معيار المريدين ومعرفة التوحيد

معيار المريدين ومعرفة التوحيد

معيار المريدين ومعرفة التوحيد

بقلم: بول هيك *

يسرني أن أقدّم بين يدي هذا الكتاب بكلمة تتعلّق بمضمونه وما جاء فيه. وهو موضوع يظّن القارئ أنّه قد سبرنا غوره ولا جديد يمكن أن يُقال فيه، فلا داعي لمزيد من النقاش حول توحيد الله. في هذا الكتاب الذي قام بتحقيقه الدكتور خالد محمد عبده تُنشر للمرة الأولى رسالتان في التوحيد من القرن الثامن للهجرة هما معيار المريدين لقطب الدين الإردبيلي الإصفهبذي (ت. 780ه) ومعرفة التوحيد لتلميذه عبد الله الشيبانيّ المقدسيّ (ت. 797 ه). تملأ الرسالتان فراغًا في علمنا بتاريخ قضيّة التوحيد، فلا نستطيع أن نفهم موضوعًا مهما كان فهمًا كاملًا دون الاطلاع على ماضيه والأسباب التي كانت من وراء نقاشه من عصر الى آخر.

من ناحية أخرى تسلّط الرسالتان الضوء على ما يكمن في نقاشات التوحيد اليوم من إشكالات، فإنّ الماضي للمقيم عبرة والميت للحي عظة. هل الإشكالات التي تدور حولها نقاشات التوحيد في عصر الإصفهبذيّ والمقدسيّ نفس الإشكالات التي تدور حولها نقاشاته اليوم؟  غير خافٍ أنّ مسألة التوحيد لم تولد مع الإسلام، فقد ناقشها علماء اليهوديّة والمسيحيّة وفلاسفة اليونان. وأتى علماء الإسلام بشروحات متعدّدة للمسألة. فعلى سبيل المثال يختلف شرح ابن عربيّ (ت. 638ه) للمسألة عن شرح ابن تيمية (ت. 728ه) كما يختلف شرح محمد عبده (ت. 1323ه) عن شرح محمد بن عبد الوهاب (ت. 1206ه) رحمهم الله جميعا. كما يختلف شرح المسيحيّة للتوحيد عن شرح الإسلام، كما أنّ الفلاسفة القدماء انقسموا الى مذاهب في الأمر شَرَحَه كلٌ منها على ضوء رؤيته الفكريّة الشاملة.

هل تتناقض كل هذه الشروحات للتوحيد؟ أو هل تتكامل؟ حيث أنّ الأمر لا يُستوعب كلُ ما فيه من أبعاد دون شروحات مختلفة فإن مَثَل التوحيد مثل البلّورة التي لا يمكن تصوّرها بكاملها بالاطلاع على جانب من جوانبها دون الأخرى. هكذا يلمّح الإصفهبذيّ والمقدسيّ الى الجهل الذي دخل في نقاشات التوحيد في عصرهما وهو ناتج عن قصور النظر في كلّ ما للتوحيد من أبعاد، فإنّ التوحيد لا يُناقش دون مسائل أخرى، على رأسها روحانيّة التوحيد، وهي المسألة التي يؤدي جهلُها الى الجهل بالتوحيد كلّه. لهذا السبب قام الإصفهبذيّ والمقدسيّ بشرح المسألة في رسالتيهما كشفًا عن الجهل الـذي كان قد شوّه تصوّرات بعض الفئات في وقتهما.

إنّ مسألة التوحيد لا تخصّ وحدانية الألوهية بقدر ما تخصّ قدرة الإنسان على التعبير عمّا لا يُوعى بحفظ ولا يُروى بلفظ. ما هي الأقوال التي تناسب مع توحيد الله من جهة والتي لا تنفي معها تجربة الإنسان الروحانيّة من جهة أخرى؟ ممّا لا شك فيه أنّ الله تعالى حاضر غير غائب، قريب غير بعيد، منزّه عن مدارك الإنسان، إلّا أنّه تعالى يعرّف نفسه عن طريق الوحي، مسطورًا في الكتب أو منشورًا في الآفاق والأنفس، وذلك لنعرف الله حقّ المعرفة ولنعبده حقّ العبادة. إذن، لا ينفصل نقاش التوحيد عن روحانيّة التوحيد فلا يمكن للإنسان تحقيق التوحيد من دون حصوله على معرفة الله وتفاعله معه تعالى.

هل يمكن الإقرار بكلٍّ من توحيد الله وقدرة الإنسان على معرفته والتفاعل معه حقيقة لا مجازًا؟ الأمر الأول هو حصول الإنسان على معرفة الله. ألا يقتضي ذلك ظهور الله بصورة أو بأخرى، ما يُخلّ بتوحيده وهو يتعالى عن الأبصار والأنظار؟ وما هي الطريقة إلى معرفة الله الذي لا يحيط به شيء؟ هل ندركه بالعقل؟ هل ندركه بما يختلج في القلب من مشاعر عند أداء العبادات؟ يخبرنا القرآن الكريم في سورة الزمر الآية 23 بأن جسم الإنسان يتأثّر بل يقشعرّ جلده عند تنزيل الله على القلب الذكر الحكيم[1]. هل يعني ذلك أن الله تعالى يلتحق بجسم الإنسان بصورة أو بأخرى؟ هل يحضر الله بقلب الإنسان بجلاله وجماله؟ اشتد الجدل حول هذا الموضوع في عصر الإسلام الأوّل، حين ذهب فريق إلى القول بأنّ صفات الله الجسمانيّة لا تُفهم إلّا مجازًا. بينما رأى فريق آخر أنّ المرء لا يعرف الله إلّا كما وصف نفسه فلا مجاز في الأمر. ومن هنا استدلّ هؤلاء بما يُذكر في القرآن الكريم من ألفاظ، مثل يد الله وعينه واستوائه على عرشه، على أنّ لله تعالى جسم في الحقيقة، وإن لم يماثل جسمُه جسم الإنسان.

والأمر الثاني هو تفاعل الإنسان مع الله الذي يدرك العقلُ فيه كلّ ما يشير إليه الوحي من ظهوره تعالى، ويشعر القلبُ بحضوره عند العبادة وعند التفكر، كما يتأثّر الجسم بل يتحرك بذلك كلّه. ومن الجدير بالذكر أنّ الرسالة السماويّة لا يغيب عنها في عصر من العصور هذا الجمع ما بين وحدانية الله وتجاوب الإنسان مع ظهوره وحضوره، وذلك ابتداء من ديوان بني إسرائيل بنبواته المختلفة مرورًا بالبلاغ بالبشارة المسيحيّة وصولاً الى القرآن الكريم وتصديقه لِما سبقه.

هكذا تؤكد الشواهد الربانيّة بأسرها على ظهور الله وحضوره مع خلقه، ما يمكّن الإنسان من الوصول اليه والتخلّق بأخلاقه. قد يصعب فهم القول إنّ الله مع خلقه بصورة أو بأخرى. لذلك يعتقد الجاهل بروحانيّة التوحيد أنّ المصطلحات التي تعبّر عن معية الإنسان الإلهيّة تخالف التوحيد. ومن ثم يسارع إلى رمي الناطق بها بالخروج عن دين الأمة. ولكن تلك المصطلحات لا تُفهم مقاصدُ التوحيد دونها. لو لم يتجلَّ الله بصورة أو بأخرى لما عرف الإنسان وجوده تعالى معه، ولو لم يعرف وجوده معه لما انجذب إلى الوصول إليه والتعلّق به، الأمر الذي يمكّن الإنسان من ترك الشر ويحرّره من حكم النفس الأمارة بالسوء بل يخلّصه من شواغل الدنيا. ولولا ذلك كلّه لما استطاع الإنسان عبادة الله بالإخلاص له وحده. أليس الإخلاص بمعنى الانقطاع إلى الله عن غيره هو مقصود التوحيد؟

هكذا يتبيّن أنّ التوحيد لا يُفهم بكامل معانيه ومقاصده دون العلم بروحانيّته إلّا أن الجاهل بالأمر لا يستوعب لطائف التوحيد. لذا فإنّه عندما يسمعها يتبادر إلى ذهنه أنّ الناطق بها يدّعي بأن الله قد اتحد به وحلّ فيه، ما يخالف التوحيد ويناقضه لأنّ الاتحاد والحلول يعني كلاهما أنّ شيئًا غير الله يساوي شأنُه شأنَه تعالى. ذلك من جهة ومن جهة أخرى يُفترض أنّ تهم الاتحاد والحلول تستهدف الإفراط في الأمر دون أصله ولكن الجاهل بالأمر ظناً منه أن الإخلال بالتوحيد لا يرجع الى الإفراط في الروحانيّة بل إلى أصلها فإنّه يسعى إلى تجريد التوحيد عن لطائفه الروحانيّة وحصره في رسوم محدودة بالذات والصفات وما إلى ذلك. ونتيجة لمثل ذلك الجهل انقطاع الأمة عن أدوات روحانية مثّلت ركنًا من أركان التربية الدينيّة عبر العصور. هكذا يتحوّل التوحيد من طريقة الوصول إلى الله إلى مجموعة من الاقتراحات على الورقة يجب للتلميذ حفظها من أجل النجاح في الامتحان.

وما يلفت النظر أن مثل ذلك الإشكال وقع في عصر الإصفهبذيّ والمقدسيّ. وتنبّها كلّ منهما إلى الالتباس الذي قد لحق بروحانيّة التوحيد، والجهل الذي أدّى ببعضهم إلى الإفراط فيها. كما تنبّها إلى الشبهات التي أحاطت بها. شمّرا الإصفهبذيّ والمقدسيّ عن ساعديهما لشرح التوحيد بالعلم، لتنزيه روحانيته عن شوائب الجهل. والظاهر أنّ الجهلة آنذاك خلطوا بين المعيّة الإلهية والاتحاد والحلول. لذلك ذهب المؤلّفان إلى التمييز بين القول بأنوار الله المتجلّية في القلب، والقول بالاتحاد والحلول. من ناحية أخرى بيّنا في رسالتيهما أنّ الاتحاد والحلول لا يتوافقان مع التوحيد، لأنّ وجود الله لا يتحيّز في جسم من الأجسام. هكذا فإن دفاع الإصفهبذيّ والمقدسيّ عن روحانيّة التوحيد لا يقلّ وزنًا عن دفاعهما عن التوحيد نفسه. ذلك وممّا لا يفوت القارئ هو أن المدّعيين للاتحاد والحلول لا يُكشف عن هويتهم ولا عن اسم من أسمائهم في هذين الكتابين. ويُستخلص من ذلك أنّ العرفاء بالله هم الذين تعرّضوا لتهم الاتحاد والحلول. فالهدف من الرسالتين بالإضافة إلى شرح التوحيد بالعلم هو تبرئة العرفان من تهم الاتحاد والحلول، الأمر الذي دفع الإصفهبذيّ والمقدسيّ إلى شرح مصطلحات التوحيد الروحانيّة حتّى لا يتبادر إلى الأذهان أنّها عبارة عن الاتحاد والحلول.

يسود مثل هذا الوضع اليوم عندما تقول فرقة من الأمة بأنّ غيرها من المؤمنين غير موحدين. بطبيعة الحال، يوجد في الحاضر كما في الماضي جهلة يسيئون الفهم إلى التوحيد وروحانيته. ذلك ولا يُنكر أنّ التجارب الروحانيّة لا بدّ من الدقة العلمية في تقييمها حتى يُتجنب الوقوع فيما يخالف التوحيد ولكن حقيقة الإشكال لا تكمن في وجود الجهلة، بل في التبسيط والتعميم في الأمر.

 قد يرغب أهل هذه الفرقة أو تلك في تنبيه الأمة على وجود الضلال وحتّى الشرك عند المفرطين في روحانية التوحيد إلّا أنهم يلحقون بالتهم الكثير من الموحدين الذين ينطقون بألفاظ تشبه ألفاظ المفرطين الذين لا يميزون بين التجارب الروحانيّة والشعور باتحاد الله بهم وحلوله فيهم. وفي النهاية روحانية الإسلام بأسرها هي التي تكون عرضة للشبهات.

ومما يتضح من الاطلاع على رسالتي الإصفهبذيّ والمقدسي هو أنّ التوحيد تسبّب في الانقسامات في الأمة في عصرهما كما لا يزال يتسبب فيها اليوم. ومن الجدير بالذكر أنّ هـذه الانقسامات هي مما يبرر به الجبابرة اليوم الحكم بالتخويف زعماً منهم أن أهل التوحيد بما أنهم يتشاجروا عليه ويرمون بعضهم بعضاً بمخالفته فلا مفرّ لهم من استعمال القهر والبطش لحفظ الاستقرار.

ومن الجدير بالذكر أن مسألة التوحيد لا تخص المسلمين فقط بل تدخل في علاقاتهم مع غيرهم عموماً ومع المسيحيين خصوصاً لأن خطاب القرآن الكريم يثير شكوكاً حول ما كان النصارى عليه في زمن النبوة من توحيد الله. وبالفعل لا يزال التوحيد مما يثقل على العلاقات بين المسيحيين والمسلمين اليوم. بطبيعة الحال، لا يُتجاوز ما بين الديانتين الجميلتين من الاختلاف في شرح التوحيد ولكن الأمر قد يعاد النظر فيه لإزالة الثقل وسوء التفاهم وكل ما يمنع الجانبين من الاعتراف بأن الآخر له قدم في ملة إبراهيم. ذلك من جهة ومن جهة أخرى استفاد المسيحيون والمسلمون ولا يزالون مما كتبه في التوحيد علماء الدين الآخر، وذلك دون الاضطرار لا المسيحيين ولا المسلمين الى التنازل عما كلٌ منهم عليه من ثوابت دينية.

على سبيل المثال، أول رسالة بلغة العرب تناولت مسألة التوحيد ألّفها عالم من علماء المسيحية في بغداد هو يحيى بن عدي (ت. 364ه). بطبيعة الحال، نوقش الأمر قبله، مثلاً في رسالة من رسائل الكندي (ت. 256ه) فيلسوف العرب، ولكن ذلك أتى بين مجموعة من الموضوعات. أما رسالة يحيى بن عدي فإنها الرسالة الأولى التي تناولت التوحيد بمفرده بلغة العرب. ومهما يكون من الأمر فإن مسألة التوحيد تمثّل أمراً هاماً في تاريخ العلاقات بين المسيحيين والمسلمين.

 بعبارة أخرى لا تنفصل المسيحية عن نقاشات التوحيد عند المسلمين. هكذا مسألة التوحيد هي جزء لا يتجزّأ من علم الأديان. هل ندرس دين الآخر وتصوّره لمسألة التوحيد بمنطق الرد أو بمنطق الفهم؟ هل ندرسه لإبطاله أو للكشف عما فيه من أفكار وآفاق قد تغني فهمنا لديننا نحن؟ مما لا شك فيه هو أنّ علماء الإسلام عبر القرون يدرجون النصارى في صفوف من تنقصهم عقيدة التوحيد، ولكنّهم لا يذكرون النصارى في نقاشات التوحيد للردّ عليهم بل للرد على الجهلة من المسلمين. هكذا يشبّهون جهل التوحيد عند الأمّة المسلمة بالجهل الذي يفترضونه يغلب على النصارى. وقد فعل الإصفهبذيّ ذلك في مواطن عديدة من رسالته، جمع بين من يجهل حقيقة التوحيد عند المسلمين والنصارى المذكورين في القرآن الكريم، ولكن الحجج التي يحتجّ بها لدفع تهم الاتحاد والحلول عن روحانيّة التوحيد قد يُحتجّ بها لدفع التهم نفسها عن المسيحيّة. ألا يستطيع المسلم أن يستفيد من صياغة التوحيد المسيحيّة من حيث فهمه لغايات دينه هو؟ كذلك الأمر بالنسبة للمسيحيّ، هكذا يعرف الإنسان نفسه في مرآة الآخر.

ومَثَلُ المسيحية كمثل الإسلام فلا يُفهم التوحيد دون فهم روحانيته. لا يُنكر الاختلاف في الألفاظ التي يعبّر بها أهل الديانتين الفاضلتين عن روحانية التوحيد إلا أنهم جميعاً لا يجهلون أن الله تعالى لا يُعبد إلا بالإخلاص. وسبق القول إن ذلك لا يمكن دون ما يُنعِم الله به على البشر من نعمة ربانية يتمكن بها من الوصول الى الله والتخلق بأخلاقه. ويعبّرون المسيحيون عن ذلك بالبنوة، بنوة الله. هل يخالف ذلك المصطلح من مصطلحات المسيحية الروحانية توحيد الله؟ لا أبداً. يُقصد بالبنوة تجديد خلق الإنسان بفضل التعلق بالله، ما يمثّل ولادة جديدة ليست جسمانية بل روحانية تُحيي نفس الإنسان. باختصار لفظ البنوة هو عبارة عن ولادة المؤمن لله. وبهذه الولادة لا يولد بمِنى والده بل بكلمة الله. لذلك ينادي المسيحيون على الله بالأب إشارة الى ما تمكّنوا منه بفضله من الدخول في الحياة الجديدة بملكوته الربانية. في المسيحية يدور الأمر كله حول نور المسيح سلامه علينا. هل يخرج الخلق من الظلمات الى النور إلا بفضل الله؟ بطبيعة الحال، لا يتناقض وجود النور بالإسلام ووجوده بالمسيحية. هبات الله لا يهب الإنسانَ إياها لتملّكها واحتكارها بل لمشاركة غيره إياها. ومهما يكون من الأمر فلا يُنكر الاختلاف في اللغة التي يعبّر أهل الديانتين بها عن النور فإن المسيحيين يرون في نور المسيح نوراً لا يُظلم بل هو النور الذي يخرجنا الله به من الظلمات الى النور. لذا فإن المسيحيين يقولون إن نور المسيح هو النور الذي يحفظنا في نور الله بل هو النور الذي يخلّصنا الله به من الشر لأن من يعرف نوره بتحرر من حكم الظلام. وذلك كله عبارة عن روحانية التوحيد المسيحية فلا تخالف التوحيد روحانيته. وفي المسيحية كما في الإسلام لا يُفهم التوحيد بكامله إلا بفهم أسراره. ذلك ويوجد بالمسيحية كما بالإسلام من يفرط في الأمر.

ومن الجدير بالذكر أن توحيد المسيحية لا يخالف خطاب القرآن الكريم الذي يثير شكوكاً حول ما كان النصارى عليه في زمن النبوة من توحيد الله فإن النصرانية شيء والمسيحية شيء آخر. ويشار الى الإشكال في سورة الزخرف الآيتين 57-58: “ولما ضُرِبَ ابن مريم مَثَلاً إذا قومُك منه يَصِدّون. وقالوا ءَألهتُنا خير أم هو ما ضَرَبوه لك إلا جدلاً بل هم قومٌ خَصِمون.” وتدل هتان الآيتين على أن أهل الجزيرة في زمن النبوة نظروا الى المسيح نظر المشركين الى شركائهم وذلك على خلاف العقيدة المسيحية. واللافت هو أن أهل الشرك هم الذين يذكرون ابن مريم فيما جادلوا به. لماذا يدعوهم القرآن الكريم الى ترك الشركاء ولا يدعو النصارى الى ترك المسيح؟ ألا يعادل خيرها خيره؟ لماذا يُطلب منهم التخلي عنها ولا يُطلب من النصارى التخلي عنه؟ ويلمّح ذلك كله الى أن قوم النبي عليه الصلاة والسلام لم يميزوا بين الشريك الذي يضاف الى الله والمسيح الذي في العقيدة الصحيحة هو من بعثه الله ليكون الوسيلة للخلق الى التعلق بالله والتخلص من غيره فلا شيء في ذلك مما يخالف التوحيد.

والخلاصة هي أن التوحيد مترامي الأطراف فلا بد من تجديد نقاشه في كل عصر حتى لا يغلب الجهل على التعامل معه، ما يجعل من التوحيد أمر يفرّق بيننا بدلاً من أن يجمع بيننا كما ينبغي، وذلك بفضل الاختلافات في شرحه وليس على الرغم منها. وعندما ندرس الأمر بالعلم ندرك أن تعامل الآخرين مع التوحيد لا يخالف ما نحن عليه منه بل يُغني تعاملنا معه، ما يزيدنا علماً بدين الله بمشاربه الإنسانية المتنوعة فإن الله واحد وخَلقه واحد فلا تُناقش وحدانية الله دون إن تُناقش وحدانية عنايته تعالى بخلقه. هكذا وإن كان عصر الإصفهبذي والمقدسي غير عصرنا إلا أن رسالتيهما تكشفان عن الحاجة الى نقاش التوحيد في كل عصر.

Paul L. Heck  

جامعة جورج تاون، واشنطن العاصمة

*: Paul Heck, PhD, is Professor of Theology in the Department of Theology and Religious Studies at Georgetown University.

[1]: الإشارة إلى قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:23].

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!