ها أنت وربك … ها أنت… ها أنا…
د. وفاء أحمد السوافطة*
لا شك أن محطات العارفين أكثر من أن يحصرها عدد[1]، وأصعب من أن يصفها لسان. لكن ما استقرّ عندي أن عبارات العنوان الذي أوردته، والمقتبسة من حديث الشيخ علي نور الدين اليشرطي (ت 1899م)، رضي الله عنه، الذي يقول فيه: (كان المرشدون يقولون للمريد: ها أنت وربك. ونحن نقول له: ها أنت)[2]، تعطينا مؤشرات قوية وجليّة، ألخّصها في ما يأتي:
أولًا: مال بعض متأخري الصوفية، إلى اختزال المسافات والمحطات الصوفية، حتى يريحوا المريد، من كثرة العبادات النفلية والأوراد الصوفية. إذ يقول سيدي الشيخ علي نور الدين اليشرطي: (ليس الشيخ الذي يعطي الأوراد لمريده، ليقضي عمره في تلاوتها، وإنما الشيخ الذي يقول لمريده: ها أنت) [3].
والطريقة اليشرطية ليست وحدها مَن شرعت في عملية اختزال المسافات في طريق السائرين إلى الله، إذ يؤكد ذلك الشيخ اليشرطي بقوله: (بعض المتصوفين، عدَّدوا المراتب والمقامات، وبذلك أضاعوا المريدين. ولكن سيدي الشيخ المداني[ت 1268]، قدّس الله سرّه، اختصر لنا الطريق، فقال: ((فَقْرُ الفقير إسقاط ياء الضمير))) [4].
ثانيًا: المعرفة الصوفية ليست معرفة خارجية تتنزل على المريد من كوكب آخر، أو من سماء بعيدة، لكنها معرفة داخلية، تتدرج بالمريد من معرفة نفسه، بعللها وحسناتها، وقوتها وضعفها، وأقرانها ونقائضها، إلى أن يرتقي لعرفان شيخه، فيميز بين ظاهره وباطنه، ويعرف أحكامه وأوامره، وما يرضيه وما يغضبه، حتى يعرُج به سُلّم الكشف إلى رحاب الحق، فتتجاذبه أنواره، فيتهادى بين ذات وصفات، ويتنعم بين فناء وبقاء، وسحق ومحق.
من التثليث إلى الواحدية:
لقد وجدت في العنوان الذي اخترته من وحي الحديث السابق للشيخ اليشرطي[5] خير اختزال لهذه الرحلة الإنسانية المقيّدة نحو المطلق، والتي تبدأ بثلاثة كيانات، لتصبح كيانين، ثم تنتهي في كيان واحد:
- فـ(ها أنت وربك)، تشتمل على ثلاثة كيانات:
- المخاطِب (الشيخ- الدليل)؛
- المخاطَب (أنت- السائر)؛
- والرب( الهدف- المنتهى)؛
- و(ها أنت) محطة متقدمة، يجب أن يصل إليها العارف في رحلته، بعد أن يختزل المسافات، فيرتحل من التثليث إلى الثنائية:
- المخاطِب (الشيخ- الدليل)؛
- المخاطَب (أنت- السائر). وهنا، يقصد الشيخ اليشرطي من حديثه أن يطوي العارف البُعد الثالث (الرب- الهدف- المنتهى) في قلب العارف، ليتجلى في المرحلة الثالثة، عندما تنطوي كافة الأبعاد، ولا يتبقى إلا الله. كما سبق وأوضح الشيخ ابن عطاء الله السكندري(ت 1309م): “لا تَرْحَلْ مِنْ كَوْنٍ إلى كَوْنٍ فَتَكونَ كَحِمارِ الرَّحى؛ يَسيرُ وَالمَكانُ الَّذي ارْتَحَلَ إلَيْهِ هُوَ الَّذي ارْتَحَلَ عَنْهُ. وَلكِنِ ارْحَلْ مِنْ الأَكْوان إلى المُكَوِّنِ، ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾” [6].
- أما المرحلة الأخيرة التي عبّرت عنها بـ(ها أنا) فهي مرحلة التوحيد، التي نستشفّها من محطات رحلة العارف، وهو يصلها عندما يطوي أو يفني فيها كافة الأبعاد في الوجود الحق، فلا يشهد العارف إلا الواحد الأحد، متجلّيًا في كل عضو، وكل كيان من كياناته، وكل عالَم من عوالمه، وهو ما طلبه الشيخ اليشرطي، من المريدين: (افنوا أنفسكم في شيخكم، وافنوا شيخكم في محمد ﷺ، وافنوا محمدا في الله) [7].
فالرحلة، هنا تنتهي بسائر (أو كيان) أوحد، انطوت فيه كل عوالم الوجود، كما ورد عن سيدنا علي بن أبي طالب[8]:
أتزعم أنك جِرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
لكن مهما تقاربت المسافات، فإن بعضهم يرى أنه لا معرفة قصوى أو نهائية، لسببين:
الأول – يتعلق بالعارف. والثاني – يتعلق بالمعروف.
ها أنت: ما يتعلق بالعارف
ما يتعلق بالعارف: إن التحدي الأكبر للعارف، في رحلته المعرفية، هو تجاوز تلك الحجب الإمكانية، ومنها الحجب اللغوية، التي تقف في الطريق بين العارف والمعروف. مع الإقرار بأن رحلة الصوفي تبدأ بالنفس وتنتهي بالنفس، لأن النهايات تحكمها البدايات؛ بمعنى أن الحدود والقيود التي ينطلق منها العارف ستبقى قيدًا على معرفته، في جميع محطات تلك الرحلة.
لكن هذا السائر، في هذا المقام، لا يزال يسمع الخطاب، أحيانا، من مكان بعيد عن جوهره، وروحه. لذا، فهو يتوق أن يسمعه من ذاته وفي ذاته، كما ينصح بذلك نفسَه الشيخ مصطفى أبو ريشة، الشاذلي اليشرطي،[9]:
فتجرّد عنك واسمع منك آيات الخطاب
واطرح الأشباحَ واجمع كلَّ معنىً في الكتاب
فالخطاب يتعدى ثالوث (شيخ- مريد- رب)، ويختزل ثنائية (شيخ-مريد)، ليجد (فيه) وحده خطابًا واحدًا، ومن مكان أقرب إليه من حبل الوريد، كما قال أحدهم للشيخ اليشرطي: الفقير مثل الريشة التي في الهواء. فأجابه، رضي الله عنه، قائلًا: أتريد أن تُخرج حالك عنها؟! الشمس والقمر من تقديراتك، والكون كله من تقديراتك، والقيامة قائمة على رأسك، أيها الإنسان[10]. وكما وصف الشاعر أبو الحسن الششتري ما يعتريه في ذلك المقام، فقال:
وسمعتُ الخطابَ من ذاتي من مكانٍ قريب[11]
لذا، حين يستشعر العارف هذا القرب، ويدرك أنه لم يعد بينه وبين المعروف أية حجب أو مشغلات، أو أن ذاته قد تغلبت على كافة الحواجز المكانية والإمكانية بينه وبين محبوبه، بل هو يتعدّى كل حواجز اللغة، ليظهر له أن محبوبه لم يعد “ضميرًا غائبًا أو مخاطبًا” من مكان بعيد، حُق له هنا أي يصرخ “بضمير المتكلم”: (ها أنا)، كي يعبّر عن انطواء كافة مظاهر الخطاب (ربك- أنت) في (أنا). كما صاغ ذلك الشيخ مصطفى نجا، مفتي بيروت، في حينه، فقال:
يا أنا من هو أنا حتى أنا أنا من أهوى ومن أهوى أنا[12]
وهي ذات اللغة التي عبر بها أبو منصور الحلاج عن ذات الحال، حين صاح[13]:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا نَحنُ روحانِ حَلَنا بَدَنا
روحُهُ روحي وَروحي روحُهُ مَن رَأى روحَينِ حَلَّت بَدَنا
وهنا، يتصوّر الشيخ أحمد زروق (ت 899م)، أن اللغة حجاب حاجز أمام المعرفة؛ فاللغة، بكل مُكناتها، والتعبير بكل أدواته، عاجزان، برأيه، عن الوصول إلى الحقيقة، فالتغزّل والنَدبُ والإشارةُ دليلٌ، عنده، على البُعد عن المشاهدة، وهو يستنتج، بناءً على ذلك، أن المحقّقين من الصوفية، كالجنيد والشاذلي قلّ شعرهم [14].
إن ما يكاد يقرّ به العارفون، السابقون واللاحقون، أن المعرفة والتعبير عنها يتعذران طالما أن هناك ثنائية، (عارف ومعروف)، (مخاطِب ومخاطَب)، فهذه الثنائية تفترض وسيطًا لغويًا أو فكريًا. وهذا ما جعل الشيخ علي نور الدين اليشرطي يقول:(هذه البشرية فيها سر الربوبية، لا تُنتقش بالأوراق. السادة الصوفية وصفوها بالسطور، ونحن نضعها في الصدور…)[15].
ها أنت وربك:ما يتعلق بالمعروف
أما فيما يتعلق بالمعروف، فإن الحق، عز وجل، له ما لا حصر من الأسماء والصفات والتجلّيات، والعارف إن أدرك ما لا يعدّ ولا يحصى من تلك التجلّيات الإلهيّة، فقد خفي عنه ما لا يعد ولا يحصى أيضا. ويبقى:
العَجزُ عَن دَركِ الإِدراكِ إدراكُ وَالبُحثُ عَن سِرِّ ذاتِ السِرِّ إِشراكُ[16].
وقد يوضح معنى ما نقول، مقاربة بسيطة بين عالم الخالق وعالم الخَلْق، إذ إن الإنسان مهما بذل من جهد، وحصّل من علوم، وحقّق من معارف، لن يستطيع أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض، ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾ (الرحمن: 33). فقيود عالم الخلق وسِعَتُه، واختلاف أبعاد الزمان والمكان، ستظلّ حجابا كثيفًا يحول بين العارف والمعروف؛ بمعنى: لو بدأت رحلة العلم والمعرفة على الأرض، بحدودها الزمانية، فقد يدرك العارف 80% من أسرار الأرض، ما ظهر منها وما بطن، مثلا، ويبقى 20% من تلك الأسرار عصيّة على فهمه وإدراكه.
فأين تقف معرفة البشرية جمعاء من إدراك سرعة الضوء ومكوّنات إشعاعاته، التي تتفاوت بين ضوء وآخر، وبين حال وحال؟ أو من إدراك كثير من المخلوقات الدقيقة التي تتدفأ بين طيات ثيابنا، وتحيا على دقائق أجسامنا ودواخلنا؟ بل وحتى من إدراك كثير من الجزر والغابات والفلوات والصحارى البعيدة والقارّات الثلجية، ناهيك عن تصوّر أو إدراك ما بطن في كوكب الأرض، أو تحت المحيطات، من الأسرار والخفايا، التي تُعجِز قدرات وإمكانات أجهزتنا وتطورنا العلمي والتقني.
ولو استكمل الإنسان رحلته إلى الفضاء الخارجي، فسوف تقلّ معرفته بنسبة 50%، على أقل تقدير؛ إذ لن يسعفه عمره القصير ولا عقله القاصر على السفر إلى أبعد من مجرتنا، وربما تحصره معرفته ضمن مجموعتنا الشمسية، هذا إن لم تحبسه فوق أرضه، تحت شمسه وقمره.
أما عندما نأتي إلى العرفان بالعالَم الملكوتي والجبروتي، أو عوالم الذات والأسماء والصفات، فكيف يتأتّى للعارف أن ينفذ من عوالمه الكثيفة، وهو مقيّد بقيوده الوجودية، السابق ذكرها؛ قيود نفسه ولغته وعقله، وتفاوت أحواله وطبائعه، ومزاجه وفهمه، وبيئته وزمانه…ألخ. ثم يرتحل نحو غايته المطلقة( المعروف)، المتصف باللطافة والنورانية؟
الجواب متضمن في ذائقة العارفين، الذين وصلوا إلى أن المعروف لا حصر له ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ (الزمر: 67). لذا، فإن العارف يدرك ما تعينه على معرفته أدواته المعرفية المحدودة، كالبصر والسمع والفؤاد، وهو يصوغ معارفه بلغته الكليلة، فلا يقدر أن يتجاوز حدود إمكاناته اللغوية، وحدوده المكانية. ومن هنا، يرى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (ت 1240م)، حلًا لهذا الإشكال، أن هناك تصوّرين للخالق؛ الأول: مطلق، يستحيل إدراكه؛ والثاني، محدود بعقل وقلب عبده؛ لذا، فإن عبارة ” أنا عند ظن عبدي بي” تؤوّل بأن الحق لا يظهر للعبد إلا في صورة معتقده؛ فإن شاء أطلق وإن شاء قيّد. فإله المعتقدات تأخذه الحدود، وهو الإله الذي وسعه قلب عبده، فإن الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه[17].
الشيخ أحمد زرّوق، بدوره، يرى أن المعرفة ممكنة، إذا تخلص العارف من قيوده المحيطة به. فالنفس كالمرآة الصقيلة يتجلى فيها كل شيء يقابلها من ماضي الوجود، والآتي منه، لكنها معوقة عن ذلك بأحد أمرين:
- إما صداها بصور الأكوان، شهودًا واعتمادًا واستنادًا؛
- أو انصرافها المقصود بالتوجه إلى غيره من العلوم، مما يصرفها عن المقصود بانطباعه فيها.
فلو انجلت في الأمر الأول لأبصرت لرفع حجابها، ولو توجهت في الثاني لرأت، لنفي احتجابها[18].
ها أنا: الفناء والبقاء
لذلك، يسعى العارفون إلى مقام التوحيد (ها أنا)، أو ما يشار إليه بمقام (الفناء)، وهو ” ليس فناء جسدٍ في جسد، ولا روحٍ في روح. إنه فناء إرادةٍ في إرادة، وأخلاقٍ في أخلاق، وصفات في صفات” [19]. ففي هذا المقام يفنى العارف في المعروف، وتفنى اللغة في الإشارة، وتفنى الإشارة في التنزيه، ويفنى العقل الجزئي في الكلي، ويشهر الفكر رايةَ التسليم. إذ ما حاجة العارف، عندها، إلى وسائط اللغة أو الفكر، لنقل وقائع الحال؟ فالخطاب منه له، ولا حاجة به لنقله إلى (الغير).
لكن استبعاد (الغير) أمر يرفضه بعض العرفانيين، لأنهم يرون أنه لا بد من توثيق تلك الأحوال، ونقلها للآخر؛ ولذا، كان لا بد من مرتبة أخرى، تلي الفناء، أسموها(البقاء بعد الفناء). فـ(الفناء)، الذي بات يعني استهلاك العارف لوجوده الحسي والعقلي، تضحية منه بها؛ للوصول إلى هدفه أو غاية رحلته الصوفية (ها أنت وربك). هذا الفناء له، عند كبار الصوفية، درجات ومراتب ودلالات. فهو، برأي سعاد الحكيم، تدرّج مع متصوفي العصور المتلاحقة: من فناء الأعمال المذمومة، إلى فناء الطباع المذمومة، ومن ثم فناء الصفات المذمومة، وصولا إلى فناء الشعور بالذات وبالآخرين، وعند هذا الحال، ظهر في المقابل مفهوم: البقاء[20]؛ الذي على الرغم من أنه يعني “أن يفنى العبد عما له، ويبقى بما لله”، لكن العبد الباقي تصير الأشياء كلها له شيئا واحدًا، وتكون حركاته في موافقات الحق دون مخالفاته[21]؛ فهو محاولة من العارف لاستعادة أدوات لغوية وفكرية جديدة، في مقابل الوجود الذي يعيش فيه. إذ يرى ابن عربي أنه فيما يكون الفناء نسبة الشخص إلى الكون، فإن البقاء نسبته إلى الحق[22]. ويلاحظ عفيفي أن تعريفي (الفناء والبقاء) يأتيان متضايفان إلى بعضهما دائمًا؛ فالفناء عن المعاصي يقتضي البقاء بالطاعات، والفناء عن البشرية يقتضي البقاء بالإلهية[23].
وقد استعمل بعض العارفين مصطلح الفناء للدلالة على أن الكائنات لا توجد بذواتها، بل تستمدّ وجودها من الله[24]. فلم يكن أي من المتصوفة يعني، عند سعيه للفناء أو الاتحاد، اتحاد خالق بمخلوق، حيث تتباعد المسافات، وتختلف الحيثيات والذوات؛ بل يعني فناء الظواهر في الحق الواحد. أما لدى بعض المعتدلين، كالمدرسة الشاذلية، فلم يذهب العارفون بالفناء إلى درجة إلغاء وعي الإنسان أو نفي ذاته، بل قصدوا به إنكار تلك الذات[25].
ويلخّص الطوسي في اللمع أهم نظرات العارفين في الفناء، فيقول: وجدت ليوسف بن الحسين [الرازي] (ت304ه) في التوحيد – والتوحيد عند كثير من المتصوفة يرادف الفناء- ثلاث أجوبة:
- الأول منها في توحيد العامة، وهو الانفراد بالوحدانية، بالفناء عن رؤية الأضداد والأنداد والأشباه والأشكال، مع السكون إلى معارضة الرغبة والرهبة.
- والثاني: توحيد أهل الحقائق على الظاهر، وهو الإقرار بالوحدانية بذهاب رؤية الأسباب والأشباه.
- والثالث: توحيد الخاصة، وهو أن يكون العبد بسره ووجده وقلبه كأنه قائم بين يدي الله، تجري عليه تصاريف تدبيره، وتجري عليه أحكام قدرته في بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وذهاب حسّه، بقيام الحق له في مراده منه[26].
وقد لخّص كثير من العارفين مثل تلك المعاني الذوقية في كتاباتهم وأشعارهم، فهذا الشيخ مصطفى أبو ريشة، الشاذلي اليشرطي، يصف تلك العلاقة بقوله:
واجتمعنا في إنــاء واحــــــــــــــــــــــــــــــدٍ وتفرّقنا لتشكيل الصـُـــــــــــــــــــور
وانطوينا بين أكنافِ الحِمى وانتشرنا عندما الحقّ ظهَر[27]
وأستعين بقول للشيخ أحمد العلاوي المستغانمي، يصف بكثير من التشبيهات الجميلة معنى الفناء، فيقول:” استهلكت الكتب في نفس الكلام، واستهلك الكلام في نفس الكلمة، واستهلكت الكلمة في نفس الحَرف. فلا وجود للكلمة إلا بوجود الحَرف، والكل مندرج تحت (وحدة الشهود)، المعبّر عنها بالنقطة (أم الكتاب)” [28].
وأختم بهذا القول لأبي بكر الشبلي (ت 946م) الذي لخّص فيه معاناة الإنسان في رحلة العرفان، حيث قَالَ: “من أجاب عَنِ التوحيد بالعبارة فَهُوَ ملحد، ومن أشار إِلَيْهِ فَهُوَ ثنوي، ومن أومأ إِلَيْهِ فَهُوَ عابد وَثَن، ومن نطق فِيهِ فَهُوَ غافِل، ومن سكت عَنْهُ فَهُوَ جاهل، ومن توهّم أَنَّهُ واصل فليس لَهُ حاصل، ومن رأى أَنَّهُ قريب فَهُوَ بعيد، ومن تواجد فَهُوَ فاقد. وكل مَا ميزتموه بأوهامكم، وأدركتموه بعقولكم فِي أتمّ معانيكم، فَهُوَ مصروفٌ، مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم” [29].
* دكتوراة الفلسفة من الجامعة اللبنانية.
[1] جعلها بعضهم سبعة، واسترسل آخرون فيها، فجعلوها تزيد عن ثلاثمئة. انظر: الهروي، عبد الله الأنصاري، منازل السائرين إلى الحق، عز شأنه، ط2، القاهرة: الحلبي، 1966م.
[2] اليشرطية، فاطمة، نفحات الحق، في الأنفاس العلية اليشرطية الشاذلية، ط 4، دون. مكان نشر: دون. ناشر، 1997م، الحديث 553.
[3] اليشرطية، المصدر السابق، الحديث 542.
[4] اليشرطية، المصدر السابق، الحديث 55.
[5] حديث (كان المرشدون يقولون للمريد: ها أنت وربك. ونحن نقول له: ها أنت).
[6] السكندري، ابن عطاء الله، الحِكَم، الحكمة 42؛ والآية من سورة النجم: 42.
[7] اليشرطية، نفحات الحق، الحديث 678.
[8] ينسب هذا البيت لسيدنا علي بن أبي طالب، إذ يقول قبله:
دواؤك فيك وما تشعر وداؤك منك فلا تبصر
أتزعم أنك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر
[9] اللطائف الروحية لأبناء الطريقة الشاذلية اليشرطية، ص 269.
[10] اليشرطية، نفحات الحق، الحديث 792.
[11] انظر: الأبيات على موقع: https://www.aldiwan.net/poem69234.html.
[12] اللطائف الروحية لأبناء الطريقة الشاذلية اليشرطية، ص 254.
[13] انظر: الأبيات على موقع: https://www.aldiwan.net/poem67610.html.
[14]زروق، أحمد، قواعد التصوف، القاهرة: المعاهد؛ وبيروت: الجيل، 1992م، ص103 و106.
[15]اليشرطية، فاطمة، نفحات الحق، ص 484.
[16] أبيات تنسب لسيدنا علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، انظر الديوان، على موقع: https://www.aldiwan.net/poem30937.html.
[17] ابن عربي، فصوص الحكم، شرح أبي العلا عفيفي، بيروت: دار الكتاب العربي، ط2، 1980م، ص 226.
[18] عياد، أحمد، المفاخر العلية في المآثر الشاذلية، القاهرة: دار الطباعة المحمّدية بالأزهر، 1964م، ص 58.
[19]الكلاباذي، مقدمة كتابه التعرف، ص5.
[20] الحكيم، سعاد، وحدة الوجود(مقال)، الموسوعة الفلسفية العربية، المجلد 2، القسم 2، 1988م، ص 1530 .
[21] الحفني، عبد المنعم، المعجم الصوفي، القاهرة: دار الرشاد، 1997م، ص 45 .
[22] الحكيم، سعاد، المعجم الصوفي، بيروت: دندرة، 1981م، ص 203.
[23] عفيفي، أبو العلا، التصوف: الثورة الروحية في الإسلام، القاهرة: دار المعارف، 1963م، ص 181.
[24] حلمي، محمد مصطفى، ابن الفارض والحب الإلهي، القاهرة: دار المعارف، 1971م، ص 305.
[25] عبد القادر محمود، دراسات في الفلسفة الدينية والصوفية والعلمية، القاهرة: دار الفكر العربي، 1978م، ص 376.
[26] السراج، أبو النصر، اللُمع، القاهرة: دار الكتب الحديثة، تحقيق عبد الحليم محمود وطه سرور، 1960م، ص 50-51.
[27] اللطائف الروحية لأبناء الطريقة الشاذلية اليشرطية، ص256 .
[28] أحمد العلاوي المستغانمي، الأنموذج الفريد المشير لخالص التوحيد، ط 4 ، مستغانم: المطبعة العلاوية، ص 10.
[29] القشيري، عبد الكريم، الرسالة، تحقيق معروف زريق وعلي عبد الحميد، ط2، بيروت: الجيل، 1990، ص301.