جنة المأوى
ابتهال يونس
تعد الإبداعات الفنية للتصوف من أبرز تجليات الفن بالقرآن. ويستمد التصوف جذوره، سواء علي المستوي الفلسفي أو المستوي الشعري، من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن القرآن الكريم. التصوف إذن هو رؤية للإسلام تقوم علي الحب والتسامح والتواضع وعبادة الله وتنمية الذات من خلال الانضباط الذاتي والمسؤلية. لذلك فإن منهاج حياة المتصوف هو حب وخدمة الآخرين والتخلي عن الذات الزائفة وكل الأوهام الزائلة حتي يصل إلى النضج والكمال ويتمكن أخيرًا من الوصول إلى الله، الحق والواقع “المتعين”. هو باختصار دين الحب الذي نجده عند كافة المتصوفة من إبراهيم بن أدهم إلى رابعة العدوية وعمربن الفارض، وعلى وجه الخصوص الإمام الأكبر محيي الدين بن عربي ومولانا جلال الدين الرومي.
ومن أهم طرق الحب للوصول إلى مرحلة الكمال طريقة مولانا جلال الدين الرومي الذي ما أحوجنا اليوم للكثير من تعاليمه وأهمها: إذا كانت علاقتنا بالله هي علاقة حب فيجب علينا أن نحب كافة مخلوقاته علي أختلاف أنواعها وأجناسها ودياناتها. ومن سمات هذا الحب خدمة هذه المخلوقات كما فعل مولانا الذي كان يقوم بنفسه علي خدمة المسافرين وعابري السبيل حتى أنه كان يقوم بنفسه بغسل أقدامهم. لذلك لم يكن من المستغرب أنه عندما تُوفي سار في جنازته المسلمون والمسيحيون واليهود والروم … وغيرهم.
لكن ما يهمنا في هذا المقال هو الإبداع الفني المرتبط بالقرآن. ومن أهم الإبداعات الفنية لطريقة مولانا جلال الدين الرومي هو ما يسمي بطقس رقصة المتصوفة الدوّارين وهو أهم ما يميز الطريقة المولوية والتي امتدت علي مدى سبعة قرون.
يعتمد هذا الطقس على تعاليم مولانا جلال الدين الرومي بالإضافة لتأثره بالعادات والثقافة التركية. ويرتكز المعني العميق لهذا الطقس علي حقيقة علمية مؤكدة وهي أن الوجود بأكمله يقوم علي الدوران، سواء في الكون الكبير (العالم) أو الكون الصغير (الإنسان). ففي الكون الكبيرنري دوران الأرض حول الشمس ودوران النجوم في المجرات والإلكترونات في الذرة بالإضافة إلي دوران فصول السنة إلخ… أما في الكون الصغير فنجد الدورة الدموية في الجسم و دورة مراحل الحياة من ضعف الطفولة إلي وهن الشيخوخة (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [سورة الروم، آية: 54]، بالإضافة إلي الخلق من تراب و العودة إلي التراب عند الممات.
إذن فالطبيعة والإنسان يتشاركان في الدوران بصورة طبيعية و تلقائية (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [سورة الإسراء، آية: 44]. وإذا كانت الكائنات الأخرى تقوم بالدوران دون أن تعي ذلك، فإن الإنسان يتميز بالعقل والإدراك. لذلك يقوم المتصوف بالدوران عن وعي وبكامل إرادته ليتناغم مع كل شئ في الطبيعة، من أصغر الخلايا إلي النجوم في السماء ليؤكد عظمة الخالق ويحمده ويسبحه، مجسّدًا بذلك الآية الأولي من سورة التغابن: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
إذا كان تسبيح المخلوقات للخالق قد ورد في عدة سور في القرآن مثل سورة الإسراء (آية 44) وسورة النور (آية 41) وسورة الحديد (آية 1) وسورة الحشر (آية 1 و 24) وسورة الصف (آية 1) وسورة الجمعة (آية 1)، إلا أنه يقتصر فقط علي ذكر فعل التسبيح. أما الأية الأولي من سورة التغابن فهي تكشف عن ماهية ووظيفة التسبيح: لله الملك وبالتالي القدرة، وعلى المخلوقات الحمد.
ولا يجب أن ننسي أهمية رمز الدائرة (وهو أحد تجليات الدوران) لدى فلاسفة التصوف مثل محيي الدين بن عربي وكتابه “إنشاء الدوائر” على سبيل المثال.
من أهم ما يميز هذا التعبير الفني للطريقة المولوية، والذي لا نجده في غيرها من الطرق، هي وحدة العناصر الثلاثة المكونة للطبيعة الإنسانية وهي العقل، أي المعرفة والفكر، والقلب، أي التعبير عن الأحاسيس بالإضافة إلي الشعر والموسيقي، والجسد، أي تنشيط الحياة والدوران.
ومن المعروف علميًّا أن تكرار الدوران وسرعته يؤدي إلى التصاعد للأعلي كما نري في ظاهرة الإعصار علي سبيل المثال، حيث تدور الرياح فتتصاعد بشكل دائري. لذلك فإن دوران المتصوف طقسُ الطريقة المولوية يوصله إلي السمو والارتقاء.
يمكنا القول: إن هذا الطقس يمثل رحلة الإنسان الروحية للصعود من خلال الفكر والحب إلى الكمال، أي ما يعرف بالمعراج الصوفي المستلهم من معراج النبي صلي الله عليه وسلم. فبالدوران حول الحقيقة ينمو الإنسان من خلال الحب ويتخطى ذاته فيلتقي بالحقيقة ويصل إلي الكمال. ثم يعود من معراجه الصوفي بعد أن نضج واكتمل، ليحب ويخدم كافة مخلوقات الله علي اختلاف معتقداتها وجنسها ونوعها. الحب إذن هو المفهوم الأساسي والطريق الأوحد. فقد خُلق الإنسان بحب ولكي يحب. وكما قال مولانا جلال الدين الرومي :”كل أنواع الحب ما هي إلا جسور للوصول إلي الحب الإلهي. لكن الذين لم يتذوقوه بعد لا يعرفون“.
ننتقل الآن إلي رداء متصوفة الطريقة المولوية الذين يؤدون هذا الطقس وما يرمز إليه. يظهر المولوي وهو يرتدي قميصًا أبيض فوقه عباءة سوداء وغطاء رأس مصنوع من وبر الجمل. يرمز القميص الأبيض إلى قبر الذات وغطاء الرأس إلى شاهد القبر. وعندما يقوم بخلع العباءة السوداء يُولد من جديد علي مستوى الروح لتلقّي الحقيقة.
قبل أن نبدأ في استعراض مراحل هذا الطقس يجب التوضيح والتأكيد علي أن متصوفي الطريقة المولوية الذين يؤدون رقصتهم لا يقدمون عرضًا للجمهور بل يعيشون بالفعل تجربة المعراج الصوفي. لذا وجب علي الذين يشاهدونهم التزام الصمت التام احترامًا للتجربة الروحية المعاشة، وعدم التصفيق أو حتي إبداء الإعجاب إلا عندما يغادر المولويون الساحة.
في البداية يظهر المولويون وقد عقد كل منهم ذراعيه مجسدًا رقم 1، مشيرًا بذلك إلي وحدانية الله. تجب الإشارة هنا إلي أهمية رقم 1 ومعادله حرف الألف كرمز من رموز التصوف لأنهما خط مستقيم يشير إلى وحدانية الله. عندما يبدأ المولوي في الدوران يتجه ذراعه الأيمن نحو السماء لتلقي النفحات الإلهية. أما ذراعه الأيسر، والذي يركّز نظره عليه، فيتجه نحو الأرض ليشرك الذين يشاهدونه في المنح الإلهية التي تلقاها. اتجاه الدوران من اليمين إلي اليسار حول القلب يعني أن المولوي يحتضن الإنسانية كلها بحب.
يتكون طقس المولوية من عدة مراحل تحمل كل واحدة منها معني مختلف عن الأخرى.
المرحلة الأولى: تسمي “نعت الشريف” وهي مديح رسول الإسلام و كافة الرسل الذين سبقوه والذين يمثلون الحب. هذا المديح هو حمد لله الذي خلقهم وأرسلهم، كرحمة منه، إلى الإنسانية. مما يجسد مفهوم “الرحمة المهداة” النابع من الآية الكريمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [سورة الأنبياء، آية: 107].
يقوم مفهوم “الرحمة المهداة” عند المتصوفة علي علاقة الحب بين الله و عباده: لأن الله يحب عباده فقد أرسل إليهم رحمة منه، هدية حب: النبي محمد عليه الصلاة والسلام وكافة الأنبياء الذين سبقوه. يلي هذا المديح قرع طبول يسمي “قدوم” وهو يرمز للأمر الإلهي “كُنْ” الذي خلق به الله الكون بأكمله. وهو أيضًا تجسيدٌ للآية الكريمة: (فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [سورة غافر، آية 68].
يلي “نعت الشريف” مرحلة تسمي “تقسيم” وهي عزفٌ منفرد علي الناي يشير إلي مفهوم “النفس الإلهي الخلاق” أي النفخ في الروح، تجسيدا للأية الكريمة:(فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا). [سورة الحجر، آية: 29]، والمرتبطة بخلق أدم وخلق عيسي: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة آل عمران، آية: 59]. وإذا كان الأمر الإلهي “كن” يخلق المادة، فإن النفس الإلهي الخلاق يهب الحياة المادة ولكل شئ نطلق عليه كلمة “حي”.
ثم يلي ذلك مرحلة “سلطان ولد” أو “دور ولد” وهي حركة دائرية عكس عقارب الساعة يؤديها المولويون مجسدين بذلك المراحل الثلاثة للمعرفة: “علم اليقين” أي المعرفة المكتسبة عن طريق الغير وعبر الدراسة، و”عين اليقين” أي المعرفة المكتسبة عن طريق الرؤية و الملاحظة، و”حق اليقين” أي المعرفة المكتسبة عبر التجربة الشخصية المباشرة أو ما يسمي بالعرفان.
يبدأ بعد ذلك الطقس الأساسي وهو مكون من أربع حركات موسيقية مختلفة تسمي “سلام”. في بداية ونهاية كل “سلام” يقوم المولويون بالإقرار بوجود الله ووحدانيته وجلاله وقدرته. وإذا تعمقنا في معني هذه الحركات الأربعة نجد أنها مبنية علي الآيات الثمانية عشر الأولي من سورة النجم، وبخاصة من الآية 6 حتي الآية 18.
تتسم هذه الآيات بالغموض وبقدر كبير من الروحانية. ومع التعمق في القراءة نجد أنها تتحدث عن معراج النبي صلي الله عليه وسلم. وبما أن المعراج الصوفي مستلهم من معراج النبي الكريم نجد أن هذه الحركات الأربعة تمثل خطوات هذا المعراج الصوفي وتجسّد تلك الآيات الأولي من سورة النجم.
يمثل “السلام” الأول مولد الإنسان للحقيقة من خلال الإحساس والعقل، كما يمثّل تسليم الإنسان بأنه مخلوق من مخلوقات الله وعبد من عباده. ثم تبدأ رحلة الصعود والارتقاء نحو المرحلة الأولي للتجربة الروحية وهي مرحلة الرؤية عن طريق القلب: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى). [سورة النجم، آية11]. ومن خلال الروحانية الخالصة وتكرار الدوران، يصل إلي مرحلة الرؤية العينية أو المعاينة وفقًا للتعبير الصوفي، كما نري في “السلام” الثاني حيث يرى روعة الخلق وعظمة وقدرة الخالق: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ) [سورة النجم، آية 17 و 18].
بفضل الانصهار في الحب والتضحية بكل ما سواه، نصل في “السلام” الثالث إلى التسليم والتوحد وانعدام الذات في المحبوب حيث يحتضنه الحب الإلهي. أي ما يعرف في التصوف بالفناء في الله: (عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى) [سورة النجم، آية 14 و 15]. تجب الإشارة هنا إلي أن “المأوى” ومرادفاته كالملاذ والحِمى هي من أهم مفردات التصوف، حيث الذوبان في أحضان الحبيب والفناء فيه.
من جهة أخري، “جنة المأوى” التي نجدها في سورة النجم تختلف تمامًا عن جنات عدن ووصف الجنة التي أُعدت للمؤمنين في مختلف سور وآيات القرآن الكريم. فتعبير “جنة المأوى” لم يُذكر إلا مرة واحدة فقط، أي في سورة النجم. ونجد تعبيرًا قريبًا منه، مرة واحدة أيضا، في سورة السجدة وهو “جنات المأوي” [آية 19]. هي إذن شئ مميز ومختلف تمامًا عن الجنة التي يتكرر وصفها في القرآن الكريم. هي منزلة خاصة، هي الملجأ والملاذ للذين يتوقون لأحضان الحبيب والفناء فيه.
يشير القرآن الكريم علي مدى آياته وسوره إلي الذين آمنوا والذين كفروا، إلي أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، الذين سيدخلون الجنة والذين مصيرهم إلى النار. أي مجموعتين، إلا في سورة الواقعة حيث نجد، بالإضافة إلي أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة، مجموعة ثالثة: (وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة الواقعة، الآيات 7 و 8 و 9 و 10 و 11].
من هم هؤلاء “المقربون”؟ تصفهم الآية بأنهم: (ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ) [سورة الواقعة، آية 13 و 14]. وهو وصف عام وغير محدد. لكن من أقرب من الذي يتوق للذوبان في أحضان الحبيب والفناء فيه؟ من جهة أخري، إذا كانت سورة الرحمن تتحدث عن جنتين: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [آية 46]. و (وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ) [آية 62]. إلا أننا لا نجد إلا وصفًا عامًّا لا يميز بين الجنتين. كما أن سورة الرحمن بأكملها مبنية علي صيغة المثنى. أما في سورة الواقعة فنجد تأكيدًا علي وجود جنتين ووصف لكل منهما: جنة المقربين وجنة أصحاب اليمين.
وإذا قارنا بينهما نجد أن جنة أصحاب اليمين تتسم بالمتع الحسية كالمأكل والمشرب والحور العين. أما جنة المقربين نجد أن المتع أكثر تعددًا وثراءً من جنة أصحاب اليمين فهم: (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ) [آية 19]. ولكن الأهم أننا من جهة أخري، نجدها أكثر روحانية وذلك من خلال آيات لا نجدها في وصف الجنة الأولي، علي سبيل المثال: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا). [آية 26]. أما جزاء يوم الحساب فنجده في نهاية سورة الواقعة حيث يتميز المقربون عن أصحاب اليمين: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) [آية 88 و 89]. يمكن أن نعتبر أن هذا الوصف ينطبق علي جنة المأوى التي ذُكرت في سورة النجم حيث أن الفناء في الله هو “سلام وروح وريحان”.
نعود مرة أخرى لطقس المولوية وإلى “السلام” الرابع، حيث إنكار الذات ونبذ الأنانية والتضحية من أجل باقي البشر علي الأرض. تماما كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم عندما وصل من خلال معراجه الروحي إلى “العرش” لكنه عاد مرة أخري إلى الأرض ليتمّ مهمته كعبد لله ورسوله إلي الإنسانية. كذلك يفعل المولوي بعد أن وصل إلى مبتغاه في الفناء في الحبيب من خلال معراجه الصوفي، عليه أن يعود مرة أخرى لمهمته علي الأرض: عبوديته لله وخدمة كتبه ورسله و كافة خلقه.
يلي ذلك تلاوة سورة مريم حيث معجزة ميلاد المسيح ورسالته من خلال مفهومين نجدهما في طقس المولوية وهما الأمر الإلهي “كُن”: (إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) [سورة مريم، آية 35]. والنفخ في الروح الذي لا نجده بصورة مباشرة كما في سورة الأنبياء: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا) [آية 91] لكننا نجده بالمعني المجازي في سورة مريم: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) [آية 17].
نتوقف هنا عند اختيار سورة مريم إذ تحتل هذه السورة مكانة خاصة في التقاليد والثقافة التركية. والسورة تقع في منتصف المصحف تقريبا (تبدأ في صفحة 305 من إجمالي 604 صفحة في المصحف) وغالبا ما تحظي صفحاتها بزخرفة خاصة تختلف عن باقي السور في المصاحف التركية. لكن الأهم هو أن سورة مريم تحتوي علي مجمل المفاهيم التي يجسدها طقس الطريقة المولوية. يمكننا القول إن المفهوم الجوهري في سورة مريم هو مفهوم الرحمة، بمشتقاته ومرادفاته. إذ ورد اسم الله “الرحمن” 16 مرة في السورة ولفظ “رحمة” خمس مرات وكلمة “حنانا” مرة واحدة. كما أن السورة تبدأ بهذا المفهوم: (ذِكرُ رحمة ربك) [آية 2]. يرتبط مفهوم الرحمة في السورة ببعث الأنبياء وهو تجسيد لمفهوم “الرحمة المهداة” الذي يبدأ به طقس المولوية. فنجد أن السورة تصف معجزة مولد المسيح بأنها: (رحمة منا) [آية 21] ومولد يحيي: (حنانا من لدنّا) [آية 13]، وإسحاق ويعقوب: (ووهبنا لهم من رحمتنا) [آية 50] وموسي: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) [آية 53].
يقترن مفهوم “الرحمة المهداة” بالعبودية لله وذلك منذ بداية السورة: (ذكر رحمة ربك عبده زكريا) فالرسل والأنبياء هم أولاً عباد الله ثم رسله، كما في حال عيسي علي سبيل المثال: (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) [آية 30]. يمتد مفهوم العبودية لله ليشمل خلق العالم والإنسان: (إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [آية 93]. إقرار المخلوقات بقدرة الخالق وعبوديتها له يتجلي من خلال الحمد والتسبيح، أي المفهوم الذي نجده في طقس المولوية والذي يتجسد من خلال الآية الأولي من سورة التغابن السابق ذكرها: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
في نهاية الطقس يقوم المولويون مرة أخري بعقد ذراعيهم بخشوع مجسدين بذلك وحدانية الله. ثم ينسحبون بهدوء إلى خلوتهم للتأمل وذكر الله، بعد أن قاموا بتجسيد إحدى أجمل إبداعات الفن بالقرآن.
السلام عليكم ، مقالة جميلة ، أرجو من الكاتبة التواصل معي تكرما ، لاهتمامي البحثي في الموضوع، وحاجتي للتواصل معها .. وشكرا
السلام عليكم ، مقالة جميلة ، أرجو من الكاتبة التواصل معي تكرما ، لاهتمامي البحثي في الموضوع، وحاجتي للتواصل معها .. وشكرا
السلام عليكم ، أود التواصل مع صاحبة المقال تكرما ، بسبب اهتمامي البحثي في موضوع الرقص المولوي ، وشكرا مقدما