من تراثنا الشعري الفكاهي: طبيب شاعر يرثي ثورا !

من تراثنا الشعري الفكاهي: طبيب شاعر يرثي ثورا !

 

من تراثنا الشعري الفكاهي: طبيب شاعر يرثي ثورا !

بقلم أ.د. مصطفى رجب

 

       دأبت أكثر الكتب المدرسية على الحط من شأن عصر حكم المماليك الذين خلفوا الأيوبيين عام 648هـ، وطالت مدة حكمهم حتى عام 924هـ. وكأن مؤلفي تلك الكتب نظروا إلى السياسة وجانبوا الفكر، واعتنوا بالحروب، وغفلوا عن التأليف. ذلك أن سلاطين المماليك حاولوا تقليد أسلافهم الأيوبيين في توريث الحكم، مما أدى إلى كثرة الانقلابات والاضطرابات.

        ولعل الأحداث الحافلة التي شهدتها قرون حكم سلاطين المماليك مثل بداية الحملات الصليبية بغزو الفرنسيين لدمياط، وسقوط الخلافة في بغداد ( 656هـ ) وهزيمة التتار في عين جالوت ( 658هـ ). لعل تلك الأحداث الكبرى قد استحوذت على اهتمام المؤرخين المعاصرين، مما قلل من اهتمامهم بالاطلاع على آداب تلك القرون، فتعجلوا في الحكم عليها بالضعف والتهافت.

        على أن عصر المماليك ضم نخبة من ألمع علماء الإسلام في تخصصات شتى، مثل الفقيه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والمحدث ابن حجر العسقلاني، والمؤرخين : ابن شاكر الكتبي، وابن دقماق، والقلقشندي والسيوطي وابن الأثير، والمفسرين كابن كثير، والأطباء كابن أبي أصيبعة وابن النفيس وابن الأكفاني.

        وضيفنا في السطور القادمة واحد من هؤلاء الأطباء، غير أن شهرته لم يكتسبها من مهنة طب العيون التي امتهنها، وإنما اكتسبها من كونه شاعراً هازلاً، اتخذ الفكاهة منهج حياة، وسمة شخصية مع أنه كان حاد الطبع، عصبياً، ضيق الصدر، ويبدو أن هذه سمة معظم الفكهين حين يصنعون النكتة، ويبدعون البسمة ، فيما هم – في حياتهم الخاصة – يعانون أشد المعاناة.

        وقد كان ضيفنا كحالا [ وهو لقب العيون آنذاك ] ولد بالموصل، ونال فيها تربية وتعليماً بين أهله وذويه، وكان مولده عام 646هـ، فلما دخل المغول الموصل ( 660هـ ) بعد سقوط الخلافة في بغداد بسنوات أربع. ضاق صاحبنا الحكيم شمس الدين محمد بن عبد الكريم بن دانيال بن يوسف الخزاعي، ضاق بحياته تحت احتلال المغول، فهاجر من الموصل إلى مصر، ومارس مهنة الكحالة ( طب العيون ). وذاع صيته في مهنته، ولكن الذيوع الأكبر ناله من تفرده بفنونه الشعرية.

        فقد عرفت مصر في عهده البواكير الأولى لفن المسرح، وكانت تلك البواكير أشبه شيء بما يسمى الآن ( مسرح العرائس ) وكان الاسم الذي اشتهرت به تلك البواكير المسرحية الأولى هو ” طيف الخيال ” حيث كان الجمهور يشاهد دمى تتحرك وتتحاور، تختفي ملامحها تحت أغطية كثيفة، ولكن أحداثها واضحة مسموعة. ومع الأسف الشديد ، لم ينل هذا الفن ، ولا هذا الشاعر ما يستحقانه من عناية ودراسة ، فلا نعلم دراسة تخصصت فيه إلا ذلك الكتيب القيم الذي نشره الدكتور ابراهيم حمادة عن الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر[ الهيئة العامة للكتاب حاليا]بعنوان ” خيال الظل ومسرحيات ابن دانيال” . وكان ذلك في السبعينيات على وجه التقريب.

        وكان ابن دانيال يكتب كثيراً من الأشعار التي يرددها أبطال ” طيف الخيـال ” ومعظمها أشعار فكهة ساخرة، تمثل لوناً جديداً من ألوان النقد الاجتماعي الساخر الهادف، لم يكن لأدبنا العربي القديم عهد به قبل تلك الفترة.

        وديوان ابن دانيال حافل بأشعار متنوعة الأغراض، ففيها السخرية الشخصية والسخرية العامة، ونرجح أن هذا الديوان لم ينل عناية كافية من الباحثين لما يكثر فيه من ألفاظ عامية، وإن كانت أحياناً فصيحة الأصل، ولما يكثر فيه من معان جارحة للحياء العام. غير أن أبياته التي تشيع في كتب تاريخ الأدب، هي تلك التي وصف فيها بيته الضيق المكتظ بالحشرات فذلك حيث يقول:

أصبْحتُ أَفقَرَ مَن يَروحُ  وَيغـتــدي ما في يَدي من فاقّـة  إلاَ يــــدي
في مَنزلٍ لم يَحوِ غَيريَ قاعــــداً فمتـى رقَدتُ ، رَقَدتُ غيرَ  مُمَـــدَّد
لَمْ يبقَ فيه سوى رسومِ حَصيـــرةٍ ومخدَةٍ  كانَتْ  لأُمِْ  المهتَـــــــدي
تُلقى على طُرَّاحةٍ في حَشْوهـــــا قملٌ شبيه السمسمِ المتُبَّـــــــدِدِّ
والبقُّ  أَمثالُ الصّراصرِ خِلقةً من  مُتهمٍ  في حَشوِها  أو  مُنْجـــدِ
وترى بَراغيثاً بجسمي عُلِّقَــــتْ مثل المحاجمِ في المساءِ  وفي  الغَــدِ
وكذا البعوضُ يطير وهو بريشـــهِ فمتى تمكّنَ  فوقَ عرقٍ   يفصُــــدِ

        كما اشتهر ابن دانيال، بلون آخر من الشعر، أسماه بعض الدارسين شعر   “تحصيل الحاصل” وهو شعر فكاهي رائع، تأتيه الفكاهة وخفة الظل من بنيته الفنية التي تأخذ شكل شعر الحكمة، أما مضمونه فبعيد عن أية حكمة  !! ، بل هو كلام شديد السذاجة صب في شكل حكمة غالية نادرة فمن حكمه تلك المزيفة ” إنك إذا رأيت رجلا عاريا مرتعدا في الشتاء فسوف يسألك ثوبا أو غطاء يقيه البرد !!!” ومن يقتل أفعى نهارا فقد تؤذيه !! والذي يعاني من الصداع لن ينفعه الكحل إذا اكتحل !! والطفل يضحك حين تمنحه الحلوى ، أما إن أخذتها منه فإنه يبكي !! وقد يخدش القط من يلاعبه ، والكلب يعوي إذا أوجعه الضرب !!! فتأمل من درر تلك الحكم  قوله:

إذا وَجَدْتَ في الشِتاءِ عاريـــــاً مُرتَعِداً ،  نادى عَليْكَ بالدّفـــــا
مَنْ قَتَلَ الحيّة في هاجــــــرةٍ عرَّضَ نَفْسَهُ يقيناً للبلـــــــى
وَكلُّ مَنْ يَشكو صُداعَ رأسِــــهِ فليسَ يَشفي ما به كُحْل الجــــلا
وليسَ مَنْ يسكُنُ قاعاً صَفْصَفـــا مثلَ الذي يسكُنُ بيتاً بالكِـــــرى
والقطُّ قد يَخْدِشُ مَنْ لاعَبَـــــهُ والكلبُ إنْ أوجَعَه الضّرْبُ  عــوى
والطّفلُ قَد يَضْحكُ إنْ أطعَمْتَـــه الحلوى وإن أخذْتَها منهُ بكـــــى
والخُبْزُ للجائعِ أدمٌ كلُّـــــــهُ والصّيْفُ أدْفا زَمناً منَ الشتـــــا !!
ويشْبعُ الجائِعُ بالخُيــــــز وَلا يَشْبَعُ مَنْ مَصَّ – مِنَ الجوع – النّوى !!

        وإذا كان تراثنا الشعري القديم قد حفل بقصائد، أو مقطوعات قصيرة، لشعراء تأثروا لفقد بعض حيواناتهم الأليفة كالخيل، والحمير، والقطط والكلاب، فإن شاعرنا ابن دانيال هذا قد تفرد – في حدود علمنا المتواضع – بقصيدة مطولة رثى بها ثوراً كان له ونفق !!، ولا يستطيع قارىء القصيدة [ التي تقع في عشرين بيتاً ] أن يجزم برأي فيما إذا كان هذا الشاعر يرثي ثوره رثاءً حقيقياً، أم أنه يهزل كما رأيناه يهزل في تلك الأبيات النادر مثلها في تراثنا ، وهي التي تمثل لوناً من ” الحكمة الزائفة ” !!.

        يقول ابن دانيال إنه فوجىء بوفاة ثوره العزيز الذي يلقبه ب ” ذي القرنين ”  ذي اللون الأصفر الجذاب الذي يشبه لون الشفق، فكأن الشفق كسا هذا الثور درعاً وبروداً :

على مثلهِ ثَوراً ، بُكايَ   يَزَيـــــدُ فَلاَ برَدا جفنايَ  وهو يجـــــودُ
رزِئتا بذي القَرنَيْـنِ بأساً وَنَجْــدّةً لهُ عَدَدٌ من بأسهِ وعديـــــــدُ
بدا وهَلالُ الأُفقِ تاجٌ لرأســـــهِ ومَنْ شَفَق دِرْعٌ لـهُ وبَـــــرودُ
فَلَو أنه في ليلة العيد لاحَ لــــي لَقُلْتُ هلالٌ قد أطلَّ وعيــــــدُ
وذي أربَعٍ قد قُمّعَتْ بزَبرْجَــــدٍ وهضيهاتَ يحكي ما أقلَّ عمـــودُ
وفي الجزعِ من رَوْقيه شبْهٌ ولَوْنُـه عقيقٌ وَنَظْمُ الوَدْع منه عقــــودُ

وقوله ” فلا بردا جفناي ” إما أن يكون متعمدا للتفكه – على نهج الحلمنتيشيين المعروف- أو أن يكون قد استعمله على لغة معروفة في الفصيح يسميها النحويون تظرفا لغة ” أكلوني البراغيث” ، وجاء عليها قوله تعالى ”  ” وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ ” [ الأنبياء/ 3 ]

ويتحسر شاعرنا على نفوق ثوره مصطنعاً لوناً من التلاعب اللفظي بين هذا الفقيد، وبين برج ” الثور ” أحد الأبراج الفلكية المعروفة بأن مواليدها يكونون غالباً من السعداء الذين ترتفع أقدارهم يوماً بعد يوم كما يذكر أن ثوره كان من تلك الثيران التي تهزم مصارعيها فيولون الأدبار مستسلمين للهزيمة. ولسنا ندري على وجه اليقين أكانت مصر والشام- حيث عاش ابن دانيال – تعرف آنذاك مصارعة الثيران أم أن هذا الوصف، كان خيالاً محضاً من هذا الشاعر العجيب ؟ فهو يقول : كم من فارس من مصارعي الثيران  تصدى لصراع هذا الثور ، فلما أن رأى بأسه ، وخشي الهلكة وخسارة الرهان ، أسلم الريح ساقيه ، وكانت مسافة البريد [ وهي مسافة أربعة فراسخ ] هي أقرب مكان توقف فيه هذا الفار من المصارعة !! :

خَلا منهُ برج الثورِ والشّرَفُ الــــذي  سعودٌ له نحو العُلا وصعـــــودُ
فَكمْ – لرِهانٍ – فَرَّ  منه  محـــــاربٌ  هزيماً وأدنى ما وراهُ بَريــــــدُ !!

        ثم يأخذ شاعرنا في تعداد مآثر ثوره الفقيد، فيذكر أنه حين كان ينكث في الأرض بقرنيه، فييثيرها تراباً يصاعد إلى عنان السماء، لم يكن يفعل ذلك عبثا ولهوا ، بل سعياً إلى مواجهة ” عسكرية ” مع خصم من بني قومه يسمع به ولا يراه، هذا الخصم هو ذلك الثور المجهول الذي زعموا أنه يحمل الأرض على قرنيه، فإذا نال منه التعب نقلها إلى قرنه الآخر فيحدث فيها ما يحسه الناس من الزلازل والهزات الأرضية، وهذا الاعتقاد الشعبي كان سائداً في تلك العصور، وذكره ابن إياس    – المعاصر لشاعرنا ابن دانيال –  أحد مؤرخي العصر المملوكي في كتابه الشهير ” بدائع الزهور في وقائع الدهور “. فكأن ثور ابن دانيال، كان – حين ينطح الأرض – يبحث عن ابن عمه حامل الأرض على أحد قرنيه لعله يعينه في حملها، أو ينتزعها منه، أو يدخل معه في مصارعة: أيهما أشد قوة وأعظم بأساً؟.. فيقول شاعرنا:

وَقالوا نَراهُ يَبحثُ الأرضَ ناطحـــاً فَيَصْعَدُ نحوَ الجوِّ منه صعيـــــدُ
فقلتُ لَهم يبغي الذي يحملُ الثـــرى بقّرنيه فالأرضونَ منه تَميـــــدُ

        ويصف ابن دانيال، ما كان يتمتع به ثوره النافق من مزايا، فهو ثور عظيم النفع كان يستعمله صاحبنا في إدارة ساقيته ليجلب الماء من الترع فيسقي أرضه لتجود له بالخير الوفير. ويتغزل في جمال ثوره إذا تأمل ما في وجهه من حسن التقاطيع، وتناسقها. كما يتحلى إلى جانب صباحة الوجه، ووسامته، بسيما الأتقياء الصالحين، فهو إذا تهادى في ” الزريبة ” وسط البهائم راعك ما يبدو عليه من الوقار والاتزان فكأنه قائم من سجود وهو يسبح في كل صباح:

وما زالَ يسقي الحرثَ ريّاً فأخصَبَت مرابع  فيها  قائمٌ   وَحَصيـــــــد
فآهاً  لهُ  ورد الشّبابِ  أخا لمــى شهيُّ رضابِ المرشِفَينِ  بَــــرودُ
إذا اجتازَ في ساجِ الزرائبِ خلـتـهُ مُسّبِحَ صبْحٍ  قدْ   عراهُ    سجـــودُ

        ويذكر ابن دانيال أن ثوره ما نفق إلا لأن الحاسدين الأشرار رموه بنظراتهم النارية المدمرة، فأردوه قتيلاً، فيا ليت حاسديه ماتوا بحسرتهم، وعاش هذا الثور يؤدي واجبه مع صاحبه، فهذا الثور الوفي النبيل يستحق في نظر صاحبه ابن دانيال أعلى درجات الحب والتقدير، حتى إنه ليؤكد لنا أن الهنود والبراهمة إنما حرموا أكل لحوم البقر إكراماً لثور ابن دانيال، الذي اغتالته يد المنية فبكت عليه قواديس السواقي ،  و التروس التي كانت تربطه إلى تلك القواديس، وبكت عليه ” قلوب ” النخيل بما تحمله من جريد أخضر:

رَمَتْهُ عُيونُ الحاسدينَ بنظــــــرةٍ فَلَيّتَ بَقى دهراً ومَاتَ حســـــودُ
ومَنْ أجلهِ قد حَرّمتْ لحمَ مثلــــةِ بَراهِمةٌ في شَرْعِها  وَهنــــــودُ
بكته قَواديسُ السّواقي بأدمُـــــعٍ غِزارٍ لَها بَينَ الحياضِ مُـــــدودُ
وأنت لهُ الأتراسُ حُزناً وحرقـــةً وَذابَ لهُ قلبٌ عليهِ جريـــــــدُ

        وتصل ذروة ألم شاعرنا لفراق ثوره الأصيل، أنه رفض شراء ثور غيره تهيم إليه قلوب البقر، لأن ثوره كان من نوع نادر من الثيران، حتى إنه لو عاش قبل عصره، وأدرك أيام نبي الله موسى عليه السلام لعبده بنو إسرائيل ولاتخذوه إلهاً يتقربون إليه:

ومَن بَعدِهِ  ما عانَقَ الباب ســــــيّد  له  كل  أبقار  البلاد   عَبيـــــدُ
ولا جازَ من تحتِ   الجوائزِ    متلُـــهُ وسرقينُه مِسْكٌ   يفوحُ    وعـــــودُ
فلو كانَ  في أيامِ موسى  صَبا     إلــى عبادَتهِ – في المشركين – يهـــــودُ

        وهو في هذا البيت الأخير يشير إلى ما كان من أمر قوم موسى حين خدعوا السامري حتى صنع لهم عجلاً من الذهب فعبدوه في أثناء غياب موسى عليه السلام منهم وذهابه لميقات ربه.

        إن هذه القصيدة نموذج فذ لنوع من الشعر الفكاهي اتسعت له قريحة الوجدان الفني العربي في عصوره المتتابعة، وبلغ هذا النموذج مستوى عالياً عند شاعر ” تحصيل الحاصل ” ذي الحكم المزيفة ابن دانيال الموصلي !

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!