هل وقع سبينوزا ضحية لحكم التعزير؟
بقلم:لميس فايد
لست هنا بصدد الحديث عن حسن حنفي المترجم، فترجماته الرائقة الدقيقة لـ”رسالة في اللاهوت والسياسة” لسبينوزا مع المقدمة الفخيمة الشارحة، التي استهلها بعبارة “إلى من ينظرون إلى الكتب المقدسة نظرة علمية”، استعرض فيها ظروف القرن السابع عشر في أوروبا بشكل عام وامستردام بشكل خاص التي كان يغلب عليها الجدل اللاهوتي. كما نوه لاستناده على الترجمة الفرنسية الحديثة للرسالة في ترجمته العربية[1]، التي لولاها لظلت الرسالة غير معلومة للقارئ العربي، فلقد صدرت عام 1670[2] وترجمت من فورها إلى الهولندية، حيث كانت العادة ترجمة أعمال سبينوزا من اللاتينية إلى الهولندية فورًا[3]. فيكون غلى الأقل ثلاثة قرون فارقة في المعرفة الفلسفية تفصل أوروبا عن العالم العربي واطلاعه على أهم الأعمال الفلسفية المؤثرة في التنوير الأوروبي!
لم يتعرض حسن حنفى من قريب أو من بعيد إلى أزمة سبينوزا مع السلطات الدينية في طائفته اليهودية السفردية في امستردام، ولهذا اخترت الحديث عما هو معروف بشكل عام أن سبينوزا قد تعرض لحرمان من طائفته، وحرمان هو ترجمة قريبة ولكن غير دقيقة من الفعل العبري חרם وتعني النفي أو الإبعاد. عرفت اللغة العربية الحكم بالنفي الديني من التراث الكنسي في المحيط العربي “الحرمان الكنسي” حيث أن مفردة حرمان وحدها لا تشير إلى الدلالة المقصودة، فالحرمان هو حرمان من طقوس الأسرار المقدسة في الكنيسة. من المثير الإشارة إلى أن مرسوم الحرمان الصادر من الطائفة لم يصل إلينا في لغته العربية الأصلية، فهو مفقود، وما وصل إلينا الترجمة البرتغالية للمرسوم[4]، حيث كانت البرتغالية لغة الطائفة السفردية المهاجرة من أسبانيا والبرتغال واستقرت في هولندا هربًا من اضطهاد متكرر.
أدين في هذا الورقة إلى محاضرة الأستاذ Itzhak Melamed المتخصص في تراث سبينوزا جامعة John Hopkins التي ألقاها حول ملاحظته عن “خرم חרם سبينوزا” وهي متاحة على اليوتيوب.[5] سلط فيها الضوء على الدلالة أو الترجمة الخاطئة لخرم العبرية بالحرمان الكنسي، لافتقار الدين اليهودي إلى أسرار مقدسة يمكن الحرمان منها في طقوس الصلاة أو الكنيس. وبسبب هذه الترجمة غير الدقيقة وما ساد في الأوساط الفلسفية الأوروبية عن العقلية اليهودية المنغلقة التي أقصت سبينوزا في سياق تحقيري مارسه هيجل مثلاً. إذن ماذا حدث تحديدًا مع سبينوزا وما الداعي لإصدار مثل هذا الحكم القاسي؟
صدر هذا المرسوم عام 1656[6] وكان عمر سبينوزا حينها 24 عامًا، ولم يكتب بعد أي من أعماله الفلسفية ونشره مكتوبًا لمحاكمته عليه، ولكنه كان في طور التكوين وصياغة أفكاره. ونرد هنا اقتباسًا من المرسوم ينص “because of his evil opinions and activities, and of the horrible heresies he had practiced and taught as well as the monstrous acts he had committed” يعني “بسبب أراءه الشريرة، وهرطقاته الفظيعة التي مارسها ودرسها، وكذلك بسبب ماارتكبه من أفعال وحشية” [7]
أشار Melamed سريعًا في محاضرته، أن إصدار مراسيم تحريمية كان أمرا معتادا في الطائفة في هذه الفترة، وأحيانًا يكون لأسباب واهية مثل شراء اللحم من لحام اشكنازي لا ينتمي للطائفة السفردية. ولكن هناك ثلاث مسائل ركز عليها في محاضرته جديرة بالعرض سريعًا.
أولًا: قضية الإيمان بوجود الله أو اتهام سبينوزا بالإلحاد
ثانيًا: الاتهام بالواحدية Panentheism
ثالثا: إنكار خلود الروح
يشكك Melamed في الأولى أن مردها بعض مقولات المعاصرين من غير الفلاسفة في أن سبينوزا أنكر وجود الله، وحصره في مفهوم فلسفي[8]. أما الإيمان بالواحدية فكان يعد نوعًا من الهرطقة في المسيحية، ولكن من غير المعلوم في أدب الحاخاماتRabbinic Literature أنه قد كان سببًا في حرمان أحدهم، فضلًا على أن عدد من أساتذة سبينوزا الكباليينCabbalists لا مشكلة لديهم مع الواحديةPantheism أو وحدة الموجودPanentheism ، بل إنه إذا ما سُئل بعضهم عن تعريفهم لفكرة الله، لسمع وجهات نظر أشد شطحًا من هذين المذهبين. والبعض ذهب أن سبب التحريم هو اعتناق سبينوزا لفسلفة ديكارت ومناقشتها وتداولها على مسامع أفراد الطائفة. ولكن يرى Melamed أنه سبب واهي جدًا، فبمقارنة فلسفة ابن ميمون وأراءه مع ديكارت، نرى أن ابن ميمون ذهب أبعد منه في العديد من القضايا. بل يتفق مع ما ذهب إليه حنفي في أن سبينوزا لم يكن ديكارتيًا في أي من مراحل عمره، فديكارت كان مهادنًا للسلطات السياسية والدينية.[9] أما عن خلود الروح فيرى أيضًا أن هناك فريق من الحاخامات في العصور الوسطى تشككوا في حياة الفرد بعد الموت، وأن ماسيحدث هو اتحاد مع روح الخالق، أو منظومة الكون، وتشهد بعض شواهد قبور اليهود بشيوع مثل هذه الرؤية. ويشدد Melamed أن إصدار حكم النفي لأسباب عقدية أمر غير مألوف في اليهودية الحاخامية. وأن مراسيم النفي كانت تصدر لأسباب غريبة بعض الأحيان مثل: عدم إعادة كتب مستعارة!
يختتمMelamed محاضرته بأن حكم النفي هو أداة سياسية شبه عنيفة تمارس على الفرد لحماية الطائفة من خطره. وإن ظل متحيرًا في العبارة الأخيرة التي وردت في مرسوم النفي חרם بسبب “أفعاله المتوحشة” والتي لم يصل فيها إلى أي استنتاج.
كلمة أخيرة: بمراجعة سريعة لقوانين الحرومات في مشناة توراة الخاصة بابن ميمون، نرى هناك توازيًا بينها وبين ما يُعرف في الإسلام “حكم التعزير” وهو ما هو معروف بأنه منطقة وسطي بين عقوبات الحدود والأخرى التي لم يرد فيها كفارة، وتتنوع حسب درجة “الخطر” التي تشكلها على الأمة الإسلامية، ويحددها ولي الأمر وليست السلطات الدينية. مما يرجح أن سبينوزا كان ضحية حكم التعزير بالنفي أو الحبس، فهو الأقرب للمفهوم الإسلامي من الحرمان الكنسي الكاتوليكي.
من الجدير بالذكر أن حكم النفي هذا تسبب في شيوع أساطير شعبية عن سبينوزا، وإثارة العديد من التكهنات، أولاً نظرًا لفقدان النسخة الأصلية العبرية، ووصول ترجمة برتغالية مقتضبة في الأسباب ولكنها استفاضت في قائمة طويلة من اللعنات التي يستوجبها سبينوزا، وتحريم التواصل الاجتماعي معه، بمعنى عزله نفسيًا عن الجماعة، ربما فرصة للاستتابة أو مراجعة النفس. من الثابت أيضًا من المصادر أن سبينوزا قد سجل رأيه في هذا الحكم في عدد متفرق من كتابته، بل وأيده. ولم يُرفع عنه هذا الحكم طيلة حياته، وتوفى ودفن بعيدًا عن مقابر الطائفة
لا تزال أعمال سبينوزا مركزية في اللحظة الراهنة للعالم العربي كما أوضح حسن حنفى في مقدمته الشارحة. رغم قلة أعماله إلا إنها واسعة التأثير في تاريخ الفلسفة الأوروبية، وفي أحدث الإصدارات عنه بدأ البعض باستعراض دراسات مقارنة لسبينوزا مع فلاسفة المسلمين، مثل الوجود المقارن عند سبينوزا وبن سينا[10].
مراجع:
Steenbakkers, Piet (2021) “Spinoza’s Life. A Companion to Spinoza, Wiley Blackwell.Pp.6-12.
Steenbakkers, Piet(2021): “Spinoza’s Philology”. A Companion to Spinoza, Wiley Blackwell. Pp.15-26.
Ogden.R. Stephen (2021):” Avicenna and Spinoza on Essence and Existence”. A Companion to Spinoza, Wiley Blackwell. pp.30-40
حسن حنفي: رسالة في اللاهوت والسياسة لسبينوزا، 2020، مؤسسة هنداوي
[1] حنفي (2020): ص 113
[2] Steenbakkers(2021)2:18.
[3] Steenbakkers(2021):6
[4] Steenbakkers(2021):p.4.
[5] https://www.youtube.com/watch?v=Et8xcrPCflY
[6] Steenbakkers(2021):p.4.
[7] Steenbakkers(2021):p.4-5.
[8] Steenbakkers(2021):p.5
[9] حسن حنفي (2020) ص. 15
[10] Ogden (2021): p.30-40.