التصوّف وتدبير الحياة الروحيّة تونسيًّا

التصوّف وتدبير الحياة الروحيّة تونسيًّا

هذا كتاب جدير بالقراءة لأن صاحبه يتخلص من التنظيرات الغربية في تناوله للمسائل، ينتج معان و يقدم فكرا قادرا على تفكيك أشكال التثاقف و يمد[نا] بمشروع توظيف هذه الأشكال و الأنماط و الأنواع الثقافية لصالح الإنسان. إننا نقف على مشروع فكري تلوح ملامحه في هذا الكتاب، لا يكرّر سابق الدراسات و يلائم بين البحث العلمي و قضايا الراهن.”

بقلم: صلاح الدين بوزيان.

فاتحة القول

دأب الباحث لطفي عيسى على النّظر والإفتكار في الشّأن الصّوفي، لسببين الأوّل أنّه باحث مختصّ في تاريخ الثقّافات والثّاني أنّه مهتمّ بالتّصوف في بلاد المغرب، وغنيّ عن البيان تأثّره بالبيئة الصّوفية التّونسية ، فقد نشأ في مدينة القيروان ذات الطّابع العربي الإسلامي، داخل بيت مجاور لمرقد الشّيخ عمرعبادة العيّاري، وعلى مقربة من الزّاوية الوحيشية قرب باب تونس، وتغذّى بصور القباب والزّوايا واستمتع بصوت الآذان والابتهالات والإنشاد الصّوفي وهي عوالم دينيّة روحانية موغلة في الهدوء والسّكينة، وأنتج مجموعة من كُتب:(السّير مقاربات لمدوّنات المناقب والتّراجم والأخبار) و( بين الذّاكرة والتّاريخ)و(أخبار التونسييّن)و(أخبار المناقب في المعجزة والكرامة و التّاريخ)، ويتوثّق ما ذهبنا إليه بشاهد استوقفنا في مستهلّ كتابه الجديد الموسوم ب( التّصوف و تدبير الحياة الرّوحية تونسيًّا) والّذي سنحاول تقديمه والوقوف على أبرز سمات الحياة الرّوحية التونسية. الشاهدُ هو حديث الباحث عن مضامين روحيّة في إنشاد عبد المجيد بن سعد القيرواني مقطوعةَ (ابن مريم).

ويعلن الباحث عن غايته من الحفر في ظاهرة الاحتفال السّنوي بعيد ميلاد المسيح وأشكال الاحتفال بمولد النّبي الخاتم محمّد داخل مجال الثّقافة العربية الإسلامية ، مبرزا ما يكتسيه هذا التّشابه من أهمّية مخصوصة بالنّظر إلى تضامن الدّيانتين والثّقافتين في الاحتفاء بنبيين عيسى ومحمّد، مع صرف النّظر عن خصوصيات هذه الاحتفالات وأشكالها وما يُباح فيها و ما يُحرّم . إنّ لطفي عيسى يروم تفكيك الشّحنة الرّوحية التي استعملها عبد المجيد بن سعد يقول: “فقد ركّزنا على تفكيك الشحنة الرّوحية التي وظّفها شيخ السلامية بمدينة القيروان عبد المجيد بن سعد (ت 1972) بغرض تكييف حدث ميلاد المسيح مع ما ترتضيه مختلف التصورات التي أقرّتها آيات القرآن و كذا الحديث النبوي ” . فماذا يعني الباحث بتدبير الحياة الرّوحية تونسيًّا؟

هل يحفر في التّجارب الصّوفية التونسية ويتقصّد خصوصياتها وسماتها؟ أم يفتّش عن ميزات الفكر الصّوفي التّونسي ؟ أم يتطلّع إلى حصر فنون الفكر الصّوفي التّونسي؟ هل يعني بتدبير الحياة الرّوحية تونسيًّا كلّ مجاري الفكر الصّوفي التّونسي في ما يتعلّق بالدّين وما يتعلّق بغير الدّين؟ أم يهتمّ بكلّ أشكال التّزكية الرّوحية والسّلوكية ويتدبّر فنون معاملة أعلام صوفيّة تونسييّن لمحيطهم الاجتماعي ويحفر في مدى تأثيرهم في النّسيج الاجتماعي والثّقافة السّائدة؟ وهل يمكننا الحديث عن فكر صوفي تونسي؟

1/ في ديباجة الكتاب 

 

و في الكتاب: إنّ المتأمّل في كتاب (التّصوف و تدبير الحياة الرّوحية تونسيّا ) يظفر منذ الاستهلالات بمعان مهمّة ، ولاشكّ أنّ في ذلك دلائل على تطوّر مشروع لطفي عيسى العلمي، وأنّه يحافظ على السّنة التي ارتضاها لنفسه عند مقاربة نصوص المتّصوفة و أثناء الاقتراب من حصون الأولياء و زواياهم وحال تأويل أجناد عقولهم وثمرات تجاربهم وخلال تفكيك النّصوص المناقبية. غير أننا نلتقي بلطفي عيسى الباحث المختلف في هذا الكتاب، فهو لا يكتفي بتأويل عجيب صنائع صوفية تونس وأعلامهم، و إنّما يبحث في مدارات أخرى ويبني فُهومًا وأشهرها أنّ الإسلام الطّرقي يمكن أن يسترجع دوره من خلال استئناف الزّوايا أنشطتها الروحية والفقهية والفكرية والاجتماعية. وأنّ الإسلام الطرقي منفتح على قيم الإنسانية و الفضائل الكونية التي يجتمع فيها الإسلام مع أديان أخرى، ووضع استراتيجية تفكيكيّة ليستنطق تجليات البنية القيمية للإسلام الطّرقي التونسي، وفي هندسة الكتاب عونٌ للقارئ على فهم مقاصد البحث.

فقد أورد مثلا:” يتمثّل مقصدنا من إعادة الاعتبار للمسألة الرّوحية بالاستناد على التّراث الصوفي تأمّلا وممارسة، وتدبّر مضامين ذلك التّراث بالتعويل على مقاييس أو زوايا نظر مختلفة ..” . حفرَ في أسباب العودة إلى الاهتمام بالتّصوف، والسّبب الأكبر هي حال الفقر الرّوحي التي تعيشها الإنسانية حسب تعبيره. ولا يفتأ لطفي عيسى ينبّه إلى فشل تقنيات الإنسان في تحقيق السّعادة المنشودة والطمأنينة الرّوحية. رغم ما تحقّقه من إسعاد ولذّة لا تثمران طاقة روحية تدوم ولا تحول. والممتع في هذا الكتاب أن تسكن ردهاته لطائف الموادعة الفكرية ممزوجة بالإفادة والحكمة وإعمال العقل وتنشط فيه حركة التأريخ والتأصيل التّاريخي. لأنّ مدار البحث فيه حول حقيقة الإسلامي الطرقي. بدأ الباحثَ حطابه بسؤال: “ما الحاجة إلى التّصوف؟”

وكأنّه يقول: “أيّها النّاس ألسنا بحاجة إلى التّصوف الآن؟ “. جعل الجواب أجوبة تكسر أفق انتظار القارئ، وتشركُ جمهور القرّاء في حيرة معرفية متوقّدة، ويُبرز كيف تميّزت شاذلية أبي الحسن الشاذلي بشحنات روحية يحتاجها عالمنا اليوم ، ولعلّنا نرى مدى فاعليّة الشحنات الشاذلية في حلقة الذّكر السبتية –كل سبت في المغارة الشاذلية بمقبرة الجلاّز و يحضرها خَلْقٌ كثيرٌ من العاصمة و مدائن الجمهورية، يستمتع الجميع بالأدعية والأوراد والمناجاة و المواجيد في سويعات وجدية صوفيّة توفّر للرّوح حالة صفاء و إمداد ربّاني يوجب الإجلال والتّوقير ممّا يُساهم في شحن الذّات بنوع من الاستقرار الرّوحي و الفكري يحتاجه إنسان اليوم لمواجهة شِعاب الحياة وأهوال المجتمع التّونسي-. فكأنّ لطفي عيسى يحاول تأصيل تجارب صّوفية في سياقها التّاريخي ويكشف عن مُجمل خصوصياتها التي تتعلّق بعلاقة الوليّ/ الوليّة بالمجتمع والأدوار التي لعبها وأنشطة الزوايا وتأثيرها في المحيط، وتأصيل هذه التجارب في سيرورتها التّاريخيّة وفي بناها الاجتماعية والثّقافية ممّا يجعل من الممكن الاستئناس بها أو إعادة تنشيطها أو تشجيع استئناف التّصوف الطُّرقي، فتستأنف الزاوية دورها متعدّد الأشكال وتساهم في وحدة المجتمع وتساعد على تخطّي مجموعة من الصعوبات قد لا تستطيع السلطة تخطّيها بمفردها.
يعتقدُ لطفي عيسى أنّه يُمكن أن نستنبط من التجربة الشاذلية لأبي الحسن الشاذلي و تجربة الفرنشسكانية لصاحبها القدّيس فرنسوا الأسيزي الشّحنات الرّوحية التي يحتاجها عالمنا المتشّعب، وهذا جانب من الإجابة على سؤال: ما حاجتنا إلى دراسة الولاية أو التّصوف؟

2/ الزّاوية ، الوليّ ..الدّور النّفسي والروّحي والاجتماعي

 

يهتمّ الباحث بالدّور النفسي السيكولوجي للتّصوف التّونسي، ويبحث في ما يمكن أن تقدّمه الطّرق الصّوفية في الزّوايا للمهمّشين والفقراء من دعم نفسيّ واجتماعي وتأطير روحيّ وتربويّ وإدماج اجتماعي، في أوقات عجزت فيها السّلطة السياسيّة عن تلبية كلّ هذه المطالب، ربّما بسبب الظّروف السياسيّة والاجتماعية المضطربة ، ولكن لماذا توجس السّلطة السياسية خيفة من الأولياء و الزّوايا منذ عهد بورقيبة ؟. وأشار الباحث إلى تغيّر موقف السلطة السياسية من الزّاوية والنّشاط الصّوفي داخلها إلى حدّ أنّها شجّعت الاحتفالات الصوفيّة زردة كانت أو إنشاد صوفي أو احتفال بالمولد النبوي الشّريف أو مواعيد روحيّة تنعقد داخل الزوايا وفق خصوصيّات الطّريقة، مثلاً: الشاذلية (قراءة الورد الشاذلي يوم السّبت، والحضرة القادريّة في زاوية الشيخ تليل بفريانة، وبزاوية بوعلي النّفطي بنفطة : قراءة الوِرد و خرجة بوعلي النّفطي، وحضرة علي عزّوز بزغوان) وهي أنماط من النّشاط الصّوفي دأبت عليها زوايا عديدة منها ما ذكره الباحث (الشاذلية).

ولعلّ الباحث قصد الإشارة إلى الدّور المهمّ الذي قامت به الزّوايا في تمتين الوحدة الاجتماعية (وحدة الأمّة)، وتقريب الفئات الاجتماعية من بعضها البعض، ممّا ساعد على تجذير الأمن والسّلم والتّعايش والوئام والتآزر، وهذا ما يحتاجه مجتمع اليوم. بيد أنّنا نشير إلى أمر مهمّ لم نجد له ذكرا ولا طرحا في مضامين الكتاب، وهو أنّ التّراث الصّوفي التّونسي يزخر بسير وتراجم، تَبيَّن لنا فيها أنّ دور الوليّ لم يقف عند الحدود الجغرافية والتّرابية لمؤسّسة الزاوية، بل تجاوزها إلى مناطق أخرى سواء في بلاد المغرب أو في البوادي و في أقطار شقيقة، وبذلك انتشرت الطّريقة الشاذلية مثلا في مصر والمغرب والجزائر و ليبيا و موريطانيا و بلدان إفريقية أخرى، كذلك شأن القادرية والتيجانية و العروسية والأسمرية.

3/ الزّوايا ..الإطعام و الإيواء

ولا تكاد تخلو زاوية من إطعام و إيواء على مدار الوقت. وأشار الباحث إلى تراجع الدّور الاجتماعي للزاوية في تونس في هذا العصر، واقتصاره على حلقات الذّكر ومجالس الاحتفال بالمولد النّبوي أو مواكب زردة الوليّ (الزّردة وليمة كبرى تقام في تاريخ وفاة الولّي)، ولربّما السبب هي وفاة الأولياء المشايخ/ الأولياء وإهمال الأحفاد لبعض الزّوايا. إلاّ أنّنا وكما سبق ذكره نشير إلى تمسّك الزاوية القادرية (زاوية الفقيه الصّوفي تليل بفريانة / ولاية القصرين) بدورها في تحفيظ القرآن والإرشاد والتّوجيه ودعم الوحدة الاجتماعيّة ومؤازرة الفقراء والأيتام والأرامل والحضّ على العلم والعمل والتّعاون بين النّاس. وشكّك المتشدّدون في مجالس الذّكر الصّوفية والاحتفالات الموسميّة، وخرّبوا زوايا وأحرقوا أخرى، إنّها مشاهد بشعة تقدّم منتجات العنف والانغلاق الاجتماعي والفكري. إساءات أدانتها الثّقافة السّائدة و تصدّى لها المجتمع التّونسي المعتدل، وقد طالت التهجّمات مراقد في تونس” أكثر من 40 مشهدٍ منتشرا بكامل البلاد” ، مثل (مقام عائشة المنوبية، ومقام أبي سعيد الباجي، والتّهديد التي لحقت مرقد الصّحابي الجليل أبي زمعة البلوي) وفي ليبيا (مقام الشّيخ عبد السّلام الأسمر ومقام الشيخ أحمد زرّوق).

وما اسْتَلْفَتَ نظرنا في هذا الكتاب أنّ لطفي عيسى جعل للإسلام الطّرقي خطابا دينيّا مستقلاّ بذاته، يقول:” للإسلام الطرقي خطاب ديني مستقلّ بذاته وبنية ثقافية رمزية خاصة به، يماثل غيره من التّنظيمات ويتعايش معها” . ولعلّ الباحث يقصد أنّ التّصوف يريد إصلاح الأنفس وتزكيتها بوافر من الحبّ لله والسّعي لبلوغ مرضاة الله ومراقبة النّفس وترويضها على الأخلاق والآداب الإسلامية، ولعلّ تّمسك الأولياء و المريدين وأهل التّصوف عموما بالأخلاق المحمّدية والآداب الإسلامية واقتفاء أثر النّبي ساهم في إرساء الأمن الاجتماعي و توقدّ روح البذل والعمل و الرّغبة في تحصيل العلم و كذلك الذّود عن حرمة الوطن ساعة مداهمة الخطر. ربّما تكمن خصوصية الإسلام الطرقي في هذا المعنى، وهنا يمكن أن تبرز ملامح الخطاب الصّوفي. فالشّيخ الوليّ يربّي مريديه وعموم الوافدين على الزاوية وكلّ النّاس على التّمسك بالآداب الإسلامية أثناء أداء الفرائض وخارجها في العمل والبيت، وهذا ربّما ما يدعم دور المؤسّسات التربوية الرّسمية في التربية والإرشاد والهدي الأخلاقي. كما أشار الباحث إلى عمل خطير أقدم عليه بورقيبة أضرّ بالتّصوف والطرقية والجوامع مثل جامع عقبة بن نافع بالقيروان، فقد “حلّ نظام الأوقاف بعد سنة واحدة من الاستقلال ( 18 جويلية 1957) ” ممّا ساهم في ( تفككّ مختلف المؤسسات المتّصلة بالتّصوف ) . وإن اجتنب الباحثون الخوض في هذه المسألة، فلا شكّ أنّ بورقيبة أجرم في حقّ هذه المؤسّسات، التي نراها في بلدان أخرى تنتعش وتنضوي تحت رعاية السلطة الرّسمية بتسميات متعدّدة (مصر، موريطانيا الجزائر العراق الأردن فلسطين سوريا ساحل العاج السودان). وتساهم في نشر قيم الاعتدال وتقاوم أشكال التّطرّف الديني. أمّا في تونس فقد أفقدها بورقيبة دورها في إطار مقاومته لأشكال العصبية القبليّة وما يسمّيه بمظاهر الرّجعية وإضعاف هيمنة ثقافة المجتمع التّقليدي (لكي تتحوّل إلى جزء من المشهد الأثري، مستوية في ذلك مع غيرها من المعالم التي انحصرت قيمتها في طابعها المعماري بعد أن عفا الزّمان عن جميع وظائفها) .

واختار الباحثُ عائشة المنّوبية والشّيخ بشير الزواوي ثمّ الطريقة القاسميّة، وربّما يعود سبب اختيار الباحث للشيخة الفقيهة عائشة المنوبية (ولدت عام 1204م ) في القرن 13 مع بداية العهد الحفصي، نموذجا ولائيا، إلى أنّها وليّةٌ خرقت الثقافة السّائدة و التقاليد الصّارمة بسلوكها الصّوفي الذي يرشح بعشق الله ، فكانت تبيح لنفسها مخاطبة الرّجال والتّنزّه في أزقّة العاصمة ومناقشة مسائل الدّين و تبدي رأيها، واستطاعت أن تبني حولها نطاقا اجتماعيًّا متواشجا و متينا، وساهمت في إفلاح الأرض ومارست غزل الصّوف ، وأحسنت صحبة النّاس من حولها وأذكت علاقة أهل مدينة تونس بأهل الريف، ودخلت تونس والتقت أبا سعيد الباجي ثمّ أبا الحسن الشاذلي وتعلّمت منهما، والممتع أنّها نالت شرف رئاسة مشيخة الطريقة الشاذلية من بعد أبي الحسن الشاذلي، أخبرتْ عن ذلك قائلة: “أنا رأيت أبا الحسن الشاذلي وأعطاني خاتمه من إصبعه و قال: أنا أوليتك طريقتي ” وقالت: ” رأيت الشاذلي مرّة أخرى وأعطاني علمه وصبره” . والطّريف أنّ الباحث لطفي عيسى ضبط إحداثيات زاوية السيدة وجغرافيتها وحاول فهم أسباب هندسة المجال المعماري، وبحث في مجاورة مؤسسات اجتماعية: بيمارستان/ الجنون وسجن النّساء لمؤسّسة الزاوية العيشويّة المنّوبية الشاذلية، ألا يدخل ذلك في سياسة التهميش التي انتهجها بورقيبة؟ لماذا مستشفى الجنون وسجن نساء حول الزّاوية؟ ثمّ اهتمّ الباحث بالشيخ سيدي البشير الزواوي وزاويته الباشيرية الرّحمانية “أسّسها محمّد بن عبد الرّحمان القجطولي الزواوي الأزهري المكني ببوقبرين (1715- 1794)” .

ويذكر أنّ أحمد بن أبي الضّياف أخبر في ” ترجمته لصاحب زاوية باب الجزيرة بتونس إلى أصوله الشريفة التي تحيل على الشيخ عبد السّلام بن مشيش (ت1228)، وهو من جسّد مرحلة “مغربة التّصوف” وفقا لعبارة باحث علم الاجتماع المغربي محمد ضريف الرّائقة” . و في هذا المعنى كما جسّد الشيخ عبد السّلام بن مشيش مغربة التّصوف ، فإنّ الشيخ محرز بن خلف(340-413هـ/951-1022م) جسّد تونسة التّصوف، درّس الفقه والعقيدة وربّى المريدين واهتمّ بالفئات الهشّة في مجتمع إفريقيّة: الغلابى والفقراء والأرامل والأيتام وناصر المظلومين ومارس التّسامح الدّيني مع اليهود وقاوم الظلم الشيعي العبيدي الغاشم، وأنفق من ماله على المحتاجين، ودعّم وحدة المجتمع، واختار أن يكون بين النّاس يعيش معهم وكان يساهم في مختلف جوانب الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية و التربوية، لـِ”أنّه لا تصلح للنّاس أخراهم حتّى تصلح لهم دنياهم”. ونعتبره شيخ طريقة وهو أوّل من أبرز ملامح الطّرقية. مارس حقيقة الإسلام التي تُعلي قيم الإنسانية والحقّ والعدل والتّضامن والرّحمة والتّعاون والإسعاد. ومن الشّواهد التي تدعم رأينا ما ذكره الوزير السّراج في حلله السندسيّة أنّ الشيخ محرز أخذ الطّريقة الباطنية عن شيخه الفقيه المؤدّب الزّاهد أبي محمد يونس بن محمد ، ولكنّه شرع فيها بعد أن وفّر فضاء داخل بيته لملاقاة الوافدين والتّدريس. بينما مازال التّصوف في الشّرق الإسلامي يتلمّس ملامح الطّريقة، وأثنى أبو بكر الباقلاني على الشيخ محرز، قال:” إنّه لو أدرك محرز بن خلف السّلف كان خامس الأربعة”. وقال فيه ابنة خالته الشّيخ أبي الحسن القابسي مبرزًا مقامه في الولاية وهي رتبة عليّة، قال:” إنّ عُمد الدّين الذين يُمسك الله بهم الأرض أربعة ومحرز بن خلف منهم” ونلاحظ أنّ أبا الحسن القابسي قال:(عُمدُ الدّين) ولم يقُلْ:(عُمدُ الولاية)، وهذا يدلّ على أنّ أمور الولاية تقوم بالدّين وتنبع منه ولا فصل بينهما، وإذا أخذنا بمضامين كلام أعلام الصّوفية فالولاية هبة يهبها الله لمن يشاء ولذلك فهي من الدّين ولا تنفصل عنه.

واهتمّ الباحث بامتزاج الشأن الدنيوي بالشأن الدّيني الصّوفي عند الأولياء، يقول:” ولعلّ أبرز ما يثيرُ الانتباه في سيرة مؤسّس هذه الزّاوية هو التحام المقدّس بالدّنيوي، فقد كان الوليّ حريصًا على الانتقال إلى فحوص الحاضرة الشمالية (ماطر جومين بنزرت) للإشراف على ممتلكات الزاوية..” وتخبر كُتب التراجم و الوثائق المنقبيّة عن انصراف الأولياء أصحاب الزّوايا إلى الأنشطة المهنية و أولوا العمل قيمة بالغة وعوّلوا على أنفسهم في كسب قوتهم، و يبدو أنّهم عملوا بمقتضيات آيات القرآن التي تأمر بالعمل وتثمّن العمل والعاملين و التزموا بالميثاق النبوي، وكانوا يجمعون بين مزاولة المِهن ونشاطهم الديني الصّوفي ونضرب لذلك أمثالا فكان أبو القاسم الجُنيد تاجرا له دكّان في سوق بغداد يبيعُ الملابس وينتهز الفُرص فينزوي ويصلّي ما تيسّر له من النّوافل، وفي القيروان كان الشيّخ أبي حفص عمر عبادة بن سالم العيّاري (ت1855م) يمارس حرفة الحدادة ويقدّس شغله، ويتقن أشكال التّعبّد والتّبتّل إلى الله حتّى أنّه سُمّي عُمر عبادة نسبة إلى كثرة عبادته الله، ولعلّ هندسة بيته تكشف عن اهتمام هذا الصّوفي بالجانب التّعبدي كاهتمامه بمورد الرّزق، فقد اتّخذ غرفتين خلويتين يتداول قيام الليل فيهما، واحدة سفلية في غرفة نومه، وأخرى علوية يمرق إليها من صحن الدّار، وكان يلتقي الأتباعَ والمحبّينَ داخل مؤسّسة الزّاوية (أمر ببنائها أحمد باي 1266هـ/1845م). ونذكر الشّيخ الهادي بن الحفناوي الزّاير (1913-2013) ( زاوية الطريقة الرحمانية بسبيبة / القصرين) شيخ الطّريقة الرّحمانية في وقته، وكانت زاويته تستقبل المريدين والنّاس من داخل البلاد وخارجها، وتقدّم الطّعام ، وكان يقابل الضيوف و يعظ ويُرشد ويوجّه ويحكم بين المتخاصمين، كما كان يمارس نشاطه الفلاحي في أرضه. وكذلك كان يفعل الشّيخ صالح بن علي بن عبد الله المرزوقي التليلي حفيد الشيّخ تليل ( ت2003)، (ينتسب إلى الطّريقة القادريّة) (في زاويته بالأسودة/ سيدي بوزيد).

4/ خاتمة القول

مواثيق الإسلام الطرقي: إنّ المعاني المهمّة التي يهتمّ بها الباحث لطفي عيسى في كتابه تتعلّق بالقيم الرّوحية التي ينبني عليها خطاب الإسلام الطرقي والتي تدلّ على توسع مساحات الفكر الصّوفي في ربوع الثّقافة العربية الإسلامية ، قِيم مثل: التآزر والتعاون والتكاتف والتّضامن والتّحابب والتّراحم و البرّ والإحسان و المودّة و التجذّر في الهويّة والإخلاص و الصّدق والوفاء، وهي قيم تكاد تكون ندرت وخفتت ولكنّها لا تنعدم لأنّها منتجات الإسلام الطّرقي الولاّد في زمن السّرعة والمصالح ، قِيمٌ تخرج من قُطريتها الضّيقة لتشمل المسلمين بل تتحوّل إلى قيم كونية تلتحمُ بالنّاس في مختلف البلدان والحضارات والأديان، ولقد سجّلنا التحاق أوروبيين بالطّرق الصوفية من ذلك بلجيكيين وفرنسيين ونمساويين اعتنقوا الإسلام وانتسبوا إلى الطريقة البودشيشيّة القادريّة (وجدة/المغرب) وكذلك الطّريقة النقشبندية و الطريقة القادريّة في موريطانيا و الهند. والوليّ/ الشيخ يحتكم إلى القرآن والميراث النّبوي لأنّه ينوب النّبي في تربية المريدين، وإذا تمّ التقاء المريد بالشّيخ “يسري حال من باطن الشيخ إلى المريد كسراج يقتبس من سراج” . و” التّصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزّهد مع مزيد أوصاف وإضافات لا يكون بدونها الرّجل صوفيًّا وإن كان زاهدا وفقيرًا. والتّصوف كلّه آداب، لكلّ وقت أدب، و لكلّ حال أدب، ولكلّ مقام أدب ، فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرّجال، ومن ضيّع الآداب فهو بعيد من حيث يظنّ القُرب، و مردود من حيث يرجو القبول” .
إنّ هذا الكتاب في أجزائه يقدّم للقارئ معان حول الإسلام الطرقي ودور الولائية و الزّوايا في المجتمع التّونسي، وهو في تقديرنا بحث مفيد أثار فيه صاحبه جملة من المسائل أهمّها إمكانية استئناف دور الزّوايا والتأكيد على أهمّية هذا الدّور، ولئن فشلت جمعيات في المجتمع المدني في معاضدة جهود الدّولة في المجالات: الثقافي والاجتماعي والتّضامني والرّوحي فلأنّها ربّما تشتغل بميكانيزمات فكرية لا تتلاءم مع خصوصية الهوية التونسية وترنو إلى أهداف غير ممكنة في تربة تونس والمجتمع التّونسي، فإنّ مؤسسّة الزاوية يُمكن أن تؤدّي أدوارها المعهودة والتي سُلبتْ منها كما أسلفنا القول، وقد تكون ثمرات حراك الإسلامي الطرقي أنفعُ، لأنّ الولائية لا تمارس السياسة وتمارس الآداب والأخلاق و تخضع للأحكام الإلهية وتسترشد بالتوجيهات النبوية، ولذلك يؤوب إليها الإنسان وتتمتّع باستقلاليتها فِكرًا و اعتبارًا. والإسلام الطرقي في منشئه ومبناه يدعم حقوق الإنسان، ويجدّدُ إنسانية الفرد ليعانق الحياة ويواجه معضلاتها بأمن وأمان و ثقة في النفس مستمدّة من الثّقة في الله.
والحاصل أنّ كتاب ( التّصوف و تدبير الحياة الرّوحية تونسيًّا) حاول فيه لطفي عيسى تأسيس معان جديدة وفرضيات تأويليّة تكشف عن القيم الإنسانية والشحنات الرّوحية في خطاب الإسلام الطّرقي
وسلوك الأولياء داخل فضاء الزّاوية ومع النّاس في المجتمع والثّقافة السّائدة. ولقد ظفرنا بمواطن الثّراء الرّوحي والأخلاقي لهذه التّجارب مضرب الأمثال كما أدركنا كشفا عميقًا للحمولة القيمية الكونية فيها واكتشفنا انفتاحها وتضامنها مع الثقافات والأديان التي تثري أنسنة الإنسان وتحفظ إنسانيته وتعزّز قيم المواطنة والتّعايش والسّلام، أليس الإسلام سلم وسلام؟ وما على القارئ إلاّ تتبّع وجود هذه الحكمة في ثنايا هذا الكتاب وإنّه ليس في الجود بخل ولا في القدرة نقصان.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!