ابن عربيّ في العالم الناطق بالفارسيّة

ابن عربيّ في العالم الناطق بالفارسيّة

ابن عربيّ في العالم الناطق بالفارسيّة

سيّد حسين نصر

ترجمة: عبد السلام الربيديّ

1-2

 

في هذه المناسبة[1] التي يحتفل فيها بالتراث الكتابيّ والعرفانيّ للمعلم والعارف المسلم العظيم الشيخ محيي الدين ابن عربيّ لا بدّ من التذكر بأن تأثيره كان واسعًا ومحلّ ثناء وتقدير على طول العالم الإسلاميّ وعرضه؛ فلم يمر قرن على وفاته حتّى أضحت أفكاره العرفانيّة محل نقاش في مراكز التصوّف من الأطلسي حتى وسط آسيا والهند. وعلاوة على ذلك، فإنّ انتشار الإسلام فيما يعرف اليوم بأندونيسيا مرتبط بطرق صوفية لها صِلات بالمبادئ الصوفية لهذا الشيخ المولود في مرسية من بلاد الأندلس.

وفي البلاد الناطقة بالفارسيّة وجدت تعاليم ابن عربيّ لها تربة خصبة وشهدت ازدهارا في فترات لاحقة. في هذه البلاد، بالتحديد، لم تعمل أفكاره العرفانية على تحويل لغة التصوّف العتيدة فحسب، بل إنها اخترقت علوم الكلام والفلسفة (الحكمة). طيلة سبعة قرون  ظلّت أجيال متعاقبة من المشايخ والحكماء يعلقون على أعماله، وحتى يومنا هذا ما تزال رائعته الفكرية (فصوص الحِكَم)[2] تُدَرَّس في الحلقات الدينية التقليدية وفي المجامع والمجالس العرفانية.[3]

إنّ أمثل طريقة لدراسة انتشار تعاليم ابن عربي في العالم الناطق بالفارسية، وخصوصا إيران،[4] يمكن أن تتأتى من خلال تصنيف أولئك الذين تأثروا به في فئات متمايزة.

الفئة الأولى وتشمل رموز التصوّف المشاهير، الذين يعدّ كل واحد منهم عَلَما بارزا في اللغة الفارسيّة، والذين تظهر عندهم عناصر من تعاليم الشيخ محيي الدين في صور مختلفة. وهنا نجد شاعر اللغة الفارسية الأعظم، وأعني جلال الدين الرومي، على ارتباط مسبق بابن عربي عن طريق صدر الدين القونوي الذي كان هو نفسه مريدا لابن عربي ومن أصدقاء جلال الدين الرومي وتجمعهما صلات وثيقة. وقد أطلق بعضهم على المثنوي ” فصوص حكم” اللغة الفارسية. ومما لا ريب فيه أن ثمة ميادين تتجلى فيها الصلات الوثيقة بين هذين العَلَمين السامقين في حقل العرفان الإسلامي. غير أنه ينبغي أن نذكِّر أنفسنا، أيضا، أنَّ الرومي يمثِّل  وجها أو شكلا آخر من التصوف يُعَدُّ مكمِّلا للنهج الصوفي الأكبري ذي الصبغة الخاصة؛ وهو أكثر من كونه مجرد اشتقاق فرعي من ابن عربي.

من بعد الرومي نجد أن شاعرين معروفين هما عزيز نسفي وسعد الدين حموية ( القرن السابع الهجري، الثالث عشر الميلادي) على الرغم من أنهما ينتميان إلى مدرسة وسط آسيا، المنسوبة إلى نجم الدين كبرى، فإنهما يسيران على نفس المنوال في إظهار أنهما يدينان بصورة عميقة للكشوفات العرفانية عند الشيخ الأكبر. حتى علاء الدولة السمناني الذي انتقد بعض صياغات ابن عربي، فإنه كان متأثرا به.[5] والأمر نفسه يسري على الشعراء البارزين الذين ظهروا في هذه الفترة؛ ففي حين نجد أن بعض الشعراء مثل حافظ قد اتبعوا الصور والأساليب الشعرية الكلاسيكية الموجودة في شعر سنائي والعطار والرومي، أو أضافوا أبعادا جديدة في نفس هذا الإطار المعهود كاستخدام لغة رمزية ضمن هذا القالب – فإننا نجد أن آخرين قد انعطفوا نحو تعاليم ابن عربي وتأنقوا في بسطها بالفارسية نثرا وشعرا. ونذكر هنا (اللمعات) لفخر الدين العراقي، تلميذ صدر الدين القونوي، مع تعليقات جامي عليها (أشعة اللمعات) فهي نموذج جلي على ذلك، ومثلها قصائد أوحد الدين الكرماني و “گلشن راز” (حديقة الأسرار) لمحمود الشبستري. وهذا العمل ينطوي على تركيبة عرفانية صوفية تستند إلى ما شرحه ابن عربي في مؤلفاته، وقد وصفها شبستري في قالب شعري له جمال علوي، فأصبح تراثا مشتركا عند الناطقين بالفارسية. وعلاوة على ذلك، فإن أشهر شارح لـ(حديقة الأسرار) وهو الشيخ محمد لاهجي، مؤسس الطريقة النوربخشية، قد تأثر هو نفسه بصورة عميقة بالشيخ الأكبر. ونذكر هنا رمزا صوفيا عظيما آخر في بلاد إيران هو الشيخ شاه نعمة الله ولي، مؤسس طريقة نعمة الله، وهي أكثر الطرق الصوفية في إيران، الذي ترجم كتاب (فصوص الحِكَم) لابن عربي إلى اللغة الفارسية. كما عمِد إلى ترجمة الأشعار الواردة في كتاب فصوص الحِكَم وصبها في قالب شعري فارسي وشرحها. وقد اعترف شاه نعمة الله ولي بانتمائه إلى مذهب ابن عربي، وعبّر عن ذلك في بيتين شعريين هما:

كلمــــاتُ الفصوصِ حلّتْ بقلبي     كالألي وجـدن خير مقــــامِ

من فيوضِ النبيِّ أخْذُ ابنِ عربي       وأخذَنا عن روحِه المستهامِ[6]

وليس ثمة من دليل أوضح من هذين البيتين عن حقيقة الارتباط العميق بين ابن عربي والشيخ  شاه ولي نعمة الله، وشاه ولي هو الشخصية الصوفية الأعظم تأثيرا في البلاد الفارسية خلال الفترة الحديثة.

وينتمي إلى هذه الفئة من شعراء ومشايخ التصوف الشاعر عبدالرحمن جامي الذي اجتهد في سبيل نشر تعاليم ابن عربي.[7] لقد أظهرت الشروح التي ألفت تعليقا على كتب ابن عربي مثلها مثل الكتب التي كتبها مؤلفوها بصورة مستقلة لكن مقتفين أثر مذهب ابن عربي العرفاني ومتتبعين تأليفاته الشعرية والنثرية – أظهرت كلها التأثير الكبير الذي أحدثه ابن عربي على شارحي كتبه وغيرهم في الأجيال اللاحقة من الصوفية الناطقين بالفارسية. وقد سار على نهجة كثيرون من الشعراء المتأخرين من أمثال صفائي أصفهاني وهو شاعر مرموق عاش قبل جيلين من زمننا هذا، وكان على معرفة عميقة بكتاب فصوص الحِكَم وبكتابات صدر الدين القونوي، وقد نظم صفائي أصفهاني بعضا من أفضل الأشعار في الحقبة التي عاش فيها.

 

 

[1]صدرت هذه المقالة باللغة الإنجليزية تحت عنوان:

” ʿArabī’s in the Persian-speaking World”

 

ضمن الكتاب التذكاري ” محيي الدين ابن عربي في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده 1165-1240هـ” ساهم في كتابة مقالاته مجموعة من المؤلفين وصدر عن الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، عام 1969 الصفحات 353-363.

وقد أعاد سيد حسن نصر نشر المقالة ضمن كتابه ” مقالات صوفية” الصادر باللغة الإنجليزية مع تغيير طفيف لا يمس الأفكار الجوهرية وجعلها تحت عنوان ” التصوف في القرن السابع ومدرسة ابن عربي” انظر:

  1. H. Nasr, “Seventh Century Sufism and the School of Ibn ‘Arabī,” in his Sufi Essays (Chicago: ABC International Group, 1999), pp. 97-103

وقد اعتمدنا بصورة أساسية على النص الموجود في الكتاب التذكاري عن ابن عربي كون عنوان المقال أكثر تعبيرا عن مضمونه الذي يتناول تأثير ابن عربي في العالم الناطق بالفارسية].

[2] مما يؤسف له أنه حتى هذه اللحظة ليس ثمة ترجمة إنجليزية مُرْضية بصورة تامة لهذا العمل. لكن تجدر الإشارة إلى أن هنالك ترجمة فرنسية ممتازة للأقسام الرئيسية من هذا العمل مشفوعة بملاحظات توضيحية، اضطلع بها تیتوس بورکهارتTitus Burckhardt ووضعها تحت عنوان « حكمة الأنبياء La sagesse des prophètes» ، باريس ، 1955 م.

[3] انظر:

S.H.Naser, Three Muslim Sages,pp.188ff. Also H. Corban, Creative Imagination of Ibn Arabi, translated into English by R.Manheim, London,1969, chapter1.

[ملاحظة : لكتاب سيد حسين نصر المذكور في هذا التعليق ترجمتان عربيتان كلاهما بعنوان “ثلاثة حكماء مسلمين” الأولى من ترجمة صلاح الصاوي ومراجعة : ماجد فخري وصدرت طبعتها الأولى عام 1971 ببيروت، والثانية من ترجمة عمر نور الدين وصدرت طبعتها الأولى عام 2019 في القاهرة. والترجمة الأفضل هي ترجمة الصاوي.  أما كتاب هنري كوربان المذكور في هذا التعليق أيضا، فقد ترجمه  من الفرنسية إلى العربية فريد الزاهي بعنوان ” الخيال الخلاَّق في تصوّف ابن عربي” صدرت عدة طبعات منها الطبعة الأخيرة عن دار الجمل بغداد- كولونيا 2008] وصدرت ترجمة أخرى في معهد المعارف الحكمية لم تنل شهرة وذيوعًا كسابقتها.

[4] لا بد من هذا التفريق لأن قدرا كبيرا من المصنفات الصوفية في الهند قد كتبت بالفارسية، لاسيما ما يتعلق  منها بالجدل  في هذه الفترة حول قضية وحدة الوجود عند ابن عربي ووحدة الشهود عند السمناني، وتلك قضية أصبحت، لاحقا، مدار نقاش خلافي في كتابات الشيخ أحمد السرهندي وآخرين.

[5]  بخصوص هؤلاء الرموز الصوفيين المهمين يمكن الرجوع إلى الدراسات العديدة التي أنجزها هنري كوربان وخصوصا تلك التي ظهرت في مجلة ايرانس ياربوخ Eranos-Jahrbuch )) وأيضا ملاحظات ومقدمة مريجان مول على كتاب عزيز نسفي الإنسان الكامل، طبعة طهران، سنة 1962م. وكتاب مريجان مول ” الكبروية بين التسنن والتشيع” (بالفرنسية):

Marijan Molé, Les Kubrawiya entre Sunnisme et Shiisme aux huitième et neuvième siècles de l’Hégire Revue des Études Islamiques ; Année, vol.29, 1961 pp. 61-142.

ويقدم ميرجان مول موجزا عن تأثير ابن عربي في الشرق في كتابه ” الصوفية المسلمون” (بالفرنسية):

 

Marijan Molé , Les mystiques musulmans, Paris, 1965, pp.100 ff.

 

[6] البيتان في: شاه ولي، أبيات فصوص الحكم، ضمن مجموعة: رضوان المعارف الإلهية (باللغة الفارسية) نشر في طهران. واقتبسهما حميد فرزام في ” علاقة حافظ بشاه ولي: نشر كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة طهران، سنة 1966″ (بالفارسية): مناسبات حافظ و شاه ولی: دانشکده ادیبات و علوم انسانی دانشگاه اصفهان 1345 شماره 2 و 3.

.[ملاحظة من المترجم: ارتأينا ترجمة البيتين الشعريين نظما بالعربية. أما أصلهما الفارسي فهو كما يورده سيد حسين نصر:

كلمات فصوص در دل ما   جونتكين در مقام خود نشبت

إز رسول خدار سبد باو      ناز إز روح أو بما بيونست].

[7] انظر (بالفارسية) محمد اسماعيل مبلغ،  جامي وابن عربی کابل 1343.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!