متى يصبح التّجديد مستحيلًا؟

متى يصبح التّجديد مستحيلًا؟

                                 متى يصبح التّجديد مستحيلا؟

                                                                   بقلم د. ناجي الحجلاوي    

المقدّمة:

          منذ زمن بعيد، تعالت أصوات كثيرة تعلي من قيمة التّجديد للفكر الإسلامي والاجتهاد فيه وعضدتها أصوات شبيهة بها في المقصد والهدف في العصر الحديث[1]، إلّا أنّ صدى هذه الدّعوات في الواقع يكاد لا يُذكر. وفرضيّة هذا البحث تتمثّل في الوقوف على معوّقات التّجديد وكلّ ما يجعله مستحيلا من قبيل التّقليد في الأدوات المنتجة للمعرفة والتّصوّرات المشكّلة للإطار الثّقافي العام.

         لقد أبدع العلماء في القرون الهجريّة الأولى منظومة ثقافيّة أجابت عن كلّ سؤال طرحوه، وهم قد سيّجوا ما أبدعوا بأدوات ومقولات من شأنها الإبقاء على هذه المنظومة، والمحافظة عليها. ولا سبيل أمام النّاقد والدّارس إلاّ أن يمتثل إلى هذا السّياج المُتمثّل في: لا اجتهاد  فيما فيه نصّ، وضرورة مراعاة المعلوم من الدّين بالضّرورة أو اعتماد القياس، وما أن يسير الباحث ضمن هذه المحدّدات حتّى يُلفي نفسه يدور في فلك مطروق، ويمشي في سبيل ناجزة. وهذه الحركة الدّائريّة الّتي تُراوح مكانها يُسمّيها علم الكلام بحركة الاعتماد. وإذا نصّت بعض الآيات على ضرورة التّدبّر والتّفكّر والسير في الأرض للنّظر كيف بدأ الخلق فإنّ المسلمين، على الأقلّ في هذا الزمن، لم يسيروا قيد أنمولة. وإذا دعتْ بعض الأحاديث للاجتهاد والتّجديد من قبيل: “خير من مشى على الأرض المعلّمون الّذين كلّما خلق الدّين جدّدوه”[2] وكذلك الحديث القائل: “إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة عام من يجدّد لها دينها”[3]، فإنّ كلّ من حاول التّجديد جُوبه بأمريْن: الأوّل هوّ ليس هذا الاجتهاد من أهله والثّاني هوّ أنّه تجديد في غير محلّه. وهكذا ظلّ التّجديد مستحيلا. فما حقيقة هذه الاستحالة؟

جدل الختم والحتم:

مازال كتاب الله يمثّل معينا لا ينضب يمدّ العقل بمعارف عليقة بشتّى المجالات دون أن يكون هذا الكتاب مختصّا في فرع من فروع المعرفة المحدّدة وإنّما هوّ كتاب هداية وهو  كذلك بما تضمّنه من إشارات وإيحاءات جعلت منه كتابا كلما ابتعد في الزّمن عن لحظة تنزّله وإنزاله إلاّ وازدادت مصداقيّته في الواقع وتضاعفت علامات إعجازه المتنوّعة. والإنسان مشدود، بفطرته، بقوّة إلى معرفة الحقيقة. والإجابة الّتي يقدّمها القرآن بسيطة تتمثّل في أنّ الله هوّ الحقيقة الأولى. وهو قد نفخ من روحه في الإنسان[4]. وبهذه النفخة من المعرفة الإلهية صار قادرا على الفهم والتّجريد والتّدبر والفصل بين الدّال والمدلول.

 إنّ هذه الإشارات تزوّد النّاظر المتدبّر، بضروب من المعاني المنتَجة في التّاريخ بما يبدعه من مفردات يتملّك بها روحيّة الوجود بما يقف عليه من حقائق وما يكتنهه من صنوف الإدراك والمعارف.

لقد أدرك المسلمون وعلى رأسهم العزّ بن عبد السّلام منذ وقت مبكر في كتابه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام” الفرق بين النّبوءة والرّسالة. وإذا كان كلّ رسول نبيّا بالضّرورة ولا ينعكس، فإنّ الأهمّ من ذلك هوّ الانتباه إلى أنّ النّبوءة علوم ومعارف، وأنّ الرّسالة أحكام. والإعجاز إنّما يتمّ في النّبوءة حيث الأخبار والقصص وذكر القوانين الطّبيعيّة والإشارة إلى السّنن السّاحقة الماحقة وهي الّتي تحدّى بها النّبيّ إبراهيم خصمه الّذي بُهتَ. وأمّا الرّسالة فأحكامها غير معقّدة سهلة لا تندّ عن الإدراك البشريّ ومع ذلك فإنّ النّبيّ مجتهد في مقام النّبوءة ومعصوم في مقام الرّسالة[5]. والخطاب القرآني شديد الدّقة في هذا التّفريق بين المقاميْن يتوب ويغفر ويعاتب النّبيّ ويعلن أنّ الرّسول مكلّف بمهمّة محدّدة هيّ التّبليغ “مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ  وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ”[6]. ولا تفوت الإشارة في هذا الصّدد إلى سماحة الإسلام البادية في التّفريق بين الإبلاغ والتّبليغ لأنّ الّذي لم تبلغه رسالة الإسلام إنّما هوّ محاسب بحسب الشّريعة الّتي هوّ من أهلها. وانظر إلى النّبيّ صالح لمّا كان مكلّفا بإبلاغ النّاس واحدا واحدا تبرئة للذّمّة وتوفية لواجب الإبلاغ فإنّه تولّى عنهم لمّا أزفت ساعة البلاء قائلا ” فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـٰكِنّ لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ”[7].

لقد تدرّج الله بالعقل البشري عبر النبوءات المتعاقبة من مراحل الإحياء والتّجسيد والتّشبيه عبر العصور المتعاقبة وقد بدا ذلك في جنوح هذا العقل إلى عبادة الكواكب  والأصنام المتجسّدة في الأشجار والأبقار والأحجار والعجل ذي الخوار والأقانيم الثّلاثة إلى أن بلغ سنّ الرّشد وبدت عليه ملامح النّضج فحلّت النّبوءة العالمة الّتي بدأ الوحي فيها بإعلان العمليّة التّعليميّة برمّتها، وهي الظّاهرة في فعل القراءة بالله ومع الله[8]. وفي هذه الرّسالة تمّ الإعلاء من شأن العلم والعلماء وجُعل العلم مقياسا موازيا للإيمان في تحديد الرّفعة وتبوّؤ أسمى المراتب عند الله وفي المجتمعات السّويّة. ومصداق ذلك الآية الكريمة القائلة:” يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ  وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”[9]

لقد شرع الوحي الباب على مصراعيه أمام الإنسان كي يُعمل عقله فهما وتدبّرا ونظرا وتفكرا كي يستنبط ويستقرئ ويبدع ويخترع سيْرا على  سَمت النّبوءة الّتي سلّحت العقل بمنهج أكثر ممّا أمدته بمضامين. ولعلّ ذلك هوّ المعنى الكامن في الخاتميّة، وقد عبّر عنه محمّد إقبال أحسن تعبير حين قال: “إنّ النّبوءة لتبلغ كمالها الأخير في إدراكها الحاجة إلى إلغاء النّبوءة ذاتها”[10]. وهكذا تمّ الختم في الرّسالة وتأكّد الحتم في بذل الجهد تفكرا وتدبّرا لأنّ كتاب الله قد تمّ تنجيمه تنزيلا ولم يتمّ تنجيمه تأويلا[11]. إلاّ أنّ أتباع هذا الكتاب رفضوا التدبر وقنعوا بالاجترار والتّقليد فراوح العقل الدّيني مكانه فعرض نفسه إلى آفات غير قليلة.

آفات التّقليد:

 لقد انزحت الثقافة الإسلامية من مستوى قال الله إلى مستوى قال النبيّ ثمّ ما قال الصّحابي ثمّ التّابعي ثمّ العالم ثمّ الفقيه. وهذا الانزياح شكلّ الحجاب الّذي حال دون فهم الكتاب. وهذا الحجاب يُمارس مخاتلة تتمثّل في كونه يُخفي ما بدا له أن يُخفيَ ممّا هوّ كائن ويُبدي ما بدا له أن يُبديَ ممّا ينبغي له أن يكون. وهكذا أضحت علاقة المسلم بكتابه المقدّس، منبع الفكر والثقافة، علاقة فولكلورية. سلفت الإشارة إلى أنّ الرّسول قال مّا نصّه:” خير من مشى على الأرض المعلّمون الّذين كلّما خلق الدّين جدّدوه”[12]. والمعنى الوارد في عبارة “خَلَقَ” يدعو إلى التّفكير في غلبة العادات والتّقاليد وسيادة الأوهام على الأفهام حيث تلبّس تنظيم الحلال الّذي مارسه النبي بمسألة التّشريع فأصبحت بذلك كلّ حركة وكلّ سكنة وكلّ لباس ومأكل ومشرب ضربا من السّنة. ومن ثمّ عم المقدّس كلّ تفاصيل الحياة. وقد سعى الفقهاء إلى ضبط كلّ صغيرة وكبيرة في حياة النّاس حتى صار المرء لا يُنجز عملا إلاّ بعد أن يستفتي فيه العالم والفقيه والمفتي في إعراض عن قراءة الوحي وتدبّره. ولما نهض الأوائل بمهمة تعمير الأرض واستحضار قيم خلافة الله فيها نهض المسلمون بإرساء حضارة متقدمة ولكنّ غلبة القول بالوقْف سبب عطالة العقل المسلم على العطاء بمفعول الانقلاب السياسي الأموي والعباسي وما صاحبه من استبداد فارتد الفكر إلى التّقليد تبرّكا بعهد الصحابة والأجيال الأولى واسمع للغزالي يقول:” سائر الصحابة لا يصل أحد ممّن بعدهم إلى مرتبتهم لأنّ أكثر العلوم الّتي نحن نبحث وندأب فيها الليل والنّهار حاصلة عندهم بأصل الخِلقة من اللّغة والنّحو والتّصريف وأصول الفقه وما عندهم من العقول الرّاجحة وما أفاض الله عليهم من نور النّبوءة العاصم من الخطأ في الفكر يُغني عن المنطق وغيره من العلوم العقلية”[13]. وهو في الحقيقة يقطف ثمرة غرس شجرتها المتوكّل عندما قال: أما وسعكم ما وسع الصحابة؟

لقد كان كتاب الله كتابا مفتوحا على عهد الرّسول والعهد الرّاشدي يتمّ تناقله رواية حيّا على الشفاه وكان الرّسم المكتوب في البداية عسير على القراءة لغياب التّنقيط والتّشكيل. وكانت المصاحف الأولى تتضمن سورا لا تحمل أسماء ولا عدد الآيات ولا نوعها مكية أو مدنية. فهو حينئذ لم يتشكل دفعة واحدة[14]. يقول ابن خلدون في هذا الصّدد:” كان الخطّ العربي لأوّل الإسلام غير بالغ الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة لما كان عليه العرب من البداوة والتوحش. وانظر إلى ما وقع لأجل ذلك في رسمهم للمصحف. كتبه الصحابة بخطوطهم وكانت غير مستحكمة الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته صناعة الخطوط عند أهلها. ثمّ اقتفى التّابعون رسمهم تبرّكا بما رسمه أصحاب رسول الله خطأ أو صوابا وقد نبّه علماء الرّسم على مواضعه”[15].

وانطلاقا من ذلك فقد عمل المسلمون الأوائل على تحسين القرآن شكلا فرُتبت السّور على الشكل الّذي وصلنا مع ضبط اسمها وعدد آياتها ونوعها مكية أم مدنية، ثمّ أضيف التّشكيل والتّنقيط على مراحل ثمّ استبدل الحجاج إحدى عشر حرفا من المصحف العثماني في الرسم وهذه التّغييرات على الشكل التّالي:

السورة الآية الأصل التغيير القراءة المعتمدة في التّغيير قراءة ما قبل التّغيير
البقرة 259 لم يَتَسَنَّ لم يَتَسَنَّهُ قراءة حمزة والكسائي ويعقوب وخلف ( كتاب المصاحف ص 276) قراءة حمزة والكسائي ويعقوب وخلف ( كتاب المصاحف ص 276)
المائدة 48 شريعة ومنهاجا شِرعة ومنهاجا قراءة متواترة(كتاب المصاحف ص 277) قراءة ابن مسعود(كتاب المصاحف ص 277)
يونس 22 هو الذي يَنْشُرُكُمْ هو الذي يُسيّرُكُمْ إمام أهل العراق. قراءة غير ابن عامر وأبي جعفر إمام أهل الشام(كتاب المصاحف ص 269)قراءة ابن عامر وأبي جعفر
يوسف 45 أنا آتيكُم بتَأويله أنا أُنْبِئُكُمْ بتَأويله   أبيْ بن كعب(كتاب المصاحف ص 277)
المؤمنون 85…89 سيقولون:الله..الله..الله سيقولون:الله..الله..الله قراءة أهل البصرة قراءة المدينة وأهل الكوفة (كتاب المصاحف ص 257)
الشعراء/ قصة نوح 116 من المخرجين من المرجُومين    
الشعراء/قصة لوط 167 من المرجُومين من المُخْرجين    
الزخرف 32 قَسَمْنَا بينهم معايِشَهم معيشتهم   قراءة ابن مسعود(كتاب المصاحف ص 277)
الذين كفروا(محمد) 15 من ماءٍغير يسن …غير آسن    
الحديد 7 فالذين آمنوا منكم واتّقوا فالذين آمنوا منكم وأنفقوا    
التكوير 24 ما هو على الغيب بظنين …بضنين قراءة غير ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ويعقوب(كتاب المصاحف ص 278) قراءة ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ويعقوب (كتاب المصاحف ص278)

ثمّ قُسمّت الآيات إلى أجزاء وأحزاب وأرباع وأثمان على العهد العباسي تسهيلا  للحفظ والقراءة. والسّؤال المهمّ هوّ لماذا توقّف هذا الجهد التّحسيني لإخراج الأساليب البيداغوجية والعلميّة الحديثة. وقد نادى عبد المتعالي الصعيدي الشيخ الأزهري منذ زمن بعيد بمثل هذه المقترحات ولكن لا حياة لمن تنادي تحت سلطة الوقْف فمن أين جاء هذا الموقف ومن أين اكتسب سلطته؟

لقد عمل الاستبداد الأمويّ ثمّ العباسي على احتكار الكتاب والتكلم باسمه حتّى إذا عارض شخص سياسة الحاكم تمّ استدعاء الجانب الدّيني الماثل في سلطة الحاكم وبذلك يُقدّم أمام الناس على أنّه خارج عن الدّين فيُفتى بكفره  وزندقته وهرطقته فيُجلد أو يُنفى أو يُقتل. وقد جلد المنصور الإمام مالك أمام النّاس. وجُلد الإمام أحمد بن حنبل وبعدهما جُلد البخاري. وقد قُتل ابن المقفع تمزيقا وتحريقا. وكم نُفي العديد من العلماء من الأنظمة الاجتماعية القائمة وهي النّفي من الأرض على حدّ عبارة القرآن. وهكذا حوصر التّجديد والتّفكر الحرّ. وظلّت الثقافة تدور حوْل ذاتها تجترّ ما قيل، في غفلة عن مرور الزمن وتغيّر الأحوال.

لقد كان بإمكان المسلمين أن يُبدعوا طرائق تعليمية تقرب الوحي لأذهان المتعلمين بإيجاد نسخة من القرآن  تكون مفهرسة بحسب المواضيع المتكرّرة. ويتضمّن هوامش توضيّحية للموضوع ذاته وما فيها من آيات متشابهات عملا بقول الله تعالى “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً  كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ  وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا”[16]. ثمّ يتمّ تجاوز المطبات المنهجية الّتي سقط فيها المفسرون الأوائل وهي تشظي المعنى الوارد في النّص لأنّ التّفسير قد كان خطيّا يتناول الآية بعد الآية ممّا أوقع في التكرّار وقد اضطر الطبري إلى أن يقول: وقد مرّ بنا توضيح هذا المعنى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع[17]. وهذا التّشظّي قد ضيّع المعنى الكلّي للنّص. وعلى الخلاف من ذلك نبّه بعض المفكرين المعاصرين من أمثال أبي القاسم حاج حمد وقصي هاشم فاخر ومحمد شحرور إلى أنّ أفضل الطرق لفهم القرآن هيّ الجمع بين الآيات العديدة الّتي تتعلّق بالموضوع الواحد لاستخراج رؤية جامعة وكلّيّة وهو المقصود الكامن في الآية الكريمة ” وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا”[18].

إنّ من أهمّ الأعطاب المنهجية الّتي وقعت فيها المدوّنة التّفسيريّة هوّ قراءة القرآن في ضوء علاقة النّص بصاحبه فانبرى العديد من المفسّرين يبحثون عن قصد الله ومقاصد الشارع حتّى خول البعض لنفسه أن يُوقّع بدلا عن رب العالمين، والحال أنّ الله تعالى أمر قارئ القرآن أن يتدبّره في ضوء علاقته هوّ بالنّص لذلك تكرّرت الآيات الّتي تحث على الفعل المنسوب للقارئ وذلك في أربعة مواضع وهي “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا”[19] وكذلك الآية “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”[20] وكذلك الآية “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ”[21] وكذلك الآية “أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ”[22]. ولو قرئ القرآن في ضوء هذه الزاوية المنهجية لا أنتجت معارف دينية جديدة لم تكن مألوفة من قبل. وهذا الإنجاز يدور حول إعادة توجيه النموذج على حدّ عبارة فتحي المسكيني[23]. ودون هذه الإعادة سيظل التّجديد مستحيلا وتظلّ الثّقافة العربية الإسلاميّة على ما هيّ عليه. ويظلّ الصّراع على أشدّه بين المقلّدين والمجدّدين محدثا اختلالا في العلاقة الرابطة بينهم[24]. وهو الجدل الضّروري المُفضي إلى ما هوّ أفضل والأكثر ملاءمة للزّمان والمكان حيث تتقاطع تيارات البحث المتعدد الاختصاصات الّتي تضم كلّ متطلبات التّفسير الّذي يتبنى مكتسبات العلوم الإسلامية الكلاسيكية واسهامات العلم الاستشراقي والآفاق الّتي تفتحها العلوم الإنسانية[25].

 

الخاتمة

        بدا الأمر واضحا ممّا تقدّم لماذا تعالت أصوات عديدة تنادي بالتّجديد ورغم ذلك لم يتحقّق. فإذا لم يطل التّجديد استبدال الأدوات المنتجة للمعرفة فإنّه من العبث الحديث عن اجتهاد وعن تجديد. وإذ دأب الكثيرون على القول: لم يترك الأوائل للأواخر شيئا إلاّ قالوه ووضّحوه. في حين أنّهم قالوا أمورا سمحت بها آفاق المعرفة الّتي كانت سائدة. وهم قد ساهموا في إنتاجها. أمّا أن يكون السلف قد بدّدوا المسافة الفاصلة بين آفاق اللّغة القرآنيّة وآفاق التّفكير البشري فهو أمر لايستطاع.

        إنّ تجديد الفكر ثمرة طبيعية لمراجعات نقدية مستمّرة لبرامج دراسية وبرامج ثقافية. أمّا أن يظلّ المقرّر المدرسي ثابتا لايتغيّر فإنّ أثره المنطقي على المفكرة هوّ أن تثبّت وتجمّد. وحينئذ تجنح إلى الملخّصات والحفظ والإعادة والاجترار، فضلا عن الحركية الّتي يجب أن تتجسد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية.

        إنّ حركات التّقدم يجب أن تمسّ كلّ الشّرائح الاجتماعية وكلّ جانب من جوانب الحضارة حتّى يطلق عليها اسم التّقدم والنهضة. ولعلّ الأزمة الفكريّة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة تجسّدت كالتّالي: حلمت السّلفيّة بإمكانية العودة إلى الزّمن الذّهبي الّذي عاشه الصحابة في الماضي، وهكذا تمّ عيش الحاضر في الماضي. ثمّ جاء رجال الإصلاح ومفكرو النّهضة فعكسوا الصّورة وقالوا باستدعاء الماضي إلى الحاضر وهكذا عاشوا الماضي في الحاضر. والنّتيجة واحدة في الحالتيْن وهي غيبوبة الوعي وفقدان النّهضة. لقد غاب فهم الواقع ومكوناته وغاب فهم النّص وفق مقتضيات المعرفة الإنسانيّة السّائدة.

         إنّ المدهش هوّ أنّ كلّ العلوم قد شهدت طفرات وتطورات إلاّ المعرفة الدّينيّة فإنّها لم تعرف تقدما قيْد أنملة لأنّ الفهم الخاطئ للمقدّس تحوّل إلى عائق وحائل دون ذلك والخطأ كامن في أنّ هذا المقدّس يشجّع على النّظر والتّدبّر أما المؤمنون به فقد أعرضوا عن ذلك.

بان حينئذ أنّ التّجديد في الفكر الدّيني هوّ جزء من تجديد الفكر عامّة ولا تجديد دون استنباط أدوات تجديدية في الفهم بصفة عامّة. ولا شكّ أنّ اللّسانيات والفلسفة وعلم اجتماع المعرفة وعلم النفس كلّها مجالات مهمّة في العلم من شأنها أن توفّر مناهج وآليات مساعدة على مباشرة النّص المقدّس والسّير فيه بخطى ثابتة نحو فهمه وإعادة فهمه. وقد أشار علي بن أبي طالب قديما إلى أنّ: « هذا القرآن إنّما هوّ خطّ مستور بين الدّفّتين لا ينطق بلسان ولا بدّ له من ترجمان وإنّما ينطق عنه الرّجال»[26] فلماذا الإصرار على الاقتصار على وجه واحد.

      إنّ الأمر الّذي غرّ الفهم وأغراه بالثّبات هوّ الخلط بين الكلام والكلمات. فالقرآن حين قال إنّه لامبدّل لكلمات الله[27] ظُنّ أنّه لاتبديل لكلام الله وأحكامه. والحال أنّ الكلمات هيّ المخلوقات وهي مخلوقات مرتبطة بقوانين ثابتة لاتتغيّر.

 

المراجع

– إقبال، محمد، تجديد الفكر الدّيني في الإسلام، تعريب محمد يوسف عدس، تقديم الشيماء الدّمرداش العقالي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، سنة 2011.

-الألباني، ناصر الدين، السلسلة الأحاديث الصحيحة، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، سنة 2004.

-ابن الجوزي، أبو الفرج، ، التحقيق في أحاديث الخلاف ، تحقيق مسعد عبد الحميد محمد السّعدني، ج4، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، سنة 1994.

 

-حاج حمد، أبو القاسم، ، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة العالميّة الإسلامية الثّانية، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، سنة 2004.

 

-ابن خلدون، عبد الرحمان، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي،دار نهضة مصر للطّبع والنّشر، ط3، دت.

-أبو داود، سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، السّنن،  شعيب الأرناؤوط وآخرون، دار الرسالة العالمية، ط1، سنة 2009.

-السخاوي، شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد، المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تحقيق محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، سنة 1985.

– السيوطي، جلال الدين، الردّ على من أخلد إلى الأرض وجهل أنّ الاجتهاد في كلّ عصر فرض، تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد، مؤسسة شباب الجامعة، مصر، سنة 1984.

-شحرور، محمد، الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، دت.

-الشرفي، عبد المجيد، مواقف كلاسيكية وآفاق جديدة، تعريب حسناء تواتي، مجلة الحياة الثقافية، تونس، عدد56، سنة 1990.

-ابن أبي طالب، عليّ، نهج البلاغة، جمع الشّريف الرضيّ، ضبط صبحي الصالح، بيروت، دار الكتاب اللّبناني، ط 1، سنة 1967.

-عبد الرحمان، طه ، العمل الدّيني وتجديد العقل،  المركز الثقافي العربي، المغرب، ط2، سنة 1997.

– الغزالي، أبو حامد ، فيصل التفرقة بين الإسلام والزّندقة، تحقيق سليمان دنيا، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة،  ط1، سنة1961 .

 

– المسعودي، حمادي، الوحي من التّنزيل إلى التّدوين، دار سحر للنشر، تونس، ط1، سنة 2005.

-المسكيني، فتحي، محاضرات بيت الحكمة، مقال بعنوان: الفلسفة والقرآن في زمن “المراجعيين”، بيت الحكمة، تونس، ط1، سنة2018.

– النيفر، احميد، ، الإنسان والقرآن وجها لوجه: التفاسير القرآنية المعاصرة: قراءة في المنهج، دار الفكر، دمشق، سوريا،  ط1، سنة 2000

 

-Gardet, Louis, Humanisme musulman d’hier et d’aujourd’hui : Elements culturels de base, publications de l’institut des belles lettres  Arabes, 1er trimestre, 1944, pp 3-40.

-Talbi, Mohamed, universalité du coran, Actes Sud, 2002.

 

 

                                الهوامش

[1] انظر على سبيل المثال جلال الدين السيوطي، الردّ على من أخلد إلى الأرض وجهل أنّ الاجتهاد في كلّ عصر فرض، تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد، مؤسسة شباب الجامعة، مصر، سنة 1984. وطه عبد الرحمان، العمل الدّيني وتجديد العقل،  المركز الثقافي العربي، المغرب، ط2، سنة 1997.

 

[2] رواه عبد الله بن عباس في “التحقيق في أحاديث الخلاف ” لأبي الفرج ابن جوزي، تحقيق مسعد عبد الحميد محمد السّعدني، ج4، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، سنة 1994، تحت رقم 187.

[3] رواه أبو هريرة في سنن أبي داود تحت رقم 4291. وصححه السخاوي في المقاصد الحسنة تحت رقم 149. والألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم 599.

[4]  Mohamed, Talbi, universalité du coran, Actes Sud, 2002, p 56.

[5] محمد، شحرور، الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، دت، وبالتّحديد الفصل الثّاني: النبوة والرسالة ص ص 101-139.

[6] المائدة 5، الآية 99.

[7] الأعراف 7، الآية 79.

[8] انظر أبا القاسم، حاج حمد، جدلية الغيب والإنسان والطبيعة العالميّة الإسلامية الثّانية، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، سنة 2004، وبالتّحديد الفصل الثّالث: قراءتان في قراءة واحدة، ص ص 227-237.

[9] المجادلة 58، الآية 11.

[10] محمد، إقبال، تجديد الفكر الدّيني في الإسلام، ترجمة محمد يوسف عدس، تقديم الشيماء الدّمرداش العقالي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، سنة 2011، ص 20.

[11] احميد، النيفر، الإنسان والقرآن وجها لوجه: التفاسير القرآنية المعاصرة: قراءة في المنهج، دار الفكر، دمشق، سوريا،  ط1، سنة 2000، ص 132 وما بعدها.

[12]  رواه ابن مردويه كما عزاه إليه غير واحد، وذكره ابن الجوزي في ” التحقيق في أحاديث الخلاف “، تحقيق مسعد عبد الحميد محمد السعدني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، سنة 1994، تحت رقم 219/2.

[13]  أبو حامد الغزالي، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، تحقيق سليمان دنيا، دار إحياء الكتب العربية، ط1، سنة 1961، ص 50.

[14] حمادي، المسعودي، الوحي من التّنزيل إلى التّدوين، دار سحر للنشر، تونس، ط1، سنة 2005، ص 90 وما بعدها.

[15]  ابن خلدون، المقدمة، تحقيق علي عبد الواحد وافي، ج1، دار نهضة مصر للطبع والنشر، ط3، دت، ص 145.

[16]  الفرقان 25، الآية 32.

[17] انظر الطّبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، مج7، تحقيق أحمد عبد الرازق البكري ومن معه، دار السّلام للطباعة والنشر والتوزيع والتّرجمة، القاهرة، مصر، ط2، 2007، ص5219.

[18] المزمل 73، الآية 4.

[19] النساء 4، الآية 82.

[20] محمد 47، الآية 24.

[21] ص 38، الآية 29.

[22] المؤمنون 23، الآية 68.

[23] فتحي، المسكيني، محاضرات بيت الحكمة، مقال بعنوان:  الفلسفة والقرآن في زمن “المراجعيين”، بيت الحكمة، تونس، ط1، سنة 2016-2017، ص 348.

[24] Louis, Gardet, Humanisme musulman d’hier et aujourd’hui : Elements culturels de base, publications de l’institut des belles lettres  Arabes, 1er trimestre, 1944,  p10.

[25] عبد المجيد ،الشرفي،مواقف كلاسيكية وآفاق جديدة، تعريب حسناء تواتي، مجلة الحياة الثقافية، تونس، عدد56، سنة 1990، ص 30.

[26] عليّ بن أبي طالب، نهج البلاغة، جمع الشّريف الرضيّ، ضبط صبحي الصالح، بيروت، دار الكتاب اللّبناني، ط 1، سنة 1967، ص 182.

 

[27] انظر الآية 34 من سورة الأنعام6، والآية 115 من السورة نفسها، والآية 27 من سورة الكهف 18.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!