قطر من غمر الروح
بقلم: وفاء أحمد السوافطة
كتب حي بن يقظان [1]في دفتر مذكراته، بعد قرون من ميلاده:
- لقد قضيت عمري بين الأجناس المختلفة من الحيوانات العجماوات، دون أن أعرف أين تؤدي بي طريق الفكر والبحث. إلى أن هداني عقلي إلى الإيمان بوجود خالق، أبدع كل شيء صنعه، وجعل التكامل في التعدّد والتنوع. لكنني أضعت بوصلتي عندما تعرفت إلى الناس الذين يصرّون على تعبئة أفكارهم وشرائعهم في زجاجات ملوّنة، معتقدين أن لونهم هو الأكمل، والأنسب، ويحطمون باقي الزجاجات التي تخالف انتماءاتهم وألوانهم، متناسين أن الماء واحد، وأن اختلاف اللون من اختلاف الزجاج،” يسقى بماء واحد والزهر ألوان”[2].
- ألا ليتني بقيت على فطرتي وسذاجتي، أشعر ملء كياني بقيومية الله في كل مظاهر الكون، فتدمع عيناي عند كل لائحة تلوح من قِبَله، ويخفق قلبي، فأقرّ بأنه مدبّر الحياة والموت، المستحق للتقدير والتقديس والطاعة والإنابة، دون أن أدخل في متاهات الشرائع المتباينة، والمتشرّعين المتنازعين بينهم، الذين يحصرون الله في إطار خيالاتهم القاصرة، وتصوّراتهم المحدودة…
- هل يستطيع الإنسان ذو العقل المحدود أن يعرف ما يريده الله منا؟ بل هل يستوعب عمق ما جاءت به الرسالات؟ ألا يكفي أن نعطي لله قدره، بغض النظر عن رأي الناس فيما نفعل ونقدم؟
- أي حيّ! ما هدفك في الحياة: أن يشعر الناس مثل شعورك العميق والفياض، ويتناغموا مع الطبيعة والكون ليبدعوا أجمل سمفونيات الحياة؛ أم أن تفرض عليهم أن يؤدوا حركاتهم مثلما تؤدي، تقليدًا ونفاقًا، لتشعر بالتفوق والرضا أنك الأصح؟!
- بل أيها أكثر إبداعًا: أن تستمتع بنغمات الموسيقى التي يؤديها مئة عازف مختلفي الآلات والمهارات أم تحوّل كل الموسيقيين إلى قارعي طبول أو عازفي أعواد؟
- متى تدرك أي حيّ! ما الأجمل والأسهل؟ أن تؤدي عبادتك بسكينة وروحانية، أم أن تفرض على 8 مليارات إنسان طريقتك في التفكير والعبادة والأداء؟
- بل ما الذي يقرّبك إلى ربك: أن تصلي ركعة، ودموعك تسبق حركاتك، وتسجد وقلبك يخفق عند ترداد كل كلمة تناجي بها ربك؟ أم أن تدعو الناس إلى العبادة على طريقتك، ويرددوا وراءك، دون يقين، أن لك ربّا له من الصفات كذا وكذا… ؟
- أليس الأكمل أن يتعرف الناس إلى صفات ربي في أخلاقي، بدل أن يروها في زخارف المعابد…؟!
- أليس الأكمل أن تفيض دموعي كلما ذكرت ربي خاليًا، من أن أشهد العالم كله أمام التلفاز أنني أبكي عندما أؤدي صلواتي؟!
- أي حيّ! لا مناص لك إلا بأن تعود إلى الطبيعة لإفناء قيودك وحدودك وأنماطك وتصوراتك في فضائها الرحيب، قبل أن تفني الطبيعة ذاتها في الوحدة المطلقة، كما قال الشاعر[3]:
واجتمعنا في إناء واحد / وتفرقنا لتشكيل الصور
يا لقومي لاح لي من سرّها/ آدم الأنثى وحواء الذكر
[1] حي بن يقظان قصة تتحدث عن طفل نشأ وحده في جزيرة، بعد أن ربّته ظبية. وشارك في تأليفها عدة أدباء أهمهم ابن طفيل. الذي توصّل في الرواية إلى أن أي إنسان قادر بمفرده على الوصول إلى الإيمان الكامل من خلال مراقبة الطبيعة والتفكير فيها دون أي تعليم؛ لأن الدين والفلسفة والعلم لا تعارض بينها. وإمكانية أي إنسان للوصول إلى المعلومات والحقائق المطلقة.
[2] من أبيات الشاعر الصوفي أبي الحسن الششتري.
[3] من أبيات الشيخ مصطفى أبو ريشة البقاعي الشاذلي اليشرطي.