المثنوي
ثناء درويش
“استمع للناي كيف يقصُّ حكايتَه. إنه يشكو آلام الفراق، يقول:
إنِّي مذ قُطِعْتُ من منبت الغاب والناس، رجالاً ونساء، يبكون لبكائي.
إنني أنشد صدرًا مزَّقه الفراق، حتى أشرح له ألم الاشتياق.
فكلُّ إنسان أقام بعيدًا عن أصله يظلُّ يبحث عن زمان وَصْله.”
وسألتك، وأنا أتشبث بعباءتك كطفلة، فيما تعرج بي على صهوة الماء نحو السماء: “مَن أنت؟”
وحين فجَّرتَ صخرَ قلبي عيونًا، ودرى كلُّ أناس بي مشربهم، سألتك: “مَن أنت؟”
ولمَّا استحال أحمرُ دمي اخضرارًا، وصار ركودُه بروقًا ورعودًا ووابلاً من مطر، جلجل السؤالُ من جديد: “مَن أنت؟”
مَن أنت، لتعلِّمني كيف ألاقح ذاتي وأنجب منها أقوَمَ نَسْلٍ وأبهاه؟ من أنت لتبقى حيًّا أبدًا في قلبي، تلهمني وتوحي لي؟
وما كان سؤالي سؤالَ جهل واستفسار، بل سؤالُ الدهشة والذهول، سؤالُ اللهفة الأولى إثر كلِّ لقاء يجمعنا، سؤالُ صعقة الحب تجعل كلَّ خلية بي تدلُّ عليك بعطرها ولونها، وكلَّ نَفَس يردِّد اسمَك كأنه يفعل لأول مرة.
وتبتسم لي، أيها الشيخ المجلَّل بالبياض كجبال الألپ، وتعذر عذريَّتي. فما أردتَ من رحلتك بي إلا أن تعود بي درب الرجوع نحو بهاء أناي، وجودي، إلهي.
مولانا جلال الدين الرومي
أميَّةً أتيتك، رميت كراريسي المدرسية بعيدًا، تاريخي المزوَّر، علومي المجموعة، دين التقليد، وجثوت على ركبتيَّ في محرابك المقدس، أتهجَّى الحقيقةَ حرفًا حرفًا. فإذا بها تنير ردهات داخلي الرحبة اللامتناهية، وإذا بكلِّ كلمة منك مفتاح باب يُفضي بي إلى ألف باب!
قلتَ: “اقرأ!” فبدأتُ أقرأ وأجمع بعد فراغي، لأمتلئ حبًّا وشغفًا. وإذا بي أحور وأدور ولْهَى حول ذاتي في رقص مولوي. وما الحب إلا رقصة الوجود البديعة، في ثنائية أو تعدُّد يُفضي إلى الوحدة، صعودًا صعودًا نحو سمائي السابعة، رجوعًا رجوعًا نحو آدم، ليتصل أولُ الخلق بآخره في تمام الدائرة.
“… يمسي المرء كرديًّا، ويصبح عربيًّا…”
ربما حينذاك بدأتُ أعي معنى أن “يمسي المرء كرديًّا، ويصبح عربيًّا” لما غدت مقدمةُ مثنويك دستورًا لي وعهدًا عليَّ، رأيتكَ تودعها سرَّ إبداعك ذاك، لتعيها قلوبٌ واعية، أو يكون على قلوب أقفالها، فتعمى عنها العيون:
هذا كتاب المثنوي، وهو أصول أصول أصول الدين في كشف أسرار الوصول واليقين. وهو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر. “مثل نوره كمشكاة فيها مصباح”، يشرق إشراقًا أنور من الإصباح. وهو جنان الحنان، ذو العيون والأغصان. منها عين تُسمَّى عند أبناء هذا السبيل سلسبيلا، وعند أصحاب المقامات والكرامات خير مقامًا وأحسن مقيلا. الأبرار فيه يأكلون ويشربون، والأحرار منه يفرحون ويطربون. وهو كنيل مصر شراب للصابرين، وحسرة على آل فرعون والكافرين. كما قال: “يضلُّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا”. وإنه شفاء الصدور وجلاء الأحزان، وكشَّاف القرآن، وسعة الأرزاق، وتطييب الأخلاق. بأيدي سَفَرَة كرام بَرَرَة، يمنعون أن “لا يمسه إلا المطهَّرون”، “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. والله يرصده ويرقبه، وهو “خير حافظًا وهو أرحم الراحمين”. وله ألقاب أخرى لقَّبه الله تعالى، واقتصرنا على هذا القليل، والقليل يدلُّ على الكثير، والجرعة تدل على البيدر الكبير.
وإني لأعجب للتلميذ كيف يصبح سيدًا وسندًا! فحسام الدين، تلميذك النجيب الذي كان المحرِّض على كتابة المثنوي، أمليتَه عليه بعد طلبه منك ذلك، نراك تخلع عليه في هذه التقدمة من الصفات ما يجعل القلبَ في حيرة! لكأنك النبي، ولكأن حسام الدين وصيُّه علي، لما وازى بين السبَّابتين وقال: “أنا وأنت، يا عليُّ، كهاتين”:
اجتهدتُ في تطويل المنظوم المثنوي، المشتمل على الغرايب والنوادر، وغُرَر المقالات ودُرَر الدلالات، وطريقة الزهَّاد وحديقة العبَّاد، قصيرة المباني، كثيرة المعاني، لاستدعاء سيدي وسندي ومعتمدي، ومكان الروح من جسدي، وذخيرة يومي وغدي، وهو الشيخ قدوة العارفين، وإمام أهل الهدى واليقين، مغيث الورى، أمين القلوب والنهى، وديعة الله بين خليقته وصفوته في بريَّته، ووصاياه لنبيِّه وخباياه عند صفيِّه، مفتاح خزائن العرش، أمين كنوز الفرش، أبو الفضائل حسام الحق والدين.
ورحت، يا مولاي، تفيض، فيما حسام الدين يجمع ماءك الطهور في جعبة قلبه الفارغة، ووضعت فمَك على فمه تزقُّه العلمَ زقًّا. إنها العلاقة الأبدية بين أنثى وذكر، مفيد ومستفيد، بين أرض وسماء. وبهذا اللقاح نرى الأرض “اهتزت ورَبَتْ وأنبتت من كلِّ زوج بهيج”. قلتَ له:
سأختار لمدرستي منهجًا مغايرًا لكلِّ ما ألفوه، هو الفنُّ السماوي ما بين الشعر والموسيقى والرقص، لأنه يخاطب الفطرةَ مباشرة، فيكون أقصر درب للوصول وأيسره.
سأودع عينَ الشعر علمي وعشقي، وعن طريقه، سأقول كلَّ ما عليَّ قوله لكلِّ الأجيال اللاحقة. سأجعل المثنوي يدل عليَّ وعليك. فـ”المثنوي” بالعربية هو المزدوج، حيث التقفية بتوحيد القافية بين شطرَي كلِّ بيت من أبيات المنظومة، إذ لكلِّ بيت قافيته المستقلة. وبذا أحرِّر منظومتي أيضًا من القافية الواحدة التي قد تعيق النَّظْم وتُربِكه عن أن يكون ملحمة مطوَّلة. وفي التثنية سترى عينُ قلب العاشق الوحدةَ – تلك الوحدة بيني وبينك – فيحار أيَّنا العاشق وأيَّنا المعشوق.
وسأضم أبياتي الخمسة وعشرين ألف في ستة مجلدات، أودع كلَّ مجلد نيفًا وأربعة آلاف بيت، متخذًا من القصص مفاتيح تفتح مغاليق الأبواب، أنفخ فيها من روحي، “فإذا بها حيَّة تسعى” أو حياة تُبعَث من رقادها – تلك القصص التي يمر بها المرءُ فلا يوليها اهتمامَه ولا يكترث بها، بينما يقدر أن يحلِّق على أجنحتها الخفيَّة نحو السَّبع الطِّباق، ويغوص بزعانفها إلى قاع اللؤلؤ المكنون، كما في ألف ليلة وليلة أو في كليلة ودمنة. لكن حذارِ أن تضيع في جمال وتفاصيل السَّرد:
فاستمع الآن إلى صورة هذه الحكاية، ولكنْ كن يقظًا وافصل ما بها من قشر عن اللباب، ولا تكن كَمَن سمع بعض الأقاصيص، فتمسك بحرفيَّتها تمسُّك الشين بلفظة “نقش”.
وها عندي خزينة لا تنفد من آي الذكر الحكيم، ومن أحاديث الرسول وأقواله الكريمة، ومن قصص الأنبياء والأولياء، سأجمعها كلها في قرآني الكريم. ولزمن سيتشابه الأمرُ عليهم: سيعرفني مَن يعرفني، وينكرني مَن ينكرني. سأُرمى بالكفر والزندقة، بالتحريف والادِّعاء. وسيمر قومٌ على أثري وشعري، فلا يرون فرقًا بين جزء وآخر – إلى أن يأتي عاشقٌ يهتك سرِّي وسَتْري، متأملاً أجزائي كلَّها، ويعود إلى إشارة الأفلاكي يستنطقها لتخبره اليقين:
سأل كُتَّاب المثنوي وحُفَّاظُهُ ذات يوم مولانا: “هل تتفاضل أجزاءُ المثنوي فيفضل بعضُها بعضًا؟” فتفضل مولانا قائلاً: “يفضل جزءُ المثنوي الثاني جزأه الأول كما تفضل السماءُ الثانيةُ الأولى، ويفضل ثالثُه ثانيَه كما تفضل السماءُ الثالثةُ الثانيةَ، ويفضل خامسُه رابعَه كما تفضل السماءُ الخامسةُ الرابعةَ، ويفضل سادسُه خامسَه كما تفضل السماءُ السادسةُ الخامسةَ. ألا ترى أن عالم الجبروت يفضل الملكوت؟ وهكذا التفاضل في تلك العوالم يطول ويطول.
أجل، للعشق وحده أن يقودني في دروبك الرحبة. أستجمع شتاتي، في مركزية القلب، فأرى كيف أودعتَ قصة الخلق في المثنوي، ورسمتَ دربَ العروج من السماء الأولى إلى سادس سماء – تلك السماء التي بقيت مفتوحةً بلا نهاية، ليتساءل عابر: لِمَ كان ذلك وأين السماء السابعة؟! – مخمِّنًا احتمالاتٍ تُمليها قياساتُه، وهمُه وخيالُه. ولو تعلَّم في مدرستك وقَرَنَ المثلَ بالممثول، لرأى أنك تعمدتَ ذلك لتشير إلى الرسل الستة، من آدم (ع) إلى محمد (ع). أما السابع فالقائم المهدي الذي يصل إليه المؤمنُ بمضيِّه على الصراط المستقيم واعتصامه بحبل الله وعدم التجزئة والتفرقة.
“ولقد خلقنا الإنسانَ من سلالة من طين ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين ثم خلقنا النطفةَ علقةً فخلقنا العلقةَ مضغةً فخلقنا المضغةَ عظامًا فكسونا العظامَ لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين”
سيطوف بكلِّ جزء من أجزائي الستة مرة. فإذا أنهى طوافَه بعد الجزء السادس، فتحتِ السماءُ السابعةُ له أبوابَها، فيعجز اللسانُ والبيان، ليعود ويكتب “مثنويه” الخاص من أول جزء. سيطوف به المثنوي أطوارَ الخَلْق السبعة:
ولقد خلقنا الإنسانَ من سلالة من طين ثم جعلناه نطفةً في قرار مكين ثم خلقنا النطفةَ علقةً فخلقنا العلقةَ مضغةً فخلقنا المضغةَ عظامًا فكسونا العظامَ لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين
– ليبقى “الخلق الآخر” طريقًا مفتوحًا، لم تشأ، يا مولاي، أن تكتبه حروفًا، لكنك كتبتَه قيامةً في كلِّ مريد. هو العشق الذي وصفتَه في مقدمة الجزء الثاني من مثنويك بأنه
المحبة من دون حساب… فلقد قيل إنه صفةٌ حقيقية لله، وأما اتصاف العبد به فمن قبيل المجاز. فكلمة “يحبهم” يقين كامل، وكلمة “يحبونه” فمَن ذا يصدُق عليه هذا الوصف؟!
هو العشق الذي لم ترَ إلاه مولًى وسيدًا، ولا غيره بُراقًا… فإذا ما حضر العشقُ صار الحب والحبيب والمحبوب واحدًا:
جاء الحب: هو مثل الدم في عروقي وفي لحمي
وقد أفناني، وملأني بالمعشوق
والمعشوق تخلَّل كلَّ خلية في جسدي
ومنِّي لم يبقَ سوى اسم، وكلُّ شيء آخر هو هو
وقلتَ: “هذا سلَّمي فاصعديه، من شريعة، إلى طريقة، فحقيقة. وحاذري الوقوفَ فيما قد يلوح لكِ نهايةً، ولا ترضي عن الوصال بدلاً. فما الشريعة إلا كير التطهير. إنها أشبه بـ
قنديل يضيء الطريق. فإذا كنت لا تحمل القنديل لا تستطيع أن تمشي. وعندما تتقدم في الطريق تكون رحلتك هي الطريقة. وعندما تكون قد وصلتَ إلى الهدف تكون قد بلغتَ الحقيقة.
و:
تشبه الشريعةُ تعلُّمَ الكيمياء من أستاذ أو كتاب. وتُشبه الطريقةُ استخدامَ منتجات الكيمياء أو فَرْكَ النحاس بالحجر الكيميائي. وتشبه الحقيقةُ تحوُّلَ النحاس فعليًّا إلى ذهب. والشريعة تمثل الطريق الواسع المُعَدَّ للناس جميعًا، في حين أن الطريقة مسلك ضيق من نصيب العدد القليل من أولئك الذين يريدون تحقيق مرتبتهم الكاملة بوصفهم أناسًا كُمَّلاً.
“ارتقي سلَّمَ الوجود الروحي لتقومي خلقًا آخر، كما ارتقى جسدُك من مرتبة الجماد”:
في اللحظة التي دخلتَ هذا العالم
وُضِعَ أمامك سلَّمٌ ليمكِّنك من النجاة
في الأول كنتَ جمادًا، ثم صرتَ نباتًا
ثم بعدئذٍ صرتَ حيوانًا: كيف يمكن أن تتجاهله؟
ثم جُعِلتَ إنسانًا موهوبًا معرفةً وعقلاً وإيمانًا
انظر إلى هذا الجسد المصنوع من التراب أيَّ كمالٍ اكتسب
وعندما تتجاوز شرطَ الإنسانية لا شك في أنك ستغدو ملاكًا
بعدئذٍ ستنتهي من هذه الأرض، وإقامتُك ستكون في السماء
وكنتَ، كلما رأيتَ العجبَ في عيني والارتباك، تربِّت على كتفي وتهمس لي، وأنا كلِّي آذان مصغية، ناصحًا:
أن يتعلَّم العالمُ الطالبُ ما لم يعلم، وأن يعلِّم ما قد علم، ويرفق بذوي الضعف في الذهن، ولا يعجب من بلادة أهل البلادة، ولا يعنف على قليل الفهم: “كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم”.
وتذكِّرني بأنه
لن يدرك العلمَ مؤثرُ هوى، ولا راكنٌ إلى دَعَة، ولا منصرفٌ عن طلبه، ولا خائفٌ على نفسه، ولا مهتمٌّ بمعيشته.
طيب إذًا، يا سيدي، ها إنني أحاول أن أكون كالميْت في يد الغسَّال. سأتجه بحواسي كلِّها إليك، و”لن أسألك عن شيء حتى تحدث لي من أمرك ذكرا”. فإذا عجلتُ إليك لترضى، اغفر لهفتي وجِدْ لشوقي عذرا، ولا تردني بقولك: “إنك لن تستطيع معي صبرا”، ولا تقطع ما بيننا من حبل وثيق بقولك: هذا “فراق بيني وبينك”. فمادمتَ الخضر الحي، كيف لعطاياك أن تنتهي، أو لصبرك أن ينفد، أو لصدرك أن يضيق بطفلة مثلي؟!
وأخذتَني إلى بستان مثنويك، فوجدتُه مائدةً عامرةً تمتد بين الأرض والسماء، بلغة سهلة سلسة، جُعِلَتْ كلغة القرآن، تلائم كلَّ عصر وزمان، كلَّ عمر وجنس، كلَّ عرق ولون – مائدةً زاخرةً بالأمثال، ما إن تلامسها عصاك حتى تدبَّ فيها الحياةُ ويعود كلُّ مثل، مهما صَغُرَ، إلى ممثوله. وكنت مذهولة، أفغر الفاه عجبًا وإعجابًا من بساطة المثل وعظمة الممثول – لولا أن تذكِّرني بقوله تعالى: “إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بعوضة فما فوقها”، فأداري ما بي، وأتابع الإبحارَ في يمِّ الطريقة، أصغي إلى حديث حبَّة الحِمِّص، تتذمر من طول الغليان وحرارة النار، وإلى جواب الطاهية عليها:
إنني أغليك بالنار لا لأني أكرهك، ولكنْ لأنَّي أريد أن أجعلك سائغةَ الطعم
فتصبحين بذلك غذاءً يختلط بروح الحياة. فمثل هذا العذاب لا يهبط بك
لقد فُصِلْتِ عن بستان الأرض، وستصبحين بذلك طعامًا يدخل جسم الحيِّ
فيغدو غذاءً وحيويةً وفكرًا. لقد كنتِ عصارة نباتية، والآن تصبحين من أسد الغاب
لقد كنتِ جزءًا من السحاب والشمس والكواكب، والآن تصبحين نَفَسًا وحركةً وحديثًا وفكرًا
ما أعظم ذلك الدرس في عدم الاستهانة بأبسط الأمور، وفي أننا نحن مَن نعطي الأشياء قيمتَها بنفخة الروح فيها وإقامة تلك الرابطة القوية معها، تجعلنا نبصر ما عجزتْ عنه عينُ البصر، فأرجعتْ أمرَها إلى عين البصيرة النافذة.
علَّمتَني، يا مولاي، كيف عليَّ الوقوف على الصراط لأفرِّق بين حقٍّ وباطل، وكيف يمكن أن أعود الإنسانَ–الميزان، الفيصلَ بين الخير والشر، بلا فعل وانفعال، حين رأيتك تتقمَّص الشخصياتِ كافة: من فرعون لموسى، من غنيٍّ لفقير، من سيِّد لعبد، من كافر لمؤمن، ومن امرأة لرجل. تغوص في أعماق النفس، تتكلَّم على لسان الضدَّين بالحياد نفسه، في مسائل عميقة دقيقة، كالجبر والاختيار، والقضاء والقَدَر، لتخرج في نهاية الحوار، الذي تقوده في خبرة وإبداع، إلى العرفان كحلٍّ لازم لا بديل عنه لكلِّ تلك المعضلات التي تطرحها، وكأنك خبير بالنفس وبأدقِّ خفاياها، في نقد لاذع وتهكُّم واضح، لم تنجُ منه حتى الصوفيَّة الذين باعوا حمار رفيقهم ليشتروا طعامًا بثمنه.
وكدت أستنكر عليك حينًا أسلوبَ السخرية والتهكم، وأهمُّ بأن أعترض عليه كطريقة للتعليم، حين تذكرتُ ما كان بيني وبينك من عهد وميثاق، فأعدتُ التمعُّن من جديد، لأجدني معجبةً بما استنكرتُ قبل وقت، فأدركت كم أحتاج ليكون علمي علمَ وعي ودراية:
كانت ذبابة على عود قشٍّ فوق بول حمار، وقد رفعتْ رأسَها كربَّان السفينة!
وقالت: “إني أسمِّيهما بحرًا وسفينة، وهذا ما استغرق فكري فترةً من الزمن
فانظر هذا البحر وتلك السفينة، وأنا فوقهما، الربَّان البارع الحصيف الرأي!”
فكانت هذه الذبابة تسيِّر سفينتَها على صفحة البحر، وقد بدا لها هذا القَدَر ماءً لا يُحَدُّ
لقد كان هذا الماء يبدو بلا حدود في نظرها – ومن أين لها ذلك النظر الذي يراه على حقيقته؟
إن عالمها يمتد إلى المدى الذي يدركه بصرُها. فعلى قدر العين يكون مدى بحرها
يا مليك الحوار، تديره كالحق حيث درتَ، في قدرة مقتدر، تشطح به إلى آخر نَفَس محتبس، ثم تعيده إلى نقطة البدء في حنكة مجرِّب. فكأنك القيِّم على نفوس أبطالك، يحسبون أنهم المختارون، أولو الأمر والنهي، يتبادلون الحججَ والإقناع، لتأتي إرادتُك قاصمةً ما بنَوا من الوسط بحدِّ الاعتدال – فإذا أقوالهم وأفعالهم قبض يدك، وإذا أنت المهيمن، يا الصراط المستقيم، فيأتونك طائعين، ينقادون للقانون الإلهي، العرفان، حين لا حول ولا قوَّة إلا بالله.
أدخلتَني، يا مولاي، حَرَمَك المقدس، أطوف وألبِّي ببياضي حول سوادك الفرد. ثم أغلقتَ عليَّ الباب وقلت: “لا إله سواي!” وبعد أن قبَّل فمُك أذني قبلةَ الحياة الطويلة، لزمان ليس في حساب الزمان، فتحتَ البابَ من جديد وقلت: “الآن وقت الامتحان!” فمضيتُ إلى دار اختباري، بجبري واختياري، أعقلُها وأتوكل، بينما قرآنك بين عينيَّ دستور وميزان.
وكلما أُشكِلَ في الأمر عليَّ، عدتُ أستفتيك. ألست أنت قلبي الذي أعقل به؟! ألست أنت مَن جلا صدأه وكسَّر أقفالَه؟! ألستَ أنت ربِّي؟! – ولا أقول باطلاً ولا بهتانًا.
ورحتُ أُديم النظرَ في أناي، أعاينها في المراتب والوجوه، أقلِّبها من ظهر لبطن، كرغيف خبز على كفِّ العشق واللهفة، أسافر بين الضدِّ والضدِّ بهمَّة باشق، فلا أرى إلا وجهًا واحدًا وأقنومًا فردًا – وإذا الإنسانُ العالمَ الكبير، في بساطته ولاتناهيه، في قَبْضه وبَسْطه، ذرةً ومجرَّة، قطرةً ومحيطًا.
وكيف يكون هذا الكلُّ مجبرًا أو مغلولاً بقيد الجبْر، وهو المتوَّج بالأمانة والكرامة؟ بل هو حرٌّ مخيَّر:
وتعلم من أبيك، يا وضَّاء الجبين، إذ قال قبل الآن: “ربَّنا ظلمنا أنفسنا”
فلا هو تعلَّل، ولا هو احتال، كما أنه لم يرفع لواءَ المكر والحيلة
ثم إن إبليس هو الذي بدأ الجدل قائلاً: “لقد كنتُ أحمرَ الوجه عزَّةً، وجعلتَني أصفرَه ذُلاًّ
فاللون منك، وأنت الذي قمت بصباغتي، وأنت، إذن، أُسُّ جُرمي وآفتي وجرحي
فانتبه، واقرأ “ربِّ بما أغويتني” حتى لا تتحول إلى جبريٍّ وحتى تقلِّل من طوافك بالالتواء
فحتَّام تقفز على شجرة الجبر، وحتَّام تلقي باختيارك جانبًا؟ مثل إبليس وذريَّاته: فهو مع الله في حرب وجدال!
وكيف يكون إكراهٌ وجَبْر وأنت في سعادة بالغة، لا زلت تشمِّر رداءك في العصيان؟!
وما أكثر ما رحت أتساءل: أتراهم قرؤوك، أصحاب الدعوة إلى الاشتراكية، يتنادون بها على المنابر وفي مجالسهم وبين صفحات مطبوعاتهم، يحسبون أنها وليدة اليوم أو أنهم ابتكروا جديدًا؟! وهل عاشوا أنفاسَ الاشتراكية كما عشتَها، وطابق قولُهم الفعل؟ هل أكلوا فتات خبزك، يا مسيحي الحيَّ، فصار الفتاتُ جسدًا لهم، وهل شربوا خمرتَك ليستحيل الخمرُ دمًا في عروقهم؟
فالاشتراكية نهج مثنويك، من ألفه إلى يائه. وهذي الدروس والعِبَر لم يكتبها مدادُ عشقك لأهل السماء، بل لإنسان الأرض، لتحقيق الغاية من وجود ابن التراب على هذا التراب. هي حقًّا تدعوه إلى أصله العلويِّ، وإلى المراتب الروحية، لكنها تفعل ذلك بأقدام تُلامِس الأرض، لا تهوِّم في الفضاء، تعطيه القوانين والمفاتيح، لتعيده آدَمَ سويًّا، ومن اعوجاج الحروف تقوِّمه ألفًا منتصبًا.
اشتراكية اجتماعية، تَهَبُ لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، بلا إفراط ولا تفريط، تسمع صوتَ الظالم والمظلوم، ثم تعلن كلمتَها الفصل وحكمَها العدل. وحين توجِّه الإدانةَ إلى الطاغية أو الفرعون ككائن مستقل، لا تنسى أن تذكِّر بأن في كلٍّ منَّا فرعونًا، فلا يُحسِن أحدُنا الظنَّ بنفسه ويحسب أنه مبرَّأ عن الشر:
وكلُّ ما هو في فرعون موجود فيك أنت، لكنَّ أفاعيك حبيسةُ جُبٍّ
واأسفاه! فإن أحوالك كلَّها سوف تضعها على كاهل فرعون ذاك
فلو تحدثوا عنك سوف يتولد لديك الخوف
ولو تحدثوا عن آخر سوف يبدو الأمر لكَ كأنه أسطورة
لتصل بي، يا مولاي، إلى حقيقة بدهية، وهي: هيهات أن أقدر أن أقهر الطغيانَ والشرَّ في الخارج إن لم أغلبْه في داخلي أولاً. وما التغيير إلا هدم للقديم بتقويض بنائه من أساسه، بعيدًا عن التدرُّج والترميم الذي يخفي المرض ولا يشفيه:
لقد جاء أحدُهم وأخذ يحرث الأرض، فصاح أحد البلهاء، ولم يستطع صبرًا
قائلاً: “لماذا تقوم بتخريب الأرض وكشفها وتُحدِثُ فيها كلَّ هذا الاضطراب؟”
فقال له: “امضِ، أيها الأبله، ولا تحملْ عليَّ، وميِّزْ أولاً بين العمارة والخراب
فأنَّى ينبت منها حقلُ حنطة أو تنبثق منها روضةٌ ما لم تَصِرْ قبيحةً ومخرَّبةً هذه الأرضُ؟!
وأنَّى تتحول إلى بستان وفروع وأوراق وثمار ما لم تُقلَب ظهرًا لبطن ويصير عاليها سافلَها؟!
وما لم تشق بالمبضع الجرحَ الذي التأم على تقيُّح، فمتى يُشفى ومتى يصير موضعُه ناعمًا؟!
مولاي: ربما تكون سذاجة من طفلة أن تعبِّئ البحرَ في كأس وتحصر فيضَك في مقال. وقد أكون ظلمت نفسي – وما ظلمتك – بأن بُحْتُ بطرفٍ مما أحدثتَه بي. فزلزالي لا تعبِّر عنه الكلمات، ولو تكثَّرت.
غير أني، كعادتي، أَكِلُ إلى نيَّتي أن تبرِّر، ولعشقي أن يجد لي عندك العذر، سائلةً الله أن يهبني المددَ لأوفِّي كلَّ جزء من مثنويك حقَّه فيما تَرَكَه من أثر في وجودي الحق – إنه نعم المولى ونعم النصير.
والحمد لله ربِّ العالمين
لم أنس منذ ثلاث سنوات يوم اهتديت الى طواسينك صديقي خالد.
و ها أنا أرى ذاكرة العشق تمحو كل ما عداها
من القلب ممتنة لحضورك و صفاء روحك و احياء هذا الأثر الأقرب لروحي
جميل أن أقرأ نص كنت قد قرأته من سنوات
ومرة أخرى أراه … جميل
ليس لمن لم يذق حكم على من ذاق , كما أنه ليس لأفضال الله قيد ولا يتحكم في عطاياه
إنك يا ثناء شربت من شراب الجمال العرفاني , ذلك الذي تحكي عنه الصوفية , والكلام في العرفان , كما يقول الشيخ الأكبر ، “إنما هو على الفتح الموهوب اللدني , لا على النظر والبحث والتفتيش” ، أي بالذوق الوهبي من الله , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وهو الشاهد الذي يعوّل عليه
والذوق أول مبادي التجليات كما يقول الشيخ الأكبر أيضا
فالزمي
وامتعي وأفيدي تقدّس سرك وطهر وزرك