ذكرى عاشقة الأولياء
بقلم: أ.د. محمّد المصطفى عزّام
إذا كان الباري جل جلاله قد قال في محكم تنزيله: ﴿ألا إن أولياء الله لاخوف عليهم ولا هم يحزنون﴾، فعسى من كان عاشقاً لأوليائه أن لا يحزن أو يخاف.
“عاشقة الأولياء”..هكذا كان يحلو لفقيدتنا الزكية رحمة الله عليها أن تلقب نفسها في انتشاء ظاهر، فكان من ينظر إليها وهي تردد ذلك باعتزاز يشعر أن روحها هي التي تبوح بشوقها إلى عالم أولئك “القوم”. لم تحجبها ثقافتها الغربية، ولا أسفارها العلمية، إلى أوروبا وأمريكا، ولا سعة اطلاعها على الفكر الفلسفي والإنساني عموما وتعمقها في اتجاهاته، من خلال تخصصها في “الأنطروبولوجيا” وإدمانها القراءة المتنوعة، لم يحجُب كلُّ ذلك، وغيرُ ذلك، فطرتها التي حافظت على نقائها فلم تشبْها شائبة من اللوثات الفكرانية الجاحدة للحق؛ بل إنها في أقصى تغرّبها الفكري لم تمل إلا إلى فلسفة “كيركگرد” الوجودية (وهي وجودية “مؤمنة”) ـ حسب ما كان يُفهم من بعض أحاديثها ؛ وقد دفعها طموحها الروحي إلى اطلاع واسع على مذاهب الشرق الأقصى ودياناته، ولم تقف عند ذلك، بل حملها ذلك الطموح المتعطش حملا إلى البلاد الهندية المائجة بالملل والمعابد، الفائحة بعبق الروحانيات والعجائب؛ واستمرت حيرة الباحثة “الباحثة” عن كنزها المخفي، إلى أن قيض لها الله أسبابا ثوّرت فيها كوامن النزوع الوجداني لطلب الحقيقة، ووجّهت بوصلة روحها إلى “طريق” أهلها، فقد طالعت بنهم مؤلفات الصوفي المسلم عبد الواحد يحيى (وكان اسمه فرنسيا “روني گينون” قبل أن يسلم ويستوطن مصر)؛ فأججت شغفها، وأورت في الآن ذاته حرقة السؤال في كيانها: كيف؟ وأين؟. لم تَطل حيرتها الصادقة، فقد أدركتها العناية الربانية فطالعتها الإشارة(مثلما كانت إشارة الواسطي إلى الشاذلي): أنْ عودي من حيث أتيت، فإن ما تريدين هناك!. شدت الراحلة رحال شوقها الروحي إلى “وطنها الأصلي”، باحثة هذه المرة، لا عند الؤلفين للكتب ومحاضراتهم، ولكن عن المطهِّرين للقلوب وحضراتهم؛ في صورة استرجاعية شبيهة بقصة الإمام أبي الحسن في تشريقه بحثا عن القطب ثم عودته إلى مغربه ليتخرج على يدي المولى عبد السلام بن مشيش قطبا آخر هاديا مشارق الأرض ومغاربها إلى “السبيل” (ولعل تشابه القصتين ما حدا بالأستاذة المَشوقة إلى نشر دراستها الوافية العميقة (ابن مشيش شيخ الشاذلي)، عن قصد منها أو عن غير قصد، لكنها كانت، حسب العنوان وما كانت تحرص على التنبيه إليه ـ خصوصا خارج المغرب ـ قاصدة إلى أن الشاذلية التي طبقت الآفاق، منبعُها الأصل وشيخها الأول هو في المغرب بجبل “لعلام” (كما كانت تفضّل أن تدعوه حسب اللهجة المحلية).
لقد كان للمُريدة، في “وطنها” من حسن التقبل ما يليق بتعطشها، وكان منها ما لهجت بذكره وحدّثت بنعمته ونشرت من آثاره بقية حياتها، رفع الله بذلك درجاتها عنده. لم تُخفِ الدكتورة زكية يوما، بعد أن لقيت الشيخ المربي سيدي حمزة القادري بودشيش، انتماءها إلى طريقته ولا تعلقها الشديد بمحبته وذِكرَ أفضاله عليها، حيثما كانت المناسبة وكيفما كان السياق، بل لم تكن تتوقف عن الدعوة إلى التصوف وطريقته كلما سنحت لها الفرصة، وكثيرا ما كانت تهيئ هي الظرفَ لذلك، على الرغم مما كان يُوجه إلى شخصها من انتقاد كانت دوما تواجهه في تمكن ويقين.
وقد نذرت الفقيدة، رحمها الله، بقية حياتها لأداء رسالة ملأت عليها كل مشاعرها، وسخرت لها طاقاتها العلمية والوجدانية والمادية، وتتجلى هذه الرسالة في خدمة التراث الصوفي بالمغرب، وفي التعريف بما جُهل منه، وتصحيح ما أُشيع عنه من أحكام خاطئة أو مخطِّئة؛ فجاهدت أيما جهاد في إبراز القيم الروحية والأخلاقية والعلمية والاجتماعية التي ساهم بها الأولياء في الإصلاح والتعليم وفي التضامن والأمن وفي صد المستعمر، منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم.
قامت الأستاذة، رحمها الله، في سبيل أداء تلك الرسالة بنشر بحثها الأكاديمي المتميز عن ابن مشيش (بالفرنسية سنة 1998) مُبرزة نسبَه وخصائص تصوفه السني وأستاذيته للشاذلي وجهادَه الذي انتهى باستشهاده، كما أبدعت في إبراز جمالية دعائه المشهور بـ”الصلاة المشيشية” وسمو مضمونها الروحي، وعرّفت بالأعمال الخيرية والطقوس الشعائرية التي تقام عند ضريحه، إلى غير ذلك؛ (وقد تَرجم الكتابَ إلى العربية الأستاذ أحمد التوفيق). بعد ذلك صدرت لها (سنة 2001 بفرنسا) ترجمة كتاب الذهب الإبريز من كلام سيدي عبد العزيز الذي ألفه العلامة أحمد بن مبارك اللمطي من أجوبة شيخه الدباغ (الأميّ) عن أسرار المسائل الدينية والعرفانية والطبيعية؛ كما صدر لها (سنة 2004) في ريا ض حواء، وهو عمل أدبي تناولت فيه قضايا الأنوثة في بعدها الروحي؛ وفي سنة 2007 أصدرت مجوعة من محاضراتها في كتاب التصوف بحث عن النور؛ كما نشرت تحقيقا لكتاب الشيخ أحمد بن إدريس الفاسي المعنون بـ كنوز الجواهر النورانية في قواعد الطريقة الشاذلية مصحوبا بترجمته إلى الفرنسية ودراسة تضم سيرة ذلك العارف ذي الطريقة الشهيرة في المشرق، بينما هو مجهول في بلده المغرب.
وفي سنة 2009 أبدعت العاشقة، رحمها الله، موسوعتها “التحفة”: مملكة الأولياء، الذي أخرجته بالنمسا دارٌ لنشر الأعمال الفنية؛ ولقد كان بحق مملكة روحية لأكثر من سبعين صوفيا تعاقبوا أو تعاصروا عبر تاريخ المغرب وجغرافيته ، وكان معيار اختيارها أن كلا منهم يمثل نموذجا لقيمة من قيم الروح الإسلامية التي بثها أولئك الناس رجالا ونساء، مثل التربية على مكارم الأخلاق والمعرفة والمحبة والجود والتكافل والتحكيم والتطبيب والجهاد وغيرها من القيم التي سادت ماضي المغرب المُشرق؛ لم تكتف الأستاذة الفقيدة ببطون المصادر التاريخية والمنقبية لجمع مادة مؤلَّفها، لكنها قامت بالترحال بين مدن البلاد وقراها، ووهادها وجبالها، من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشرق، شهورا، تُدوّن وتُصور، وتُسجل وتستفسر، ليتناغم المنقول والمحكي والمنظور في استرجاع الذاكرة الحية لمغاربة الصفاء والإخلاص، وهي القيم التي عاشت بها الفقيدة وتشبعت، فأضافت إلى ترجمة كل ولي، عكفت بباب مثواه، ما كان يتوارد على قلبها من معان روحية لما أسداه.
وفي إحدى ليالي رمضان الأبرك قدمت الأستاذة كتابها إلى أمير المؤمنين، وكان لهذا التقديم معنى رمزي كبير، وكأن حالها يتساءل: ما حق هؤلاء علينا، وما قيمة أمثالهم بيننا؟؛ ولعل الأستاذة أجابت عن الشطر الأول حين قدمت مع الكتاب مشروعا لإنشاء هيئة عليا للحفاظ على التراث الصوفي في المغرب؛ أما الشطر الثاني فقد كانت روحها تحياه.
لم تخْبُ جذوة المحبة لدى العاشقة، فأحبّت إشراك غيرها في ما عرفت وذاقت، فكان أن أنشأت مجلة أرادتها بطبعتين منفصلتين، فرنسية وعربية، وتحمست بشدة أن تكونا شهريتين لكنها اضطرت مُكرَهة على أن تصدرها فصليا؛ جعلت عنوان الفرنسية:”وعنوان العربية: “إحسان كمال الإنسان”؛ كان العنوانPARFAIRE L’HOMME”
الفرعي المبين لخط المجلة هو: «مجلة تُعنى بالسنن الكونية في ديناميتها الروحية»، وصدر العدد الأول بالفرنسية آخر سنة 2010، وبالعربية أول سنة 2011؛ وكان موضوع ملفهما هو “الحج” ومعانيه في الإسلام والديانات السماوية وغيرها من الملل.
كانت الأستاذة قد طلبت مني أن أتولى رئاسة تحرير الطبعة العربية، فأتاح لي هذا العمل أن أتعرف على الفقيدة أكثر، إذ كانت علاقتنا من قبل مقتصرة على الاشتراك في ندوات علمية أو أحاديث عابرة. نعم، لقد عرفت، حقا، في زكية، رحمها الله، العالمة المتعمقة، والباحثة المحققة، والكاتبة المدققة ـ بأصدق معاني هذه الكلمات؛ ولن يفي الوصف بحيوية اشتغالها العلمي، وحرصها على الإجادة والانضباط، وإنفاقها الوقت والمال بكل سخاء، في سبيل أن تخرج المجلة في أكمل صورة وأبهاها، صورة تليق بعاشقة الكمال؛ وبالفعل جاءت المجلة تحفة أخرى، شكلا ومضمونا، كما شهد بذلك كل من رآها؛ومع أن الإصدار توقف بعد أربعة أعداد بالفرنسية وثلاثة بالعربية، إلا أن روحه بقيت حية بعدها بيننا، وعسى أن يأتيَ من يتقمصها لمواصلة الطريق.
لم أرد الاستفاضة أكثر في ذكر المحامد العلمية لفقيدتنا، فبعض آثارها ظاهرة، لكن ما خفي من محاسنها الخلقية كان أعظم، ولن يتسع القول للكثير منها، إذ لو تعقبنا ما وَجد فيها كل أحد ممن عاشرها من نبل وصدق وكرم وزهد وتسامح ومحبة وشوق للملإ الأعلى…لكتبنا عنها أكثر مما كتبتْ هي عن الأولياء والوليات.
غير أن الوصف الذي هيمن على كيان فقيدتنا العزيزة وشعورها، في تقديري، هو خُلُق “الجود”، فلطالما أشادت به وكتبت عنه وعن أنموذجه الأمثل الشيخ أبي العباس السبتي، أحد الرجال السبعة بمراكش؛ غير أن الأهم من الكتابة أنها كانت رحمها الله متحلية بذلك الخُلق أكمل ما يكون التحلي، سرا وعلانية؛ إذ لم تكتف بالتصدق على الأفراد وتخفيف مصاعب العيش عنهم، بل إنها كانت تنفق الكثير مساهمة في أعمال إحسانية عديدة، كانت حريصة على إخفائها كالحرص على إخفاء الكرامات تشبّها بمعشوقيها الأولياء وسيرا على خطاهم، لأنها ذاقت في طريقهم أن الإنفاق تفضّلٌ ثانٍ من الله الذي تفضل أولا، فجادت بما جاد الله به عليها قبل أن يسترد نفسها مطمئنة؛ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
رحم الله زكيتنا وزكاها وأحسن مثواها وجعل الفردوس مأواها، في رفقة من عشقتهم وعطّرت بذكرهم دنياها.