صدر حديثًا عن مركز أبوظبي للغة العربيّة أوّل تحقيق علميّ لكتاب البشارة والنذارة في تعبير الرؤيا بنسبته الصحيحة إلى الواعظ المتصوّف النيسابوريّ أبي سعد الخركوشيّ (ت 407/1016)، وذلك ضمن سلسلة البصائر للبحوث والدراسات. وقد أنجز تحقيقه ودراسته كلٌّ من الدكتور بلال الأرفه لي، أستاذ كرسيّ الشيخ زايد في الجامعة الأميركيّة في بيروت، والدكتورة لينا الجمّال، مساعدة بحثيّة في جامعة نيويورك أبوظبي.
سبق أن نُشر الكتاب مرارًا بطبعات شعبيّة كثيرة الثغرات والأخطاء، منسوبًا خطأً إلى ابن سيرين (ت 110/728). صدر بدايةً عام 1867م عن مطبعة بولاق بعنوان تفسير الأحلام لابن سيرين في هامش كتاب آخر، ومنذ ذلك الحين، تعيد عشرات دور النشر في العالم العربيّ إصدار الكتاب في كلّ عام لا سيّما أنّه يُصنَّف ضمن أكثر الكتب مبيعًا في العالم العربيّ. وتجاوزَ خطأ نسبة الكتاب الجمهورَ العامّ إلى عدد من الباحثين – العرب والمستشرقين – الذين استندوا إلى الكتاب في دراساتهم ونسبوه إلى ابن سيرين على أنّه من تدوين أحد تلامذته. الواقع أنّ ابن سيرين – وهو مُعَبِّر المنامات الأشهر في الحضارة الإسلاميّة – لم يؤلّف قطّ كتابًا في التعبير، ولم يُجمع إرثه في كتاب بعده.
إنّ قراءةً واعية لمتن الكتاب تُظهر مباشرةً نسبته الصحيحة إلى أبي سعد الخركوشيّ، فمقدّمته تعود صراحةً إليه، وعددٌ كبيرٌ من الأبواب يبدأ بذكره: “قال الأستاذ أبو سعد الواعظ رحمه الله”. والخركوشيّ هو أوّل متصوّف – على حدّ علمنا – يضع كتابًا في تفسير المنامات، لذلك يُعَدُّ كتاب البشارة والنذارة أساسًا في دراسة أثر الفكر الصوفيّ في علم تعبير الرؤيا، والانزياح الدلاليّ الذي حقّقه في تأويلات بعض الرموز مقارنةً بما نُقل من الحضارات القديمة الأخرى. كلّ ذلك يجعل تحقيق كتاب البشارة والنذارة إنجازًا أكاديميًّا ضخمًا، ويكتب بداية مسار جديد في دراسة المنامات في الأدب العربيّ وموقعها من الآداب العالميّة.
استوفى المحقّقان دراسة ما وصلنا من مخطوطات الكتاب، وعددها يفوق العشر، واعتمدا في التحقيق على ثلاث مخطوطات قيّمة تمثّل المتن الأقدم للكتاب. يقع الكتاب في 59 بابًا تتناول طيفًا واسعًا من التأويلات، ويمكن تصنيفها ضمن ستّة محاور رئيسة: المحور الأوّل (الأبواب 1–21): تأويل رؤيا الله وملائكته ورسله وكتبه والجنّة والنار، وتأويل رؤيا الإسلام وبعض شعائره وعباداته؛ المحور الثاني (الأبواب 22–32): تأويل رؤيا البشر على اختلاف ألوانهم وفئاتهم وأعمارهم وحرفهم، وتأويل أحوالهم المختلفة في الأكل واللبس واللهو والحرب؛ المحور الثالث (الأبواب 33–44): تأويل رؤيا المخلوقات من بهائم ووحوش وطيور وحشرات، وتأويل رؤيا السماء والأرض وما يتّصل بهما؛ المحور الرابع (الأبواب 45–49): تأويل رؤيا الجمادات؛ المحور الخامس (الأبواب 50–58): تأويل رؤيا أعمال وأحوال متفرّقة؛ المحور السادس (الباب 59): رؤيا بعض الصالحين لبعض. ولا ينحصر الكتاب بالمنامات؛ إذ يشتمل على معارف لغويّة وتاريخيّة ودينيّة واجتماعيّة، ويشكّل مخزونًا معرفيًّا ضخمًا ومعجمًا للرموز بما كانت تمثّله في المخيّلة الجماعيّة في القرن الرابع/العاشر.
استمرّ العمل على هذا التحقيق سنوات، وقد أفاد من منحتين بحثيّتين: (1) الأولى من برنامج المنح البحثيّة في مركز أبوظبي للّغة العربيّة؛ (2) والثانية من مركز الأبحاث في جامعة نيويورك أبوظبي.