القرآن في التّديّن الصّوفيّ
عبد السّلام الحمدي
الملخص:
مازال النّصّ التّأسيسيّ للاجتماع الإسلاميّ موضوعا إشكاليّا محرّكا لسواكن الفكر، لا ينقطع تواتر الدّراسات المتعلّقة به والبحوث في قضاياه الاعتقاديّة والتّأويليّة، فضلا عن كونه مثارا للمجادلات داخل المنتديات الخاصّة والعامّة. وليس ذلك بمُستغرَب مادام القرآنُ الأساسَ الّذي تنبني عليه ثقافة مجتمع المسلمين مهما تبدّلت أحوالهم، والفاعلَ المؤثّر في هيئاتهم الاجتماعيّة، ولا أدعى من فاعليّته الظّاهرة للعيان حتّى الآن إلى استئناف النّظر في شأنه بهذه الدّراسة الّتي تحاول أن تستطلع أوجه حضوره على صعيد التّديّن الصّوفيّ.
ومبنى هذه المحاولة على فرضيّة قد تبدو بديهيّة، وخلاصتها أنّ لكلّ شكل من أشكال التّديّن الإسلاميّ تمثّلا للقرآن ومنحى في التّفاعل مع الخطاب القرآنيّ، وإذ نسعى إلى استبيان مكامن خصوصيّة التّديّن الصّوفيّ في هذين المستويين، نراهن على أنّها لا تخلو ممّا يصلح أن يكون بذرةَ مشروعِ تحيينٍ يأخذ بعين الاعتبار تساؤلات عصرنا المحرجة، ويفتح آفاقا منهجيّة منتِجة معرفيّا. وقد يمكّن من تحقيق هذا الرّهان تنويعُ زوايا النّظر في التّفاعل الصّوفيّ مع الكلام الإلهيّ المدوَّن بين دفّتيْ الكتاب، وذلك باستجلاء معتقَد المتصوّفة في أصوله التّكوينيّة، واستكشاف كيفيّة تكوّن ما استقرّوا عليه من أنظمة فهمه، واستيضاح بنية نظامهم التّأويليّ.
الكلمات المفاتيح: التّديّن الصّوفيّ – قرآن – تفاعل – فهم – تمثّل – تلقٍّ.
1- مقدّمة:
مدار كلامنا على علاقة شكل من أشكال التّديّن الإسلاميّ بالخطاب القرآنيّ، ومبنى نظرنا في هذه المسألة على تمييز منهجيّ، بين مسمّى الدّين ومفهوم التّديّن، يستند إلى فرضيّتين متكاملتين، فأمّا الفرضيّة الأولى فأنّ الدّين معطى إلهيّ فوق اللّغة، يحتوي خبريّات تتعلّق بالخالق والكون والإنسان، وينطوي على طلبيّات في العبادات والمعاملات، وإذ تشكّل هذا المعطى، لحظة النّبوّة المحمّديّة، في نسيج من اللّسان العربيّ، بات قابلا للتّلقّي البشريّ سمعا بالآذان ومُهَيَّأ للتّدوين بين دفّتيْ كتاب. وأمّا الفرضيّة الثّانية فأنّ التّديّن هو التّفاعل مع المتلقَّى عن الله بتصديق ما يشتمل عليه من الخبريّات وتطبيق ما يتضمّن من الطّلبيّات، ويحصل ذلك في خضمّ من المناويل تتّخذ اتّجاهات شتّى بفعل تنوّع سياقات التّلقّي واختلاف المتلقّين معرفيّا وتباينهم ثقافيّا وتغايرهم اجتماعيّا.
ومناط التّمييز بين المستوييْن المذكوريْن رَفْعُ التباس تاريخيّ جَعَلَ كلّ انزياح عن التّديّن السّائد موصوما بما يُخرِج ممتطيَ صهوتِه من دائرة الملّة الإسلاميّة، وتنقلنا إزالة اشتباه كهذا من زاوية نظر عقائديّة أساسها المفاضلة بين مختلف المذاهب الدّينيّة إلى موقف معرفيّ يعدّ كلّ تمذهب شكلا في التّديّن يستوي مع سائر الأشكال ولا ينزل عنها أو يربو عليها إلاّ بمدى تمكُّن أصحابه اجتماعيّا، وقد يكون فضلا من الكلامِ القولُ إنّه ليس من الحتميّات أن يقترن التّمكّن الاجتماعيّ بالوجاهة المعرفيّة، فقد يحظى بالقبول من الرّأي ما لا أساس له في منطق المعرفة، لمجرّد كونه يستجيب لمتطلّبات الواقع الاجتماعيّ، وقد يلقى الصّدَّ من القول ما يقوم على أصل في الفكر متين.
لقد تنوّعت أشكال التّديّن الإسلاميّ على قدر تعدّد الفرق الكلاميّة والمقالات الاعتقاديّة، ولكنْ مهما تنوّعت، لا تخرج عن نمطين رئيسيّين في التّفاعل مع الخبر الإلهيّ، أحدهما النّمط السّنّيّ، وهو التّديّن السّائد المتملّك لمفاتيح الاجتماع ومغاليقه من الوعي الجمعيّ والقوّة المادّيّة والمؤسّسات الثّقافيّة والسّلطات الرّمزيّة. وثانيهما النّمط الانزياحيّ، وهو كلّ تديّن يعدل عن المسلّمات العقائديّة والأطر الاجتماعيّة والقوالب الفكريّة الجاهزة والتّشكيلات الخطابيّة المهيمنة، ومن هذا القبيل كان التّصوّف في إرهاصاته، ذلك أنّ بعض المتديّنين لاذوا به منصرفين عن المألوف في الاعتقادات والعبادات والمعاملات.
كثيرا ما يُنظَر إلى التّديّن الصّوفيّ عموما بوصفه مسلكا روحيّا في تقرّب العبد إلى المعبود قائما على آداب سلوكيّة ثمّ طرقيّة، وقلّما يُتنَاوَل باعتباره مذهبا في فهم الخبر المحمّديّ، ومن هذه الزّاوية الّتي تكاد تكون مهملة نتطرّق إلى درسه في مواجهة تساؤل مركزيّ نضعه نصب أعيننا ونعبّر عنه بالصّيغة الاستفهاميّة الآتية: ما هي خصائص التّفاعل الصّوفيّ مع القرآن تمثّلا وفهما؟ ويستمدّ هذا التّساؤل وجاهته من فرضيّةٍ خلاصتُها أنّ كلّ شكل في التّديّن إنّما يتميّز عن سائر الأشكال بأصول اعتقاديّة هي مكمن فرادته، ويهمّنا منها، فيما يتعلّق بالتّديّن الصّوفيّ، تصوّره للقرآن وفرع من تصوّره هذا هو منهجه في فهم الآي، ونستبق الخوض فيهما بتمهيد يوضّح ما وراء مسعانا إلى استبيانهما من الخلفيّات النّظريّة.
2- تمهيد: في الأسس النّظريّة لهذه الدّراسة:
ليس من الخيارات الاعتباطيّة استعمالنا لمفهوم “التّديّن الصّوفيّ”، في عنونة مُنجَزِنا هذا، بدل صيغة العنصر الإحاليّ “التّصوّف”، بل هو اصطفاء عن قصد منهجيّ وراءه مقصد معرفيّ نبتغي تحقيقه، وما يتحقّق إلاّ بتجلية الأبعاد الدّلاليّة للمفهوم الّذي نستعمله، ويسعنا أن نقول فيه بادئ ذي بدء إنّه يحيل على ظاهرة دينيّة إسلاميّة يمكن مقاربتها من زاويتين مختلفتين ولكنّهما متكاملتان، إحداهما داخليّة والأخرى خارجيّة، فأمّا الزّاوية الأولى فتُوجِّه الاهتمام إلى ما يقوم عليه التّصوّف من الأسس النّظريّة والعمليّة، وأمّا الزّاوية الثّانية فتوقف على طبيعة علاقته بمفهوم الدّين.
تستند زاوية النّظر الخارجيّة إلى ثنائيّة بيّنّاها في سياق التّطرّق إلى طرح المشكل، باعتبارها أساسا نبني عليه مقاربتنا للتّساؤل الإشكاليّ الّذي نعالجه، وهي ثنائيّة الدّين والتّديّن، وليست هذه إلاّ تشكّلا نوعيّا لثنائيّة كلّيّة يمكن سحبها على الظّواهر الإنسانيّة كافّة، وتتمثّل في مركَّب البنية والسّياق، إذ العنصر الأوّل من مكوّنيه معطى كعجين الطّين صالح للقولبة على ما يناسب العنصر الثّاني، فما من ظاهرة في الاجتماع البشريّ تنشأ بغير أصل اعتقاديّ ثابت يتأسّس عليه وجودها، لكنّ تجلّياته لا تستقرّ، في الأغلب الأعمّ، على هيئة واحدة مادامت حياة حامليه مستحيلة.
ولا يخرج الدّين عن هذا الإطار من القانون العامّ، فإنّه بنية طيّعة تُقَوْلَب في كلّ سياق من سياقات التّديّن على مقتضى أحوال المتديّن الوجوديّة والاجتماعيّة والمعرفيّة، ولهذا ما برحت الظّواهر الدّينيّة تتناسل وتتكاثر وتتنوّع على قدر تباين العصور واختلاف الأمصار، فكان ظهور ما نشير إليه بالمركَّب النّعتيّ “التّديّن الصّوفيّ” نتيجة صيرورة من جدليّة الفكر والواقع على إيقاع وقائع خطرة وأحداث جسام شهدها الاجتماع الإسلاميّ في القرنين الهجريّين الأوّلين، وكان أخطرها الافتراق الابتدائيّ الّذي حصل في الجيل المؤسّس لذلك الاجتماع وأفرز اللّبنات المبكّرة من أشكال التّديّن المرتبطة بالرّسالة المحمّديّة.
تكمن أهمّيّة مفهوم “التّديّن الصّوفيّ” في كونه ينجلي عن فكرة قد تبدو بسيطة وبديهيّة ولكن من الضّروريّ تفعيلها منهجيّا لتحقيق القيمة المضافة معرفيّا، وهي أنّ التّصوّف منحى في فهم الدّين ونمطٌ من تنوّعات التّديّن الإسلاميّ، فإذ أخذنا بعين الاعتبار كونه كذلك تراءى لنا محور ارتكاز يمكن جعله كقطب الرّحى في حدّه وتعريفه، وهو علاقته بسائر الاتّجاهات الدّينيّة المنتسبة إلى الدّعوة المحمّديّة، وبالاستناد إلى هذا المرتكَز يمكننا القول إنّ ذاك الضّرب من التّديّن تبلور في سياق الاعتراض على سنّتين طبعا سائر أشكاله، وهما قولبة الاعتقادات وشكلنة العبادات.
ينطوي مفهوم “التّديّن الصّوفيّ”، إذن، على دلالة التّعالق بين التّصوّف من جهة، والفِرَق الكلاميّة والمذاهب الفقهيّة من جهة أخرى، ويتجسّد هذا التّعالق في بعدين، أحدهما أنّ كلاّ من الجهتين مسلك في التّفاعل مع معطى جامع لهما هو بنية الدّين الإسلاميّ، وثانيهما أنّ ركونَ جهة منهما إلى القوالب الجاهزة في الاعتقادات واهتمامَها المفرط برسوم العبادات على حساب المقاصد الجوهريّة هما مسبِّبا الأسباب الّتي أوجدت نقيضها، إذ بعثا على ظهور النّزوع إلى سيلنة العقيدة وروحنة الشّريعة، وهذا النّزوع هو المَيْسَم المميِّز للظّاهرة الصّوفيّة عن سائر الظّواهر الدّينيّة الإسلاميّة، وأسُّ أسُسِها النّاظمُ لمستوياتها الثّلاثة: الفكر والخطاب والممارسة.
هكذا كانت جدليّة التّديّن الصّوفيّ وغيره من التّفاعلات مع المعطى الدّينيّ الإسلاميّ حاسمة في تشكّل البناء الدّاخليّ لظاهرة التّصوّف، إذ تَحدَّد في ظلّها تمثّلُ المتصوّفة للدّين ومنهجُ تلقّيهم لخبريّاته ومسلكهم على سبيل إجراء تعاليمه، ولذلك كلّه انعكاسات في تصوّرهم للقرآن وطريقة استنباطهم معانيه، لم يمْحُها ما أجرى متأخّروهم على فكرهم النّظريّ وسلوكهم العمليّ من تعديلات تحت ضغط المتفقّهة، ولا طمسها تنوّع اتّجاهاتهم مع مرور الزّمن بفعل عوامل من الصّراع الدّينيّ الاجتماعيّ السّياسيّ أدّت أحيانا إلى تجارب مأسويّة كان أبلغها أثرا في تاريخهم إعدام الحلاّج عام تسعة وثلاثمائة وفق التّقويم الهجريّ.
3- كلام الله في المنظور الصّوفيّ:
لم يكن التّديّن الصّوفيّ في غنى عن تشكيل تمثّل للكلام الإلهيّ والخطاب القرآنيّ خاصّ به، فقد أحوجته إليه ضرورة إسناد نظامه المعرفيّ بأصل اعتقاديّ يعرّف النّصّ المؤسّس للاجتماع الإسلاميّ وفق مبادئ التّصوّف النّظريّة وخصائصه العمليّة، وهو ما يقف على ملامحه النّاظر في مؤلّفات الأعلام من سالكي طريق الإحسان، حيث تتراءى أفكار تتعلّق بذلك النّصّ ويعكس جماعها رأيا فيه يحيط بأبعاده كافّة[1]، وهذه لا غنى لنا، هنا، عن التفاتة إلى ثلاثة منها على الحدّ الأدنى، وهي: التّكوين والتّلقّي والمراتب.
3- 1- التّكوين:
ينقل إلينا الكلاباذيّ (ت380هـ/990م) خبر إجماع المتصوّفة على أنّ القرآن غير مخلوق «ولا محدَث ولا حدث»[2]، وقول أكثرهم بأزليّة كلام الله[3]، لكنّ صيغة منقوله الإجماليّة تخفي تفصيلات فارقة يمكّن الوقوف عليها من استقراء الجواب الصّوفيّ الابتدائيّ عن سؤال التّكوين، ومن تلك التّفصيلات ما ينطوي عليه بيان أبي حامد الغزالي (ت505هـ/1111م) لمراتب المعطى القرآنيّ[4]، فإنّ الحاصل منه أنّ هذا المعطى تحقّق بصيرورة رباعيّة الأطوار، فأمّا الطّور الأوّل فوجوده العينيّ قائما بذات الله، وأمّا الطّور الثّاني فوجوده العِلميّ في أذهان متلقّيه من البشر، وأمّا الطّور الثّالث فوجوده اللّسانيّ بآلة التّلفّظ الإنسانيّة، وأمّا الطّور الرّابع فوجوده الورقيّ مخطوطا بأدوات الكتابة.
يُستخلَص من هذا التّفصيل أنّ المعنيّ بصفة “الأزليّة” هو القرآن في وجوده العينيّ الميتاتاريخيّ (فوق التّاريخ)، وأنّ الخطاب القرآنيّ محدَث في سائر أطوار وجوده التّاريخيّ، وهو ما لخّصه محيي الدّين بن عربي (ت638هـ/1240م) بالقول إنّ كلام الله «محدث بالإتيان قديم بالعين (…) فله الحدوث من وجه والقدم من وجه»[5]. ووراء التّمييز بين البُعديْن من الوجود القرآنيّ حرص على تحاشي التّعطيل بالنّسبة إلى المتكلّم (الله) ومجانبة التّشبيه في حقّه، إذ الإقرار بأزليّة البعد الميتاتاريخيّ المطلَق ينسجم مع نفي صفة الحدوث عن متعلّقات الذّات الإلهيّة، والقول بالبعد التّاريخيّ المقيَّد تنزيه لهذه الذّات عن التّصويت والحلول في الأوراق[6].
إِنِ الأطوار التّاريخيّة للوجود القرآنيّ، في المنظور الصّوفيّ، إلاّ مقتضى من مقتضيات التّواصل الإلهيّ الإنسانيّ، ذلك أنّ سماع البشر لكلام الخالق متعذّر في حال انعدام واسطة من مظهر صوريّ يجسّد الصّفة المجرّدة عن الصّوت والحرف والقائمة بالذّات المنزّهة عن كونها محلّ الحوادث، فلم يكن بدّ من تشكّل الرّسالة السّماويّة في ما يجعل تلقّيها البشريّ ممكنا، وهو المستودع اللّغويّ في مستواه اللّفظيّ المُجرى على لسان النّبيّ ثمّ مستواه الكتابيّ الّذي امتدّت صيرورته التّكوينيّة إلى ما بعد انقضاء المرحلة النّبويّة.
3- 2- التّلقّي:
يُستنتَج من جماع إفادات المتصوّفة في مسألة التّكوين القرآنيّ أنّ أطواره التّاريخيّة مقترنة بوضعيّة التّلقّي البشريّ ذات الأبعاد الثّلاثة (العلم واللّفظ والكتابة)، فالتّكوين والتّلقّي بالنّسبة إلى القرآن فعلان متداخلان من حيث أنّ الثّاني اندرج في الأوّل بغير وجه، على اعتبار أنّ صياغة التّركيب النّهائيّ لحروف الخطاب الإلهيّ ما نَجزَت إلاّ عند وجوده الورقيّ، ومن المعلوم أنّ هذا الشّكل من وجوده لم يكتمل تحقّقه إلاّ مع تكوّن المصحف العثمانيّ بمبادرة ثالث الخلفاء الرّاشدين إلى توحيد القراءة، إذ كلّف لجنة بكتابته على حرف واحد درءا للفتنةِ بين القرّاء وحذَرَ استشراءِ اللّحن في التّلاوة.
يضعنا التّمثّل الصّوفيّ لمسار تكوين القرآن إزاء فرضيّة يتطلّب إثباتُها الحفرَ عميقا في نصوص مشايخ التّصوّف، وهي كونهم يرون أنّ صيرورته التّاريخيّة علما ولفظا وكتابة راكمت على معانيه الإلهيّة حجبا لا بدّ من مسلك في التّلقّي يأخذها بالحسبان ويتجاوز طرائق أهل الظّاهر الّذين يعتمدونها مداخل إلى الفهم فيعجزون عن إدراك مراد الله. لكن رسخ في الثّقافة الإسلاميّة عاملان ما فتئا يمنعان النّظر بعين القبول إلى رأي كهذا مخالف لطاحونة الشّيء المعتاد:
أحدهما التّسليم بأنّ التّلقّي المثاليّ للخطاب الإلهيّ تحقّق في سياق التّنزيل، وهو ما أكسب تأويلات الصّحابة قيمة مرجعيّة ثابتة، فهُم في المنظار السّنّيّ الأقدر على فهم القرآن من التّابعين وتابعي التّابعين إلى يوم البعث، لكونهم واكبوا وقائع التّخاطب القرآنيّ وعايشوا ملابساته رأي العين. أمّا العائق الثّاني فالارتهان لمقتضيات السّياق اللّغويّ على حساب ما يطرحه سياق التّلقّي من رهانات معرفيّة واجتماعيّة، إذ ينتصر نظام الفهم التّقليديّ لناتج العلاقات السّطحيّة بين جزئيّات نسيج الخطاب من المفردات والتّراكيب حتّى لو أدّى الأمر إلى التّعسّف على أحوال النّاس بتكييفها وفق إكراهات هذا المنحى التّأويليّ.
ومبكّرا أدرك الوعي الصّوفيّ أنّ التّقيّد في تأويل الآيات بحيثيّات تنزيلها وكيفيّات تركيبها مفض لا محالة إلى تعطيل حيويّتها الدّلاليّة اللاّمتناهية، لأنّ التّنزيل حالة ظرفيّة مؤقّتة انقضت بوفاة مبلّغ الرّسالة، والتّركيب بنية قارّة لا يعتريها التّغيّر، وحصر مداخل الفهم فيهما من شأنه أن يطبعه بالسّكونيّة على قدر ما يجترّ المعاني المتقادمة، فتتعاظم الفجوة بينه ومتطلّبات الواقع الإنسانيّ المستحيل، فرادى وجماعات، على الدّوام. ولهذا لم يَرَ المتصوّفة مناصا من اعتماد مدخل آخر منتِج يأخذ فيه المتلقّي بزمام الدّلالة ويوجّهها حسب ما تقتضيه سياقات تلقّيه للقرآن في تجدّدها المستمرّ. وهذا ما أحوجَهم، في تقديرنا، إلى القول بتعدّد مستويات الخطاب الإلهيّ.
3-3- المراتب:
يُستعمَل المركَّب بالإضافة (كلام الله) عنصرا إحاليّا ذا بعدين، أحدهما بعد خاصّ عائد على مرجع عينيّ هو “القرآن” المكتوب بين دِفَاف المصاحف والمحفوظ في الصّدور والمتلوّ بالألسنة[7]، والآخر بعد عامّ يتعلّق بمرجع نوعيّ يتمثّل في كلّ كلام إلهيّ، وهذا يتّخذ في صيرورته موجَّها إلى المتلقّي أشكالا مختلفة – على ما يعتقد الصّوفيّة – مجمعها مسمّى أبي حامد الغزالي بـ «التّعليم الرّبّانيـ»، وهو أحد طريقين يحصل منهما علم الكائن البشريّ، فأمّا الطّريق الثّاني فالمسلك المحسوس المعهود الّذي يشير إليه الرّجل نفسه بــ «التّعليم الإنسانيّ»[8].
ويتحقّق التّعليم الرّبّانيّ، في منظور الغزالي وسائر المتصوّفة، بوجهين: أحدهما إلقاء الوحي، ويختصّ به الأنبياء، والقرآن ضرب منه أُلْقِيَ على النّبيّ محمّد ﷺ ، وثاني الاثنين الإلهامُ، وهو للأولياء دون سواهم على الأغلب الأعمّ من آراء القوم، ولهذه المرتبة من الكلام الإلهيّ محصول، في رأيهم، يومئون إليه بـ«العلم اللّدنيّ» على اعتبار أنّ مأتاه الخالق العليم كالّذي أُوتِيَ مرجعَ ضمير المفرد الغائب ضمن الآية: «وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا»[9]. أمّا الحاصل من الوجه الأوّل في كلام المعبود فيوصَف عندهم ب «العلم النّبويّ»[10].
ولا يخفى السّياق الحضاريّ الّذي كان وراء تمثّل المتصوّفة لمراتب الكلام الإلهيّ، فإنّ إغلاق باب التّخصيص بالنّبوّة والرّسالة، وانقطاع التّواصل السّماويّ الأرضيّ تبعا لذلك، أقضّا مضاجع المسلمين، ولاسيّما في خضمّ الفتنة الكبرى بين الصّحابة وما خلّفته من افتراق دام، إذن برزت فكرة استمرار المدد الإلهيّ بعد وفاة النّبيّ استجابة لتشوّف جارف إلى إيجاد مفتاح لأفق سُدَّ بوضع حدّ لسلسلة الأنبياء، وعلى هذا يمكن عدّها ضربا من التّعبير عن رفض دفين لعقيدة ختم النّبوّة بدلالتها الشّائعة لدى عامّة المسلمين، ولئن عبّر جمهور الصّوفيّة عن ذلك على استحياء فإنّ عبد الحقّ بن سبعين (ت669هـ/1270م) لم يتمالك عن التّبرّم بفظاظة لا تستسيغها الذّهنيّة السّنّيّة قائلا: «لقد تحجّر ابن آمنة واسعا بقوله: لا نبيّ بعدي»[11].
في مسعاهم إلى فتح الأفق المعرفيّ المسدود يندرج إنشاء المتصوّفة نظام فهمهم للقرآن، وهو ما يستوي في منظورنا مبحثا ذا أوجه كثيرة تضعنا حيال خيارات منهجيّة متعدّدة ومتنوّعة، لكلٍّ منها وجاهته وفوائده، لكنّنا نهدف، هنا، إلى غاية معرفيّة محدّدة لا بدّ أن يتعيّن على أساسها خيارنا المنهجيّ، وهي ذات بعدين، أحدهما تبيّن كيفيّة تكوّن ذلك النّظام، وثانيهما الوقوف على بنيته. وتقتضي غاية مزدوجة كهذه مقاربة منهجيّة مركّبة تلائم وجهيها جميعا، وليس أنسب للبعدين المذكورين من الاشتغال بالمحورين التّعاقبيّ والآنيّ كليهما، فعسى الارتكاز عليهما أن ينجلي عن خصوصيّة الوجه العمليّ من المنوال الصّوفيّ في التّفاعل مع الخطاب القرآنيّ.
4- تكوّن نظام الفهم الصّوفيّ للقرآن:
يفتح الاستئناس بالمحور التّعاقبيّ أبوابا شارعة على ثلاثة خطوط سير في تتبّع المسار الّذي أفضى إلى تولّد نظام الفهم الصّوفيّ للقرآن، أحدها خطّ تقصّي ما كان ذا أثر في الدّفع نحو هذا الاتّجاه من السّياقات الاجتماعيّة والأطر المعرفيّة، وثانيها خطّ تعقّب الأطوار الّتي اجتازها المتصوّفة على سبيل ضبط منهجهم في طلب معاني الخطاب القرآنيّ وتشكيل شبكة المفاهيم المعبّرة عن طبيعة استنباطاتهم التّأويليّة، وثالثها خطّ استقصاء آليّتهم في تأصيل ما ارتأوه من أنظمة الفهم وتأسيسه على المستوى العقديّ.
4- 1- السّياقات الاجتماعيّة والأطر المعرفيّة:
لا يمكن إدراك خلفيّات نظام الفهم الصّوفيّ للقرآن إن تُستبعَد من مجال النّظر الحيثيّات السّياقيّة الّتي اكتنفت نشأة التّصوّف برمّته، فما ظهر هذا إلاّ في خضمّ تفاعلات اجتماعيّة ومعرفيّة اقتضت ضربا من التّديّن يبدّد حيرة مَنْ لم يَرَ بين الأطروحات الفكريّة والمذاهب العمليّة عرْضا يجيب عن أسئلته المُحرِجة. وهو ما يُحوِج استجلاؤه إلى الحفر عميقا في تاريخ الاجتماع الإسلاميّ المبكّر فضلا عن الإلمام بالسّائد من أنظمة المعرفة خلال قرون الإسلام الأولى، إذ لا مناص من معالجته بمنظار المدى الطّويل، لأنّ تشكّل الجماعات الدّينيّة عموما وأنظمة فهمها للنّصوص المقدّسة خصوصا لا يتحقّق في لحظة زمنيّة عابرة، وإنّما يتمّ عبر صيرورة قد تمتدّ قرونا.
تبلور التّصوّف وقرينه من أنظمة فهم القرآن في ظلّ تداعيات الأحداث المأسويّة الّتي شهدها المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة مؤسّسه، وقد لا يكون تقاتل الصّحابة في صراعهم على الخلافة، خلال النّصف الثّاني من ثلاثينات القرن الأوّل وفق التّقويم الهجريّ، مبتدأ المسار المفضي إلى ظهور التّديّن الصّوفيّ، بيد أنّه كان حدثا حاسما في اتّجاه تكوّن جماعة خاصّة من المسلمين ساءها ألاّ يحول الدّين المشترك والنّصّ الجامع دون وقوع المحظور بين رافعي لواء الرّسالة المحمّديّة الخاتمة[12]. وقد كانت تلك الجماعة في منشئها مجرّد تعبير عن حالة من الانفعال النّفسيّ لا تستند إلى جهاز نظريّ يؤطّر مسلك منتسبيها، إذ لم يتعدّ شأنهم حينذاك اعتزال “الفتنة” والتّفرّغ للصّلاة.
ومع تواتر الأحداث الجسام في المجتمع الإسلاميّ، من بعدُ، تطوّرت انفعالات “معتزلة الفتنة” إلى إجراءات طقسيّة منسَّقة بخلفيّة نظريّة معرفيّة صاغها السّائرون على دربهم، وأخطر السّياقات الحدثيّة، بالنّسبة إلى مسار تكوّن النّظام التّأويليّ الصّوفيّ للكلام الإلهيّ، ما تُطلِق عليه الأدبيّات السّنّيّة صفة «محنة خلق القرآن»، وما كان المتصوّفة بمنأى عن طائلة تلك المحنة، فقد شملت علَمين من مشايخهم على أدنى تقدير، أحدهما ذو النّون الإخميميّ (ت245هـ/859م) الّذي امتحنه والي موطنه مصر محمّد بن أبي اللّيث (ت250هـ/864م)[13]، وثانيهما أحمد بن أبي الحواريّ (ت246هـ/860م)، وقد امتُحِن بدمشق، حيث سكن، بوساطة أميرها آنئذ إسحاق بن يحيى بن معاذ (ت237هـ/851م)[14].
لم تكن تلك المحنة سوى مظهر من انعكاساتِ تنافسٍ بين نظامين في طلب المعرفة الدّينيّة، هما النّظام المعرفيّ النّقلانيّ والنّظام المعرفيّ العقلانيّ، وفي سياق ذاك التّنافس برز تمثّلان للقرآن انجلت عنهما مقالتان، فأمّا المقالة الأولى فجرت على ألسنة السّنّيّين بصيغتين من المركّبات الوصفيّة، قوام إحداهما الإثبات (القرآن قديم)، ومبنى الأخرى على النّفي (القرآن غير مخلوق). وأمّا المقالة الثّانية فالّتي اشتهرت بها المعتزلة خاصّة، وهي القطع بأنّ «القرآن مخلوق». ومن المؤكّد أنّ المتصوّفة عاينوا مجادلات الفريقين في المسألة، لكن لم يظهر منهم رأي على غير المألوف فيها إلاّ مع ابن عربي بقوله إنّ القرآن قديم العين محدث الإتيان. فهذا وجه من الأطر المعرفيّة الّتي تَشكَّل تحت وطأتها نظام الفهم الصّوفيّ للكلام الإلهيّ.
ووجه آخر، أنّ بوادر ذلك النّظام طفقت تلوح في أفق معرفيّ متلوّن، من جهة طلب المعاني القرآنيّة، بخياريْن منهجيّين على طرفيْ نقيض، تعبّر عن طبيعتيْهما تسميتُهما تفسيرا بالمأثور وتفسيرا بالرّأي، ويعكسهما أقدم منجَز في هذا الميدان وصل إلينا، نعني مصنَّف ابن جرير الطّبريّ (ت310هـ/923م)، المسمّى بـ«جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، فمع توسّل مؤلِّفه في مزاولة الكلام الإلهيّ بما تناقل الرّواة حتّى عصره من بيانات النّبيّ والصّحابة والتّابعين، عمد إلى إثبات بطلان التّأويل القائم على الرّأي، عبر إيراد أخبار تفيد النّهي عنه[15]، وهو ما يرجّح فرضيّة أنّ تنازع النّهجين كان عصرئذ على أشدّه.
ويُستخلص من جماع الأطر المعرفيّة والسّياقات الاجتماعيّة أنّ المبعث العميق على ظهور التّصوّف ونظام الفهم الصّوفيّ للقرآن كامن في تسليم بعض المسلمين بأمرين: أحدهما استحالة تجاوز حالة الافتراق الإسلاميّ بالمعهود من أشكال التّديّن، وثانيهما انسداد الأفق المعرفيّ في ظلّ التّنافس بين النّظام المعرفيّ النّقلانيّ والنّظام المعرفيّ العقلانيّ. فتراءى المَخرَج من المأزق في نظام معرفيّ آخر يدور على القلب باعتباره الباب الشّارع إلى الإدراك اليقينيّ الّذي لا يداخله ريب، لكنّ ذاك الباب لا ينفتح إلاّ بمشقّة المجاهدة على طريق القصد إلى الله، للتّلقّي عنه مباشرة من غير حجاب ولا واسطة.
4- 2- المخاض المنهجيّ والاختمار المفاهيميّ:
يستشعر المتأمّل فيما أفرد السّرّاج لهذا الموضوع من أبواب[16] أنّ تطرّقه إليه رجع لصدى وجود تيّارين يتجاذبانه داخل الأوساط الصّوفيّة، ينزع أحدهما إلى التّجرّد تماما من أيّ ميزان يقدَّر به مدى وجاهة الفعل التّفسيريّ الإشاريّ، ويميل الآخر إلى وضع موجّهات تكون بمثابة نبراس يمارَس ذلك الفعل في ضوئه. ونشأ هذا الميل في خضمّ انفلات تأويليّ صوفيّ معترض على صرامة السّنن المدرسيّة الّتي من شأنها تقييد فهم المتلقّين للخطاب الإلهيّ بمضايق أثريّة و/أو لغويّة شكّلها فريقا التّفسير بالمأثور والتّفسير بالرّأي. واندرج هذا الاعتراض في حركة التّصوّف الشّاملة ضدّا لأهل النّظر عامّة، بشقّيهم من النّقلانيّين والعقلانيّين جميعا، بناء على تقويم خلاصته أنّ الآفاق المعرفيّة مسدودة مادام السّمع والعقل دون سواهما دليلين، وأبلغ عبارة عنه قول القائل من المنتسبين إلى تلك الحركة:
«إنّ هؤلاء [يعني أهل الطّريقة] حججهم في مسائلهم أظهر من حجج كلّ أحد، وقواعد مذاهبهم أقوى من قواعد كلّ مذهب. والنّاسّ: إمّا أصحاب النّقل والأثر، وإمّا أرباب العقل والفكر. وشيوخ هذه الطّائفة ارتقوا عن هذه الجملة، فالّذي للنّاس غيب فهو لهم ظهور، والّذي للخلق من المعارف مقصود فلهم من الحقّ سبحانه موجود، فهم أهل الوصال، والنّاس أهل الاستدلال (…)»[17].
ومن البديهيّ أن يستفزّ الأطرَ السّنّيّة ويستثير حفيظتَها الإفراطُ في التّأويلات الخارجة عن مألوف السّياق الثّقافيّ، فربّما كان ذلك من الدّواعي الّتي حملت بعض منظّري التّصوّف إلى تسييج الفهم الصّوفيّ للقرآن بما يكبح جماح المفرطين في استنباط معاني الآي، على نحو ما فعل السّرّاج عينه الّذي ارتأى للفهم والاستنباط ضوابط خمسة ضامنة، حسب تقديره، لصحّتهما[18]، إذ اشترط فيهما مجانبة:
تقديم المؤخَّر
تأخير المقدَّم
منازعة الرّبوبيّة
الخروج عن العبوديّة
تحريف الكلم
ولائحة الشّروط هذه ملمح لنظام تأويليّ آخذ في التّشكّل على المستوى النّظريّ، بفعل من جدليّة الفكر والممارسة لدى المتصوّفة أنفسهم، وليس بمعزل عن جدليّة التّصوّف والتّسنّن، ولا سيّما التّسنّن النّقلانيّ، فبتضافر الأسباب من تفاعلات هذه وتلك بدأت تطفو على السّطح معالمُ تمثّلٍ لفاعليّة الصّوفيّ في القرآن، ومن الملاحَظ أنّ السّرّاج عبّر عن هذه الفاعليّة بمفردتين، هما: الفهم والإشارة، وميّز بين مفهوميهما على أساس منهجيّ:
ذلك أنّ الإشارة هي استحضار آية قرآنيّة أو أكثر في معرض الاستشهاد على معنى أو حالة، كشأن أبي العبّاس بن عطاء (ت309هـ/921م) تارة[19]: قال: «الحقّ لا يوجد مع الزّلل» وأشار إلى الآية: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»[20]، وكدأب أبي عليّ الرّوذباريّ (ت322هـ/933م) مع أصحابه[21]، يشير إلى الآية: «وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ»[22] كلّما رآهم مجتمعين[23].
أمّا الفهم فمتعلَّقه العبارة القرآنيّة في ذاتها ولذاتها، لا تُتَّخذ مطيّة للاستدلال، وإنّما تكون مستنبَطا لمعنى ينطق به شيخ من شيوخ التّصوّف إجابة عن سؤالِ سائلٍ يطلب تأويلها، على ما يفضي إليه استقراء النّماذج الّتي ساقها مؤلّف كتاب “اللّمع”[24]، ونذكر منها هذا الخبر مثلا: «سُئل الشّبليّ رحمه اللّه عن قوله: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ»[25]، فقال: أبصار الرّؤوس عن محارم اللّه تعالى»[26].
يطلق مؤلّف كتاب “اللّمع” على أشباه قول الشّبليّ هذا صفة المستنبَطات، كما يستخدم المصدر “استنباط” في تسمية العمليّة الّتي تفرزها، ولا يفوتنا أن نوضّح كونه لم يحصر مجال هذه العمليّة في حدود القرآن، بل وسّع مفاعيلها لتشمل الحديث النّبويّ على ما يتبيّن من تعريفه للصّفة المذكورة بأنّها: «ما استنبط أهل الفهم من المتحقّقين بالموافقة لكتاب اللّه عزّ وجلّ ظاهرا وباطنا، والمتابعة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ظاهرا وباطنا، والعمل بها بظواهرهم وبواطنهم»[27]. ويدلّ تردّد مشتقّاتها بنسق ظاهر للعيان، أثناء كلامه في مسألة الفهم، على مركزيّة مفهوم “الاستنباط” بالنّسبة إلى تصوّره لتعامل الصّوفيّ مع القرآن.
يمثّل تحديد المفاهيم خطوة ضروريّة على طريق بناء نظام لفهم القرآن يتّسم بتناسق عناصره وتماسك أركانه، ومن الطّبيعي أن يشوب المعالجةَ المفهوميّةَ بعضُ الاضطراب في مرحلة مخاض كالّتي واكبها السّرّاج، فلا غرو أن تلتبس دلالة “علم الإشارة” في كتابه “اللّمع” إلى حدّ أعجزنا عن الجزم بعدم اشتمالها على مسمّى “الإشارة” الّذي فرط بيان الفرق بينه وبين مدلول الفهم لدى الرّجل، ذلك لأنّ هذا أردف تعريفه للمستنبطات بما يبين عن اندراجها في إطار ذلك العلم[28]، وهو ما لا يترك مجالا للشّكّ في كونها من متعلَّقاته، ويخلّف حيرة إزاء كلمة استُعملت مفردة في موضع بوجه، ومضافة في موقع آخر بوجه ثان.
ولا مخرج من هذا الالتباس إلاّ التّصدّي لمصطلح “الإشارة” بالمقاربة التّاريخيّة الّتي يُعوَّل عليها في تبيّن مآله الدّلاليّ بعد القرن الرّابع الّذي عايشه صاحب “اللّمع”، وأدنى محاصيلها أنّه ما انفكّ يُتداول لدى المتصوّفة بغير مفهوم واحد، وينجلي ما ظلّ يعتريه من تعدّد مفاهيميّ بالنّظر في سفر الفتوحات المكّيّة أضخم مؤلّفات شيخهم الأكبر ابن عربي[29]. لكن لا يعنينا هنا من دلالات المصطلح إلاّ ما له صلة بمسمّى التّفسير الإشاريّ، وليس بمستطاعنا التّوصّل إليه دون الخوض في الجهود الّتي بذلها منظّرو التّصوّف تأصيلا لمنهجهم التّأويليّ.
4- 3- التّأصيل الخبريّ والتّأسيس العقديّ:
لم يكن بوسع المتصوّفة أن يعتمدوا، في تأسيسهم النّظريّ لمسلكهم التّأويليّ، على غير معتمَد التّديّن السّائد من آليّات التّأصيل، فهذا النّوع من الأعمال محوج لا محالة إلى البناء على قاعدة صلبة من التّقليد المشترك، ولمّا كان المستنَدُ النّقليّ، من القرآن والحديث خصوصا، المرجعَ الجامعَ بالنّسبة إلى السّياق الثّقافيّ الإسلاميّ، بالعودة إليه تُكتسب الشّرعيّة والأحقّيّة، وجب أن يلتمس فيه القومُ ما يُثبت أصالة طريقة تفاعلهم مع الخطاب الإلهيّ، وقد وجدوا ضالّتهم في توليفة من الآيات القرآنيّة والأحاديث النّبويّة والآثار المرويّة، رأينا أن نستجلي أهمّ عناصرها عبر قراءة للمصادر الصّوفيّة، ذات طابع آنيّ لا زمانيّ، لأنّ درْك البنية الاعتقاديّة المسوّغة لنظام الفهم مقصدنا لا التّعقّب الكرونولوجيّ للمسار التّأصيليّ الّذي أنتجها.
خلاصة ما أمكننا تصفّحه من تلك المصادر أنّ المستندات الخبريّة الّتي يتوسّل بها المتصوّفة في تبرير مأخذهم التّأويليّ للقرآن لا تخرج – على كثرتها وتكاثرها – عن مجرى اعتراف منسوب إلى أبي هريرة وحديث معزوّ إلى النّبيّ. فأمّا الاعتراف فأسعفهم به صحيح البخاري[30]، وتناقلوه في مواطن الإشارة إلى أنّ الموروث عن مبلّغ الرّسالة نوعان من العلم، نوع مشاع لعامّة النّاس متاح لأيّ امرئ، ونوع مضنون به على غير أهله، لا يعرف سرَّه إلاّ أفراد من الخلق. وممّن تحجّج به ابن عربي الّذي أورده ضمن فتوحاته على هذا الحرف: «حملت عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم جرابين: أمّا الواحد فبثثته فيكم، وأمّا الآخر فلو بثثته لقطع منّي هذا البلعوم»[31].
وأمّا الحديث النّبويّ فتداولوه في صيغتين، واحدة[32] مجملة استدلّوا بها لإثبات أنّ وراء ظاهر القرآن باطنا[33]، وأخرى تحتوي على زيادة تفصيل، تردّد صداها في نصوص كثيرة من مؤلَّفاتهم[34]، وذكرها عبد الرّحمان السّلميّ بهذا اللّفظ: «إنّ القرآن أُنزل على سبعة أحرف، لكلّ آية منه ظهر وبطن، ولكلّ حرف حدّ ومطلع»[35]. وعلى هذه الصّيغة مبنى تمثّلهم للمُنزَل خطابا مركّبا ذا مستويات أربعة متفاوتة الدّرجات، بالنّسبة إلى المتلقّي، في الشّفافيّة:
المستوى الأوّل هو الخطاب على ما يظهر للنّاس بمقتضى قوانين اشتغال اللّسان العربيّ الّذي تشكّل فيه، وهذا المعتبَر عند الصّوفيّة الظّاهر.
المستوى الثّاني هو الخطاب كما تلقّاه النّبيّ من الملَك، منزَّلا على قلبه طوال ثلاثة وعشرين عاما، وهذا الباطن من منظارهم.
المستوى الثّالث هو الخطاب على ما انتهى إلى جبريل في تقبّله عن الذّات الإلهيّة، وهذا مسمّى الحدّ لدنهم.
المستوى الرّابع هو الخطاب في تعيّنه الأصليّ صادرا عن اللّه المخاطِب ذاته، وهذا المطلع من وجهة نظرهم.
وكلّ ماعدا الأصليّ من تعيّنات الخطاب بمثابة حُجُبٍ للمعاني، وسُتُرٍ تحول دون الحقائق القرآنيّة، والرّهان المنوط بالمتلقّي هو أن يخترق كلّ الحواجز، بدءا باللّغويّ منها ومرورا بالنّبويّ وانتهاء بالملَكيّ، ليُعطَى «عين الفهم في كلام اللّه»[36] ممّا استأثر به أبو هريرة ولم يفصح عنه، وذلك ممتنع في رأي المتصوّفة لا يدركه إلاّ قلّة من طائفتهم مختصّة به دون سائر النّاس، فالفهم العينيّ إذ تفشيه تلك القلّة لغير ذوي الاختصاص هو المعنيّ بـ”الإشارة” في اصطلاحهم، على أدقّ بيان منهم لمفهومها خطّه الشّيخ الأكبر الّذي أعلن بوضوح أنّ مسمّاها تفسيرٌ لمعاني الخطاب الإلهيّ حقيقة، تكلّفوا تسميته بها اتّقاء تشنيع الفقهاء من أهل الظّاهر الرّافضين لوضعه تحت عنوان “التّفسير”[37].
5- بنية نظام الفهم الصّوفيّ للقرآن:
ليس بالأمر الهيّن العمل على استكشاف بنية[38] نظام الفهم الصّوفيّ للخطاب القرآنيّ، فإنّ ذلك النّظام متعيِّن في ثلاثة مظاهر – على أدنى تقدير – لا مناص من التّمييز بينها حتّى يتيسّر إدراك عناصره البنيويّة، وتتمثّل تلك المظاهر في التّصوّر النّظريّ للفعل التّأويليّ أوّلا، وما لم تطُلْه يد الإتلاف من مدوّنات مشايخ التّصوّف التّفسيريّة ثانيا، والمباشرة الإجرائيّة المرتبطة بلحظات تفاعليّة محدّدة ثالثا. ولنا حيال كلّ مظهر من هذه الثّلاثيّة وقفة تحليليّة في ما يأتي على طريق القصد إلى المراد بهذا المبحث.
5- 1- في التّصوّر النّظريّ:
إنّ القول بتعدّد مستويات الخطاب الإلهيّ كما أوضحنا آنفا يكتسب قيمته من كونه يفتح باب الانسياب الدّلاليّ على مصراعيه، لأنّه يحرّر المعنى من لزوميّات إخراج لسانيّ لمخاطَبات ميتالغويّة فرضته وضعيّة تواصليّة ظرفيّة خارقة للعادة لم تتعدّ دائرةُ المتلقّين الفعليّين فيها إطارا زمكانيّا ذا خصوصيّة ثقافيّة، نعني سكّان شبه الجزيرة العربيّة أوان البعثة المحمّديّة، فليس المتلقَّى سمعا عن النّبيّ من الآيات القرآنيّة سوى تكييف للوحي بما يناسب المخاطَبين الّذين واكبوا تنزيلها وعمومَ الخلْق المتلاحقين إلى يوم يُبعثون، ولابدّ لخاصّة المؤمنين، في المنظور الصّوفيّ، من تعلّق هممهم بما وراء المسموع حتّى تنجلي لهم حقائق ما خاطب به اللّه عباده، وعلى هذا حضّ ابن عربي في الباب التّاسع والخمسين وخمسمائة، قائلا:
«لا تركن إلى غير ركن فتخيب، انظر في القرآن بما أنزل على محمّد ﷺ، لا تنظر فيه بما أنزل على العرب فتخيب عن إدراك معانيه، فإنّه نزل بلسان رسول اللّه ﷺ، لسان عربيّ مبين، نزل به الرّوح الأمين جبريل عليه السّلام على قلب محمّد ﷺ فكان به من المنذرين أي المعلّمين، فإذا تكلّمت في القرآن بما هو به محمّد ﷺ متكلّم نزلت عن ذلك الفهم إلى فهم السّامع من النّبيّﷺ »[39].
ويتيح التّخلّصُ من ربقة الحامل اللّسانيّ إطلاقَ زمام التّأويل نحو آفاق دلاليّة رحبة يَبْعُد غورها بمقدار ما يغوص المتلقّي فيما وراء اللّغة من مستويات الخطاب الإلهيّ، إذ لكلّ مستوى فيه، على ما يرى أهل التّصوّف، بُعده الدّلاليّ الخاصّ به، هو مسمّى “العبارة” عندهم بالنّسبة إلى المستوى اللّغويّ، وما يسمّونه “الإشارة” بالنّسبة إلى المستوى النّبويّ، والمستعمَل في تسميته لدنهم مصطلح “اللّطائف” بالنّسبة إلى المستوى الملكيّ، وما يطلقون عليه اسم “الحقائق” بالنّسبة إلى المستوى الإلهيّ الأصليّ[40]. ولعلّ أبلغ ما وصلنا، من توضيحاتهم لهذه الفكرة الّتي تتوقّف عليها وجاهة نظام الفهم الإشاريّ برمّته، قولُ أبي القاسم اللّجائيّ:
«من سمعه [= القرآن] من أمثاله ففائدته علم أحكامه، ومن سمعه كأنّما يسمعه من السّفير الأعلى ففائدته تبيّن معجزاته وشرح الصّدور بلطائف خطابه، ومن سمعه كأنّما يسمعه من الرّوح ففائدته مطالعة الغيوب ودقائق الإشارات من محبّة المحبوب، ومن سمعه كأنّما يسمعه من المتّصف به فَنِيَ ومُحقت صفاته وصار موصوفا بصفات التّحقيق، فيفنى عن علم اليقين وعن عين اليقين، وتحصل له درجات حقّ اليقين»[41].
يسفر هذا القول عن شيء من وعي المتصوّفة بالأبعاد التّداوليّة للخطاب، ذلك أنّ المخاطَب هو المعوَّل عليه، لدنهم، في تحديد سقف الفيوضات الدّلاليّة القرآنيّة بما يتّخذ من أوضاع التّلقّي، فمادام فهمه للآي مرتبطا بمظهرها اللّغويّ لا يتعدّى محصولُه التّأويليُّ مُتَاحَ البنى اللّفظيّة السّطحيّة منها، أمّا إذا فكّ ارتباطه بمجلاها ذاك واندمج في وضعيّة تواصليّة تسمو به عن حظوظ البشريّة فمآله الظّفر بالفهم الإشاريّ. وصفوة القيل في ضوء هذا المعنى أمران: أحدهما أنّ المخاطبات الإلهيّة ذات صلاحيّة – بحكم طبيعتها المركّبة – للتّعيّن بحسب ما يكون من قوّة استعداد المتلقّي، وإليه الإشارة في عبارة ابن عربي: «الخطاب على قدر السّامع لا على قدر المتكلّم»[42]، وثانيهما أنّها لا تكتسب دلالاتها في غياب تفاعل خلاّق من جهته، على ما يُستخلص من قول اللّجائيّ: «فوائد القرآن على قدر رتبة السّامع»[43].
5- 2- في الخطاب التّفسيريّ:
لا يتعدّى مدار اهتمامنا، في هذا الشّأن، مدوّنة التّفسير الصّوفيّ المنهجيّ المرتّب وفق تسلسل الوحدات التّركيبيّة القرآنيّة على ما استقرّ بالمصحف العثمانيّ، نعني كلّ مؤلَّف من ذلك النّوع منسوب إلى أحد مشايخ التّصوّف، سواء أكان مستوعبا للقرآن برمّته أم مقتصرا على بعض آياته دون أخرى. وأقْدَمُ ما وصل إلينا من تفاسير بهذه الخصوصيّة منجَز معزوّ إلى سهل بن عبد الله التّستريّ (ت283هـ/896م)[44]، هذا إذا لم نأخذ بعين الاعتبار الكتاب الّذي جمع بين دفّتيه أحد المؤلّفين المعاصرين متفرّقات ذي النّون المصريّ (ت248هـ/862م) من أقوال بُوِّبَتْ على أساس العلاقات الدّلاليّة المترائية بين كلّ قول وآية[45].
ويقف النّاظر في تلك المدوّنة على تنوّع الخطاب التّفسيريّ الصّوفيّ، فلا تقلّ أضربه عن ثلاثة في أدنى التّقديرات، أحدها قوامه على سوق أقوال متصوّف واحد في متفرّقات من آيات القرآن، وهو مبنى كتاب التّفسير المنسوب إلى التّستريّ[46]، وثانيها مجامع لمرويّات عن السّلف من شيوخ التّصوّف، في تأويل الآي، منسّقة وفق ترتيب السُّوَر، ومن هذا النّوع تفسير السّلميّ[47]، وليست تخفى مشابهته الشّكليّة للتّفسير بالمأثور. وأمّا الضّرب الثّالث فما يمكن وصفه بالتّفسير الشّخصيّ، إذ يعرض مؤلّف الكتاب ما يتراءى له هو ذاته من إشارات الخطاب القرآنيّ في كلّ آية، وذلك حال القشيريّ مثلا في منتَجه “لطائف الإشارات”[48].
ويتبيّن متصفّح الأنواع الثّلاثة من كتب التّفسير الصّوفيّ ضرورة التّمييز بين مستويين فيها، أوّلهما مستوى إنتاج الفهم، وثانيهما مستوى إنتاج الخطاب التّفسيريّ، ومأتى تلك الضّرورة أنّ الفاعل في أحدهما ليس دائما هو الفاعل في الآخر، إذ لئن يبدُ منتج الخطاب التّفسيريّ في منجَز القشيريّ، مثلا، هو نفسه منتج الفهم، فإنّ العكس حال المجامع المشار إليها أعلاه وكلّ تفسير قائم على رواية المأثورات عن متصوّف من السّابقين، وفي هذا الصّنف المركَّب والمتعدّد الأصوات يُحوِج أيّ مسعى لاستجلاء نظام الفهم إلى الحفر عميقا داخل النّسيج اللّغويّ حتّى يخلُص للدّارس ما يروم إدراكه من كيفيّة التّلقّي الإشاريّ المزعوم.
ينجلي الحفر في مدوّنة التّفسير الصّوفيّ عن نموذجين من أنظمة فهم القرآن، فأمّا النّموذج الأوّل فمبناه في استنباط المعاني القرآنيّة على الانتقال من مستوى الدّلالة التّركيبيّة (الظّاهر) إلى مستوى الدّلالة الكامنة تحت النّسيج اللّغوي (الباطن)، وهو مسلك أمثال أبي القاسم القشيريّ، يطّرد في مؤلّفاتهم ذلك، لكن لا ينتظم انتظاما تامّا، إذ قد يُكتَفى، أحيانا، بمجرّد التّنبيه إلى أنّ للآية معنى ظاهرا، وربّما يُغَضُّ النّظر تماما، في أحيان أخرى، عن هذا البعد من الدّلالة ويُقتصَر على إيراد المعنى الباطن. وأمّا النّموذج الثّاني فعماده التّوسّل بصيغ تعبيريّة إلى إفراغ الآيات في قوالب فكريّة صوفيّة وتكييفها على مقتضى قواعد التّصوّف النّظريّة، وهو منحى محيي الدّين بن عربي[49] والسّائرين على منواله من أهل الطّريقة.
ووراء النّموذجين خلفيّتان متضادّتان تشكّلتا في خضمّ الجدل الصّوفيّ السّنّيّ الّذي بلغ أوجه خلال العقد الأوّل من القرن الرّابع، فإذا كان النّموذج الثّاني سليل الوفاء لأصول التّصوّف التّكوينيّة من حيث كونه انزياحا عن السّنّة المعرفيّة السّائدة في طلب العلوم الدّينيّة عموما واستبيان الدّلالة القرآنيّة خصوصا، فإنّ النّموذج الأوّل إجراء عمليّ لمذهب التّوفيق بين مبادئ التّديّن الصّوفيّ وقيود الأطر الثّقافيّة المهيمنة. لكنّ اختلافهما من هذا الوجه لم يمنع تقاطعهما في نظام فهم الرّسالة الإلهيّة، ذلك أنّ حال الصّوفيّ، في كليهما، يمثّل عند تلقّي المعطى القرآنيّ، ابتداء أو على لسان مستفهِم، الموجّه الحاسم لحدث الفهم، إذ تنقدح الإشارة في قلبه تحت وطأة ظرفيّة روحيّة تعتريه عند مواجهته الآية.
5- 3- في الفعل الإجرائيّ:
إجرائيّا يرتهن المتصوّف، في تأويله المكوّناتِ الجزئيّةَ من الخطاب الإلهيّ، لوضعيّات التّلقّي الظّرفيّة، وفي هذه الوضعيّات يكاد المستوى التّركيبيّ من ذلك الخطاب يفقد كلّ فاعليّته، فهي لا تتجاوز أدنى درجاتها إن يُسهِمْ في إنتاج الدّلالات القرآنيّة، إذ تستوي الآية، أو بعضها، مجرّد مناسبة قادحة لخواطر تلمع في ذهن المتلقّي الصّوفيّ عند مواجهتها، وقد يحلّق به الخاطر في منأى عن الحدود المعجميّة لأنسجة الحروف والكلمات، ويبلغ مبلغا ينتفي معه ما يقتضيه المنطق المألوف من الرّوابط الموضوعيّة بين المعطى اللّغويّ والمحصول الدّلاليّ، والأمثلة من ذلك، في تفاسير مشايخ التّصوّف، كثيرة لا تُحصَى عددا.
إنّ المحدّد الفعليّ لوجهة التّأويل، في سياق التّفاعل الصّوفيّ مع العلامة اللّغويّة من مفردات القرآن ومركّباته، هو حال المتلقّي لحظة الاستقبال، ولأنّ الأحوال في استحالة دائمة لا تستقرّ على وتيرة، تتكاثر الاستنباطات من الحرف الواحد لدى المتصوّف الفرد بقدر ما تتعدّد سياقات المواجهة بينهما، ناهيك أنّ البسملة – الّتي وضعها القشيريّ تحت طائلة عمله التّفسيريّ كسائر المنزّل على النّبيّ محمّد ﷺ – يثير نسيجها التّركيبيّ من لطائف الإشارات دلالاتٍ تُماهِي في تنوّعها نسق تواتره تلاوةً، إذ يفيد في مبتدأ كلّ سورة من المعاني على مقتضى حال المدّعي إدراكَ الإشارات الإلهيّة المحجوبة وراء العبارات القرآنيّة.
وقد تُؤخَذ العلامة القرآنيّة بضرب من أوجه التّأويل ذي منحى حجاجيّ، فتُحمَّل ما يخدم قضيّة التّديّن الصّوفيّ من المعاني درءا لمطاعن سدنة السّنّيّة الإسلاميّة فيه، وإثباتا لصحّة قواعد التّصوّف، واستدلالا على جدارة الطّريقة بالاتّباع. ويُغنِي عن التّوسّع في بيان هذا المنحى مَثَلُ أبي القاسم القشيريّ في تفسيره الآية الرّابعة والخمسين من سورة النّساء، ذلك أنّه تغاضى عن معناها الظّاهر بنوع من الإضراب الانتقاليّ (بل) جعله مطيّة إلى حصر مرجع العنصر الإحاليّ (النّاس) وإعادة توجيه دلالة المصدر (فضل)، لكي يستهدف منكري عقيدة التّخصيص ورافضي فكرة الولاية، قائلا:
«قوله: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ ….﴾: بل ينكرون تخصيص الحقّ سبحانه لأوليائه بما يشاء حسدا مِن عند أنفسهم فلا يقابلونهم بالإجلال، وسُنَّة الله سبحانه مع أوليائه مضت بالتّعزيز والتّوقير لهم. ودأب الكافرين جرى بالارتياب في القدرة، فمنهم من آمن بهم، ومنهم من ردّ ذلك وجحد، وكفى بعقوبة الله منتقما عنهم»[50].
إذن، لا يتقيّد فهم القرآن، في مجرى التّلقّي الصّوفيّ، بضوابط معياريّة، وإنّما هو محكوم بعوامل ذاتيّة كامنة في كيان المتلقّي وتخضع لموجّهين على الأقلّ: أحدهما الخلفيّة الاعتقاديّة من أسس التّصوّف النّظريّة عموما وتمثّلِ أهله لماهية الخطاب القرآنيّ خصوصا. وثانيهما تجربة المتصوّف الشّخصيّة في ارتباطها بمتخيَّله عن ذاته وخصوصيّة مسلكه العمليّ على مدارج الطّريق. فبهذين الموجّهين يُمسِي فعل إنتاج الدّلالة، في إطار التّفاعل مع الكلام الإلهيّ، مفتوحا على أفق واسع من الممكنات ليس ينحصر بحدّ اصطلاحي ولا قياس لغويّ ولا مانع منطقيّ، وهكذا يفقد وجاهتَه كلُّ منطق تعليميّ عُرْفِيٍّ في ميدان التّفسير مادامت قائمةً دعوى إمكان التّواصل المعرفيّ مع الحيّ الّذي لا يموت.
ولما أنّه كذلك يكون، يبقى محصول نظام الفهم الصّوفيّ للقرآن مجرّد حقيقة فرديّة وظرفيّة تستمدّ قيمتها من صلتها بمنتِجها العينيّ ولحظة إنتاجها، إذ يعزّ أن يستحيل معطى بتلك الكيفيّة مبنى لهيئة اجتماعيّة، لأنّ الاجتماع عمدته المشترك من المصطلحات والمفاهيم والقوالب الفكريّة والمعاني المستقرّة نسبيّا على الأقلّ. ولكنّ الاشتغال بمذهب المتصوّفة في التّفاعل مع الخطاب القرآنيّ يمكن أن يستوي مدخلا شارعا على إعادة تشكيل الوعي الدّينيّ وإنتاج نسق معرفيّ، من صميم الرّسالة المحمّديّة، يزيل العوائق الاعتقاديّة الظّنّيّة الّتي تحول حتّى الآن دون الاستئناف الحضاريّ المنشود.
6- فاتحة:
تتجاوز المقاربة الصّوفيّة للأسئلة المعرفيّة والمنهجيّة المتعلّقة بنصّ الوحي ثنائيّات استقرّت منذ وقت مبكّر من تاريخ الفكر الإسلاميّ وحكمت تفكير نُخَبِ المسلمين قرونا طويلة، فعلى الصّعيد العقائديّ تناءى بعض المتصوّفة، في مسألة طبيعة الكلام الإلهيّ، عن الصّيغتين التّبسيطيّتين المتقابلتين تقابل تضادّ، وهما المقالة الاعتزاليّة «القرآن مخلوق» والشّعار السّنّيّ «القرآن غير مخلوق»، واستعاضوا عنهما بتمثّلٍ مركّبٍ يأخذ بعين الاعتبار صيرورة الرّسالة القرآنيّة في انتقالها من الوجود المطلق المقترن بذات المرسِل إلى التّعيّن اللّغويّ المقيَّد على لسان مبلِّغها النّبيِّ المرسَل، وهو ما يظهر وعيا بأثر الوعاء اللّسانيّ البشريّ في مدى شفافيّتها.
ومن تبعات وعيهم هذا أن ضربوا صفحا، في مسعاهم إلى فهم كلام الله، عن التّفسير بالمأثور والتّفسير بالرّأي، متّخذين مسلكا تفاعليّا تجاه الخطاب القرآنيّ على خلاف النّمطين كليهما. فصرفوا أنظارهم عن مقيِّداته من الهيئات التّركيبيّة اللّغويّة والحيثيّات الحدثيّة التّاريخيّة، وتعلّقت همّتهم بما وراء نسيج الحروف من “حقائق” و”لطائف” يمتنع تبيّنها عبر الوسائط الحسّيّة، وزعموا أنّ بالإمكان إدراكها من طريق خاصّ قوامه المجاهدة الرّوحيّة والإخلاص في التّقرّب إلى المتكلِّم حتّى تتهيّأ الملَكة الإدراكيّة القلبيّة لتلقّي إشاراته الكامنة تحت حُجُبِ الوعاء اللّسانيّ البشريّ الّذي ما كانت الرّسالة تبلغ مبلغها لولاه.
لقد ألفينا هذه المقاربة خارج دائرة الاهتمام في ما اطّلعنا عليه من الدّراسات القرآنيّة المعاصرة والمشاريع الفكريّة الإصلاحيّة، ولعلّ نفض الغبار عنها ينبّه إلى أبعادٍ من إشكاليّة تلقّي القرآن، الآن وهنا، يمكن أن يساعد أخذها بالحسبان في وضع أساس معرفيّ منتِج واستنباط نظامِ فَهْمٍ راهنيّ، فهي ذات قابليّة للاستثمار إن تُجرَّد من خلفيّتها الاعتقاديّة الّتي يتعذّر البناء عليها لكونها لا توفّر الانتظام، وهو شرط لا يستقيم الاجتماع في غيابه، إذ تفضي في مستوى التّفاعل مع الكلام الإلهيّ إلى فيض من تأويلاتٍ لا ناظم لها خارج ذات المتأوِّل، ولهذا تبقى ذاتيّة ويعزّ جمع النّاس عليها.
قد لا تكون إجرائيّات المقاربة الصّوفيّة مجدية في إرساءِ نظامِ تأويلٍ محيّن على إيقاع التّحوّلات الفكريّة والاجتماعيّة الظّاهرة للعيان، لأنّ الاجتماع يتأسّس على القوالب المشتركة من الاستنباطات لا الخواطر المتقلّبة بحكم ذاتيّتها وظرفيّتها، بيد أنّ تلك الإجرائيّات تنطوي على ما يمكن أن يكون منطلَقا لمعالجة القضايا المتّصلة بماهية القرآن وكيفيّة التّفاعل معه، وهو مبدأ التّنسيب الّذي يقتضي التّسليم بتعدّد الدّلالات القرآنيّة على مقتضى أحوال المتلقّين للخطاب الإلهيّ في كلّ عصر ومصر، ويعني ذلك، على أدنى تقدير، أنّ المعطى التّركيبيّ اللّغويّ لا يفيد دلالة قطعيّة مهما يكن محكما.
المصادر والمراجع:
المصادر:
البخاريّ، محمّد بن إسماعيل (ت256هـ/870م)، الجامع الصّحيح المختصر (المعروف بـ”صحيح البخاريّ”)، تح. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير/اليمامة، بيروت، 1987.
التّستريّ، سهل بن عبد الله (ت283هـ/896م)، تفسير القرآن العظيم لأبي محمّد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله بن رفيع التّستريّ، تح. طه عبد الرّؤوف سعد وسعد حسن محمّد عليّ، دار الحرم للتّراث، القاهرة، 2004.
ابن تغري بردي الأتابكيّ، جمال الدّين (ت874هـ/1470م)، النّجوم الزّاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثّقافة والإرشاد القوميّ، مصر، (د.ت).
الجيلانيّ، عبد القادر (ت561هـ/1166م)، الغنية لطالبي طريق الحقّ، المكتبة الثّقافيّة، بيروت، (د.ت).
ابن حبّان، محمّد (ت354هـ/965م)، صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان، تح. شعيب الأرنؤوط، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1993.
ابن حجر العسقلانيّ، أحمد بن عليّ (ت852هـ/1449م)، رفع الإصر عن قضاة مصر، تح. عليّ محمّد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1998.
الذّهبيّ، شمس الدّين (ت748هـ/1348م)، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تح. بشّار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، 2003.
الذّهبيّ، شمس الدّين (ت748هـ/1348م)، سير أعلام النّبلاء، تح. شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، ط11، 1996.
السّلميّ، أبو عبد الرّحمان (ت412هـ/1021م)، حقائق التّفسير، تح. سيّد عمران، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2001.
السّهرورديّ، شهاب الدّين (ت632هـ/1234م)، عوارف المعارف، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1999.
الشّعرانيّ، عبد الوهّاب (ت973هـ/1565م)، الطّبقات الكبرى، دار الرّشاد الحديثة، الدّار البيضاء، 1999.
الصّفديّ، صلاح الدّين (ت764هـ/1363م)، الوافي بالوفيات، تح. أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التّراث، بيروت، 2000.
الطّبرانيّ، سليمان بن أحمد (ت360هـ/918م)، المعجم الكبير، تح. حمدي بن عبد المجيد السّلفي، مكتبة الزّهراء، الموصل، 1983.
الطّبريّ، محمّد بن جرير (ت310هـ/923م)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تح. عبد اللّه بن عبد المحسن التّركي، دار هجر، القاهرة، 2001.
الطّوسيّ، أبو نصر السّرّاج (ت378هـ/988م)، اللّمع، تح. عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة/ مكتبة المثنّى، القاهرة/بغداد، 1960.
ابن عربي، محيي الدّين محمّد بن عليّ (ت638هـ/1240م)، الفتوحات المكّيّة، دار الفكر، بيروت، 1994.
ابن عساكر، عليّ بن الحسن (ت571هـ/1176م)، تاريخ مدينة دمشق، تح. محبّ الدّين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، 2001.
ابن عطاء اللّه السّكندريّ، تاج الدّين (ت709هـ/1309م)، لطائف المنن، دار المعارف، ط2، (د.ت).
الغزاليّ، أبو حامد محمّد بن محمّد (ت505هـ/1111م)، إحياء علوم الدّين، دار صادر، بيروت، 2000.
الغزاليّ، أبو حامد محمّد بن محمّد (ت505هـ/1111م)، إلجام العوامّ عن علم الكلام، ضمن: مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الفكر، بيروت، 2000.
الغزاليّ، أبو حامد محمّد بن محمّد (ت505هـ/1111م)، الرّسالة اللّدنيّة، ضمن: مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الفكر، بيروت، 2000.
الغزاليّ، أبو حامد محمّد بن محمّد (ت505هـ/1111م)، مشكاة الأنوار، ضمن: مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الفكر، بيروت، 2000.
القشيري، عبد الكريم (ت465هـ/1072م)، تفسير القشيريّ المسمّى لطائف الإشارات، تح. سعيد قطيفة، المكتبة التّوفيقيّة، القاهرة، (د.ت).
القشيري، عبد الكريم (ت465هـ/1072م)، الرّسالة القشيريّة، تح. معروف زريق وعليّ عبد الحميد بلطه جي، دار الجيل، بيروت، ط2، (د.ت).
الكتبيّ، محمّد بن شاكر (ت764هـ/1363م)، فوات الوفيات، تح. إحسان عبّاس، دار صادر، بيروت، (د.ت).
الكلاباذيّ، أبو بكر محمّد بن إسحاق (ت380هـ/990م)، التّعرّف لمذهب أهل التّصوّف، تح. أرثر جون أربري، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1994.
الكنديّ، محمّد بن يوسف (350هـ/961م)، كتاب القضاة، ضمن: كتاب الولاّة وكتاب القضاة، مطبعة الآباء اليسوعيّين، بيروت، 1908.
الكنديّ، محمّد بن يوسف (350هـ/961م)، كتاب القضاة الّذين ولّوا قضاء مصر، رومية، 1908.
اللّجائيّ، عبد الرّحمان (ت599هـ/1202م) في كتابه: قطب العارفين، تح. محمّد الدّيباجي، دار صادر، بيروت، 2001.
المحاسبيّ، الحارث بن أسد (ت243هـ/857م)، فهم القرآن ومعانيه، تح. حسين القوّتلي، دار الكندي/دار الفكر، بيروت، 1398 ﻫ.
المكّيّ، أبو طالب (ت386هـ/996م)، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التّوحيد، تصحيح باسل عيون السّود، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1997.
المراجع:
الحمدي، عبد السّلام، مقالات الصّوفيّة في المسائل الاعتقاديّة، ألفا للوثائق، قسنطينة، 2020.
الغراب، محمود محمود (جمع وتأليف)، رحمة من الرّحمان في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشّيخ الأكبر محي الدّين ابن العربي، مطبعة نضر، دمشق، 1989.
الهندي، محمود، ذو النّون المصريّ التّفسير العرفانيّ للقرآن الكريم، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2007.
Sands, Kristin Zahra, Ṣῡfῑ commentaries on the Qur’ān in classical Islam, Routledge, London/New York, 2006.
Sells, Michael A., Early Islamic Mysticism: Sufi, Qur’an, Mi`raj, Poetic and Theological Writings, Paulist Press, New York, 1996.
[1]– ليس من قبيل التّرف الفكريّ صياغة المتصوّفة رؤية شموليّة للقرآن يمتازون بها عن سائر التيّارات الإسلاميّة، فهم يعتبرون نمطَ تفكيرهم وطريقةَ حياتهم كلّها قرآنيّيْن بأتمّ ما في هذه الصّفة من معنى (يُنظَر: Sells, Michael A., Early Islamic Mysticism: Sufi, Qur’an, Mi`raj, Poetic and Theological Writings, Paulist Press, New York, 1996, p29).
[2]– الكلاباذيّ، أبو بكر محمّد بن إسحاق (ت380هـ/990م)، التّعرّف لمذهب أهل التّصوّف، تح. أرثر جون أربري، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1994، ص18.
[3]– الكلاباذيّ، المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[4]– الغزاليّ، أبو حامد محمّد بن محمّد (ت505هـ/1111م)، إلجام العوامّ عن علم الكلام، ضمن: مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الفكر، بيروت، 2000، ص328.
[5]– ابن عربي، محيي الدّين محمّد بن عليّ (ت638هـ/1240م)، الفتوحات المكّيّة، دار الفكر، بيروت، 1994، ج6، ص132.
[6]– يُنظَر: الحمدي، عبد السّلام، مقالات الصّوفيّة في المسائل الاعتقاديّة، ألفا للوثائق، قسنطينة، 2020، ص280-281.
[7]– الكلاباذيّ، مرجع سابق،ص41.
[8]– الغزالي، أبو حامد، الرّسالة اللّدنيّة، ضمن: مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الفكر، بيروت، 2000، ص231-233.
[9]– الكهف: 18/65.
[10]– عبد السّلام الحمدي، مرجع سابق، ص390-391.
[11]– الذّهبيّ، شمس الدّين (ت748هـ/1348م)، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تح. بشّار عوّاد معروف، دار الغرب الإسلاميّ، بيروت، 2003، ج49، ص284، 286. الكتبيّ، محمّد بن شاكر (ت764هـ/1363م)، فوات الوفيات، تح. إحسان عبّاس، دار صادر، بيروت، (د.ت)، مج2، ص254. الصّفديّ، صلاح الدّين (ت764هـ/1363م)، الوافي بالوفيات، تح. أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى، دار إحياء التّراث، بيروت، 2000، ج18، ص37. ابن تغري بردي الأتابكيّ، جمال الدّين (ت874هـ/1470م)، النّجوم الزّاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثّقافة والإرشاد القوميّ، مصر، (د.ت)، ج7، ص233.
[12]– يُنظَر: عبد السّلام الحمدي، مرجع سابق، ص68-72.
[13]– ابن حجر العسقلانيّ، أحمد بن عليّ (ت852هـ/1449م)، رفع الإصر عن قضاة مصر، تح. عليّ محمّد عمر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1998، ص404. الكنديّ، محمّد بن يوسف (350هـ/961م)، كتاب القضاة، ضمن: كتاب الولاّة وكتاب القضاة، مطبعة الآباء اليسوعيّين، بيروت، 1908، ص453. كتاب القضاة الّذين ولّوا قضاء مصر، رومية، 1908، ص129.
[14]– ابن عساكر، عليّ بن الحسن (ت571هـ/1176م)، تاريخ مدينة دمشق، تح. محبّ الدّين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر، بيروت، 2001، ج71، ص250. الذّهبيّ، محمّد بن أحمد (ت748هـ/1348م)، سير أعلام النّبلاء، تح. شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، ط11، 1996، ج12، ص92-93. تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، مرجع سابق، م5، ص1006.
[15]– الطّبريّ، محمّد بن جرير (ت310هـ/923م)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تح. عبد اللّه بن عبد المحسن التّركي، دار هجر، القاهرة، 2001، ج1، صص71-74.
[16]– الطّوسيّ، أبو نصر السّرّاج (ت378هـ/988م)، اللّمع، تح. عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، دار الكتب الحديثة/ مكتبة المثنّى، القاهرة/بغداد، 1960، صص105-129.
[17]– القشيري، عبد الكريم (ت465هـ/1072م)، الرّسالة القشيريّة، تح. معروف زريق وعليّ عبد الحميد بلطه جي، دار الجيل، بيروت، ط2، (د.ت)، ص378.
[18]– السّرّاج الطّوسيّ، مرجع سابق، ص126.
[19]– المرجع نفسه، ص128.
[20]– البقرة: 2/209.
[21]– السّرّاج الطّوسيّ، مرجع سابق، ص129.
[22]– الشّورى: 42/29.
[23]– تُنظَر أمثلة أخرى، ممّا يدرجه مؤلّف اللّمع في مسمّى الإشارة، ضمن: السّرّاج الطّوسيّ، مرجع سابق،ص128-129.
[24]– يُنظر: السّرّاج الطّوسيّ، مرجع سابق،ص126-128.
[25]– النّور: 24/30.
[26]– السّرّاج الطّوسيّ، مرجع سابق،ص127.
[27]– السّرّاج الطّوسيّ، مرجع سابق،ص147.
[28]– المرجع نفسه.
[29]– يُنظر: محيي الدّين بن عربي، مرجع سابق،ج1، ص629-634. ج3، 138-139، 229. ج4، 230، 240، 242-243، 454. ج5، 529-530.
[30]– البخاريّ، محمّد بن إسماعيل (ت256هـ/870م)، الجامع الصّحيح المختصر (المعروف بـ “صحيح البخاريّ”)، تح. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير/اليمامة، بيروت، 1987، ج1، ص56 [العلم/42 (120)].
[31]– ابن عربي، مرجع سابق،ج1، ص476.
[32]– ورد في بعض كتب الحديث الثّانويّة أنّ النّبيّ قال: «أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكلّ آية منها ظهر وبطن» (يُنظر: ابن حبّان، محمّد (ت354هـ/965م)، صحيح ابن حبّان بترتيب ابن بلبان، تح. شعيب الأرنؤوط، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1993، ج1، ص276. الطّبرانيّ، سليمان بن أحمد (ت360هـ/918م)، المعجم الكبير، تح. حمدي بن عبد المجيد السّلفي، مكتبة الزّهراء، الموصل، 1983، ج10، ص105).
[33]– يُنظر مثلا: السّرّاجّ الطّوسيّ، مرجع سابق،ص43-44. المكّيّ، أبو طالب (ت386هـ/996م)، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التّوحيد، تصحيح باسل عيون السّود، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1997، ج1، ص106.
[34]– يُنظر مثلا: المحاسبيّ، الحارث بن أسد (ت243هـ/857م)، فهم القرآن ومعانيه، تح. حسين القوّتلي، دار الكندي/دار الفكر، بيروت، 1398 ﻫ، ص328. أبو طالب المكّيّ، م.س، ج1، ص95. السّلميّ، أبو عبد الرّحمان (ت412هـ/1021م)، حقائق التّفسير، تح. سيّد عمران، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2001، مج1، ص21. أبو حامد الغزاليّ، إحياء علوم الدّين، دار صادر، بيروت، 2000، م1، ص138. أيضا: مشكاة الأنوار، ضمن: مجموعة رسائل الإمام الغزالي، دار الفكر، بيروت، 2000، ص283. السّهرورديّ، شهاب الدّين (ت632هـ/1234م)، عوارف المعارف، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1999، ص20. ابن عربي، م.س، ج1، ص451-452. ج5، ص180. ابن عطاء اللّه السّكندريّ، تاج الدّين (ت709هـ/1309م)، لطائف المنن، دار المعارف، ط2، (د.ت)، ص137.
[35]– أبو عبد الرّحمان السّلميّ، مرجع سابق، مج1، ص21.
[36]– ابن عربي، مرجع سابق،ج1، ص476.
[37]– يُنظر: المرجع نفسه، ص629-634 (الباب الرّابع والخمسون).
[38]– لهذه البنية تشكّلات فرديّة يتمثّل كلٌّ منها في طريقة تفسير يختصّ بها علَم صوفيّ، ويضيق المنحى الّذي اتّخذناه في مبحثنا عن بيان تلك التّشكّلات، فليُنظَر عرض لأبرزها في:
Sands, Kristin Zahra, Ṣῡfῑ commentaries on the Qur’ān in classical Islam, Routledge, London/New York, 2006, Pp.35-46.
[39]– ابن عربي، مرجع سابق، ج8، ص258-259.
[40]– أبو عبد الرّحمان السّلميّ، مرجع سابق، مج1، ص23. اللّجائيّ، عبد الرّحمان (ت599هـ/1202م)، قطب العارفين، تح. محمّد الدّيباجي، دار صادر، بيروت، 2001، ص103-104.
[41]– اللّجائيّ، مرجع سابق،ص108-109. ويُنظر أيضا كلام في هذا المعنى لأبي سعيد الخرّاز (ت 279 ﻫ) ضمن: السّرّاج الطّوسيّ، مرجع سابق،ص114.
[42]– ابن عربي، مرجع سابق،ج8، ص259.
[43]– اللّجائيّ، مرجع سابق،ص108.
[44]– التّستريّ، سهل بن عبد الله، تفسير القرآن العظيم لأبي محمّد سهل بن عبد الله بن يونس بن عيسى بن عبد الله بن رفيع التّستريّ، تح. طه عبد الرّؤوف سعد وسعد حسن محمّد عليّ، دار الحرم للتّراث، القاهرة، 2004.
[45]– الهندي، محمود، ذو النّون المصريّ التّفسير العرفانيّ للقرآن الكريم، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2007.
[46]– يظهر من مقدّمة الكتاب وتواتر الصّيغة التّركيبيّة «قال أبو بكر» في متنه أنّ مؤلِّفه ليس التّستريّ، بل أبو بكر محمّد بن أحمد البلديّ المذكور في بدايته ضمن رجال السّند، فهذا هو الجامع، على ما يبدو، لما بين دفّتيه من أقوال ذلك في آي القرآن.
[47]– يقول السّلميّ في خطبه تفسيره: «ولمّا دانت المتوسّمين بالعلوم الظّواهر، صنّفوا في أنواع القرآن، من فوائد ومشكلات وأحكام وإعراب ولغة ومجمل ومفسّر وناسخ ومنسوخ وإعراب ما يشغل منهم لجميع فهم خطابه على حساب الحقيقة إلاّ آيات متفرّقة نُسِبَت إلى أبي العبّاس بن عطاء وآيات ذُكِرَ أنّها عن جعفر بن محمّد عليه السّلام على غير ترتيب – وكنت قد سمعت منهم في ذلك جزءا – استحسنتها، أحببت أن أضمّ ذلك إلى مقالتهم وأضمّ أقوال المشايخ أهل الحقيقة إلى ذلك، وأرتّبه على السّور حسب وسعي وطاقتي» (أبو عبد الرّحمان السّلميّ، مرجع سابق،ص19-20).
[48]– القشيريّ، عبد الكريم بن هوازن، تفسير القشيريّ المسمّى لطائف الإشارات، تح. سعيد قطيفة، المكتبة التّوفيقيّة، القاهرة، (د.ت).
[49]– لم يصلنا من كتاباته في التّفسير سوى جزء من مؤلَّفه “إيجاز البيان في التّرجمة عن القرآن” (يُنظر في هامش: الغراب، محمود محمود (جمع وتأليف)، رحمة من الرّحمان في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشّيخ الأكبر محي الدّين ابن العربي، مطبعة نضر، دمشق، 1989).
[50]– عبد الكريم القشيري، لطائف الإشارات، مرجع سابق،ج2، ص31.