الشّجاعة جسر الإنسان إلى الكرامة

الشّجاعة جسر الإنسان إلى الكرامة

زراعة النّور في كون منشور 

الشّجاعة جسر الإنسان إلى الكرامة

بقلم: د.سعاد الحكيم

نعيش في عالم تختلط فيه المفاهيم لدى كثير من الشّباب وأيضاً من الكبار.. فكم من موقف علا فيه صوت شخص بالصراخ جراءة على جار أو قريب أو مارٍّ في سيّارة بجانبه في طريق؛ يصرخ وهو يظنّ صراخه مواجهة وشجاعة وإثباتاً لحقّ.. أو كم من زوجٍ غامر بمدّخرات عائلته بتهوّر ودون دراسة ولا استشارة وهو يظنّ ذلك شجاعة وفرصة لا تُعَوَّض. فالجريء العالي الصّوت، الضّخم الجثّة، القويّ البنية يظنّ في نفسه، وربما يظنّ فيه الآخرون، أنّه الشّجاع. وكذا المقدام والمندفع والرّكوب لكلّ المخاطر ذات المظاهر الواعدة، يظنّ اندفاعه وقراراته المتهوّرة شجاعة.. وهكذا فكثيراً ما يختلط مفهوم الجراءة بمفهوم الشّجاعة، أو يختلط مفهوم التهوّر بمفهوم الشّجاعة.

أما الشّجاعة الحقّة فهي خلق كريم، وعمادها: قوّة القلب لا قوّة البدن، وثبات الجأش عند مواجهة أمر شديد. وهي من أعمال القلوب لا من أعمال الجوارح. والشّجاعة قيمةٌ كبرى لها جنود عديدة داعمة وضروريّة وأهمّها: العقل والصّبر. فالشّجاعة تتأسّس على العقل، وتنقطع إن لم يمدّها الصّبر.

يقول المتنبّي مشيراً إلى أهميّة العقل للشّجاعة:

الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ                            هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني

فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ                بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ

وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ                    بالرّأيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ

أما علاقة الشّجاعة بالصّبر فقد دلّ عليها القرآن الكريم يقول تعالى: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ [الأنفال 65]. ويقول ابن القيّم: «وهو (أي خلق الشجاعة) يتولّد من الصّبر، وهو خُلُق حسن الظنّ، فمتى ظنّ الظَّفر، وساعده الصّبر، ثَبَت».

إذن، إنّ مثوى الشّجاعة في الإنسان هي القلب.. ولكنّ العديد من النّاس قد يتصوّر وجودها في الشّخص الضّخم القويّ الصّلب، فيلتفت إليه عندما يصيبه ضررٌ ظالمٌ عسى يهبّ لنجدته وينصره للوصول إلى حقّه. ولكن قد يخذله في كثير من الأحايين، تماماً كما يظنّ أنّ الغنيّ سيعطيه من ماله فيقصده في ضيقه.. والواقع؛ أنّ قوّة الإنسان البدنيّة ليست مرجعيّة كافية وحدها ليهبّ المرء لنصرة المظلوم ولكنّ المرجعيّة هي خلق الشّجاعة له سواء كان قويّ البنية أو رقيق البدن؛ فالقوّة أداة من أدوات الشّجاعة.. وكذا في العطاء ودعم الشّريك الإنسانيّ في القلّة وعند الحاجة، فالمرجعيّة هي كرم النّفس لا كثرة المال؛ وإن كان المال أداة من أدوات الكرم. وفي هذا السياق يقول كُثَيّر عزّة:

ترى الرَّجُلَ النَّحِيْفَ فتَزْدَرِيهِ                                وفي أثوابهِ أسدٌ هَصُورُ

ومن هنا فالشّجاعة هي خلق يظهر في موقف.. وهي ركن في منظومة القيم التأسيسيّة.. وبمعنى آخر، إنّ غيابها عند لزوم الموقف لها، أي إنّ الجُبْنَ يدمّر البناء الأخلاقيّ في الإنسان. وهذه المواقف التي تتطلّب من الإنسان أن يكون شجاعاً، ليست قليلة الحدوث، بل تطرأ كلّ يوم.. وإن نظرنا في حياتنا نجد أنّنا نحتاج إلى الشّجاعة في مواطن عديدة، منها:

– إنّنا نحتاج إلى الشّجاعة لمعاقبة أطفالنا تربية لهم. وأن نصبر على أنفسنا، ولا ننصاع لعاطفتنا، إن رأينا دمعهم أو حزنهم للحرمان الذي فرضناه قصاصاً تربويّاً.

– إنّنا نحتاج إلى الشّجاعة لاتّخاذ قرار صعب وربّما مصيريّ، كقرار الانتقال في العمل من مؤسّسة إلى مؤسّسة أخرى، أو قرار الهجرة، أو قرار الاستقالة من الوظيفة الحكوميّة للعمل في القطاع الخاص.. وأحياناً يحتاج القائد إلى شجاعة عظمى لاتّخاذ قرار يخصّ الجميع؛ ومنها القرار الحكيم الذي اتّخذه الخليفة الرّاشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه باعتبار مُنْكِرِ ركن الزَّكاة مرتدّاً ومحاربته.

ويقول الشّاعر في هذا السياق:

وعاجِزُ الرأيِ مِضْياعٌ لِفُرْصَتِهِ                    حتى إذا فاتَ أمرٌ عاتَبَ القَدَرا

– إنّنا نحتاج إلى الشّجاعة وتجاوز مخاوفنا للتّعبير عن رأينا، وخاصة إن كنّا فتياناً في مجلس شيوخ، أو كنّا مفكّرين وباحثين في بدايات الدّرب في مجلس كبار ومخضرمين. وأحياناً يكون إبداء الرأي واجباً لرفع الظّلم عن شريحة إجتماعية أو احتجاجاً على تطبيق قانون.

– إنّنا نحتاج إلى الشّجاعة لاحتمال ملاحظات ربّ العمل إن كانت محقّة، ولمواجهته إن كان ظالماً معتدياً (طبعاً حسن المواجهة أي الالتزام بالأصول والآداب في المواجهة).

ونتشارك التفكُّر للكشف عن ماهيّة الشجاعة التي تبني كرامة الإنسان وتُعلي قيمته الإنسانية في عين ذاته وفي أعين المحيطين به.. وتسعفنا في هذا التفكّر معرفتنا بالفكر الدَّندراوي حيث نجد أنّ الشّجاعة ليست اندفاعاً في الدّفاع ولكنّها تعاملات أربعة؛ وهي:

1 – الثّبات على المبدأ

إنّ التمسّك بالقيم الأخلاقيّة والمبادئ الإنسانيّة يكلّف الإنسان قليلاً أو كثيراً، وذلك بحسب موقعه في الوجود. فإن كان يعيش على هامش المجتمع وينحصر تأثيره في دائرة أهل بيته وزملاء عمله، فإنّ الثبات على المبدأ يكلّفه طبعاً ولكن ليس الكثير. ولكن إن كان الشّخص يشغل منصباً (وزاريّاً، حكوميّاً…) تتقاطع عنده مصالح النّاس، وخاصّة الأقوياء والأغنياء وأصحاب النّفوذ.. فإنّ التمسّك بالقيم والثّبات على مبدأ الاستقامة والشفافيّة ونظافة اليد واجتناب الفساد، سوف يكلّفه غالياً؛ وذلك تبعاً لنسبة تفشّي الفساد في الدولة والمجتمع.

إنّ المتمسّك بمبدأ من المبادئ، وخاصّة إن كان في موقع صنع القرار أو تنفيذ القانون، يتعرّض للغواية من أصحاب المصالح، غواية لا سقف لها ولا قانون، غواية بالمال وأحياناً بالنّساء والسّلطة.. وربما تنقلب الحرب الضّروس من الغواية إلى التحذير من فقدان المنصب والوظيفة بالإخراج من دائرة الفعل أو التجنّي بأشكال البهتان.

وقد يصاحب غواية أصحاب المصالح بعض الحثّ على الفساد من المحيط إن كانت البيئة ملوّثة بقلب المفاهيم، وأنّ الشّاطر يعرف كيف تُؤكل الكتف، ولا يهمّ إن كان «الكتف» صحّة المواطنين، أو أموال النّاس.

2 – نصرة المظلوم حتى يبلغ حقّه

إنّ المظلوم لا دين له ولا جنسيّة، فالحق دينه وجنسيّته. ومن هنا، فإنّ صاحب الخلق عندما يرى بعينه ظلماً وقع على إنسان، فإنّه لن ينتظر ليسأل عن دين هذا المظلوم وعن جنسيّته، بل سيهبّ لنصرته متحلّياً بالشّجاعة اللّازمة حتى يبلّغه حقّه. والدّليل، أنّ سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله، وكان له من العمر حوالي العشرين عاماً شهد مع عمومته «حلف الفَضول»، حين تداعت قبائل من قريش بعد حرب الفِجار، وتعاقدوا وتعاهدوا على ألّا يجدوا بمكّة مظلوماً من أهلها، وغيرهم من سائر النّاس، إلّا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى تردّ عليه مظلمته. يقول صلوات الله عليه عن هذا الحلف: ((لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحبّ أنّ لي به حُمْر النِّعَم، ولو أُدعى به في الإسلام لأَجَبْت)).

وحيث إنّ الظّلم يتسرّب إلى حياتنا العائليّة والاجتماعيّة، فكلّ إنسان معرّض لأن يشهد موقف ظلم، وهذا الشّهود امتحان له، هل يقف مع الظّالم يسانده لأنّه صديقه أو يخشى من مواجهته أم يقف مع المظلوم يمسح دمعه وجرحه؟! هل تستطيع المرأة أن تمنع زوجها أحياناً من ظلم ابنهما أو ابنتهما؟ وإن طلب الزّوج أن تقف معه زوجه ضدّ الولد ليرتدع، هل تساند أساليبه الظّالمة وإن كانت غاياته نبيلة؟! هل يستطيع الأخ أن يتدخّل لمصلحة أخته إن رأى ظلماً يقع عليها من زوجها، أم يطيّب خاطرها بكلمات وينصحها بالصّبر حتى لا تنهدم أركان البيت والعائلة؟! عالمٌ يتسلسل فيه الظّلم حلقات، ولا يوقف هذا التّسلسل إلا الشّجاعة.

3 – الرّضا عند نزول قضاء بعلّة

إنّ النّاس مراتب في استقبال قضاء بعلّة (مرض شاغل)، فمنهم المتأفف المتسخّط المعترض الذي يذمّ الأيّام وينعي حظّه السيّء، ومنهم المذعور الذي يفضّل أن يحتمي بالوهم ولا يريد معرفة حقيقة الأمر وخاصّة إن كانت علّته من الأمراض المستعصية على الشّفاء والمفضية إلى الموت.. ومنهم المثقّف القارئ الذي يذمّ التلوّث البيتيّ، وفساد المسؤولين على المستوى المحليّ والعالميّ، ويدعو للإصلاح وينبّه على أثر الثلوّث على حياة الإنسان. ومنهم المتقبّل المستعين بإيمانه على مرارة الصّبر.. وأعرف أشخاصاً عند صدمة المعرفة الأولى بفداحة العلّة قالوا عبارة واحدة مع افترار وجه: سلّمنا ورضينا.

يقول أبو عليّ الدقّاق رحمه الله: «ليس الرّضا أن لا تحسّ بالبلاء، وإنّما الرّضا أن لا تعترض على الحكم والقضاء». وقال المُحاسِبيّ رحمه الله: «الرّضا سكون القلب تحت مجاري الأحكام».

إنّ الإنسان لا يملك عند نزول قضاء بعلّة إلا أن يرضى، نسأل الله تعالى العفو والعافية، فالرّضى هو الأمثل لبدنه المريض، لأنّ قبول البدن للمرض برضى ربما يجعل تردّدات الآلام أقلّ وطأة، والله أعلم.

4 – الصّبر عند حدوث قَدَرٍ بقلّة

إنّ الصّبر على الإنسان عند حدوث القلّة شديد لأنّ من شروطه: ترك الشّكوى. ولذلك جعل الله تعالى جزاء الصّبر من عين الكرم الإلهيّ ولا يخضع لحساب معارضة، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر 10]. ويقول تعالى: ﴿وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال 46]. ويقول سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله: ((الصّبر نصف الإيمان)).

إنّ الرزّاق هو الله تعالى، وهو مسبّب أسباب الرّزق؛ إن كانت تجارة أو وظيفة أو مهنة.. وقد يربح التّاجر في يوم آلافاً عديدة، وقد يخسر تجارته كلّها في يوم قحط (كساد، حرب…) ويضطرّ إلى البداية من جديد.. إنّ مواجهة الخسارة الماليّة الكبيرة تحتاج إلى شجاعة ورباطة جأش من الإنسان حتى لا ينهار ويبعثر نشاطه بالشّكوى والتشكّي. وليست قليلة القصص التي نسمعها من أصحاب ثروات كبرى، عن الأساليب التي واجهوا فيها يوماً بشجاعة قدراً بقلّة.. وكيف أنّ هذه الشّجاعة أي هذا الصّبر كان سبباً في نصرهم.. وقد قيل، كما أورد ابن قتيبة في العقد الفريد: «النصّر مع الصّبر».

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!