لا بد أن تتمتع بوعي رهيف؟
أرجعتُ شريط الذاكرة الى بدايات البناء، رأيت صوري الكثيرة في أعين من أحببت ومن عاشرت ومن صحبت ورافقت. صوراً عكست ذاتي في مراحل من العمر، وحيث إن ذاتي، ككل حي، خاضعة لكيمياء التغير، أراني اليوم لا أشبه صوراً كنتها في يوم من الأيام. لقد عرفني كثير عبر تلك الصور، وكنت للكثير تلك الصور طوال سنين، ولكن الصورة لم تكن يوماً – في الدنيا – نهائية لإنسان إلا لحظة موته.. لذلك، البعض .. أخلع صوري الماضية، لا أنكرها، ولكن أضعها في معصمي أساور من ذهب.
مقال جميل جدآ
عشت مع لحظاتك عزيزتي د.سعاد …
بورك قلمك