الصورة الإلهية عند ابن عربي
قراءة في مشروع محمّد أمعارش
بقلم: محمّد هاشميّ
استطاع محمد أمعارش، أن يجعل من اسم محي الدين ابن عربي، المعتّق في الخطاب الصوفي، روحا يمكن إذا ما استعملناها وإذا ما استوعبناها، وإذا ما تقمّصناها أن نخلق في أنفسنا قابلية التعدد، وأن نخلّص أنفسنا من هذه اللوثة، التي لها الكثير مما يبررها؛ وهو أن كل تدين لا بد أن يمرّ من خلال التمذهب، وبالتالي من خلال التشنج على الذات والانغلاق عليها. في حال أن تجارب من هذا القبيل- بالخصوص النص الأكبري- تسمح لنا بأن نتدين وأن نتعاطى لما شئنا من المتع الروحانية، لكن دون أن نقع في الأحياز الضيقة العقائدية، التي أدت بنا إلى شنعات حقيقية.
للصوفية لطيفة من اللطائف البديعة في تصوير أهمية ما لا يُرى من أجل ضبط ما يتجلى و ما يتبدى أمام العلن، هذه اللطيفة، أو هذا المصطلح الصوفي هو كلمة الْعَمَدْ، الذي كما يدل في معناه المعجمي “ما يُعتمد عليه في الإنشاء والإقامة، فلا تستوي الخيمة إلا بعمَد” لكن بالإضافة إلى هذه السواند الآلية، يتحدث الصوفية عن العمد المعنوي، أو ما يجعل أمرا يقوم، لكن دون أن يكون في مقدرتنا أن نلامسه أو نعاينه، وهو ما أشارت له الآية الكريمة من سورة الرعد “الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها”.
في ظني أن كل الأعمال الفكرية الصلبة، لا بد وأنها تتهيكل متكأة على عمَدَين؛ عمد ظاهر وعمد خفي، فمن جهة هناك البناء التأليفي القائم على منطق متميز، بحسب الموضوعات و تبعا للاختيارات المنهجية والفكرية لصاحب العمل، يتجلى ذلك في الجسم المكتوب، و في معجمه و مسلكياته الاستدلالية، و يمثل هذا العمد المرئي سحنة الكتاب ولُكنته ، ومشربه و مضربه، إذ تكاد مقدمة الكتب أن تُسَطّر بلغة كناش الحالة المدنية حسب عبارة ميشيل فوكو، فهي تسارع في الغالب، إلى الكشف عن غرمائها، وأصفيائها وهويتها، قد يكفي أحيانا أن تقرأ ديباجة التقديم حتى يتكشف المؤلِف في صورته المذهبية.
و إذا ما استكشفنا هذا الملمح الأولي في عمل الأستاذ محمد أمعارش، نجد أنفسنا قبالة رجل مُركّب القسمات، ولعل ذلك يتضح من العنوان نفسه النص والاختلاف، هرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي، فما بين مطلع العنوان ومقبعه، توجد أبواب شاسعة تحيل من جهة، إلى فكر معاصر في نسخته ما بعد الحداثية( في مقاربتها لمفهوم النص، الذي من المهم أن نفصله عن المعنى التقليدي لمفهوم الكتاب)، وكذلك من خلال استحضار مفهوم الاختلاف la différence، الذي يمثل نواة مركزية لفكر ما بعد الحداثة، وهو يراجع منطق الهوية الذي حكم تاريخ الميتافيزيقا الغربية، ثم كلمة “هرمينوطيقا” بما تحمله من تلوينات فكرية واستكشافية، وحوار عبر العصور.
لكن سرعان ما سنجد أنفسنا، بعد هذه العبارات وهذا المعجم ما بعد الحداثي للعنوان، إزاء عبارة بالغة التركيب، تحيل في نفس الآن إلى الاركيولوجيا والسيميولوجيا، أقصد “الصورة الإلهية”، لكي نصل أخيرا إلى المنتهى ، وإلى القاب قوسين أو أدنى، متمثلا في اسم الشيخ الأكبر، والذي دعي أحيانا بالشيخ الأكفر، وهو محي الدين ابن عربي.
هناك إذن، شيء ما في عنوان الكتاب يرسم تلك الملامح المركبة للأستاذ أمعارش، هذا الأستاذ الذي لا يصل إلى لحظة التراث إلا بعد إقامة طويلة في لبابة الفكر الحاضر المعاصر، لكنه لا يشتغل على الأدوات الفلسفية المعاصرة، إلا وعينُه على هذا الماضي الحاضر الذي يسكننا، هذا يجعل قارئ هذا الكتاب بين مناخين فكريين مختلفين، حتى من جهة المعجم، إذ تتساوق العبارة الصوفية والمفردة الفصيحة المعتقة، مع الاصطلاح المعاصر التقني، الذي يمتح من طيف واسع من النصوص المركزية سواء الظاهراتية أو التفكيكية وغيرها.. لكن لا يفيد هذا، أن الرجل يتوسل الآداب المعاصرة لأجل التنقيب داخل ركام ميت من التراب، فهو لا يسلم للتفوق الأداتي المعجمي المعاصر، إذ كثيرا ما يفاجئ قارئه بفوائد إحالية من المتن الأكبري، تجعلنا نكتشف مدى راهنية اللغة الصوفية في استيعاب مقولات الفكر المعاصر، سواء تعلقا بفعل الكتابة أو التخييل أو مقاربة الأسئلة الأنطولوجية وغيرها.
إن العمد الملموس في هذا الكتاب، هو حسب عبارة كثيرا ما يوردها الكاتب: الانجلال، إن لغة ومفاهيم الباحث كانت دائما منجلة، إنه عمد مجدول من حبال الماضي ومن خيوط المعجم المعاصر الفلسفي، وكل ذلك متركب بذوق صوفي…
لكن ماذا عن جهة العمد المعنوي؟ عما لا يرى داخل النص رغم أنه حاضر و فاعل، أعتقد، في جواز الاقتراب من هذا المتخفي، إذا ما استحضرنا قصدية التأليف البعيدة، فهناك مبتغى، أحسب أنه يشد كل منطق الكتاب ويبرر اختياراته، وهو ما يمنحه قيمة وثقلا في ميزان الأهمية العملية، يتجلى ذلك في دفاعه عن إمكانية استخلاص فهم تعددي لروح الدين نفسه، متمثلا في ما يدعو بالقراءة البرزخية، التي عوض أن تسيّجنا في زوايا ضيقة لقيمة الصحيح والخطأ، تراهن أكثر على أن تجعل مجل الحضور الإلهي مفتوحا على كل الإمكانات وكل الإرادات، فهذه التعددية التي يمكن بناؤها من النص الأكبري، و يتجاوز القراءات الحرفية للنص الديني و كذلك يتجاوز الاختزالات العقلية للخطاب الكلامي و الفلسفي، هو في ظني، ما يمثل العمد العميق للكتاب.
من الصعب جدا في هذا المقام، أن ندّعي القدرة على متابعة تفاصيل عمل الأستاذ أمعارش، فهذا نص يعتني بدقائق التفاصيل، الصوفية يتحدثون عن السمسمة، الحقيقة السمسمة، أي الحقيقة الدقيقة، و الكتاب مليء بهذه الدقائق، وهو من المؤكد وليد صحبة طويلة للكاتب مع أعمال الشيخ الأكبر، وعلى الخصوص كتاب الفتوحات المكية، الذي مثل بالنسبة للأستاذ أمعارش الورشة والمحراب. إذ كان يمتح في الغالب من هذا النص البحر الزاخر بالكشوفات والفتوحات… مثّل محرابا لما نراه في الغالب من تماهٍ بين لغة الكاتب ولغة الشيخ، وحدّا يجعلنا من حين لآخر نعود لنتأكد من معقوفتي الاستشهاد، وكثيرا ما نفاجأ أن الكاتب القارئ قد انطبع فعلا بفخامة الصورة والعبارة الأكبريتين.
لكن عوض محاولة الإلمام بكل تفاصيل الكتاب، سنحاول أن نعرض ما يمثل في اعتقادنا، الحدس المركزي للعمل، و هو ذلك المثلث القرائي، الذي يتشكل من ثلاث مناطق في مقاربة مفهوم الألوهية، سواء كعقيدة أو فكرة أو صورة، وهي على التوالي:
القراءة المرجعية التمثيلية، والقراءة التأويلية التمثيلية، والقراءة البرزخية التخييلية. وهي قراءات تترجم في الواقع ثلاث حساسيات، تقاسمت الطبائع الفكرية في المجال الديني: حساسية الفقيه الذي يمثل صورة الوفاء، لما يعتبر ظاهرا صرفا لا جلوب خفائية لديه، ثم حساسية المتكلم والفيلسوف الذي يمثل، اعتدادا مضادا لتبعية الفقيه بسلطة العقل على ترجيح تأويل، أو تأويل باتّ لدلالة النص، ثم الحساسية الصوفية، التي تسعى إلى التعامل مع النص الديني بتوتره الحي. ولهذا فهي شديدة التبرم_ هذه القراءة الصوفية_ شديدة التبرم من أسيجة الرسوب، وبالغة التطلع إلى فتح التخوم، وهذا ما يدعوه المؤلف بالتفجير والتحجير.
إن البطانة المستترة خلف فضيلة الوفاء الفقهي للنص، هي في الواقع رغبة دفينة في تحنيط النصوص وقتلها من خلال الحجر على فاعلية القراءة، التي ينبغي لها بالضرورة، أن تتأتى حسب الفقيه حيث يُسطَّر لها ذلك مسبقا، فقراءة من هذا القبيل لا تجد في واقع الحال شيئا، لأنها بكل بساطة لا تتجشم عناء البحث والترحل مبتدأ، فهي ما فتأت، تعاود نفس المضرب الفكري، إنها قراءة مقيمة، من هنا شغفها بوضع الحدود وتسييج الأحياز، الأمر الذي يجعلها بطبيعتها، تنظر إلى الترحل والخروج عن الأطر، من حيث هو استعلاء، وهذا ما يستعدي الحساسية الفقهية ويجعلها مشحونة بمشاعر الممانعة قبالة كل قول أو تخريج تأويلي، يتجرأ على التملص من المرجعية الحرفية للنصوص المقدسة.
إنها قراءة- قراءة الفقيه- تؤسس لداخل ظاهر، ضد كل خارج خفي، ولهذا يمكن القول إنها تشكل على نحو ما سطحا متقعرا تنجلى فيه كل المعاني الممكنة وتكتفي، وهذا ما يستعيد أحد المعاني الاشتقاقية القديمة لكلمة قراءة، التي تفيد التجميع والحبس ..لكنه قعر وليس عمقا، مادام أن هذه القراءة ترسخ فكرة السطح الشفيف غير المتكدر بأي شوب غريب، إنها بشكل ما، فكرة الطاهر الظاهر كما يقول الصوفية، التي عنى بها الصوفية أنفسهم العصمة الإلهية لشخص ما عن المعاصي، فخوف الفقيه دائما أن تقول القراءة معصية.
هذه القراءة حسب الأستاذ أمعارش، ناقلة للأثر، لكنها لا تحيل أثرا في عين أو في غير، فهي تدور حول سند رسومي يفتقد إلى السند الروحي، وهو ما يجعلها حسب استعارة أبي مدين شيخ ابن عربي، قديدا: يتحول في يد القارئ إلى قديد، وينتهي إليه الفقيه بعد أن يخضع اللحم الطري إلى عوامل التجفيف والاختزال، يقول أبي مدين “أطعمونا لحما طريا” لا تطعمونا قديدا، وما يبحث عنه الأستاذ أمعارش هو أن يخرجنا إلى النص الطري.
ما يجعل هذه القراءة المرجعية موضع استنجاد ضمني داخل الكتاب هو الطابع السلبي أو التعطيلي سواء للنص أو للقارئ، ومن هنا افتقادها لأي حس هرمينوطيقي، لأنها بشكل ما تلغي أفق انتظار القارئ، وتسجن النص في نقطة زمنية مغلقة غير قادرة على فتح الحوار أو استعماله، بينما ما يهم الأستاذ أمعارش هو بالضبط خلق هذا الأفق، المفتوح بين قارئ معاصر وبين متن قديم.
إن كلمة هيرومنطيقا في الواقع هي في عمقها مجرد صياغة مختلفة للهوية الحداثية للكاتب، على اعتبار ما سيقدمه من خلال متابعته الدقيقة للمقولات التقليدية حول صورة الألوهية، التي تبدو ذات أهمية داخل النفس الاستدلالي العام للكاتب إلا من جهة كونها تمرين ذهني، لا يهتم بالمضامين التقليدية نفسها، بقدر ما ينصب على الآليات المتحكمة في هذه المضامين، فقضية التشبيه والتفويض والمضاهاة والمنازلة والمماثلة، تحرك الجهد التحليلي للكاتب الذي لا نجده أبدا ينخرط بشكل مباشر في أي مفاضلة تيولوجية، إلا بقدر ما يسمح له ذلك بأن يخرجنا من العقائديات المغلقة والمعطلة لفاعلية القارئ نحو مناخات أخرى أكثر تناسبا مع مطلب الحداثة الذي يلتصق ضرورة، بمطلب الحوارية.
لهذا نجد قراءة الكاتب للنقاش الشهير حول مسألة الذات والصفات، والذي سيجريه بمهارة ودراية كبيرة انطلاقا من القراءات المختلفة، للحديث النبوي ” إن الله خلق آدم على صورته”، ستسعى إلى إظهار ما جدوى القراءة المرجعية التشبيهية، لأنها في كل مرة، وهي تحاول إقفال باب الحوار والنقاش عبر تصرفها الاحترازي ضد التأويل تنتهي إلى باب مسدود، فعبارة صفة لا كالصفة هي على مستوى البنية المنطقية صيغة لا تدل على معنى وإنما على آلية دفاعية، في الواقع تخشى أن تصرح بشيء ما.
ما ينتبه إليه المؤلف، هو أكثر من مجرد تسفيه البنية التبديلية لصورة الإله، سواء في صيغتها التشبيهية الأولى أو في صيغتها التمثيلية، إن الذهنية الدفاعية لهذه القراءة قد بلغت دون قصد منها إلى حقيقة الصورة الإلهية، الكامنة في ذلك التوتر نفسه الذي كانت تسعى إلى إخفائه أو طمسه من خلال آليات الإثبات أو النفي، وهنا نجد جرأة واضحة في مواجهة إشكال القراءة، فعوض أن نعتبر أن التوتر، توتر الصورة الإلهية، ناجم عن المتلقي وعن حدود فهمه، علينا بالأحرى أن نعترف بأن بنية الأسماء الإلهية نفسها مسكونة بهذا التوتر، فكما لو ان الكاتب يرفض في نفس الوقت، الضحالة الشفيفة والسطحية للفقيه والثقة الزائدة في سلطة العقل الفلسفي الذي يسعى إلى أن يحسم الأمر، حيث ان الحس الهرمينوطيقي للمؤلف يجعله يسعى للحفاظ على هذا التوتر، بكل ما يصاحبه من غموض ومن التباس ومن عناء، فالقراءة بالنسبة له ليست إقامة في هذا الطرف أو ذاك، بل هي عبور، وذلك حسب لفظ العبارة نفسها، وهذا بيان جملة ابن عربي “عين الأمر في النفق”.
إذا كانت القراءة السابقة، محكومة بفضيلة الوفاء، فإن نزوع القراءة التأويلية محكوم بحس دفاعي apologique، إن المتكلم مصارع، لأنه في دود ومنافحة مستمرة عن صورة الألوهية ضدا عن الأعداء الداخليين والخارجيين معا، ولقد بدلت آلية التنزيل مفتاح موقف هؤلاء، من كل المناوئ التشبيهية التي تمس بمطلب اللياقة مع الله، على أساس أن هذا الأخير يقتضي منا جهدا منحنا ملكته المتمثلة في العقل لأجل البلوغ إلى حد وتعريف يليق بالله.
القراءة التأويلية إذن، تعتبر أن المقاربة الحرفية للنص، هي تشويش عليه، وخلط ما بين الحقيقة وما بين المجاز، وإقبار للنص في ظواهره، عوض تأويليه بما يناسب حقيقته المتخفية وراء المجاز.
هذا يجعل هذه القراءة مسكونة بالسلطوية المضادة، لما روج له الفقيه، لذا كان هذا الأخير يربط مرامي قراءته بما يتناسب مع الحس العام الذي يمثل العامي، صورته المجسمة، وهو ما يسمح له بأن يستعمل سلطة العوام من أجل تحقيق نظره وقوله، فإن القراءة التأولية تتعامل بتعال مع السلطة العامية، وتراهن على مباركة أخرى قائمة على إقامة توافق بين العقل وبين النقل.
هنا تبتدئ أصالة وقيمة القراءة الثالثة، التي يدعوها الكاتب بالقراءة البرزخية التخييلية، وذلك لقدرتها على أن تتجاوز أعطاب القراءتين معا، دون أن تجعل من نفسها غريما لهما، فهي تجري عليهما نوعا من الرفع الهيغيلي، إنما تتجاوز وتستوعب، مع إبقاء مستمر على التوتر الحي للنصوص، لهذا فهي هيغيلية فقط في صيرورتها وليس في منتهاها، مادام أن مطلق ابن عربي لا يتوقف عن المجاوزة للحدود المسطرة.
إن القراءة البرزخية تتوجه من حيث المبدأ، إلى تفجير النصوص,,, معتمدة في ذلك على كل ممكنات هذه النصوص، سواء كانت لغوية، شرعية أو كلامية، وهذا ما يفسر، التلوينات الخطابية المختلفة المشارب في كتابات ابن عربي، إنه ينقب في المكنونات اللغوية للشعر وللحديث، كما أنه لا يستكثر على نفسه ضمان أسارير النصوص الشرعية، ولا ينأى عن استحضار الأحكام الفقهية، إلا أن حضور كل ذلك في نظام خطابه مرصود لأن يرتص على منوال خلافي، فالشاهد الشرعي واللغوي ما يكاد يحضر في كتابة ابن عربي حتى يأخذ صورة مغايرة، فكل ما يرتق في الخطابات الأخرى، يفتق في هذا النوع من القراءة، ويبدو ان مصطلحي الفتق والرتق يشكلان معا الصورة البلاغية التي يستحضرها الكاتب في معرض مدخله إلى النص والقراءة.
إن القدرة التوليدية للقراءة البرزخية، هي تجاوز للثنائيات البلاغية والمنطقية في نفس الآن، وبذلك فهي قوة إحيائية سواء للخطاب الفقهي أو الخطاب الكلامي الفلسفي، على اعتبار أنها تتجاوز فضيلة الوفاء، وثنائية الأصل المرجع، والتفريع المبتدأ الذي مثّل غريم الفقيه، أو ثنائية النقل والعقل، من خلال جعل هذا التوتر نفسه منطلقا للكشف والفتح، فالقراءة بهذا المعنى لا تنغمر في النص مضحية بالقارئ على النحو الظاهري، ولا تجعل النص تحت إمرة السلطة التأويلية للقارئ بل تفتح أفقا آخر نحو أصل بعيد وقريب في نفس الوقت، أول وآخر، ظاهر وخفي، هو ما يسمح بسريانه، لا في الكتاب وحده ولا في القارئ عينه، بل في كل هذا العالم الذي يتحول إلى كتاب مفتوح يسري فيه معنى منبت، هذا المعنى الداوي هو ما يجعل عالما من هذا القبيل لا يتمفصل حسب المقولات الأرسطية الشهيرة، الكم والجوهر..مما يجعل الخطاب الانطولوجي قاصرا على استيعابه، عوضا عن ذلك يحتاج هذا العالم إلى هرمينوطيقا لامة وكونية
لقد تمكنت هذه القراءة من حيث هي تأويل لتجليات الأسماء الإلهية، من خلق وشيجة بين مكونات الوجود، من شجر وحجر، وأدناس وأقداس، هي في المنتهى مجرد تنويعات عن الصورة الأولى التي تتجلى في كل مرة على شاكلة، لذلك سيكون المطلب الأساسي للقراءة البرزخية، هو التنقل بين الصور والاحتفاظ بتنوعها القائم على التوتر الحي الجامع للأضداد والقابل للمحاداة، من هنا كان الخيال ملَكة مركزية لقابلية الإنسان لتأويل العالم، في هذه الملكة وحدها، ما يمكن الإنسان من العروج في رحلة أحواله ومقاماته، وسوف يظهر لنا الأستاذ أمعارش بكثير من التماهي مع نفَس ابن عربي، كيف ستخرج الصورة الإلهية من امتناعاتها التشبيهية والتأويلية بعد أن تتحرر من ضيق مطلب الترجيح، لأن البرزخية عند الصوفية، هي الإقرار بالجمعية، دون ميل لطرف دون الآخر،،، إنها نفس رحماني يجعلنا نعرفه حين نعرف أنفسنا كخلق، ونعرف أنفسنا حينما نعرفه كحق، دون أن نضحي بأحد لأجل الآخر، لأن الأحديّة الرحمانية تسع كل شيء، فالرب حق والعبد حق.
إن معرفة صورة الله لا تنتهي إلى مستقر، هي تولد حي لا يتوقف، إلا لكي يسير من جديد، فغايتها ليست الهداية، صورة الله تنفلت منا دون توقف، لذلك لا يتوقف الصوفي، والمسلم عموما على إعادة الشهادة، لأن هذه الأخيرة ليست عبارة شرعية، هي ليست شهادته كشاهد، فالله غير قابل لأن يُستوعب بجمل إشارية ما عرف من أشار. مع هذه الفتنة الأصيلة المتمثلة في الله التي يحملها ابن عربي في قوله إن “الأمر حيرة”، ولذلك فالقراءة البرزخية الجامعة لا تعتبر أن الحيرة نقص ينبغي استكماله، ولا هي عجز ينبغي الاحتيال له، بل هي أصل لا يصح منا إلا قَبوله والانتماء إليه، هذا ما يسمح بخلق مجال إنساني مرن قابل لكل الأضداد، وهذا ما يجعل ابن عربي مدخلا لأخلاق تعددية، تفسح مكانا للجميع دون أن تتصلب على مركز متشنج، الحيرة دور وفكر بلا مركز ينتهي إليه الأستاذ أمعارش.
إن نقد المركزية المعرفية والسماح ببناء مجال تنطوي هوامشه في بعضها البعض، يفتح أمامنا آفاقا كبرى للنظر وللاعتبار.
إنني لم أعد في هذه القراءة إلا إلى جزء يسير من هذا العمل الفخم، لكنه الجزء الذي أعتقد أنه يمثل العمد الخفي المتواري وراء الظاهر التيولوجي موضوع الكتاب، أقصد توفير منطق للتعايش من خلال نقد المفاهيم الدينية التقليدية وتحريرها من الثنائيات القاتلة، كفر وإيمان، حقيقة وخطأ، إله وعبد، أعلى وأسفل.. فهذه الجامعية المفتوحة هي ما يجعل الله ممكنا دون أن يكون الإنسان مستحيلا.
اتصور بان عنوان المقالة دالة على ما يذكره الانجيل من قوله بان” الله خلق ادم ع على صورته” وبصيغة اخرى “على صورة الله خلقه”. فانه ماتميز به خلق ادم ع وعيسى ع وحواء بانهم لم يرثوا من الصورة البشرية التى تاتى عبر المواليد .فنسبه الصورة لا كونهم جاءتهم صورة الهية وان كان الله صورهم بل صور كل ما خلق اي اعطاه صورته. فالقول بان الله خلق ادم على صورته اى على صورة ادم وحسب دون تدخل اشباه صور من الاب او الام او الاجداد. و نفخة الحياة انما جاءت من نفخة رب محمدا لان تجليات الربوبية على قدر العبد المقدرة من عندربه. لكن مما يلفت الانتباه بان المقالة لم تستشهد بمقالة ابن العربي فى صدد موضوع المقالة تلك والسلام