
ليلى خليفة
ابــن عــربي
حديثُ الأُنثى في المَقام المحمَّدي الأزْهر
الأمّ العذْراء والزّوجة البِكر
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب
ابن عربي
حديث الأنثى في المقام المحمدي الأزهر
الأم العذراء والزوجة البكر[1]
تقديم الكتاب بقلم المؤلّفة
ليلى خليفة
“حديث الأنثى”ومفهوم “الحمْد المُقدّس”
من أقصى قدس النفس إلى حرم القلب المكي
جاء خبر “’حديث الأنثى‘” مقترناً بمفهوم “’الحمد المقدس‘” حصراً في خطبة كتاب الفتوحات المكية للشيخ الأكبر محمد محيي الدين بن عربي ( 560ــ 638هـ)؛ إذ تحدث الشيخ عما عايشه عند إنشائه الخطبة من شهوده الرسول ﷺ في “مكاشفة غيبية” في حضرة الجلال في عالم حقائق المثال؛ شهد فيها الرسول ﷺ معصوماً ومنصوراً مؤيداً، وقد اصطفت الرسل بين يديه، والتفت أمته عليه، وحفت ملائكة الكون حول عرش مقامه في قلب هذه الحضرة الجلالية. وشهد ابن عربي في هذه المكاشفة كما أخبرنا، اصطفاف الخلفاء الراشدين حول حمى القلب المحمَّدي الجلاليّ بين ميمنة وميسرة ومقدمة وساقة؛ على مثال كتيبة العساكر وجندهم، يمدهم النبي ﷺ؛ فهو قائدهم رسول الله، بعث بالقرآن للناس كافة، محله في قلب هذه “الكتيبة”.
يدفع هذا المشهد المهيب القارئ المتأمل إلى التفكر والتساؤل، فلم اختار ابن عربي ’الفتوحات‘ عنواناً لواحد من أهم ما كُتب في مجال التصوف والعرفان، خصصه للعلوم الإلهية القرآنية جملة وتفصيلاً ليكون “كتاب المعاني” على حد قوله، يُعني بتحقيق الأصول، وبيان ما تستند إليه الفروع من العلوم الإلهيّة والروحانيّة والكونية؟ ما هو مبنى مذهبه العرفاني؟ وما علاقة مفهوم الفتح وعلوم الكشوف الإلهية والروحانية بمفهوم الفتوة وصور العساكر الإلهية عند ابن عربي؟ لم استقر به الرأي على وسم هذه الفتوحات بالمكية بالذات، وقد خطر له أن يسميها بالفتوحات الإلهية؟ ماذا رمى “بحديث الأنثى” الذي ذكره حصراً في هذه الخطبة وربطه بمفهوم “الحمد المُقدَّس” ؟ وما سر التقاء مقام الحمد في حضرة الحرم المكي (الأدنى) بمقام (أقصى) القدس في خبر “حديث الأنثى”؟
مذهب ابن عربي في الفقه الروحاني
تكمن العبرة في سلوك طريق التصوف طلباً لكنوز العلوم الإلهيّة وفتوحاتها في مذهب الشيخ الأكبر في منهاج “الفقه الروحاني” الذي تبناه، ونسبه إلى ابن عمر مسترشداً بقوله تعالى *سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ*[2]؛ فيكون مطلب الفتى “المتأهِّب” لنيل هذه الكنوز من “عرفانيات الحق” فتحاً وكشفاً، علماً وعملاً ، اجتهاداً وتدبراً، تأملاً وتفكراً في آيات الله في آفاق العالم الكبير بسماواته وأرضه، ليعود فتكون له نظرة واعية لكُنْه ما يجري في عالمه الصغير، مرجعيته في هذه الرحلة العلمية في الآفاق وفي النفس كتاب الله الجامع لأسرار كلا العالمين؛ فما من صغيرة ولا كبيرة ولا عملاً ولا حركة في خلق الله، إلا ويرجع كل منها إلى مستند إلهي يبينه القرآن ، ويكشف عن كنهه الإسلام الحنيف.
ويرتكز مذهب ابن عربي إلى حقيقتين، أولاهما، أن الوجود واحد وإن تكثر، يوافق تكثّر أسماء الله الحسنى تعبر عن ذات واحدة هي “عين الوجود الحق”. وأن كل ما يظهر في الوجود من المخلوقات من أصغر مخلوق (كحبة الخردل أو الإنسان)، إلى أكبرها (السماوات والأرضين)، هي مظاهر أحكام الأسماء الإلهية، تعبر عن وجود واحد، لا عن اتحاد وجودين اثنين أو أكثر. وكما أن الاسم الله هوالاسم الجامع، فإن القرآن من حيث هو “جوامع الكلم” هو كتاب واحد وإن تكثرت سوره، وكذلك الرّسول ﷺ وقد أوتي جوامع الكلم، فهو في الاعتبار، الجامع لحقائق الأنبياء صلوات الله عليهم، حقيقته كما يعتمدها ابن عربي هي “الحقيقة المحمدية” الجامعة.
أما العماد الثاني لمذهب الشيخ الأكبر، فهو مفهوم الرحمة الإلهيّة ببعديها الرحماني المطلق والرحيمي المقيّد من حيث كونها المستند الإلهي لظهور الوجود الواحد وحقائقه في الحس والمعنى، يجمعهما برزخ الكلمة الجامعة (القرآن) محله حرم القلب المحمدي. فقد جعل أهل الله القلب كما يقول الشيخ، “كالمصحف الذي يحوي على كلام الله”[3]. ولكن وإن يكن هذا القلب “المحمدي” في الاعتبار محل نزول كلام الله من حيث هو جوامع الكلم، فإن الوجود كله كلمات الله كانت في مكنون عماء نفس الرحمن قبل أن تتقبل الأمر الإلهي (كن)، فصار لها وجود “مرحوم” في الوجود المقيّد في العالم الظّاهر. إذ كل موجود بحكم وجوده وظهوره في مذهب ابن عربي، هو بالضرورة ’مرحوم‘، يقول: “فكل من ذكرته الرّحمة فقد سعد، وما ثم إلا من ذكرته الرحمة؛ وذكر الرحمة الأشياء عين إيجادها إياها، فكل موجود مرحوم”[4]. أي، بالرحمة الرحمانية كان لكل شيء وجود مطلق، وبالرحمة الرحيمية صار له وجود مقيد؛ فقد قيّد الله سبحانه وتعالى رحمة الوجوب، وأطلق رحمة الامتنان في قوله *وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ*[5]؛ فظهر الخلق في الوجود الرحماني المطلق من باب القدرة الإلهية، متعلِّقُها كلمة “كن” من نفس الرحمن، وتجلى في عالم الكيان الرحيمي اقتداراً إلهياً متعلّقُه البسملة.
ويجمل الشيخ الأكبر رؤيته العلمية العرفانية لهذا الوجود الواحد بما يشتمل عليه من معاني الخلق والإيجاد، والكتابة والكتاب والكتيبة بما تتضمنه من معاني الرّحمة والعلم والحب والضم والقوة (فضم الحروف والكلمات يوافق معنى ضم الجند في الكتيبة) لإظهار أحكام الأسماء الإلهّية، التي تمثل الحقائق الإلهيّة يعقلها الإنسان في العالم الظاهر. كما يؤكد شيخنا أن ترتيب ظهور هذه الأحكام مضبوط بالضرورة بالحكمة الإلهية، بل هو جزء منها، يقول: “اعلم أيدك الله أن العالم كله كتاب مسطور في *رَقٍّ مَنْشُورٍ* وهو الوجود؛ فهو ظاهر مبسوط غير مطوي ليعلم ببسطه أنه مخلوق للرحمة، وبظهوره يعقل ويعلم ما فيه وما يدل عليه. وجعله كتاباً لضم حروفه بعضها إلى بعض، وهو ترتيب العالم على الوجوه التي ذكرناها. وضم معانيه إلى حروفه مأخوذ من (معنى) كتيبة الجيش وإنما قلنا في بسطة إنه للرحمة لأنه منها نزل كما قال تعالى* تَنْزِيلٌ من الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*[6] وقال تعالى في ذلك* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ من لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ*[7] فأحكام الآيات فيه وتفصيلها لا يعرفه إلا من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب؛ وصورة الحكمة التي أعطاها الحكيم الخبير لأهل العناية علم مراتب الأمور وما تستحقه الموجودات والمعلومات من الحق الذي هو لها، وهو إعطاء كل شيء خلقه إعطاءً إلهياً؛ ليعطي كل خلق حقه إعطاءً كونياً بما آتانا الله. فنعلم بالقوة ما يستحقه كل موجود في الحدود، ونفصله بعد ذلك آيات بالفعل لمن يعقل، كما أعطانيه الخبير الحكيم؛ فننزل الأمور منازلها ونعطيها حقها ولا نتعدى بها مرتبتها”[8].
في ضوء ما تقدم، لا بد لطالب العلوم العرفانية في طريق التصوف من التفكر والتفقه في العالم الكبير، من حيث هو في الاعتبار “المصحف الكبير”؛ فكل ما فيه بمنزلة حروف وكلمات لها دلالاتها في القرآن، وهو في الاعتبار مصحف القلب العربي المبين، فيقول ابن عربي مؤكداً رؤيته في النص أعلاه: “العالم الذي هو عندنا المصحف الكبير الذي تلاه الحق علينا تلاوة حال؛ كما إن القرآن تلاوة قول عندنا؛ فالعالم حروف مخطوطة مرقومة في رق الوجود المنشور، ولا تزال الكتابة فيه دائمة”[9].
فتح مكي، وفتوحات مكية
يعيدنا لفظ ’الفتح‘ إلى زمان فتح مكة (أم القرى) وتحرير ’ كعبة‘ الوجود وقلبه من متعلقات الأوثان يوم ختمت مرحلة الهجرة بوقوف رسول الله ﷺ ذلك الموقف ورجوعه من المدينة إلى مكة معلناً انتهاء حقبة الهجرة بهذا الفتح. فقد بعث الرسول ﷺ بالقرآن العربي المبين للناس كافة، وكان ذلك عند اكتمال دائرة الزمان وفقاً للحديث النبوي “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض”. ويتضمن الاعتبار من معنى هذا الفتح التاريخي للنفس البشرية، إذ حررت النفس ’أم القرى‘ وحِّرم قلبها “كعبة الوجود” من معتقدات شتى الآلهة، وأهوائها النفسية، ليشير بوضوح في اعتبار التفسير العرفاني الأكبري إلى الصدر المحمدي وقد حوى كعبة قلبه الطاهر، يقول ابن عربي من باب “مخاطبات التعليم والألطاف بسر الكعبة من الوجود والطواف” من الباب الأول من كتابه الفتوحات المكية :”الطائفون بالكعبة بمنزلة الطائفين بقلبك لاشتراكهما بالقلبية”[10]. فالحرم المكي في الاعتبار قلب الإنسان الكامل “المحمدي”، ومحلُّ ’عرش‘ القرآن، الذي نزل ليحكم به الإنسان رعية مملكته، ويمد جندها للدفاع عن حماها، يقول ابن عربي، إن القرآن جاء “ليِحْكُمَ لا ليُحْكَمَ عليه”[11].
أما مصطلح ’الفتوحات‘، فيعيدنا إلى تاريخ الفتوحات الإسلامية التي انطلقت بعد فتح مكة إلى مشارق الأرض ومغاربها، والاعتبار هنا في تفعيل مفاهيم الفتوة والفروسية والقوة ومكارم الأخلاق لإنجاز فتوحات أقاليم ’المملكة الإنسانية‘ وفتوح أطراف حواسها ومدائنها، ودعوة ’رعيتها‘ بجميع فئاتها إلى دين الفطرة ــ الإسلام ـــ بالتسليم لحكم القلب المُحمّدي القرآني إيماناً وعملاً. وفي هذا السياق يصف الشيخ الأكبر طالب كنوز العلوم الروحانية والإلهية بالفتى “المُتأهِّب” لسلوك مصاعب الطريق في رحلة علمية لا تخلو من عقبات كؤود ومتاهات محيرة وفتن زائغة. فلا يملك المريد القدرة على اتخاذ الخلوات، والانطلاق في سياحاته،إلا بعد أن تثبت عنده براهين الفتوة ومكارم الأخلاق، عندها يحق له التقدم لتسلم مفاتيح أبواب “المدائن العظيمة”، وأبواب خزائن علومها الإلهية (الكونية والروحانية)؛ مرجعيته في ذلك، كنوز العلوم القرآنية التي اعتلت عرش قلبه المحرر.
يتكشف الفتح من جديد عن معاني فتح مغاليق الأبواب؛ فمعنى الفتح يستدعي أيضاً صورة فتح الأبواب؛ إذ العلم على وجه الحقيقة لا يكشف عنه إلا مع فتح الباب. وأما كل ما يكون من خلف الباب فهو كما يقول ابن عربي، “شعور لا علم”[12]، وينبه في هذا السياق إلى أن الشعور لا يقتضي العلم بالمشعور به؛ ذلك أن الشعور هو علم إجماليّ بأن ثمة ما هو مشعور، ولا يلزم أن ” يعلم ما هو ذلك المشعور”[13]. ولا يفوتنا أن الفتح يتضمن في ظلال معانية الكشف والشهود اللذين يلازمان طالب علوم الفتوحات؛ فلا رجعة لمن فتح الله عليه لِمَا كان عليه قبل الفتح، إذ “لا هجرة بعد الفتح” [14] كما جاء في الأثر .
وإن يتم الفتح لبعض العارفين ابتداءً، إنما يتضمن معنى التوفيق من الله لإتمام مكارم الأخلاق والتحقق بالفتوة؛ فالفتح يقتضي حضور معاني تأهيل السالك بفتوة الروح وعلوم النبوة ونور إيمان النفس اللوامة، بعد تحييد النفس الأمّارة بالسوء استعداداً لخوض مصاعب الفتوحات، والجهاد ضد شيطان الجهل لإبطال ظلمته، وتخليص النفس من وساوسه، فتطمئن وتدخل في عداد مفهوم ’النفس المطمئنة‘. فبالفتح الإلهي يتأهل الفتى ويتمكن لتلقي العلوم النبوية القرآنية، ويأخذ في الترقي في مقامات العلم الإلهي بسلام في طريقٍ بدأه بالجهاد الذي يعده ابن عربي فريضة على المؤمن مع التيقن بأن النصر لا يكون إلا من عند الله؛ إذ يرسل جنده وعساكره لنصرة المؤمنيين المجاهدين في سبيله. ومقام جند الله والعساكر الإلهية عند ابن عربي من اختصاص علوم الرحمة الإلهية الرحيمية يظهر حكمها في العالم المقيد، ولا يعلمها إلا الله، كما جاء في الآية الكريمة*وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ*[15]. ويشرح شيخنا تسلسل مفاهيم جنود الله وعساكره يكون بالرجوع إلى الله من حيث اسمه المَلِك الذي لا بد أن يكون له جند وأجناد، فذلك من أسباب المُلك. ويكون المَلك بالضروة في قلب جنده يمدّهم بمن استخلفه عليهم ــ رسول الله ــ. ويلاحظ ابن عربي أن من خصائص الجند “أن يكون لهم عدة”؛ فهي من أسباب الغلبة؛ وتختلف أنواعها باختلاف العسكر، ذلك أن الجنود والعساكر أنواع ولكل نوع عدته، ومن أهم خواصها أنها تلازم الجند لا تنفك عنهم، وعلى رأسها “’سيف الصدق‘”؛ فهو عنوان عدة جند الله وعساكره، به يفتح المهدي (وهو عند ابن عربي الإمام الأوحد من آل بيت النبي ﷺ) “المدينة العُظمى” في آخر الزمان.
يأتي تأكيد الشيخ الأكبر المعاني المجازيّة “لكتيبة الجند” “وخميس الجيش” “والرعية” “والملك”، منبّهاً السالك، وإياه محذراً من عدو يتربص به؛ فللمؤمن خاصة عدو يستهدف قلبه قاصداً زعزة إيمانه؛ ذلك أن القلب هو في الاعتبار محل القوة التي لا تكون إلا بالله الناصر يمده؛ فتكون له الغلبة إذا حفظه من الشك. وإن بثبات هذه الجهة الخامسة لقائد الكتيبة وهي في الاعتبار القلب المحمدي، يكتمل للإنسان خميس جيشه في مواجهة أعدائه الذين يأتونه من الجهات الأربع، من أهواء نفسه، وبنات أفكاره، ووساوس الشيطان وحيل الدجال، فإذا بني الإسلام على خمس، فذلك ، كما يقول ابن عربي، لإزالة اللبس.
ويظهر مبدأ الخَمْس يمثل قلب خَميس كتيبة العساكر الإلهيّة في ترتيب العبادات والأذكار من حيث كونها تندرج في عداد كتائب جهاد النفس من حيث هو في الاعتبار “الجهاد الأكبر”[16]. ويجمل ابن عربي هذا الموقف الجهادي للمؤمن يرد هجوم عدوه وعدو الله مبيناً كيفية تحصين رعية نفسه محافظاً على قلب مملكته؛ فيقول: “فإن العدو الذي نصبه الله أخبر الله عنه إنه يأتي من بين أيدينا ومن خلفنا فنلقاه بالمقدمة والساقة، وعن أيماننا فنلقاه بالميمنة، وعن شمائلنا فنلقاه بالميسرة، وليس للعدو غرض إلا في القلب ليزيل ملك الجيش من القلب، ما له غرض إلا في هذا، فذب الله عن قلب العبد الذي هو موضع نظره الذي وسعه بهؤلاء الذين رتبهم في هذه الأماكن التي يدخل العدو منها فعليه أن يقاتل هذا الجيش وهو(مفهوم) قوله ﷺ إن الذي يقاتل في سبيل الله هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا و*كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى* وهم الأعداء فهو يمدهم من القلب في الباطن، وهم يذبّون عنه من الظاهر من الجهات التي يطلب العدو الفرصة فيها؛ فمن هنا كان له الخمس من المغنم الذي نص عليه أنه نصيبه لأنه ناصر المؤمنين على أعدائه والجيش ناصر دينه، *ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ*[17] فما لهم قلب ينصرهم”[18].
ويؤكد ابن عربي أن أهم ميزة ينفرد بها جنود الله، أن لهم الغلبة بالضرورة، فقد جاء في قوله تعالى: *وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَالِبُونَ*[19]. ويندرج تحت مفهوم الجند جميع المخلوقات حين يستدعيها الله للجهاد، فالكل بمنزلة جند الاحتياط، يأخذون عدتهم وينتظمون في خميس العساكر الإلهية لنصرة المؤمن المجاهد، منهم الإنس والملائكة والجن، وسائر المخلوقات مثل الطير ترمي الحجارة، والجراد يأتي على الزرع وغيرها، وربما يطلق اسم الجند أيضاً على “شدائد الأعمال والعزائم والمجاهدات”[20] من عبادات وأذكار، بل ويذهب الشيخ الأكبر إلى النظر إلى كل ما في الوجود على أنه جند من أجناد الله، بما تحمل الكلمة من معان نفسية؛ فالخوف والرعب؛ وحتى الرحمة والشفقة واللين والرأفة كلها من أجناد الله. وكما نصر الرسول ﷺ بالرعب، يقذفه في قلوب أعدائه، فإنه نصر بالرحمة والعطف والحنان أيضاً، يقول “نصرت بالصبا”[21] وفي معرض شرحه كيف يكون الحب واللين والحنان والعطف والرحمة من أجناد الله، يستدعي الشيخ الأكبر الآية الكريمة بحق النبي ﷺ * فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ*[22]؛ فقد أعطى الله نبيه الرحمة في صلته بخلق الله عامة، ولكنها أعطيت له أيضاً من حيث هي من جند الله في مواجهة الأشداء من الأعراب. وكذلك يستدعي الشيخ الآية الكريمة: “فقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ*[23] كانت بحق موسى وهارون يواجهان بها غلظة الفرعون؛ فالقول اللين في مخاطبتهما الفرعون كان في الاعتبار كما يقول: “من جنود الله”[24] ذلك أن كل ما تتم به الغلبة لمخلوق على مخلوق هو من جند الله؛ من هذا الباب يقول: “كل مأخوذ به جند من جنود الله”، وهذا ما يسميه شيخنا “بعلم الأخذ الإلهي بالأسباب الكونية”[25]. ولكل فئة من الجند خصوصية تميزها عن الفئة الأخرى، لها طبيعتها ولها عدتها، يقول: “جند الرياح ما هي جند الطير، وجند الطير ما هو جند المعاني الحاصلة في نفوس الأعداء كالروع والجبن، فمنتهى كل عسكر إلى فعله الذي وجه إليه من حصار قلعة، وضرب مصاف أو غارة أو كبسة؛ كل عسكر له خاصية في نفس الأمر لا يتعداه قال تعالى في الطير *تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ*[26] و قال في الريح *ما تَذَرُ من شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ*[27] وقال في الرعب *وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ* “[28].
في ضوء ما تقدم، نقرأ اعتماد الشيخ الأكبر لكلمة ’الفتوحات‘ في مذهبه العرفاني، يتضمن أربع مسائل علمية عرفانية أساسية. المسألة الأولى تستلزم معنى إحياء مفاهيم الفتوة والرجولة، وجهاد النفس، فمن لم يجاهد نفسه وما زكاها، كما يقول الشيخ، حُرم علوم الفتوحات والكشوف؛ فلا غرابة في تأكيده على لزوم التأهيل والتأنيس لمن يقصد هذه العلوم. ويكون هذا التأهيل بالتحقق في مقامات الرجولية والفتوة، يوافق تأهيل المجاهد لخوض الملاحم. المسألة الثانية، تقتضي شمول معاني كمال الرجولية لدى كل من الذكر والأنثى؛ فكمال الرجولية في المذهب الأكبري كمال عارض يخص الإنسان سواء كان ذكراً أو أنثى؛ والمرأة، وإن كانت لا تولى بعض المهمات الدنيوية مثل القضاء، فهي تحوز جميع المقامات العلمية وتتحقق في مراتبها العرفانية، بما في ذلك مرتبة القطبية. وإن خالفت الرجل في الكثير من المسائل الشرعية؛ فإن هذه المخالفات ترتكز إلى الفروع وليس إلى الأصول العلمية، وترتبط بالأسباب الكيانية في الوجود المقيَّد. أما المسألة الثالثة، فتستدعي أن معنى كون الكشف يكون إعلاماً إلهياً على وجه الخصوص (أي يكون إفهاماً بالفتح) لا يتعارض والعقل؛ فابن عربي يميز بين العقل “’النظري‘” الضروري من حيث هو محدود، وبين العقل “’الأكبر‘” “’الأقدس‘” و”’القابل‘” لتلقي العلوم الإلهية من فوق طور العقل النظري المحدود. فللعقول كما يقول، “حداً تقف عنده من حيث هي مفكرة، لا من حيث ماهي قابلة”[29]. ولكن ذلك لا يعني تحييد العقل النظري، فقد أوجده الله ليقود الإنسان في عالمه المحدود وسلحه بقوى المنطق والاستدلال والتأويل واللغة والنحو وما إلى ذلك من متطلبات قراءة النصوص القرآنية وتفسيرها، ودراسة العلوم الطبيعية والأدبية واللغوية، وحتى العلوم العرفانية. ولا ينفي ابن عربي قدرة العقل النظري مع تأكيده محدوديته من أمكانية تصديقه المعارف الإلهية التي تأتيه من فوق طوره إعلاماً إلهياً. وإلا فإنه لا فائدة من إخبار القرآن بها.
فالعقل النظري وهو جزء من رعية الإنسان قادر و”قابل” إن سلم أمره إلى الله، بما مكنه الله من قوة الخيال التي منحه إياها، والتي بها صال وجال وفتح واخترع وأبدع، أن يستوعب خبر ما يأتيه من فوق طوره، وإلاّ يتحقق به كشفاً وذوقاً. وقد قرأنا في أكثر من مناسبة هذه الإمكانية في لقاء ابن عربي العارف بابن رشد الفيلسوف؛[30] ’فالفتوحات‘ التي تعطي العلوم الإلهية في المطلق والمقيد، متعلقها الشهود في عالم الخيال “المحقق” عند ابن عربي، تندرج بين المعنى المجرد والحس في برزخ الكلمة وجوامعها. وتأخذ مسألة الخيال عامة، والخيال “المحقق” في المذهب الأكبري أهمية كبيرة، فالعلم بها عنده من أهم العلوم وأشرفها، إذ يقول: ” وليس بعد العلم بالأسماء الإلهية ولا التجلي وعمومه أتم من هذا الركن؛ فإنه واسطة العقد إليه تعرج الحواس، وإليه تنزل المعاني، وهو لا يبرح من موطنه تجبى إِلَيْهِ *ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ*. وهو صاحب الإكسير الذي تحمله على المعنى، فيجسده في أي صورة شاء لا يتوقف له النفوذ في التصرف والحكم، تعضده الشرائع و تثبته الطبائع؛ فهو المشهود له بالتصرف التام، وله التحام المعاني بالأجسام يحير الأدلة والعقول”[31].
وأما المسألة الرابعة، فتقتضي أن المعاينة بالكشف والشهود تستدعي أن لا تتعارض مع محكم النصوص الشرعية القرآنية. إذ يؤكد ابن عربي توافق مفاهيم “’الفكر الصحيح‘” و”’الكشف الصحيح‘” مع ما يسميه بمفهوم التأويل “المحكم في تشابهه”، ويكون تعليماً إلهياً محله برازخ كلام الوحي القرآني حيث تجتمع حقائق المحكم والمتشابه، والمعنوي والحسي، والكثيف واللطيف في القرآن المبين. فالكلمة بطبيعتها برزخية تمثل صورة المعنى المجرد، وهي في الوقت نفسه روح الصورة الحسية، ذلك أنها من عالم برزخ “الخيال المحقق”. وبالتالي، عندما يكون التعريف للمريد بما تحويه الكلمة من معاني الصور وصور المعاني، من حيث هي برزخهما، تعريفاً وتأويلاً إلهياً، ويكون معيار صدق حصول هذا التعريف عنده، أن يأخذه من حيث توافقه مع النص القرآني، عندها تفتح له أبواب علوم روحانية سامية، وعلوم حسية مبهمة لا تنال بالعقل المفكر، بل بالعقل “القابل” الذي يتلقاها بالوحي القرآني والشرع والتسليم، من فوق طور العقل.
ويؤكد الشيخ الأكبر أن هذا التلقي كي يعطي الفتح لا بد أن يرافقه العمل بأركان الشريعة والعلم بها، فيجتمع عند السالك الإيمان بها والعمل بأركانها من حيث كونها فرضاً واجباً. ويملي الشيخ على تلميذه ابن سودكين شرح تجلي نور الإيمان في كتابه “التجليات الإلهية” مؤكداً ضرورة امتزاج نور الإيمان بنور الإسلام كي يعطي الفتح، يقول: “فالإسلام هو عملك بما آمنت به على الحد المشروع، فالعمل من غير إيمان ينتج الروحانيات، لا ينتج الفتح. والإيمان بمفرده لا ينتج الفتح، فإذا امتزج الإيمان بنور الإسلام أنتج الفتح والسعادة”[32]. خلاصة القول عند ابن عربي، أن مفهوم ’الفتح‘ يقتضي التقاء العلم بالعمل ليعطي الفهم الصحيح.
“حديث الأنثى“* إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ*ومفهوم الرَّحمة الإلهّية من حيث هي بصمة البعثة النبوية المحمَّدية
*وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*
استقر “حديث الأنثى” كما ذكرنا في بداية هذه الورقة، في قلب مشهد الحضرة المحمّدية التي شهدها الشيخ الأكبر في “المكاشفة الغيبية”، يمثل قبة خطبة هذا الصرح الألمعي (الفتوحات المكية)؛ فقد جاء خبر “حديث الأنثى” يمثل موضوع الحضرة الجلالية التي حضرها الشيخ، حيث رأى أمّة محمد “الناس كافة” (من رسل وملائكة وعامة الناس) وقد التفت حوله في مشهد “’خطير‘” يعبر عن قدسية مقام الحمد في مقام الحرم المكي، وعن ارتباطه الحميم بموضوع “الأنثى” وبمفهوم الرحمة الإلهية، التي تمثل المستند الإلهي لإيجاد الكون وظهوره. فابن عربي يعتبر أن أصل ظهور العالم من نفس الرحمن، وأن مفهوم الرحمة يتعلق لا سيما بمقام الأنثى من حيث إن كل أنثى كما هي في الاعتبار ابنة في الطبيعة، هي أم بالفطرة من حيث هي محل الإيجاد؛ لذلك كان الأوْلى كما يقول، أن تكون الأنثى من هذه الحيثية، هي رمز الرحمة التي بها كان الإيجاد والخلق الإلهي؛ فالرحمة في الأم كما يقول”أوفر في الحكم”[33].
ويؤكد ابن عربي أن ارتباط ظهور الكون من نفس الرحمن، كان بالتقاء مفاهيم الرحمة بمقام الحمد، كما جاء في البسملة، لا سيما في بسملة الفاتحة “أم الكتاب” و”أم الجمع”، التي جاءت اختصاصاً نبوياً لرسول الله محمداً ﷺ تعبر عن اكتمال دائرة الزمان بجمع المبدأ والمعاد، وببعثه ﷺ للناس أجمعين؛ فاختص من دون الرسل بأم الكتاب. ويؤكد ابن عربي قائلاً “الحقيقة المحمدية هي أصل الإنشاء وأول الابتداء”[34]. وبحكم أن هذا الدين الخاتم جاء ابتداءً بالحمد، كان لا بد أن يكون العود على بدء إليه اختتاماً عند اكتمال دائرة الزمان، فيكون الحمد لله في الأولى وفي الآخرة، كما جاء في الآية الكريمة *لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ*[35] .
ولما بعث الرسول ﷺ رحمة للناس كافة *وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ*[36]، فهذا يعني في ضوء ما تقدم، أنه جاء جامعاً لما قبله واصلاً الدنيا بالآخرة؛ فيوم هذه الأمة كما يقول ابن عربي “متصل بيوم الآخرة ليس بينهما إلا ليل البرزخ”[37]؛ لذلك لزم أن تكون أكثر تعاليمه تأكيداً لمفاهيم البعث وأحوال القيامة والحساب والجنة والعذاب للناس أجمعين دونما الخروج عن مفهوم الرحمة. فابن عربي يعتمد من حيثية خصوصية مفهوم أمة محمد تكون لمن آمن به من الناس وتبعه، ولكنه من حيثية أخرى من حيث البعد العام ومن حيث الرحمة الرحمانية المطلقة، فهو يعتبر أن مفهوم أمة محمد يخص جميع من أرسل إليهم وهم جميع الخلق، كما جاء في قوله * وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ* بمعنى للناس أجمعين أو للناس عامة، يقول ابن كثير:”أي إلى جميع الخلق من المكلفين”، من آمن به وممن لم يؤمن سواء؛ فجميعهم شملتهم الشريعة المحمدية؛ ويقول ابن عربي مؤكداً هذا المعنى: “أمة النبي ليست قبيلته وإنما أمته جميع من بعث إليهم، ومحمد ﷺ بعث إلى الناس عامة؛ فجميع الناس أمته من جميع الملل فمنهم من آمن ومنهم من كفر ومنهم من أسلم”[38].
خلاصة القول، أنه لما كان الحمد مبتدأ الخلق بالرحمة الإلهية، كان لا بد أن يكون مآل الإنسان الأخير بالحمد إلى الرحمة الإلهية؛ وذلك كما يقول الشيخ، “لأجل البسملة، فهي بشرى”[39]. ولا يتعارض هذا القول مع لزوم الحساب الإلهي والعقاب والثواب، والخلود لبعض خلقه في النار، فذلك، كما يلاحظ شيخنا متعلقه فترة دوام السماوات والأرض قبل تبديلها، وفقاً لما جاء في الآية: *فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ*خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ*[40]. ولا يلتبس على القارئ قول ابن عربي إن “التأبيد لأهل النار في النار حق”[41]؛ فهو يخص عذاب “’أهل النار‘” بالذات، أي الذين عنصرهم هو النار، وفقاً لما جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: *فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ*[42]
حكمة مفهوم الازدواجية يقتضي حضور مفهوم البرزخية
من أهم المسائل العرفانية التي يعتمدها ابن عربي من باب ما هو متعارف عليه من “النصوص”، أن الوجود واحد برتبتين، أو نشأتين كما يقول، حسية ومعنوية، دنيوية وأخروية. وتتراوح مراتب الوجود بين مطلق ومقيد، وظاهر وباطن، وذكر وأنثى إلى غير ذلك من المراتب المزدوجة؛ إذ كل ما يظهر في الكون قد فطر على حكمة الازدواجية، يقول موضحاً لم “قيل (للإنسان) اسكن في قصر الأمشاج (صفة الكون)” فذلك كما يؤكد قائلا: “حتى تعلم حكمة الازدواج”[43]. ويقول ناظماً:
وكــل شيء من الأكوان نعلمه * موحــداً هو في القرآن مــزدوج
حتى الوجود الذي إليه مرجعنا * بما له من صفات الكون يزدوج[44].
ومن حيثية قيام الوجود الكياني على الازدواجية، ازدوجت الرحمة من حضرة “الرحموت” الإلهية الجامعة في رحمتين، رحمة رحمانيّة مطلقة ورحمة رحيمية مقيدة، وصار جمعهما في مقام “الحمْد المُقدَّس” في منبر المقام المحمدي “الأطهر” رحمة رحمانّية رحيميّة واحدة مركبة (برزخ جمع المطلق والمقيد)[45]. وعلى ذات النسق يمثل مقام الأنثى الطبيعة في الوجود المطلق وفي الوجود المقيد؛ يقول ابن عربي: “أشبهت المرأة الطبيعة من كونها محلاً للانفعال”[46]. والطبيعة كما يقول: هي “ظل النفس الكلية، موصوفة بالقوتين”[47]؛ لها من حيث رتبتي وجودها مرتبتان، أو نسبان: الرتبة الأولى، تمثل رتبتها في النسب الأعلى الرحماني، من حيث هي أم الأرواح، يقول: “فالروح ابن طبيعة بدنه وهي أمه”[48] لذلك نسب الروح إليها فكان اسم المسيح على وجه الحقيقة عيسى بن مريم، فهي في الاعتبار الأم العالية “العذراء”، بيضاء السماء (شمسها) رمز إليها ابن عربي بالياقوت الأصفر، تمثل الطبيعة في المطلق من نفس الرحمن. ويصف ابن عربي أنوارها وقد وسعت كل ما هو سوى الله، يقول: “أنوار الطبيعة مندرجة في كل ما سوى الحق، وهي نفس الرحمن الذي نفس الله به عن الأسماء الإلهية، وأدرجها وهي الطبيعة الأم العذراء في الأفلاك والأركان وما يتولد من الأشخاص إلى ما لا يتناهى”[49]. وأما من حيث المرتبة الثانية للأنثى، فيتحدث ابن عربي عن نزولها في مرتبة الطبيعة العنصرية المقيدة للعيش في عالم الثرى، وذلك بعد “تهيئة الممكلة الإنسانية في المرتبة الشريفة”[50] في الوجود الكوني، كما يقول؛ فسماها “الكعبة الحسناء”و”العذراء الخليفة”[51]، ذلك أنها في الاعتبار أم نفْس الإنسان الكامل المحمدي[52]خليفة أمها الأنثى “العذراء” في الوجود المطلق الرحماني، وهي في الاعتبار ذاته (عروسه البكر)، لا تكون خالصة إلا له في الوجود المقيد، رمز إليها ابن عربي بالياقوت الأحمر. وأما محل اجتماع هاتين الياقوتتين فقد كان في الصدفة الزهراء، تمثل المرتبة الثالثة الجامعة، ’الصدفة الجوهرة‘ “أم أبيها”. فلا يفوت القارئ أن حديث الأنثى عند ابن عربي يخص مقام ’الأنثى‘ من حيث مفهوم “الأنوثة السارية” والأمومة في المطلق الرحماني كما جاء على لسان امرأة عمران *رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ* تمثل الأم العذراء، وفي المقيد الرحيمي حيث صارت الزوجة البكر (العروس أم نفس عروسها)، والابنة البتول “أم أبيها”.
قد لا يفوتنا تنبيه ابن عربي أن معرفة خبر موضوع الأنثى لا يتبع أفكار العقل ولا أهواء النفس؛ فهو إما أن يكون إخباراً نبوياً شرعياً “خطاباً”، أو تعريفاً إلهياً يكون بأمور (أساليب) كثيرة، يقول: إن “التعريف قد يقع لفظا وكتابة، وقد يقع في العموم عند الخواص بالنظر”. ويؤكد أنه هو نفسه قد خبر التعريف بالنظر، يقول “وقد وجدته”. كما أن هذا الإخبار “قد يقع بالضرب” كما وجده رسول الله ﷺ. وقد يقع التعريف كما يقول ابن عربي بأمور كثيرة غير ما ذكر، ويحرص أن يؤكد أنه هو نفسه يستقي علمه تعريفاً وإخباراً، يقول: “فطريق علمنا الأخبار”[53] مرجعيتها كتاب الله وسنة نبيه.
مفهوم الحمْد المقدَّس من أقصى قدس النفس إلى حرم القلب المكي
في سياق ما تقدم، تميزت مرتبة الأنثى في المطلق الرحماني بالسمو والعلو في أقصى قدس النفس، لها من العلوم علوم القدس والطهارة من العلوم المريمية، رمز إليها الشيخ بالياقوت الأصفر. وتميزت في العالم المقيد بعظمة حرمات الرحمة الرحيمية تجلت في الحرم المكي، متعلقها المعارف الإلهية التي تتضمن أحكام الوجود المقيد والأحكام الشرعية من العلوم العائشية، رمز إليها الشيخ الأكبر بالياقوت الأحمر، في إشارة إلى “ام المؤمنين”، التي تمثل الذات المحمدية “البكر” في العالم الرحيمي المقيد. وبحكم هذه الخصوصية فهي في الاعتبار الأم الجامعة قيل فيها “’أمنا عائشة‘”، تمثل رمز مفهوم “الأهلية” لمن أوتي “جوامع الكلم” ’حقائق الأنبياء‘ ﷺ. ويعتمد ابن عربي في بيان مرتبتها العلمية قولها: “فإني أم المؤمنين فحيث ما حللت، حللت عند نبي؛ فإنا في بيتي“.[54]
وأما مرتبة “’الأنثى‘” في مقام عين الجمع في مقام القلب المحمدي “الأطهر”، فقد تميزت بنور الكشف الأزهر، لها علوم الزهراء من حيث هي “أم أبيها” الأنثى “البتول” يصفها ابن عربي “بأخية العذراء”، و”بالرزان شقيقة الحمراء”[55]. وضمن ابن عربي إشارته إليها في الإشارة إلى نور منبر المقام المحمدي “الأزهر” (الأبيض الشفاف)، الذي ُيكشَفُ به ولا يَنكشِف، لها “علم تكوين الجوهر في الصدف”[56] يوافق علم تكوين الحروف في الكلمة، والكلمات في الآيات؛ ونقرأ إشارة ابن عربي إلى علومها من حيث ما سماه بعلوم “الكشف في صورة الكتم” .
ولا يفوتنا أن الحديث عن مقام “الأنثى” في مراتب وجوده في المطلق وفي المقيد، وفي مقام عين الجمع، هو حديث يخص مقام “’انثى‘” واحدة، تميزت بطهارة الفطرة (معنى العذرة)، كما جاء في الآية * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ *[57]. وفي هذا السياق لا يفوتنا أيضاً ما تشتمل عليه كلمة الكعْبة في اللسان العربي، من معاني الكاعب، الحسناء[58]، والكُعبة بمعنى “العذرة” وترمز إلى طهارة الفطرة بعلم التوحيد الخالص الذي لم تخالطه الأفكار النفسية والنظرية. فتمثل “الكعبة الحسناء” في المجمل، محل انتظام مراتب الأنثى في مقام “الحمد المقدس” في حرم “صدفة ” القلب المحمدي ذي النور “الأزهر” كما يصفه ابن عربي ، يتراوح بين أقصى قدس النفس وحرم القلب المكي.
استند الشيخ الأكبر في تناوله مفهوم الأنثى والرحمة الإلهية في المقام المحمَّدي الأطهر إلى البسملة، من حيث هي فاتحة الفاتحة “أم الكتاب” ومن حيث هي جزء منها “ابنتها”؛ فنبه إلى توسط مقام الحمد بين مثاني الرحمة ببعديها الرحماني والرحيمي في الفاتحة[59]. ولا تفوتنا قراءة إشارات الشيخ إلى توافق هذا التوسط لمقام الحمد الأطهر بين مثاني الرحمن الرحيم من البسملة والرحمن الرحيم من أم الكتاب، مع توسط الطيب بين أنثيين كما جاء في حديث الأنثى “حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة”[60]؛ فابن عربي ينبه إلى أن الطيب وهو في اللغة مذكر، جاء في الحديث النبوي يتوسط تأنيثين، تأنيث حقيقي “النساء” في المطلق، وتأنيث غير حقيقي “الصلاة” وهي تكليف إلهي شرعي يخص الإنسان في العالم المقيد. وقد أفرد ابن عربي لهذا الحديث الباب السابع والعشرين من كتابه فصوص الحكم، حيث تبلورت حكمة “حديث الأنثى” وخبرها الجلل في الكلمة المحمدية.
عود على بدء إلى خطبة كتاب الفتوحات المكية، فإننا نجد أن ابن عربي حرر بأسلوب أدبي بليغ شهوده خلق الحقيقة المحمدية في تلك المكاشفة الغيبية، واصفاً ما ظهر عن أنوارها من خَلْق الحقائق الكونية. ومن ثم أخبرنا أنه في ذلك المشهد العليّ أخذ ينظم مرتِجلاً، مؤيَّداً بروح القدس حمداً لله ومدحاً لرسول الله. ويخبرنا أنه ما إن رُدّ من “ذلك المشهد النومي العلي إلى العالم السفلي” كما يقول، حتى أثبت ذلك الحمد خطبة للكتاب، وأسماه “الحمد المقدس”[61]. وهي تسمية تفرد بها ابن عربي لم أقرأها عند غيره من شيوخ التصوف والعرفان، تفيد معنى التأكيد على قدسية مقام الحمد في مقام المكاشفة والمشاهدة. فالله في هذا المقام الشهودي يبقى لعبده في مقام التنزيه؛ ذلك أن مقام المكاشفة لا يعني التشبيه في حق الله. ويخبرنا ابن عربي أن مقام الشهود الذي تم له، كان في عالم حقائق المثال من “حضرة الجلال”، وهي في الاعتبار من حضرات التنزيه؛ فالله، كما يقول،هو”المقدَّس في المشاهدة عن المواجهة والتلقاء”[62]. ويشدد تأكيده من مقام هذه المشاهدة العليّة، على لحوق العبد بمقام التنزيه لا نزول الله إلى مقام التشبيه في هذه المسألة خاصة، يقول: “بل العبد في ذلك الموطن الأنزه لاحق بالتنزيه، لا أنه سبحانه وتعالى في ذلك المقام الأنوه (الأبرز والأظهر) يلحقه التشبيه”[63]. وبالتالي، فإننا نقرأ لقاء العبد ربه في هذه الحالة يندرج ضمن مشهد غيبي يتضمن مفاهيم الغيب والتجريد في رحلة معراج السالك، ويستدعي التأييد بروح القدس. فكمال المقام المحمدي مرتبط بكمال استدارة الزمان وظهور الرسول ﷺ في الجهة الخامسة في قلب الكون، حيث مقام ’الحمد المقدس‘، وحيث تثبت له ما يسميه ابن عربي “بالوجهية” فتزول عنه الجهات، بمعنى أنه يرى من كل الجهات؛ فموطن التقديس يقتضي انعدام الجهات؛ لذلك كان به المدد والحفظ. ويشير ابن عربي إلى هذا المقام من حيث يكون ﷺ كله عين ترى، أو كما يقول “وجه بلا قفا”[64].
ويتحدث ابن عربي في هذا السياق عن تفرد الرسول ﷺ بالمقام المحمود وبالشفاعة في الآخرة حين يكون “بين يدي الحكم العدل لتنفيذ الأوامر الإلهية والأحكام في العالم”. فيأخذ الكل عنه في ذلك الموطن المنزه “وهو” كما يقول ابن عربي: ” وجه كله يرى من جميع جهاته[65] وله من كل جانب إعلام عن الله تعالى يفهم عنه يرونه لساناً ويسمعونه صوتاً وحرفاً”[66]. فيفهم أن ذلك الموطن في الآخرة هو موطن التنزيه والتقديس الخاص بعبده ورسوله محمداً ﷺ، لا يشاركه به أحد، ولا يرثه أحد.
وإن يتحقق بالوجهية قلة من ورثة رسول الله، فيكون شهودهم من كل الجهات، فإن شهودهم هذا، كما ينبه الشيخ، ليس ذاتياً كما هو لرسول الله؛ فالوجهية ذاتية للنبي ﷺ حصراً.ولا يفوت شيخنا أن يخبرنا بأنه هو نفسه قد تحقق في هذا المقام ورثاً نبوياً، ويقول إن من يتحقق في هذا المقام يتحقق بالآية الكريم *فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ* [67]؛ فينعدم منه الإلتفات وزيغ البصر. ويشير ابن عربي إلى هذا المقام المحمدي في ليل إسرائه، مذكراً بالآية * مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَى*”[68]، مبيناً أن العبد من ذلك المقام الأنوه يعود حامداً لله محمِّداً محمَّداً وعلى ذات النسق نقرأ منزِّهاً منزَّهاً، مقدِّساً مقدَّساً، يقول : “فتزول من العبد في تلك الحضرة الجهات وينعدم عند قيام النظرة به منه الالتفات، أحمده حمد من علم أنه سبحانه علا في صفاته وعلى وجل في ذاته وجلى، وأن حجاب العزة دون سبحاته مسدل وباب الوقوف على معرفة ذاته مقفل؛ إن خاطب عبده، فهو المسمع السميع وإن فعل ما أمر بفعله فهو المطاع المطيع”[69]. ويعتبر ابن عربي أن التحقق في برازخ علوم مقامات الكمال المحمدي من أشد وأعظم العلوم التي قد تثير حيرة السالك.
في المجمل إذ نتتبع دواعي درج ابن عربي حمده الذي نظمه في باب “’الحمد المقدس‘”، كما ورد في خطبة كتاب الفتوحات المكية، نقرأها من حيث إنه كان حمداً مؤيداً بروح القدس عن أمر رسول الله نفسه. فالنبي ﷺ في ذلك المشهد الغيبي “الأخطر” كما يصفه، هو الذي أمر أن ينصب لابن عربي مقام الطرفاء في المقام المحمدي الأطهر، وأمره أن يباشره بالحمد والثناء على الله وعلى رسوله. فيخبرنا ابن عربي أنه ارتقى منبر المقام المحمدي ذي “النور الأزهر”، مؤيداً بروح القدس، وأنه بينما هو في ذلك المشهد الغيبي في الرؤيا أخذ يحمد الله أولاً، ثم أشار إلى رسول الله يثني عليه، يقول: “فلما وقفت ذلك الموقف الأسنى بين يدي من كان من ربه في ليلة إسرائه *قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى* قمت مقنعاً خجلاً، ثم أيدت بروح القدس، فافتتحت مرتجلاً:
يا مُنْزِل الآيات والأنباء * أنزل علي معالم الأسماء
حتى أكون لحمد ذاتك جامعاً * بمحامد السراء والضراء
ويكون هذا السيد العلم الذي * جردته من دورة الخلفاء
وجعلته الأصل الكريم وآدم * ما بين طينة خلقه والماء
ونقلته حتى استدار زمانه * وعطفت آخره على الإبداء[70]
ويخبرنا ابن عربي أنه بعد أن استفاق من ذلك المشهد النومي وقد استوفى علوماً وأخباراً كثيرة لا يسع الوقت إيرادها، أنه أكمل في اليقظة ذلك “الحمد المقدس” الذي بدأه في شهوده للحضرة المحمّدية في الرؤيا الغيبية في المشهد النومي، وجعله في رسالة تتضمن قصيدته في مدح الكعبة، يقول: “ثم رددت من ذلك المشهد النومي العلي إلى العالم السفلي، فجعلت ذلك الحمد المقدس خطبة الكتاب، وأخذت في تتميم صدره… هذه رسالة كتبت فيها، أما بعد فإنه:
لما انتـهى للـكعبة الحسنـاء * جسمي وحصل رتبة الأمناء
وسعى وطـاف وثم عند مقامها * صلـى وأثبته مـن العتقاء[71].
إلى أن يقول :
فاشكر معي عبد العزيز إلهنا * ولتشكر أيضاً إلى العذراء
شرعاً فإن الله قال اشكر لنا * ولوالديك وأنت عين قضائي[72]
كتب ابن عربي هذه القصيدة بروح النسيب الذي يعرّفه ابن منظور صاحب اللسان بإيجاز، قائلاً: إنه “رقيق الشعر في النساء”[73] وهو من أبواب الشعر الذي اعتادته العرب في الجاهلية، واستحسنته في الإسلام، ووجد صداه في مجال التصوف. وإن يندرج النسيب من حيث المعنى العام في باب شعر الحب والغزل، فإنه لا يفوت القارئ المتخصص في تاريخ الشعر العربي وأساليبه، أن شعر النسيب يتضمن على وجه الخصوص وقوف المحب على أطلال حبيبة غائبة، يتغزل بها شاكياً جوى العشق ولوعة الفراق. فالنسيب يحمل في ثناياه لطائف معاني تتعدى الغزل والحديث عن جمال الحبيبة في الزمان والمكان إلى الحديث عن حب وعشق طاهر تعدى الزمكان. وقد استعمل ابن عربي كأقرانه من شيوخ التصوف هذا اللون من الشعر لا سيما في ديوانه “ترجمان الأشواق”، وفي غزله بالكعبة الشريفة في رسالته “تاج الرسائل ومنهاج الوسائل”. ولا شك أن هذه القصيدة التي نظمها في باب “الحمد المقدس”، والتي تقارب شعر النسيب، يمكن اعتبارها من أهم القصائد العرفانية التي كتبت باللغة العربية في مدح الحقيقة المحمدية والتغني بحب رسول الله؛ فقد ارتجل ابن عربي مطلعها بينما هو في مشهد الحضرة المحمدية في برزخ الرؤيا في المشهد النومي عن أمر النبي ﷺ وبحضوره وحضور الأنبياء والملائكة والخلفاء الراشدين، وجميع أمته شهداء على ارتقائه منبر المقام المحمدي الأطهر ذي النور “الأزهر”. ثم أتم صدر القصيدة وعجزها بعدما استفاق ورُدّ في عالم اليقظة؛ فجاءت هذه القصيدة من باب “الحمد المقدس” تمثل جسراً يجوزه الحامد عابراً من الوجود المطلق إلى الكيان المقيد، من برزخ القدس في الرؤيا والخيال المحقق إلى عالم الحس والوجدان دونما انقطاع. يوافق هذا الانتقال من برزخ الغيب إلى الشهادة في عالم الحس، الانتقال من “فترة” النبوة البرزخية[74] في الجاهلية التي تميزت بظاهرة النسيب، الى زمان البعثة النبوية التشريعية التي تميزت بالحمد لله مبدأً ومعاداً.
وقد حرص ابن عربي أن يؤكد على فردانية مقام النبوة التشريعية المحمدية الخاتمة، منبهاً عدم قابلية هذا المقام أن يكون لأحد غير النبي ﷺ ؛ إذ لا يمكن لأحد أن ينال جمعية ما ناله الرسول من ربه من وحي الفتوح، كما لا يكون لأحد من ورثته من إرث إلا من أثره، يقول: “وحصلت في موضع وقوفه ﷺ ومستواه وبسط لي على الدرجة التي أنا فيها كُم قميص أبيض، فوقفت عليه حتى لا أباشر الموضع الذي باشره ﷺ بقدميه، تنزيهاً له وتشريفاً، وتنبيهاً لنا وتعريفاً أن المقام الذي شاهده من ربه لا يشاهده الورثة إلا من وراء ثوبه، ولو لا ذلك لكشفنا ما كشف وعرفنا ما عرف؛ ألا ترى من تقفو أثره لتعلم خبره لا تشاهد من طريق سلوكه ما شهد منه ولا تعرف كيف تخبر بسلب الأوصاف عنه؛ فإنه شاهد مثلا تراباً مستوياً لا صفة له فمشى عليه، وأنت على أثره لا تشاهد إلا أثر قدميه …. من أجل أنه إمام وقد حصل له الأمام ،لا يشاهد أثراً ولا يعرفه”.
من حيث إني تبنيت التفرغ لدراسة المذهب الأكبري باعتماد منهاج فهم نصوص الشيخ الأكبر يفسر بعضها بعضاً، فقد حرصت أن أتتبع مفاهيم “حديث الأنثى” و”الحمد المقدس” في مؤلفات ابن عربي الضخمة، لا سيما في كتاب فصوص الحكم وعنقاء مغرب وغيرها من الكتب والرسائل، ولكني حرصت بشكل رئيس اعتماد كتاب الفتوحات المكية لما يحويه من مناهج الشرح والتفصيل والإجمال والإيجاز، سواء كان بأسلوب النص الصريح أو بأسلوب اللمع ولوائح الإشارات. ولا يفوت ابن عربي نفسه أن يوجه الباحث في مذهبه إلى اعتماد هذا الكتاب “الفتوحات المكية” بشكل رئيس مؤكداً أنه كما يقول “كتاب علم المعاني”[75]، وأن مبناه في بيان العلوم والمعارف الإلهية يستند إلى “تحقيق أصول الأمور، لا على الحكايات “[76]. وإن يكن غرضه كما يقول: “إظهار لمع ولوائح إشارات من أسرار الوجود”[77]، فهو يؤكد في الوقت نفسه، أن هدفه الأساسي هو إيضاح المعاني وبيان مبهماتها، لذلك فإن كتابه هذا يحوي أقصى ما يمكن الوصول إليه في قوة العبارة، يقول: “إن هذا الكلام الذي سردناه والكتاب الذي سطرناه، ففيه ما فيه لسان الحقيقة يدل على أن الأمر فوق ما ذكر وسطر، وليس في قوة الترجمة عنه والعبارة أكثر مما ظهر، والله أكبر”[78].
وإن تظهر للقارئ صعوبات في فهم المسائل العرفانية، متعلقها تارة الإشارة واللغز في النص الأكبري، وتارة الطرح التفصيلي لمفاهيم عرفانية قرآنية، فإنه لا يفوت القارئ الكريم أن لخصوصية موضوع “الأنثى” من حيث كونه يتناول بشكل رئيس الصديقتين مريم وعائشة، وبشكل ضمني الزهراء، فإن الشيخ الأكبر تناوله بحذر شديد، فاق كل حذر أخذه في بيان علوم موضوعات عرفانية أخرى؛ وذلك حفاظاً على حرمات أهل بيت النبوة، وحرصاً منه على أن لا يساء فهمه، فتنسب إليه تأويلات لم يقلها، وهو الذي حرص أن يوضح براءته من تأويلات لا تمت إليه بصلة، فيقول لمن يؤول كلامه بما لا يتناسب ومذهبه: “”أنا المبرأ من تأويلك والمقدس عن تفصيلك إلا إن وافقت أمر الحق، وألحقتني بالخلق وهذا لب لمن كان له قلب[79]“.
ختاماً ، نقول، إن مفهوم الوجود الواحد الذي يتبناه ابن عربي، والذي يجمع دقائق الوجود من أكبر المخلوقات إلى أصغرها جرماً، يتضمن حكمة الازدواجية التي تفرض أن يكون اكتساب المادة العلمية تنزيهاً في تشبيه، وتشبيه في تنزيه. وعلى النسق ذاته، فرق في عين الجمع، وجمع في عين الفرق. وفي هذا السياق حرص الشيخ الأكبر تأكيد مبدأ عدم فصل الحقائق الجزئية عن أمهاتها من الحقائق الكلية، وضرورة قراءة المتشابه من الإشارات في ضوء المحكم من النصوص. وقراءة المبهم في ضوء الواضح منها. والحقيقة أن الفصل بين ما هو جزئي مبهم ومتشابه، عما هو واضح محكم وكلي من النصوص الأكبرية، هو السبب في الأخطاء التي وقع فيها كثيرون ممن حاولوا تأويل مذهب ابن عربي العرفاني؛ فاجتزؤوا من كلامه وفصلوا الحقائق الجزئية عن أمهاتها الكلية. ولا يفوتنا في هذا السياق الاعتبار في تأكيد الشيخ الأكبر في كل مناسبة، أن عيسى ـــ عليه السلام ــ روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ـــ عليها السلام ــ؛ فلا تفهم حقيقة الكلمة وروحها إلا من حيث إن الروح ابن أمه الطبيعة. وإن الفهم التام للحقائق العلمية والعرفانية عند ابن عربي لا يتأتى إلا بعدم فصل الحقائق الجزئية عن أمهاتها الكلية. فالأم مريم وحدها من يملك سر نشئ عيسى وحقيقة معناه. وكي تتوضح الحقائق العرفانية بجزئياتها وأمهاتها الكلية “لحديث الأنثى” الجلل في المذهب الأكبري، ـــ وكي لا أحيد عما ألزم ابن عربي به نفسه من مبدأ احترام الحرمات النبوية في مسألة “حديث الأنثى”، تناولت هذا الموضوع بترتيب مقدمات وتفصيل تدريجي للمتعلقات العلمية والعرفانية “لحديث الأنثى ” دونما الخروج عن مبدأ الحذر الذي حده ابن عربي، ويكون ذلك بتقسيم الكتاب في ثلاثة أجزاء على النحو الآتي:
الجزء الأول : مفاهيم الذكورة والأنوثة في مذهب ابن عربي :ــ
الباب الأول: كمال الرجولية وكمال مقام الأنثى في أعلى مراتب أهل الفتوة والملامية.
الباب الثاني : موازين مفاهيم الذكورة والأنوثة وحتمية مبدأ الزوجية.
الباب الثالث: عقبات كؤود ومزلات نفسية وحسية.
الجزء الثاني: “حديث الأنثى” ومفهوم “الحمد المقدس” في حرم المقام المحمدي الأزهر
الباب الرابع : “حديث الأنثى” ومفهوم “الحمد المقدس” في حضرة “كعبة الوجود”
الباب الخامس: يواقيت الأم العذراء والزوجة البكر في مقام جمعهما الأزهر
الباب السادس: عنقاء مغرب والنبأ اليقين في حديث الأنثى من وراء حجاب الغروب الشفقي
الجزء الثالث: منازل “الأنثى” من علوم الحقيقة المحمدية بين التأويل وترك التأويل
الباب السابع : أنثى الحكمة : إلياسية في الأرض ـــ إدريسية في السماء
الباب الثامن: المنزلة العالية من علوم الحقيقة المحمدية الرحمانية
الباب التاسع: منزلة العظمة من علوم الحقيقة المحمدية الرحيمية
الخاتمة : مفهوم “الحمد المقدس”: من أقصى قدس النفس إلى حرم القلب المكي.
والحمد لله رب العالمين
عمّان 9/ 2/ 2025
تنويه ـــــ
الاسم الكامل للمؤلف هو أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن العربي عرف بالحاتمي الطائي، وعرف بابن العربي، وأيضاً بابن عربي بين أهل الاختصاص، تمييزاً له عن القاضي أبو بكر بن العربي المعافري (ت. 543هـ) صاحب كتاب “العواصم من القواصم”. وكان لقبه “الشيخ الأكبر” الذي اشتهر به في الأوساط الصوفية من حيث هو القائل بمفهوم “العقل الأكبر” القابل لتلقي العلوم النبوية من فوق طور العقل النظري، ومن حيث حضوره في جميع الأوساط الصوفية في مشارق العالم الإسلامي وفي مغاربه. فابن عربي وإن لم يترك إرثاً لطريقة صوفيه خاصة به بالمعنى المتعارف عليه في نسب الطرق الصوفية؛ فإن شيوخ الطرق الصوفية والأوساط العرفانية أقبلوا على دراسة تعاليمه ومؤلفاته بشكل معمق، وإن لم يتبنوا في أكثر الأحيان نشرها بشكل رسمي. من هذا الباب أشرت إلى مذهبه الذي صار في يومنا هذا مدرسة عالمية بما هو متعارف عليه في الاوساط المتخصصة “بالمدرسة الأكبرية”، أو “المذهب الأكبري”. وإن كانت هذه التسميات في أصل إطلاقها كان للتفخيم، ولكنها أصبحت اليوم من باب الاصطلاح والتعريف أيضاً. فيوصف المتخصص بمدرسة ابن عربي من حيث هو الشيخ الأكبر بأنه “أكبري”، كما يوصف المتخصص بمدرسة نجم الدين كبرى بـ “كبراوي”.
[1] صدر هذا الكتاب لدى منشورات مسكلياني، تونس ، 2024.
[2] فصلت: 33.
[3] ابن عربي، الفتوحات المكية في أربع مجلدات، أشرنا إليها ب ف.، مع اعتبار مراجعات في نسخة عبد العزيز المنصوب، نشرتها وزارة الثقافة اليمنية، عام 2010 وأعاد نشرها المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة عام 2017، ف. 1، ص. 366.
[4]ابن عربي، فصوص الحكم، القاهرة ، شركة القدس للنشر والتوزيع، 2016 ص. 182 .
[5] الأعراف : 156.
[6] فصلت : 2، 3.
[7] هود : 1.
[8]. ف. 3، ص. 455.
[9] ف. 1، ص. 101.
[10]. ف. 1، ص. 50.
[11] ف. 3، ص. 128.
[12] ف. 3، ص. 458.
[13] ف. 2، ص. 143.
[14] صحيح مسلم، 1864.
[15] المدثر : 31.
[16] ف. 4، ص. 338.
[17] محمد : 11.
[18] ف. 3، ص. 482.
[19]الصافات : 173.
[20] ف. 2، ص. 42.
[21] الحديث “نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور”، أخرجه البخاري1035، ومسلم 900، ذكره ابن عربي في أكثر من مناسبة ف. 1، ص. 97، ف. 2، ص. 42.
[22] آل عمران : 159.
[23] طه : 44.
[24] ف. 3، ص. 264.
[25] ف. 3، ص. 252.
[26] الفيل : 4.
[27] الذاريات : 42.
[28] ف. 2، ص. 43. الأحزاب : 26.
[29] ف. 1، ص. 41.
[30] ليلى خليفة ، ورقات أكبرية ، مذهب ابن عربي، الفقه الروحاني والعلم العرفاني، الجزائر، المكتبة الفلسفية الصوفية، 2017، ص ص. 405 ــ 421 ، حديث الأنثى في المقام المحمدي الأزهر، الأم العذراء والزوجة البكر، تونس ، مسكلياني، 2024، ص ص. 300ــ302
[32] ابن عربي، التجليات الإلهية تحقيق عثمان يحيى، تقديم بكري علاء الدين، دمشق، دار نينوى، 2017، ص. 322.
[33] فصوص الحكم، ص. 197.
[34] ابن عربي، عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب، القاهرة، شركة القدس للنشر والتوزيع 2016، ص. 113.
[35] القصص : 70.
[36] الأنبياء: 107.
[37] ف. 3، ص. 204.
[38] ف.2، ص. 621.
[39] ف.3، ص. 148.
[40] هود : 107.
[41] ف. 1، ص. 38.
[42] البقرة : 24.
[43] ابن عربي، مواقع النجوم ومطالع أهلة الأسرار والعلوم، القاهرة، شركة القدس للنشر والتوزيع، 2016، ص. 117.
[44] ابن عربي ، ديوان ، دمشق، دار نينوى، 2021، ج. 2 ص. 530.
[45] تفرد ابن عربي في اعتباره من حيثية عين الجمع، الرحمن الرحيم اسماً مركباً على وزن بعلبك ورامهرمز. وقد أشرنا في أكثر من مناسبة إلى هذا الاعتبار عند ابن عربي في بحوثنا، لا سيما في الورقة التي ألقيتها بمناسبة مؤتمر “القونوي” في قونية سنة 2008، بعنوان”خطاب القونوي بين التأثر بابن عربي والتمايز، الفكوك والفصوص إنموذجاً” وتم نشره ضمن أعمال المؤتمر عام 2010 في تركيا، كما قامت جمعية اكسفورد بترجمة البحث ونشره في مجلتها، Journal of the MUHYIDDIN IBN ARABI SCIETYK v.49, 2011
[46] ف. 3، ص. 87.
[47] ف. 3، ص. 296.
[48] ف. 1، ص. 276.
[49] ف. 2، ص. 487.
[50] ف.1، ص. 5.
[51] ف. 1، ص. 5.
[52] وهي في الاعتبار النفس الجزئية المتولدة من الطبيعة الأم والروح الكلي.
[53] ف. 3، ص. 331.
[54] ف. 2، ص. 98.
[55] ديوان ، ج.3، ص. 396.
[56] ف. 3، ص. 390.
[57] الرحمن : 56، 74.
[58] لسان العرب، مادة كعب.
[59] يلاحظ ابن عربي أن آية “الحمد لله رب العالمين” توسطت بين “الرحمن الرحيم” من البسملة ، و”الرحمن الرحيم” من أم الكتاب.
[60] رواه أنس بن مالك إسناده صحيح ، وأخرجه النسائي ومسلم والبخاري وأحمد والبيهقي بألفاظ قريبة. وذكره ابن عربي مرات كما يبينه محمود الغراب الذي كان له الفضل في تخريج الاحاديث التي اعتمدها ابن عربي وفي بيان أماكنها في مؤلفاته في كتابه بعنوان الحديث في شرح الحديث من كلام محيي الدين بن العربي، نشره المؤلف 2007 ، ج. 2، ص.87.
[61] ف. 1، ص. ص 3 ـــ 6.
[62] جاء في نسخة دار صادر (أربع مجلدات)، “هو المقدس عند المشاهدة” بدل “في”، ف. 1، ص. 2، وكذلك في نسخة قونية، ولكن يبدو أن ابن عربي قد صححها بنفسه في هامش نسخة قونية ب “في”، كما جاء في نسخة عبد العزيز المنصوب، الطبعة الأولى، 2010، ج. 1، ص. 69.
[63] ف. 1، ص.2.
[64] ف. 2، ص. 100.
[65] يشير ابن عربي هنا إلى ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله “إني أراكم من خلف ظهري”، وفي رواية من خلفي، أخرجه بلفظ قريب البخاري والحاكم والترمذي، محمود الغراب، الحديث في شرح الحديث، ج. 1، ص. 163.
[66] ف. 3، ص. 142.
[67] البقرة : 115.
[68] النجم : 17.
[69] ف. 1، ص. 2.
[70] ف. 1، ص.3.
[71] ف. 1، ص.6.
[72] ف. 1، ص. 9.
[73] اللسان، مادة نسب.
[74] أفرد ابن عربي الفص السادس والعشرين من كتابه فصوص الحكم للحكمة الصمدية تخص النبوة البرزخية اعطيت لحكيم الجاهلية خالد بن سنان الذي وصفه النبي ﷺ بأنه نبياً أضاعه قومه؛ فيوافق ابن عربي من اعتبر مصطلح الجاهلية الذي يعبر تحديداً عن الفترة الزمانية في جزيرة العرب قبل بعث النبي ﷺ، أنها فترة زمان جهل العرب بالإسلام، يقول صاحب اللسان: “هي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله سبحانه ورسوله وشرائع الدين”، أي أنها لم تكن كما يعتبرها بعض الباحثين فترة ساد فيها الجهل والسفاهة وسوء الخلق، وإنما الجهل الذي وُصِفوا به كان تحديداً جهلاً بالبعثة النبوية. وإذ لا تخلو الجاهلية كغيرها من فترات الزمان من مظاهر من العبث واللهو والابتعاد عن الأصول الأخلاقية، إلا أن المستوى الأدبي واللغوي الرفيع للشعر الجاهلي، الذي جعله يرقى في تلك البيئة القاسية ليكون أنموذجاً للشعر العربي حتى يومنا هذا، شاهد على حضارة عربية بدوية منتظمة صارمة، تولي مفهوم مكارم الأخلاق أهمية كبيرة، ولا تخلو من المعاني الروحانية، وقد شاع حديث الرسول ﷺ “بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وقوله أيضاً “خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام”. وقد تبنى ابن عربي مفردة الجاهلية لوصف فترة جهله طريق العرفان الصوفي من ذكر الله والاستعداد لفتوح العلوم العرفانية والحكم النبوية، مع التزامه بالحد الأدنى من الفروض والنوافل الشرعية.
[75] ف. 1، ص. 133.
[76] ف. 2، ص. 368 .
[77] ف. 1، ص. 57.
[78] ف. 2، ص. 589.
[79] عنقاء مغرب، ص. 107. وقد نسب إلى ابن عربي الكثير مما لم يقله، ومما لم يؤلفه من كتب ورسائل تنتشر في المكتبات والأسواق العامة، ويرجع الفضل إلى عثمان يحيى الذي استطاع من خلال بحوثه في تصنيف مؤلفات ابن عربي لنيل درجة الدكتوراة، أن يحدد فهرساً دقيقاً إلى حد كبير، لمؤلفاته، وقد نشر المركز الفرنسي رسالة عثمان يحيى في دمشق عام 1964 بعنوان.Histoire et classification de l’œuvre d’Ibn Arabi,