الإحـسـان الـمـحـمّـدي
محمد المصطفى عزام
الإحسان من الحُسن، والحسن رديف الجمال. ومع كون الجمال عند أهل الفكر من عُليا القيم، إلا أنه يَقصُر في العربية عن معاني الحُسن ومبانيه؛ نعم، وُصف كل من الشكل والصبر والفعل والهجربـ”الجميل”، لكنّ “الحَسَن” يشمل كلا من السَّمت والخُلُق معا، كما أن “الإحسان” في وصف العطاء هو أكمل من “الإجمال”، تُبين ذلك قصةُ الأعرابي الذي طالبَ النبيَّ عليه الصلاة والسلام بأن يمنحه ما يريد، وبعدما أعطاه سأله: أحسنتُ إليك؟ قال: لا، ولا أجملت؛ وما كان لرسول الله أن يرضى بغير الإحسان فزاده حتى رضي. ثم أين من مفردات الجمال ما يرادف “الحُسنَى” و “التي هي أحسن” في المعاملة؟ وأين منها وَصْفُ الله أسماءه بـ”الحسنى”؟
وفي حديث جبريل عليه السلام تشير كلمة “الإحسان” ( أن تعبد الله كأنك تراه) إلى اكتمال مراتب الدين، بدءا من الشهادة ثم انتهاءً بالمشاهدة؛ فتَسَعُ هذه الكلمة، فضلا عن المعاني السابقة، مفهوم الكمال، الذي لا يتحقق من غير إحسانٍ، هو تتويجٌ لمراقبةٍ دائمةٍ وإتقان. ولطالما حاول المفكرون ربط الجمال بالكمال، لكنْ لا أقربَ إلى الكمال ـ كما تبيَّن ـ من الإحسان.
ومن المعلوم أن الكمال المطلق هو لله وحده، لكنْ للإنسان كمال نسبي بـ “القوة”، هوخَلِيقة واستعداد، ويمكن أن يُحققه بـ “الفعل” حسْب مشيئة إلهية واجتهاد، أما للأنبياء فهو جِبِلَّة ولوُرّاثهم وَهْب واكتساب.
يخبرنا الوحي الكريم أن الإنسان وبنيه قد خُلقوا «في أحسن تقويم»، وأُمروا بأن يصّعّدوا في درجات “الإحسان” ليرتقوا من أسفل سافلين، ويعودوا إلى سلامة القلوب وعرفانها، وصفاء الأرواح وإقرارها، يومَ لا يوم، عند إشهاد الحق إياها على أنفسها: «ألست بربكم»؟ وقولها حينئذ:«بلى». لكن كيف السبيل إلى التذكر؟ ولا يحيط بالإنسان إلا ما يُنسي ذلك الميثاق العظيم. غير أن تاريخ البشرية حافل بالمذكِّرين الهداة، كلما اشتدت ظلمات الغفلة والنسيان.
إن هذا الكلمة مُخصَّصة لمولد “الكلمات” التي توالت أنوارها على الإنسانية منذ وجودها، متجليةً طورا بعد طور في أنبياء الله ورسله الحاملين لقبسات مستمدة من الرحمة العظمى التي أهداها الله للعالمين، لتكون سراجا منيرا للحائرين، إنه محمد الشاهد الأمين، سيد الأولين والآخرين، مَن كان نبيا وآدمُ بَعدُ ماءٌ وطين؛ فيكون الاحتفال بمولده احتفاء أيضا بكل إخوانه السابقين له في البشرية، الملتمسين من حقيقته الروحية.
وإذا كان هذا النبي الهاشمي قد نشأ يتيما، فلأنه لم يكن محتاجا إلى من يؤويه ويربيه، كيف وقد قال عن نفسه: “أدبني ربي فأحسن تأديبي”؛ وإذا كان رسولا أميا لم يقرأ ولم يكتب، فقد علَّمه الله ما لم يعلم وأمره أن يستزيد من العلم، وأي علم هو؟ إنه العلم الذي خُصَّ به، فضلا عما بثه الله في بني الإنسان وظهر جلُّه في ما تعيه العقول وما تحويه النقول؛ فقد أشَعَّتْ أنوار علم الحقيقة المحمدية على الخلائق، وتجلى بعضها في ما أبرزوه من الأذواق والرقائق؛ ذلك أنه علم مقرون بالرحمة، كما اقترن بها علم العبد الذي لقيه موسى وفتاه، ففي الكتاب الحكيم: «فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنّا علما»[الكهف18/64]، فالعلم إذا لم تكن معه رحمة يعود نقمة على صاحبه وعلى غيره، والواقع المشهود في كثير من الأبحاث الجينية والصناعات الحربية يؤيد ذلك. ولا جدال في أهمية العلم حسب التوجيهات النبوية التي بلغت به حد “الفريضة”، وحثت على طلبه ولو “في الصين”، كما أن “الحكمة” تعليم نبوي وهي في نفس الوقت “ضالّة المؤمن”؛ وغير خاف ما ينتجه اجتماع العلم والحكمة من اكتمال، لأن العلم البشري محتاج إلى تقويم وتوجيه، ولا يتأتى ذلك إلا بالحكمة التي هي نوع من الرحمة الربانية للخلق أجمعين: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» [الأنبياء21/107].
ولا أقربَ لهذه الرحمة من المحسنين الذين تأسوا بإمام المرسلين، فقرأوا باسم ربهم ما سطَّرتْه في قلوبهم محبة الأُمِّيِّ الأمين، الذي قيل له: “اِقرأ”…”اِقرأ”…”اِقرأ”، فقرأ النور المبين في النفس وفي الآفاق، وترجم المقروء إلى معاملات وأخلاق، أثنى عليه بها الواهب الخلاق، فهبَّ صحبُه يبثون النور في العقول ، ويزرعون الخير في القلوب. لكنّ العقول دب إليه اليوم فتور، والقلوبَ لفّتها أغلفة الغفلة، فسادت الحيرة والنسيان ، وربما الجحود والنكران.
فيا رسول الله اقرأ علينا ميثاق أرواحنا الأول، لعلنا نتذكر السؤال والجواب، فلا نتنكّر، ونفهم الخطاب.
يا نبيَّ الله اقرأ علينا الأسماء التي أنبأ بها أبونا ملائكةَ الرحمن، قُدْنا إلى أنوار المكارم حتى لا نبقى أُسارَى التباغض والحرمان.
يا حبيب الله اقرأ علينا حكمة المحبة، قُدنا إلى كمال الإحسان.