حكيمُ الأزهرِ ابنُ عطاءِ اللّهِ السكندريّ

حكيمُ الأزهرِ ابنُ عطاءِ اللّهِ السكندريّ

حكيم الأزهر.. ابن عطاء اللّه السكندري

بقلم: سعاد الحكيم

 

دخلتُ الأزهرَ الشريف، في حاضرة العالم الإسلامي، القاهرة زمن المماليك. قصدتُ مجلس ابن عطاء اللّه السكندري، أستاذ الكرسي لمادتيّ الفقه والتصوف. اقتربتُ، تأملتُ وجوه تلامذته الصافية وعيونهم الناظرة، وعاينتُ كيف يتوحّد العطاء والأخذ، في لحظة، في معنى..

تركتُ طبيعتي تختار مكاناً أجلس فيه، وقد علّمني تاريخي أن العفوية حدسٌ عقليّ لا يكدّره تفكير، جزءٌ من وحي غريزة لا يُخطىء. التفت إلى من جاور كتفي كتفه، فرأيت قاضي القضاة، المؤرخ، تاج الدين السبكي، تلميذاً. سررت لالتقاء الحدق بالحدق، إلا أنه استعا حضوره سريعاً من انشغاله بي ليوجّهه إلى استاذه.. وتوجّهتُ معه، وصلني صوت تعاليم السكندري، يفتح طريقاً سلك عليه إنسان الناس، منذ دار المكان وكان الزمان: 

 

*  *  *  *  *

 

* نعمتان ما خرج موجود عنهما، ولا بدّ لكلِّ مكوَّن منهما: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد.

* إن أردتَ أن يكون لك عزٌّ لا يفنى، فلا تستعزَّنّ بعزٍّ يفنى.

* ما بسقتْ أغصان ذلٍ، إلا على بذر طمع. 

* لا تزكِّين وارِداً لا تعلم ثمرته. فليس المراد من السحابة الإمطار، إنما المراد منها وجودُ الأثمار.

* ربما فتح لك باب الطَّاعة، وما فتح لك بـاب القبول. وقضى عليك بالذَّنب، فكـان سبباً 

   فـي  الـوصـول.

* من ظنَّ انفكاك لطفه عن قَدَره، فذلك لقصور نظره.

* الأعمال صورٌ قائمةٌ، وأرواحها وجود سرِّ الإخلاص فيها.

* ما أرادتْ همّة سالك أن تقف عند ما كُشِفَ لها، إلا ونادته هواتف الحقيقة: الذي

   تطلب أمامك.

* لا تستغرب وقوع الأكدار، ما دمت في هذه الدَّار.

* من أشرقت بدايته، أشرقت نهايته.

* لا صغيرة إذا قابلك عدلهُ، ولا كبيرة إذا واجهك فضلهُ.

* من رأيتَ مجيباً عن كل ما سُئل، ومعبّراً لكل ما شَهِد، وذاكراً كل ما عَلِم، فاستدلّ

   بذلك على وجود جهله.

* طلبك منه اتّهام له، وطلبك له غيبة منك عنه، وطلبك لغيره لقلة حيائك منه، وطلبك

   من غيره لوجود بعدك عنه.

* إذا فتح لك وجهة من التعرّف، فلا تبال معها إن قلّ عملك.

* أنوار أذن لها في الوصول، وأنوار أذن لها في الدخول. ربما وردت عليك الأنوار، فوجدت

  القلب محشواً بصور الآثار. فرّغ قلبك من الأغيار، يملأه بالمعارف والأسرار.

* إذا أراد أن يظهر فضله عليك، خَلَقَ ونَسَبَ إليك.

 

*  *  *  *  *

 

كنت استمع إليه بكلي، لا شاردةَ مني في زمان أو مكان. وفي فسحة الصمت ، تراءى لي من القرن الثالث عشر الهجري، وجه أحمد بن عجيبة،  يذكرني بسلالة من الناس يغيّر حياتها كتاب تقرأه، سلالة حيّة دينامية متغيّرة لم يعلّبها تقليد أو تقدّدها عادة. لقد نقلته الحكم العطائية، وبعد غياب صاحبها بأكثر من أربعمائة عام، من العلم والنظر إلى التحقّق والعمل.

ونحن، على الرغم من تلاقح النصوص، وطوفان الحروف والورق، على الرغم من آلاف الرسمات لآلاف الطرقات، على امتداد حوالي القرنين.. ما من سالك! لا نزال نقلّب الرسوم في البحث عن الأوفق، كمن يحتاج ثوباً، ويفتّت العمر في مقايسات وتجارب، ويعيش عارياً.

تأملت ابن عطاء السكندري، انه مثل أي صوفي أصيل، لا ينتمي إلى الفكر بل ينتمي إلى الحياة، وعندما يمسك قلمه للتدوين والتسطير يتحول بين أنامله إلى ريشة، تصوّر بالكلمات مسار وجدانه في لحظات الأحوال والمقامات..

واجهتُه باعتراضي على استسلام الصوفي لحوادث الحياة، بحيث لا يريد إلا ما يقع.. وأعلنت رفضي أن نقبل أذى الناس كأنه أقدار إلهية. ومن وراء لجج انفعالي، وصلتني ايماءته من أرض السكينة.. وعلمت أن خلاص الإنسان بداية خلاص الأكوان.. وفي ابتسامته حميميةٌ تقول: لا تحزني، من آذاك فقد حرّرك.. والحرية دخول، وعلامة وصول.. نظرت إليه وفي عينيّ طلب أن يحدّثني عن الحرية.. عن اللّه..

 

*  *  *  *  *

 

 

 

* خيرُ من تصحب من يطلبك [ أنت]، لا لشيءٍ يعود منك إليك.

*إنَّما أجرى الأذى عليك مِنهُم، كي لا تكون ساكناً إليهم. أراد أن يُزعجك عن كلِّ شيءٍ،

 حتَّى لا يشغلك عنه شيءٌ.

* أنت حرٌّ ممَّا أنت عنه آيسٌ، وعبدٌ لما أنت له طامعٌ.

* ما أحببتَ شيئاً إلا كنت له عبداً، وهو لا يحبُّ أن تكون لغيره عبداً.

* ليقلّ ما تفرح به، يقلّ ما تحزن عليه.

* إن أردت أن لا تُعزََلَ، فلا تتولَّ ولايةً لا تدوم لك.

* بسطك كي لا يبقيك مع القبض، وقبضك كي لا يتركك مع البسط، وأخرجك عنهما       كي لا تكون لشيء دونه.

* متى أعطاك أشهدك بره، ومتى منعك أشهدك قهره، فهو في كل ذلك متعرِّفٌ إليك.

 

*  *  *  *  *

 

* الكون كلُّه ظلمةٌ، وإنَّما أناره ظهور الحقِّ فيهِ.

* أنتَ مع الأكوانِ ما لم تشهدِ المكوِّن، فإذا شهدته كانتِ الأكوان معكَ.

* من عرف الحقّ شهده في كل شيء، ومن فني به غاب عن كل شيء، ومن أحبّه لم يُؤثِرْ

     عليه شيئاً.

* إنما حجب الحقَّ عنك شدّة قربه منك، إنما احتجب بشدة ظهوره، وخفي عن الأبصار

   لعظم نوره.

* ما حجبك عن اللّه وجـود موجـود معه، إذ لا شيء معه، ولكن حجبك عنه توهّـم

  وجـود معـه.

* إلهي كيف يُستَدَلُّ عليك، بِما هو في وُجودهِ مُفتقرٌ إليك؟ متى غِبتَ حتى تحتاج إلى دليلٍ      يَدُلُّ عليكَ؟ ومتى بَعُدتَ حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟

* ماذا وجد من فقدك، وماذا فقد من وجودك؟

* إنما استوحش العبَّاد والزهاد من كل شيء، لغيبتهم عن اللّه في كل شيءٍ، فلو شهدوه في كل

   شيءٍ، لم يستوحشوا من شيءٍ.

 

*  *  *  *  *

 

نظرت من وراء حجاب الزمن فكنت أراه في عصره ولا يراني، شهدته جالساً يكتب إلى صديق..” الناس … ثلاثة أقسام: غافلٌ منهمك في غفلته قويت دائرة حسّه وانطمست حضرة قدسه، فنظر الاحسان من المخلوقين ولم يشهده من رب العالمين. وصاحبُ حقيقةٍ غاب عن الخلق بشهود الملك الحق، غير أنه غريق الأنوار مطموس الآثار. وأكملُ منه عبدٌ شرب فازداد صحواً، وغاب فازداد حضوراً”.

 

*  *  *  *  *

 

دخلت أرض خلوته.. لأرى الرجل الثالث في الشاذلية، الآتي بعد إمامهم الشاذلي والمرسي أبي العباس، عندما يتخفف من الآخرين، من دفاع ودعوة، من تدليل على ولاية إنسان أو تدعيم لأركان بنيان.. لأراه فرداً أمام الحق.. وسمعته يناجي:

* إلهي أنا الفقير في غِناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري؟ إلهي أنا الجاهل في علمي، فكيف 

   لا أكون جهولاً في جهلي؟

* إلهي إنَّ اختلاف تدبيرك، وسرعة حُلول مقاديرك، منعا عبادك العارفين بك، عن السكون إلى

    عطاءٍ، واليأس منك في بلاءٍ.

* إلهي كلما أخرسني لُؤمي، أنطقني كرمُك، وكلما آيستني أوصافي، أطمعتني منَّتك.

* إلهي من كانت محاسنه مساوي، فكيف لا تكون مساويه مساوي؟ ومن كانت حقائقه

   دعاوي، فكيف لا تكون دعاويه دعاوي؟

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!