أبو بكر الشبليّ: أسواق الدنيا وقيمة الإنسان
سعاد الحكيم
نزلتُ طبقات الدهر إلى القرن الثالث الهجري الموافق للتاسع الميلادي، وقصدت مدينة جديدة لم يمض على إعادة عمارتها وتنميتها لتُسِرّ من يراها، أكثر من ربع قرن..
بعيداً عن صخب بغداد، اختار هارون الرشيد في سنواته الأخيرة بلدة ريفية واقعة على الفرات، هي الرقة. أما المعتصم، أخو المأمون، فبعد أن رقي العرش اتخذ لنفسه مقراً جديداً في سامرّا، شرقي نهر دجلة على بعد مئة كيلومتر شمال بغداد، وعرّب اسم المدينة الفارسي في الاستعمال الرسمي فأصبح:”سُرَّ من رأى”..
رأيت سامرَّا بين دجلة وقناتين متفرعتين منه، في منعة حصن بحري، وجامع كبير بناه المتوكل ويستغرق صحنه الداخلي أربعة وأربعين ألف متر مربع أي حوالي السبع مرات صحن آيا صوفيا في استانبول.. رأيت المدينة في أيام صلاحها وعمارتها وزيادتها، في سنة ٧٤٢ هـ [١٦8 م] وهي السنة التي ولد فيها أبو بكر الشبلي وقُتل المتوكل..
وفي زمن “استبداد أمراء الجيش وتبدّل الحكام المتواصل” على ما يقول بروكلمان في تاريخ الشعوب الإسلامية، كان المعتضد الخليفة السادس بعد المتوكل، والذي نقل عاصمة خلافته إلى بغداد، ترباً للشبلي.
* * * * *
الشبلي تركي العرق، رجل جاه وغنى، كان وأبيه من موظفي البلاط العباسي في سامرَّا، أيام شوكة العنصر التركي، ثم تسلم إمارة إقليم..
لقد عاش ثلاثين عاماً قبل أن يتوب، عاش شاهداً على الظلم والاستبداد والعذاب والمصادرات، ومشاهداً لتحوّل الإنسان من حال إلـى حال، من الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى الضعف، ومن السلطة والخلافـة والعـز إلـى الموت صلبـاً أو ذبحـاً وأحياناً التـرك عاريـاً فـي الشوارع على مرأى من الناس…
لقد ولاّه الموفّق – في زمن خلافة أخيه المعتمد – إمارة دماوند… والموفّق كان ” ملكاً جباراً مطاعاً بطلاً شجاعاً كبير الشأن”، ثم رأي الشبلي نهاياته وقد أصابه داء النقرس، حتى قال: “في ديواني مائة ألف مرتزق ما أصبح فيهم أسوأ حالاً مني “.
آلاف الناس يشهدون يومياً تحولات الأحوال… ويبقى التحول الذي نراه في الآخرين، لدى الواحد منا في حيّز الخبر، نتأثر به آنياً ولكنه لا يغيّر حياتنا، دقائق معدودة من الصمت والإطراق والحزن ثم نستأنف مسارنا كأن شيئاً لم يحدث.
ولكن بعض النفوس الحيّة، تظل تتفاعل فيها أخبار الناس وتتراكم حتى تحدث نقلة في نمط حياتها.. وها هو الشبلي يعود عام ٨٧٢ هـ، وهي السنة التي توفي فيها الموفّق، إلى إمارته ليبرّىء ذمته من الفلاحين والعاملين تحت إمرته، فيقول:”أنا كنت صاحب الموفّق، وكان ولاّنـي بلدتكم، فاجعلوني في حلّ”..
* * * * *
اتخذ الشبلي طريقة إلى خير النسّاج ليسلّمه قيادة نفسه ويكون له “مريداً”، فوجهه إلى استاذ الصوفية قاطبة في زمانه وهو: الجنيد البغدادي.
دخل الشبلي مجلس الجنيد.. وقال له، على حسب بعض الروايات: لقدحدثوني أن عندك جوهرة العلم الربّاني، فإما أن تمنحنيها وإما أن تبيعنيها. فأجابه شيخ الطائفة: لا أستطيع أن أبيعكها، فما عندك ثمنها. وإن منحتها لك، أخذتها رخيصة، فلا تعرف قدرها.. يا أبكر بكر، إن في رأسك غـروراً، ولن يكـون فيك فائـدة إلا إذا قصدت السوق واستجديت كل من لقيتـه من الناس لتعـرف قيمتـك.
ظلّ الشبلي يستجدي في السوق عاماً كاملاً، دون أن يلتفت إليه أحد أو يهتم لأمره..
ونترك أحداث القصة جانباً لنهتمّ بالدرس الذي أراد أن يعطيه الجنيد للشبلي من خلالها.. لقد أراد أن يبرهن له أن الإنسان كشخص لا قيمة له عند معظم الناس، وأنه- إن وضع في السوق – فهم فيه من الزاهدين، ان غالبية الناس لا ينظرون إلى ذات الإنسان بل إلى ممتلكاته ومكتسباته ومركزه وفعالية مواقعه، ويقدرونه اعتماداً عليها.. لقد أراد الجنيد أن يحرر الشبلي من الإلتفات إلى الناس ليُقبل بكليته على اللّه.
* * * * *
وأقول، طوبى لزمنٍ كان البيع والشراء فيه يتم في السوق فقط، وأخال الجنيد يصعق لو دخل دنيانا، من منظر الأسواق الممدودة في كل مكان.
ندخل إلـى مؤسسة لنطالب بحق من الحقوق فنجد سوقاً.. نلتفت إلـى العلاقات الإنسانية والروابط الاجتماعية لنمدّ جسوراً فنجد سوقـاً.. لقد حكمت علاقات السوق تفاصـيل حياتنا وأخضعتنا لمعاييرها وقيّمها..
* * * * *
رأيت الشبلي يخرج من أسواق الدنيا، نقيّاً من الأغيار، هو هو صرفاً.. وقد حركت الحرية إبداع مشاعره فـي كل اتـجاه، فتلوّن فـي الأحوال: غاب ووجد، سكر وصحا، جنّ وعقـل، نطق وصمت..
يبلّغ الناس ما يسمع من نداء الدنيا، فيقول:
قد نادت الدنيا على أهلها – لو أن في العالم من يسمع-
كم واثقٍ بالعمـر وارَيْتـه وجامع فارقـتُ ما يجمـع
ويقول راصداً تغيّر قيم العشق بين الناس:
لا تُشْغَلِ اليوم بالصباباتِ فالعِشْقُ ضربٌ من البليّـاتِ
قد كان فيما مضى الهوى حسناً يبذله سادةٌ لسـاداتِ
* * * * *
وتوالت أشعار الشبلي في العشق الإلهي.. حاملة لتصريحه بالجنون والكتمان، معلنةً تخلل روحه بالحضور المقدس..
باح مجنونُ عامرٍ بـهواه وكتمت الهـوى فَـفُـزْتُ بـوجـدي
وإِذا كان فـي القيمـةِ نُـودي: أيْنَ أهْلُ الهوى؟ تقدَّمْتُ وحدي
ليس تخلو جوارحي منك وقتاً هي مشغـولـةٌ بِحَمـْلِ هـواكـا
ليس يجري على لسـانِيَ شـيءٌ – عَلِمَ اللّهُ ذا- سـوى ذِكراكـا
وتمثَّلْـتَ حين كنتَ بعيني فهـي – إِنْ غبت أو حضـرت- تَراكـا
ذكرتك لا أنّي نسِيْتُك لمحة ً وأيْسَرُ ما في الذكـرِ ذكرُ لسانـي
وكِدْتُ بلا وَجْدٍ أموتُ من الهوى وهـام عليَّ القلبُ بالخفقانِ
فلما أراني الوجدُ أنَّك حاضري شَهِدتُـكَ موجـوداً بكل مكـانِ
فخاطبتُ موجوداً بغير تكم ولاحظـت معلومـاً بغيرِ عيـانِ
قد تخلَّلْتَ مسلكَ الروح مِنّي ولـذا سُمِّـيَ الخليـلُ خليـلا
فإذا ما نطقتُ كنتَ حديثي وإذا مـا سكــتُّ كنـتَ غليـلا
* * * * *
وقفت أمام الشبلي الذي استطاع أن يكون ذاته في أزمنة الاستلاب، ورفض أن يُعرض ضمن البضاعة المزجاة في سوق الدنيا الكبير، فلم يملكه شيء وكان كلّه للّه..
أنصت إلى أقواله لمريديه وسائليه.. فسمعته يقول:” الصوفي لا يرى في الدارين مع اللّه غير اللّه”.. “لو خطر ببالي أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشركاً”.. ساءَلته عن نفسه، فقال:”كتبت الحديث والفقه ثلاثين سنة حتى أسفر الصبح، فجئت إلى كل من كتبت عنه فقلت: أريد فقه اللّه، فما كلمني أحد”..
ثم شبّه نفسه بشخصين، بمجنون بني عامر وبالحلاّج.. فقال:”أدخلت المارستان كذا مرة فلم أزدد إلا جنوناً”… “هذا مجنون بني عامر كان – إذا سئل عن ليلى – يقول: أنا ليلى. فكان يغيب عن ليلى حتى يبقى بمشهد ليلى، ويغيّبه عن كل معنى سوى ليلى، ويشهد الأشياء كلّها بليلى”.
أما عن الحلاّج، فقال:” أنا والحلاّج شيء واحد، فخلّصني جنوني وأهلكه عقله”.
* * * * *
في الليلة الأخيرة من حياته.. ناجى ربّه بأبيات لعبد الصمد بن المعذّل أو لديك الجن.. فقال:
يا بديع الدلّ والغنـج لك سلطانٌ علـى الـمُهَـجِ
إنَّ بيتـاً أنت ساكنُـه غير محتاجٍ إلـى السُـرُجِ
وجهُك المأمول حُجَّتنا يوم يأتي النـاس بالحججِ
وظل يقول هذا الشعر حتى انطلقت روحه من حيز البدن الفاني إلى معدن الخلود*.
* انظر شرح العبارة في اللمع، للسراج ص ٧٨٤