جلال الدين الرومي وشمس تبريزي
نار العشق
فصلٌ من كتابٍ
يصدر قريبًا عن منشورات الجمل
ترجمة خالد الجبيلي*
كان طويلا نحيفًا، يكاد أن يكون هيكلا عظميًا، متدثرًا بمعطف أسود من الكتان عريض الأردان. بعد زخات المطر، تدلت خصلات شعره من ثنايا قبعته التي كانت في شكل قارب، زرقاء بلون السماء. كان يغذ الخطأ غير عابئ بما يدور حوله في المدينة – الدكاكين والناس والحيوانات – وكانت عيناه تشيان بأنه زائر جديد إلى هذه المدينة. وبين الحين والآخر، كان يتوقّف أمام أحد المحلات الصغيرة، وعيناه تطوفان فوق السلال المصنوعة من القصب والقشّ. وعندما عرض عليه صانع السلال أن يشتري سلة من القصب، لاذ بالصمت ولم يحر جوابًا، لأن من النادر أن يسأ?ه أحد شيئًا.
هبّت ريح باردة على وجهه الضامر المتغضّن مثل رقّ يلامس النار. عقد حاجبيه محاولا أن يكيّف نفسه مع البرد، البرد القارس الذي هبط على قونية في نهاية تلك السنة.
«أنا الرجل العجوز في البرد»، قال لصانع السلال.
لم يتوقف الرجل عن عرض بضاعته.
«انظر إلى مقابض السلال هذه، تحسس قعرها. لا يوجد لهذه السلال مثيل في المدينة كلها. يمكنها أن تُصعِد رجلا إلى السماء».
«لستُ بحاجة إلى سلالك حتى أصعد إلى السماء».
عندما وقعت عيناي عليه لأول مرة، هو شمس التبريزي – قبل فترة وجيزة من لقائه الشهير بمولانا الرومي – كان في الستين من العمر، مثل عمري الآن.
هاقد أصبحت الآن ذلك الرجل العجوز الضعيف البنية، ولم أعد أتوقف عن تكرار عبارة شمس المعهودة «أنا الرجل العجوز في البرد». لأن الموقد المتوهج في الحجرة التي أكتب فيها قصّة سيدي وأستاذي لا يدفئ عظامي الواهنة، وقد طعنتُ في السن وأصبحتُ أكبر من كل الذين أعرفهم. لقد أضحى ذلك المريد الشاب المتحمّس في الماضي، المفعم بالحيوية والممتلئ بالروح المرحة، حكيمًا يأتي الآخرون لاستشارته وسماع مواعظه. لقد بلغت سنّ الوقار. لقد أصبح ذلك الشاب الرياضي الذي كان يكسر الجليد المتشكل فوق سطح البحيرة ليستحمّ في عزّ الشتاء، يمضي وقته ?لآن أمام الموقد لا يبرحه. ركبتاي تؤلمانني، يداي ترتعشان قليلا.
بعد أن طعنتُ في السن واعتراني الوهن، أحاول أن أتخيّل «شمس» قبل أربعين سنة. أراه يهرع مبتعدًا عن محل صانع السلال. أراه يسير في شوارع قونية وأزقتها، أول مدينة تنبثق من الطوفان، المدينة التي مرّ بها بولس والرسول برنابا والحواري توما. مقر مجالس المسيحية الأولى التي نهبها الصليبيون وعاثوا فيها فسادًا قبل أن تصبح عاصمة سلاطين السلاجقة في القرن السادس للهجرة.
ولم تتمكن هجمات المغول من إطفاء شعلة هذا القلب النابض بالتجارة. هذه المدينة التي يقطنها أتراك ويونانيون وعرب وهنود وفرس وإفرنجة وأرمن وإيجور وفينيسّيون، بل حتى صينيون. وفي الصباح الباكر من كلّ يوم، كانت الجلبة التي يحدثها السقاءون الذين يملئون قربهم المصنوعة من جلد الماعز من القنوات الواقعة خارج المدينة، وينقلونها على ظهور الجمال، توقظ سكان المدينة من نداءاتهم المرتفعة لبيع الماء العذب، وأصوات غاسلي الثياب في ذهابهم وإيابهم بين النهر وبيوت زبائنهم، الذين تنوء بغالهم وحميرهم بالألبسة الوسخة، والذين يعودون ب?دها بأكداس الثياب المغسولة، النظيفة، المطوية، المعطّرة، وعمّال البناء الذين يجلسون عند مفارق الطرق الرئيسية، ينتظرون مرور مقاول في الصباح الباكر يبحث عن بنائين مهرة. ومن مواقع البناء الكثيرة – فقد تملّك السلطان هوس البناء – يمكن سماع الضوضاء المنبعثة من البكرات والحبال التي ترفع العمّال في سلال إلى قمم المآذن حتى غروب الشمس. أما في الأحياء السكنية، فيبدو أن نداءات جامعي الأشياء العتيقة الذين يجوبون الشوارع لا تتوقف. ومن باحات المدارس، دبيرستان، يمكن سماع أصوات الأطفال الذين يرددون بلا كلل، بأصواتهم الحادّة?والرتيبة، آيات من القرآن. وفي الليل، يتناهى إليك من نوافذ المارستان المنُارة، أصوات حوارات غريبة لأحد المجانين، يعبّر فيها عمّا يدور في رأسه بصوت عالٍ وبلغة لا يفهمها أحد سواه.
وكانت تغلف الحمّامات العامة سُحب بخار الماء الحار المعطّرة بروائح ذكية، وتفوح من كهوف الأرمن رائحة النبيذ المعتقة الخدرة، غير عابئة بصليل سيوف المغول. أما العرّافات اللاتي يرفعن في أيديهن طاسات الماء، فكنّ يكشفن من خلال السائل المتجمع، عن وجه الحياة الخفي للنساء المذهولات المتحلقات حولهن.
دأب الأجانب القادمون من الغرب على القول إن قونية مدينة ضخمة تشبه مدينة بعيدة تقع وسط سهل خصب في الضفة اليسرى من نهر عريض، يطلقون عليها اسم كولونيا، أما الأجانب القادمون من الشرق، فقد اعتادوا على تشبيهها ببغداد، لا بل بمدينة هامبي الأبعد مسافة.
قبل وصوله إلى الأناضول، «المشرق»، أو أناتول كما يلفظها صديقي اليوناني، ذريانوس، لم تكن تتملك شمس التبريزي سوى رغبة واحدة، وهي اللقاء بأستاذ حقيقي، أستاذ روحي. لذلك راح يطوف في أرجاء البلاد وينتقل من بلد إلى آخر. كان شمس قد تعلّم في تبريز، مسقط رأسه، على يد شيخ يعرف باسم «حائك السلال»، وكان كلّ ما يعرفه ينحصر فيما علّمه إياه ذلك المعلم الأول. لكن لم تمض فترة طويلة حتى تركه شمس ليبحث عن معلّم قادر على «رؤية» شيء فيه لم يره حائك السلال، ولا أي شخص آخر.
ومثل حيوان برّي لا يكفّ عن البحث، انطلق شمس من مدينة إلى أخرى، فصلا بعد فصل، لعله يعثر على صيّاده. وقد قاده هذا الطواف الدائم إلى بغداد حيث التقى بشيخ معروف. وسرعان ما انتشرت الكلمات التي تبادلها معه وبلغت بلاط الخليفة، وانتشرت في الحمّامات العامة والحانات حيث ينال الجنود قسطًا من الراحة قبل أن يخرجوا حتى تُقطع رءوسهم على يد المغول. لكن شمس كان نافد الصبر. ففي أثناء لقائهما الوحيد والقصير جدًا، سأل الشيخ ماذا يفعل؟ فأجاب الشيخ، «إني أرى القمر في ماء الطست»، فعرف شمس على الفور أن هذا الشيخ لا يصلح له، وأجاب? ساخرًا، «إذا لم يكن في رقبتك دُمَّل، فلماذا لا تنظر إلى القمر في السماء مباشرة؟»
بهذه الكلمات حطّم شمس حماسة هذا الشيخ الحالم، وتوسل الشيخ الذي كان يتوق إلى أن يصبح أستاذًا لهذا الرجل، لأن يبقى، وأطلق عليه اسم «المتيقظ»، «المرشد»، «الرفيق». لكن هذا الغريب الغامض، لم يوافق، فأجهش الشيخ على كتفه، وهمس حزنه في أذنه، ومزّق ثوبه، ودفع صدره العاري إلى الأمام كي يراه شمس. لكن كل ذلك ذهب أدراج الرياح. فقد كان من رابع المستحيلات الإمساك بشمس «الطائر».
مع أن شيئًا من السعادة قد اعتراه من الردّ المؤثر للرجل الذي كان دراويش بغداد يعتبرونه آنذاك «نور الخلافة»، عرف شمس أنّه يضيّع وقته سدى مع شخص تافه كهذا.
«إنك لا تنفع لشيء. إنك لست جديرًا برفقتي».
كانت تلك كلمات شمس الأخيرة قبل أن يولي ظهره للشيخ ويغادر بغداد. لم يعرف أحد تمامًا من هو، فلم يكن يجيب عن أي سؤال شخصي عنه. كان يكسب رزقه من تعليم الأطفال القرآن وأصول الدين، وكان يعمل أحيانًا في البناء أو في أعمال الدهان أو طلي الجص، لكنّه لم يكن يرغب في أن يُعرف عنه بأنه صوفي أو معلّم أو عامل غير ماهر، بل كان يعرّف نفسه بأنه شخص أجنبي، عالق في حركة العالم. وكان كلما وصل إلى مدينة جديدة، مكث في خان مع مسافرين آخرين، وكان يفضل أن يعرّف نفسه بأنه تاجر وليس رجل دين أو معلّمًا مبجلا.
ولأن معرفته، شأن غريزته، كانت مدهشة، فقد كان يُطلب منه غالبًا أن يمكث في خانقاه، تكية الدراويش، أو في مدرسة، محاطًا بأقرانه. لكنه كان يرفض تلك الدعوات ويجيب بما أنه غريب فعليه أن ينزل في الخانات، أماكن العبور. أما الذين يعرفون هذا المسافر، فكانوا يطلقون عليه اسم الطائر. ويقال إنه جاب أنحاء العالم قبل أن يصل إلى قونية حيث يعيش جلال الدين محمد البلخي، المعروف باسم الرومي، لأنه أمضى شطرًا طويلا من حياته في هذه المدينة التابعة للقياصرة، والذي كان تلامذته يدعونه باسم «مولانا»، وكان شمس يشير إليه بالحرف م فقط.
إن يدي تحترق عندما أكتب ما رأته عيناي، لكني لا أريد أن أواصل الكتابة بسرعة. في ذلك الوقت، كانت الدروب والطرق لا تزال خطيرة. ولم تكن مطروقة كما هي في أيامنا هذه، أثناء كتابتي هذه السطور. فقد زحف أبناء جنكيز خان على هذه الأرض. ذلك الزمن الذي أطلق فيه المحارب تشورماجان العنان لقطعانه الذين يزيد عددهم على ثلاثين ألف رجل فعاثوا فيها فسادًا وسلبوا ونهبوا وقتلوا وذبحوا سكّان المدن القديمة الذين بدا أنهم، بدلا من الدفاع عن أنفسهم، كانوا يقدمون أنفسهم علفًا لهم.
كان تنقّل شمس يعتمد كثيرًا على تحركات جيوش المغول الغازية غير المنتظمة. ففي ذلك الحين، كانت جميع الأراضي الممتدة من السند حتى مضيق القسطنطينية مهدّدة. كان شمس في الخامسة والثلاثين من العمر عندما أحرق المغول مسقط رأسه، تبريز، وخلال تجواله، كانت تتناهى إليه أصوات صراخ الأهالي المذعورين وعويلهم، وغالبًا ما كان يكرّر عبارة التقطت مثل ثمرة موسميّة من على قارعة الطريق: «يأتي المغول فيحطّمون ويحرقون ويقتلون وينهبون ويسلبون ثم يغادرون».
حُكيت له قصّة تقول إن فارسًا مغوليًا دخل قرية مأهولة وقتل جميع سكانها، الواحد تلو الآخر، دون أن يجرؤ أحد على رفع إصبعه في وجهه. وفي مكان آخر، حُكي له أن بربريًا أعزل أمر أحد الأسرى بأن يستلقي على الأرض ولا يبرح مكانه، ثم انطلق المغولي يبحث عن سيف بهدوء ثم عاد وقطع رأس الرجل المنكود الذي لبث ساكنًا، لم يبرح مكانه، منتظرًا حتفه.
في أحد الأيام، وصل شمس إلى دمشق حيث سمع مرة أخرى عن ذلك الاستسلام الغريب في وجه الغزاة.
«قال له أحدهم :كنّا مجموعة من ثمانية عشر مسافرًا، وفي الطريق صادف مغولي قافلتنا وأمرنا بأن نقيّد أنفسنا معًا. بدأ رفاقي يقيّدون أنفسهم ببعض بهدوء، وكنت أنا الوحيد الذي رفض هذا الأمر القاتل. فقلت لهم إننا ثمانية عشر في مواجهة رجل واحد، لكن عبثًا، واستمروا يقيّدون أنفسهم. استللت خنجري فجأة وحززت حنجرة هذا المغولي، فمات في الحال هذا الالتشي، الرسول المغولي، ولذنا بالفرار، وتركنا وراءنا الحبال والقيود. لكن بدا أن بعض رفاقي في القافلة قد ندموا لأنهم ظلوا على قيد الحياة».
في دمشق، عندما كان في الخامسة والأربعين من عمره، لقي شابًّا تتحلّق حوله مجموعة من الأصدقاء المبتهجين. انحنى أمامه وقبّل يده وقال: «يا صرّاف عالم المعاني، أدركنا». لا شك أنه استخدم عبارة «صرّاف»، كما لو أنه كان يبدّل عملة بأخرى.
نعم، لقد التقى بأبرز طلاب العلم في المدينة. إنه الرومي الشاب، كما سأطلق عليه من الآن فصاعدًا، الذي قدم إلى دمشق لدراسة علوم الدين والشريعة. بعيدًا عن مشاركة غبطة الغريب الذي طلب منه أن يمسك بيده، سحب الرومي يده التي تبللت بلعاب قبلات هذا المتضرع الندية، وانحنى ليساعد الرجل الجاثي أمامه على النهوض على قدميه. لم يكد ينهض حتى ابتعد بسرعة، تاركًا الرومي الشاب في حالة ذهول. بعدم مبالاة شاب في عمره، لم يعلّق الرومي أي أهميّة على هذا اللقاء الغريب. أما الشخص الآخر، فقد فهم أن هذا الطالب المنهمك في التهام الكتب، ل? ينضج بعد وأن عليه أن يعود مرة أخرى. وأعني بالشخص الآخر، شمس التبريزي، «الطائر».
لا، لم يكن الرومي قد نضج بعد. وسيستغرق الأمر خمس عشرة سنة أخرى. وذات يوم خريفي، بينما كان يهمّ بمغادرة مدرسة سوق القطن، التقى مرّة أخرى، وبمحض الصدفة، بشمس الذي كان خارجًا من خان تجار السكّر، هذا اللقاء الذي قلب حياته رأسًا على عقب. سأعود لاحقًا إلى رواية هذا اللقاء.
يصعب عليّ تدوين الكلمات على الورق لأصف ببساطة أستاذي، الرومي، الرجل الذي دخل حياتي ولم أكد أبلغ العشرين من العمر، ولم يغادرها قط. الرجل الذي جعل شعره تعبيرًا خالصًا عن العشق والمحبة، الطريق المباشر إلى الله. لكن هذه هي مهمّتي. الواجب الذي يتعين عليّ أن أؤديه في نهاية حياتي. وإن لم أفعل ذلك أنا، فمن سيفعله؟
اسمه الحقيقي جلال الدين محمد، ولد في بلخ، شرق إيران، في سنة 604 للهجرة (1207 م). كان والده يحمل لقب «سلطان العلماء» لأنه كان يقال إن علمه كامل. لكن بعد جدال مع فيلسوف البلاط «باديشاه»، نشأ خلاف مع أهل المدينة حول لقبه، وربما خوفًا من جيوش المغول، اضطر إلى مغادرة مسقط رأسه في عام 618 هـ، عندما كان ابنه، أستاذي لاحقًا، لا يزال في الرابعة عشرة من عمره.
كانت رحلتهما طويلة، لكنها مثمرة. وفي بغداد، التقى الأب والابن الشاب بالإمام العالم العارف السهروردي. أمام بوابة عاصمة الخلافة، سألهما الحرّاس، كما دأبوا على سؤال جميع الأجانب، من أين أتيا وإلى أين هما ذاهبان؟ فأجاب سلطان العلماء، والد الرومي: «من الله وإلى الله ولا قوة إلا بالله». عندما بلغت هذه الكلمات سماع الشيخ شهاب الدين السهروردي، هرع للقاء الزائرين. حيّا الوالد باحترام وقبّل ركبة ابنه، الرومي مستقبلا، الممتطي ظهر حصان. ويقال إن سيدي يحتفظ، كتذكار عن هذا اللقاء – وهو أمر قد لا يكون حدث إلا في مخيّلة بعض الرواة – ببضع شعرات حمر من لحية الإمام العارف التي التصقت بثوبه عندما قبّله.
بعد ذلك، عندما بلغ السهروردي السادسة والثلاثين من العمر، قتله حاكم مدينة حلب، ابن صلاح الدين، الذي كان يدّعي أنه أحد أتباعه المخلصين. لكن حماية أقوى أتباع الإمام العارف لم تجدِ نفعًا أمام الاتّهامات بالزندقة التي كالها له رجال الدين في البلاط، ولم يتمكن الإمام العارف من حماية نفسه من مشاعر الكراهية التي كانوا يكنّونها له. فبين الأب السلطان والصديق الذي يؤمن بالغيبيات، اختار حاكم حلب والده السلطان، وأمر بإعدام معلّمه العالم بقلب مكلوم.
على طريق الهروب الطويل، التقى الرجل الذي سيصبح أستاذي، ابن سلطان العلماء، في نيسابور، بفريد الدين العطّار، الشاعر الصوفي الفذّ الذي كان يعمل عطّارًا. فقدم له العطّار نسخة من كتابه «أسرار نامه» الذي يضم أشعارًا لم يتوقف الرومي عن قراءتها، والاقتباس منها وترديدها، على الرغم من أنه فاق، هو نفسه، عبقرية العطّار الروحية والشعرية، من حيث الشكل والمضمون. وسمع جميع من حضروا ذلك اللقاء العطّار يقول لسلطان العلماء: «إن ابنك سيضرم النار سريعًا في هشيم العالم». وحتى لو لم يقل العطّار ذلك، وحتى لو كان ذلك مجرد كلام منم? أو مختلق، فقد أضرم الرومي حقًا ولا يزال يضرم، بدقة وبكل ما في الكلمة من معنى، العالم الروحي الذي قد يكون هو العالم الحقيقي.
وقيل أيضًا إنه عندما غادرت القافلة نيسابور، قال العطّار عندما رأى الفتى يمشي وراء والده: «سبحان الله، إني لأرى المحيط يمشي وراء البحر».
في إحدى البلدات التي توقّفا فيها أثناء هروبهما، تزوّج الرومي، وهو في الثامنة عشرة من عمره، جوهر ابنة أحد أعيان مدينة لارندة. سأتذكّر دائمًا اسم هذه المدينة، لأن سيدي امتدح في بعض قصائده طعم فاكهتها الذي لا يمكن أن ينسى، خاصة «الشفتالو» أحد أصناف الخوخ الريانة.
أنجبت له جوهر ولدين، الأول سلطان ولد الذي قال الرومي إنه شديد الشبه به. وأصبح سلطان ولد ظلّ أبيه وكان يساعده في اتخاذ جميع قراراته، مهما كانت متناقضة أو متهورة، أما علاء، الابن الثاني، الابن العاق، فقد أصبح أيضًا «ظلّ» أبيه، لكنه كان ظلا مظلمًا، مليئًا بمشاعر الضغينة والعداء. وفي أحد الأيام، كان علاء سبب مغادرة، «اختفاء»، وقال البعض اغتيال «إله» والده، شمس التبريزي.
إنه شمس نفسه الذي، كما كتبتُ، وجد نفسه في قونية بعد عشرين سنة، في 26 جمادى الآخرة 642 ه (23 تشرين الأول (أكتوبر) 1244 م) عند باب خان تجار السكّر، يبحث، مثل أي تاجر ماهر، عن أندر السلع.
بدا أن وجود كلا الابنين عند وفاة الرومي يمثّل الصراع الأبدي بين الخير والشر. فقد كانا يشبهان جناحَي الملاك جبريل، جناح النور – الجناح الأيمن – الذي تنبثق منه الطبيعة المثالية (وهو سلطان ولد)، وجناح الظلّ – الجناح الأيسر – بمعنى آخر، الروح التي تهبط إلى العالم السفلي، ويجسّده علاء.
ذات يوم انتهى هروبهما. فلم يعد البحر يمشي، وبدأ المحيط يتدفق. وبناء على دعوة وجّهها لهما السلطان كيقباذ، بارك الله روحه، شقّا طريقهما صوب قونية واستقرّا فيها طويلا، وأصبحا في مأمن من فرسان السهوب الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة، ومن الأشخاص الجاحدين.
انحسر البحر وفاض المحيط. بدأ الرومي يدرس علوم ومعارف والده. وعندما مات الوالد لم يكن مولانا يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره. حزن الشاب كثيرًا على الخسارة التي لحقت به، لأنه لم يفقد والده فقط، بل فقد أفضل معلّم له. فسيظل تعليمه ناقصًا، ويتعين عليه أن ينتظر قدوم معلم آخر. وانتظر الرومي سنة كاملة مترقبًا.
مثل حد سكين يقص الحرير، تقدم المغول باتجاه غروب الشمس، فلاذ الإيرانيون بالهرب قبل أن تهرب جيوشهم، ووجد الكثير منهم مأوى في قونية. وقال البعض إنهم سمعوا كيف أن الفقيه المعروف في مدينة بلخ، برهان الدين الترمذي، قطع درسه فجأة، ثم تنهد وصاح: «واأسفاه! فقد ذهب شيخي سلطان العلماء من عالم التراب إلى العالم الطاهر. إن ابنه ينتظرني بلهف، ولا بد من أن أذهب إلى قونية وأسلّمه هذه الأمانة التي أودعها شيخي عندي».
من الطبيعي، في ذلك الزمن الذي عمّت الفوضى فيه كل مكان، أن تنتشر الرؤى والمعجزات والمصادفات الغريبة والنبوءات في أرجاء العالم. وعندما كان الرومي يسمع بها، لم يكن يعيرها أي اهتمام ولم يكن يجد فيها أي ذرة من الحقيقة. في أي نظام قال الترمذي هذه الكلمات، في أي شكل، في أي زمن؟ لم يعر الرومي أي اهتمام لهذه الأمور، لكنّه كان يعرف، بلا ريب، بأن الترمذي سيأتي ويكمل تعليمه الذي قلّ كثيرًا منذ وفاة والده. أما الترمذي فكان يعرف أن الرومي بحاجة إلى معلّم وأن من واجبه أن يذهب إلى الابن الحزين بأسرع ما يمكنه، وأن يعلّمه منى كلمة «الأمانة»، لأن هذا التعليم هو أثمن هدية يمكنه أن يقدمها له.
ملأ وصول المعلّم العجوز إلى قونية الرومي برغبات جديدة. فقد اختبره الترمذي في صنوف العلوم، وفي نهاية الاختبار، قال له: «لقد تجاوزتَ في جميع العلوم الدينية واليقينية مرتبة والدك بمائة درجة، لكن والدك العظيم كان كاملا في علم القيل والقال وعلم الحال».
«أريدك الآن أن تسلك في علم الحال»، قال لسيده الجديد، «وقد وصل إليّ هذا المعنى من والدك، فحصّل ذلك مني، لكي تكون، ظاهرًا وباطنًا، وريثًا لوالدك، وتغدو عينه».
كان الترمذي محقًّا. فقد كان الرومي يفتقر إلى العلوم الأخرى التي لا يمكن تعلّمها من قراءة الأطروحات العرفانية، بل بواسطة التأمل والاعتزال. وأسلم نفسه إلى مرشده الجديد مثل الميت كي يبلغ الحياة الأبدية، وكي يطلق طائر روحه جناحيه في فضاء الطهارة والصفاء. ثم وصف ابنه المحبوب لديه، سلطان ولد، هذا الانصهار بالأبيات التالية:
صار مريدًا له من أعماق الروح وطأطأ الرأس،
ورُفع كالميت بين يديه،
وعندما مات بين يديه أحياه،
بكاؤه عليه هو الذي أضحكه.
وهكذا أرسل الترمذي مريده الشاب إلى حلب ودمشق للدراسة. وفي ميدان دمشق، بينما كان في طريقه إلى المدرسة ذات يوم، التقى الشاب، لأول مرة، بدرويش نحيف، رجاه أن «يمسك بيده». وكما قلتُ سابقًا، لم يثمر اللقاء وعاد الرومي إلى رفاقه، بينما أدرك الدرويش، شمس التبريزي، أن الشاب لم «ينضج» بعد، وكان لا يزال «غرًا».
كان الرومي يعرف ذلك. ولدى عودته إلى قونية، قام بثلاث خلوات متتالية، بأمر من الترمذي، امتدت إلى ألف يوم ويوم، وهو عدد، وفق القيمة العددية للأحرف، يمثّل الرضا.
في نهاية هذه التجربة الطويلة، قدّم للترمذي وصفًا مفصّلا لرؤاه الباطنية العديدة. ففي إحدى هذه الرؤى، قال: «رأيتك. كنت تستمع إلى تعاليم أبي. كانت النار تلتهمك ووضعت كلتا قدميك فوق الموقد وسحبت بيدك الجمرات المحترقة».
قبّل المعلّم تلميذه، وقال له «أصبحتَ تمتلك الآن جميع أسرار الباطن وسر سير أهل الحقائق ومكاشفات الروحانيين ورؤية المغيبات». عندها انتهت فترة تعليمه، فسلّمه «الأمانة». فهاهو التلميذ يبزّ أستاذه الآن.
بعد أن أقام الترمذي في قونية عشر سنوات، قرّر الذهاب إلى مدينة القيصرية، ربما لأنه أدرك أن الظمآن أصبح بحاجة إلى جدول يتدفّق من نبع لم يعد له، فطلب من تلميذه السماح له بالمغادرة، لكنه لم يجبه على طلبه. فاضُطر المعلّم إلى عدم إطاعة الرومي وغادر دون موافقة الرجل الذي تعلّق به كثيرًا.
في طريقه إلى القيصرية، جمح حصان الترمذي ففقد السيطرة عليه وألقاه فكسرت قدمه. وعندما اضطر إلى العودة إلى قونية للعلاج، التقى بتلميذه الذي أصرّ على أن ينزع له حذاءه بنفسه. وسأله الرومي وهو يداعب أصابع قدمه المكسورة، «لماذا تتحاشانا؟»
فأجابه العارف العجوز، «إن أسدًا ضاريًا يقترب. إنه أسد، وأنا أسد أيضًا. فلن نتوافق».
تغلغلت تعاليم الترمذي التي تشرّبها الرومي وسرت في أعماقه، في كلّ عرق من عروقه، رسائل ناقل الحقّ هذا، وسمح للحكيم العارف العجوز، البئر، بأن يغادر. فقد أصبح الآن مهيئًا لاستقبال شمس التبريزي، الأسد المتنبّأ به، وفهمه.
لكن قبل أن يصل ذلك الوحش إلى قونية، نصّبت المدينة، ابن سلطان العلماء الذي بلغ السادسة والثلاثين من العمر، وريثًا شرعيًا لأبيه. فقد بلغه المجد، وبدأ الناس يدعونه «مولانا». ولم تفرغ المدرسة التي كان يلقي فيها دروسه من المريدين قط. فقد كان يحضر في يوم واحد أربعمائة طالب، من بينهم علماء دين وحكّام وأمراء، بل حتى السلطان نفسه، كان يحضر دروسه. وأصبح الرومي الذي يحترمه ويبجله الجميع، رجلا تقيًا لا يبزّه أحد في علمه وتعليمه. قمّة، نور لا نظير له.
كان مربوع القامة، رقيق الأنف، عيناه واسعتان هادئتان يجللهما حاجبان كثيفان قليلا، وقد بدأ الشيب يخط شعر رأسه ولحيته. وكانت شفته العليا تشكّل قوسًا رائعًا. كان يسير الهوينى، مستغرقًا في التفكير على الدوام، يجيب عن الأسئلة التي تطرح عليه دائمًا في أروقة المدرسة، وفي المسجد، وفي الشارع، وفي الحمّام. كان ودودًا، لكنه كان يحافظ على مسافة طفيفة من الشهرة التي تحيط بالرجل الذي كان يدرك قيمتها ومصدر مجدها. وفي بعض الأحيان، كان حجاب التأمل يجعله متجهمًا كما لو أنه انكفأ سرًّا إلى داخل نفسه، وراح يبحث في تلافيف ذاكرت? عن عبارة بعيدة، عن مثال، عن تفصيل لا يعرفه أحد غيره، مفاضلة، وميض مفاجئ.
لكنّ تلك اللحظات كانت نادرة. ففي معظم الأحيان، كان يتكلّم بحرية على شتى المواضيع، دون أن يُسأل، وتتدفق الأفكار، الواحدة تلو الأخرى، في حديثه دون أن يبدي أيّ جهد ظاهر، فيذهل مستمعيه، كما لو أن كلّ ذلك كان مسجلا في رأسه. هذا هو الرجل الذي سيستدعي، في وقت لاحق من حياته، وفي أحيان كثيرة، الصمت ويحتفل به.
كانت بشرته شاحبة، ويداه بيضاويتين، قلّما يحرّكهما عندما يتكلّم، كما لو كان صوته، في تلك اللحظات، لا يحتاج إلى أي شيء آخر ليعرب عن نفسه ويقنع مستمعيه. كان رداؤه أنيقًا ورزينًا.
وكان يشير إلى كتاب ويقول لأحد مريديه: «افتحه إلى أي صفحة تختار»، فيطيع المريد، ويقرأ أول كلمتين في الصفحة، ثمّ يقاطعه الرومي، ويكمل ما في الصفحة وعيناه نصف مغمضتين، بلا أي خطأ، ثمّ يفسّر له ما قرأه.
وعندما كان يزعجه أحد، كان يحافظ على هدوئه، مع أن تعليقاته كانت تتسم أحيانًا بالحزم. وفي معظم الأحيان، كان ينسحب من الاجتماعات مبكرًا، ويعمل حتى وقت متأخر من الليل، يقرأ كتبًا جديدة ويحضّر دروسه. وفي أحيان كثيرة، كان يجلب معه أحد دواوين العطّار، الشاعر الصوفي الذي يدعوه أستاذه.
خلال كتابتي هذه القصّة، أتذكّر صديقي ذريانوس اليوناني، الرجل الذي أمسك يدي، وأدخلني الدائرة المغلقة جدًا لمريدي الرومي. كنّا في أعمار متقاربة، في حوالي العشرين. كنا نمارس الرياضة ونلتزم ببهجة بقواعد المجموعة التي أصبح الرقص فيها شكلا أعلى من أشكال الصلاة. حتى اليوم، بعد أن تقدمت بي السن ووهن العظم مني، لا يسعني إلا أن أتذكر تلك الساعات اللانهائية من التمارين الرياضية التي أمضيتها مع ذريانوس. فبينما علّمني كيف أمسك بالعصا، عرّفني أيضًا على مبادئ الصوفية.
______
*خصّ المترجم خالد الجبيلي جريدة القاهرة بهذا الفصل، كما فعل سابقًا مع ترجمته لـ(قواعد العشق الأربعون) ونشر فصلاً كاملاً من الرواية على موقع (كيكا) وقد استقبل القرّاء ترجمته بحفاوة بالغة، ويشكر موقع طواسين الأستاذ سيد محمود رئيس تحرير القاهرة على نشر هذه المادة هنا لقرّاء طواسين.
مساء الخير وشكرا لفريق العمل على هذا المنبر. أود بعد إذنكم أن ألفت انتباهكم إلى أن الرواية المترجمة قد نشرت باللغة الفرنسية سنة 2004 وتضم اساطير وخرافات وأكاذيب يندى لها الجبين…الجزء المنشور بجريدة القاهرة لا يشكل سوى جزء من فصل يتحدث عن شمس الدين التبريزي ومولانا. فالرواية تشمل ثلاثة أجزاء أو كتب كما سمتهم: كتاب شمس تبريز وكتاب صلاح الدين زرقوب ثم كتاب حسام الدين جلبي…راسلت الجريدة والناشر والمترجم حول هذه الرواية المشينة وارجو أن تمدوا لي يد العون في إظهار حقيقة الأمر للقاريء. تجدون تفاصيل أكثر حول هذا الموضوع الذي اعتبره قضيتي على حسابي الفيسبوكي Aicha Mevlevi..في انتظار ردكم …تحياتي
ما ذا يعني يا صراف عالم المعاني؟
شكرا كثيرا على المعلومات ولكني اؤيد الدكتورة عائشة وفي انتظار ردكم