موقف الشيخ محمّد الغزّاليّ من التصوّف والصوفيّة
بقلم: خالد محمّد عبده
ما تعريفُ (الله) في الإسلامِ؟ اللهُ نورُ السماواتِ والأرضِ وهذا تعريف بليغٌ متناهٍ في الرقة، وكلما تعمّقنا فيه وفي حواشيه ازددنا إحساسًا بروحانيّة الإسلام التي تتلاقى وطاقته العلميّة وتندمج فيها أيّما اندماجٍ.
[أحمد زكي أبو شادي – كتاب ثورة الإسلام]
كيف نفهم الإسلام؟ سؤال شغل الغزّالي كثيرًا في حياته، وحاول من خلال قراءاته وخبرته كداعية جاب الأقطار الإسلاميّة أن يجيب على هذا السؤال ويقدّم للمسلمين رؤية وجد أنّها أجدر بالنشر من المطروح من آراء أغلبها صادر عن جهّال بتاريخ الإسلام وميراثه ومتخلّف عن ركب الحضارة اليوم. صنّف الغزّالي مؤلفًا يحمل هذا العنوان عرّف فيه بالإسلام وتحدّث عن مساوئ التعليم الدينيّ وعلوم الحياة ونشاطها ورؤية المسلمين ومساهمتهم في هذا الجانب، كما تحدّث عن العقيدة الإسلاميّة وما تمتاز به من عقد صلة بين الإنسان وربّه في رقيّ وإجلال، وتناول في كتابه التربية ثمّ راح يتحدّث بعدها عن الاجتهاد والتجديد، وختم كتابه بفصل عنوانه (لماذا أنا مسلم؟).
يذكّرنا هذا الفصل للغزالي بمحمّد توفيق صدقي -الذي تسببت كتاباته في الجدل الإسلاميّ المسيحيّ بغلق مجلة المنار لمدة عام كامل، فصدقي أخذ يراقب طنين الأفكار والمذاهب المتصارعة حوله، ويبحث في الأمور التي علق بقلبه الشك منها، وأخذ يقلّب في بطون الكتب التي تحدثت عن ذلك، مقدّسة وغير مقدّسة حتّى وصل إلى حقيقة الحقّ في دائرة الإسلام الحنيف واختاره بعد رحلة لا عن تقليد.
يسجّل محمد الغزّالي نفس الموقف قائلاً: لقد كنتُ مسلمًا عن تقليد، ثمّ أصبحت مسلمًا عن اقتناع، اقتناع يقوم على البحث والموازنة والتأمل والمقارنة وكلّ يوم يمرّ بي يزيدني حبًّا للإسلام، واحترامًا لتعاليمه، وثقة في صلاحيته للعالمين وجدارته بالبقاء أبد الآبدين. ويرجع الغزالي هذه الثقة وهذا الحبّ إلى إدمانه البصر في الكتاب الكريم، والسنّة المطهرة، وإدمان البصر في الوقت نفسه في آفاق الكون والحياة.
هؤلاء الأعلام الثلاثة (صدقي، وأبو شادي، والغزاليّ) تمّ تكفيرهم من قبل تيار زائف، لأنّهم في نظر هذا التيار ينكرون السّنة ويعملون عقولهم فيها ردّ على الغزالي وحده أكثر من عشرين كاتبًا لتأليفه كتاب السنّة النبويّة بين أهل الفقه وأهل الحديث قبل وقت سابق، ولا يزال الردّ عليه مستمرًا رغم استدعاء كثير من المسلمين له ولكتاباته وقت انتفاضات الربيع العربي ليواجهوا بها مقالات التيارات السلفيّة.
لا يقتصر الإنكار على الغزّاليّ من قِبل السلفيّين فحسب، بل إنّ أساتذة من جامعة الأزهر تبنّوا آراء التيار السلفيّ فجعلوا الغزاليّ من جملة منكري السّنة ورأوا من الواجب الدينيّ التنبيه على انزلاقاته في هذا الجانب، وهو موقف يدعو إلى مزيد من المراجعة لمناهج التربية والتعليم التي تدرسّ في الأزهر من قِبل المتشبّعين بروح تخالف النهج الأزهريّ، كما كان الشيخ الغزالي ينبه إلى ضرورة مراجعة مناهج التربية الإسلامية بشكل عام.
لماذا نشير إلى هذا الموقف في حديثنا المقتضب عن الغزاليّ والتصوّف، ولماذا نذكّر القارئ بأن الغزاليّ الذي لم يقرأه خصومه جعلوه في خندق واحد مع من ينكر عليهم فهمهم للسنة أو (ردّهم) لها كما يُقال؟ ما أسهل إصدار الأحكام على شخص بأنّه (كافر) أو (متخلّف) أو (رجعيّ) يصدر المرء الحكم سريعًا ويمضي دون أن ينظر في عواقبه وتبعاته، ولعلّ كثيرًا من المنشغلين بالأحكام لا يقرأون إنتاج من يتحدثون عنه، يذكّرنا بهذا السلوك مُحمّد الغزاليّ عند حديثه عن مودته لنجيب محفوظ وعن محاولة اغتياله، وكذا وهو يحكي عن قصة فرج فودة الشهيرة الذي لخّص مخاصمو الغزالي فيها كلّ تاريخه وعدّوه معارضًا للتنوير والثقافة وسببًا من أسباب انتشار الخرافات الدينيّة!
يمكننا أن نتذكر هذا اللون من النقد ونحن نقرأ موقف الغزاليّ من التصوّف والصوفيّة، فانتقاده اللاذع للتفاسير الإشاريّة في مقدمة كتابه الجانب العاطفيّ في الإسلام كفيل بأن يجعله خصمًا للتصوّف، ومن السهل عندما نقرأ نقده للاهتمام بالمساجد التي حوت مراقد الأولياء والصوفيّة، بل وحضّه على عدم رعايتها في كتابه تأمّلات في الدين والحياة أن نجعله في عداد (السلفيّين) المُحدثين، فمثل هذه المسائل هي المتصدّرة في نزاعهم مع (القبوريّين-أو الصوفيّة). إلّا أنّا نجانب الصواب حين نفعل ذلك، ونتعامل بمذهبيّة واقتصاريّة لا معنى لها.
إن التماوت قبل الموتِ هربٌ وضيعٌ من وظيفة المرء في الوجود، وقد رأى الغزاليّ أنّ جراثيم هذا التماوت والقعود عن مراحل السباق والتنافس إلى أرفع الدرجات تسرّب إلى المسلمين مع بعض الفلسفات الانسحابيّة، ثمّ انتشر هذا الوباء على حدّ وصفه مع انتشار التصوّف في الأمة الإسلاميّة، ومع فساد قواعد الحكم، ومناهج التربية خلال القرون الأخيرة.
فالمتصوّفة يحملون أوزار التخريب الفكريّ في العقل الإسلاميّ، والبلبلة النفسيّة التي جعلت القافلة الإسلاميّة تنحاز جانبًا في الحياة، بينما الأجناس الأخرى تمر مر السّحاب. وفي هذا السياق انتقد الشيخ ما صدر عن أبي حامد الغزّالي في كتابه المنقذ من الضلال ويرى مدحه لتلك الطائفة الصوفيّة مجازفة كبيرة، فالصوفيّة في رأي الشيخ محمّد الغزّاليّ ليست سيرتهم أحسن السير، ولا طريقهم أصوب الطرق، وقد رأى أنّ ما صدر عن حجّة الإسلام صدر في حالة انفعال نفسانيّ معيّن، بل إنّه اعتبر هذه الحال “كانت وقت مصاحبته لعلماء السوء”! إذ كيف يقول: إنّ السالك لسبيل الله يعرض عن الدنيا إعراضًا؟!
لا يكتفي الشيخ بهذا الحكم بل يعتبر أنّ فلسفة التصوّف دخيلة على الإسلام، وتخالف طبيعة الحياة كما شرحها القرآن، كما تخالف سيرة السلف الصالحين! ويعضّد الشيخ رؤيته بالنقل عن الدكتور زكي مبارك في كتابيه الأخلاق عند الغزالي، والتَّصوّف الإسلاميّ في الأدب والأخلاق ومن نافل القول أنّ نذكر أن كتابي زكي مبارك قد ردّ عليهم الصوفيّة ودافعوا عن تصوّفهم الذي انتهكه مبارك، فأحكام زكي مبارك كانت جائرة على حجّة الإسلام الغزّاليّ، هذا فضلًا عن عدم صوابيّة تناوله لكتابات الغزّالي كما يقتضي الدرس الأكاديميّ!
إذا أصدر الشيخ محمّد الغزالي حكمه السابق في حقّ مسألة معينة عند أبي حامد الغزاليّ (التوكّل- بمعنى التماوت)، فإنّه في سياق آخر يقول: “أعترفُ بأني حسّنتُ صلتي بالله كثيرًا على أثر كلمات قرأتها للغزاليّ وابن الجوزيّ وابن تيمية وابن القيم وابن عطاء الله السكندريّ، مع ما بين أولئك من تفاوت المشرب واختلاف النظرة”. لا يمكن بالفعل أن نغضّ الطرف عن أثر ابن عطاء الله السكندريّ في صياغة كثير من حِكم محمّد الغزالي وكلماته وعظاته في سائر كتبه، لكنّه وإن قدّر ابن عطاء قدره، كما هو الشأن عند أغلب (الإخوان المسلمين) حتّى يومنا هذا، إلّا أنّه وجّه نقدًا لشارح ابن عطاء الله، ومفسّر الكتاب العزيز (سيدي ابن عجيبة) فما قاله ابن عجيبة في التفسير -بحسب رأي الغزالي- خطأٌ وكلام باطل لا ينطوي إلا على الفراغ والدعوى، ولا يرى الغزالي في دين الله ما يسمّى بأهل الحقيقة وأهل الشريعة، ولا ينقسم الوحي إلى شطرين، شطرٍ يفهمه هؤلاء وشطر مضنون به على غير أهله.
وكما اعتبر الشيخ محمدُ الغزالي حجةَ الإسلام أبا حامد في ميدان (شرح العقيدة الإلهيّة وأسماء الله الحسنى) قمة لا تطاول! حينما أراد أن يدافع عن جناب الإسلام ويدحض مقالات المستشرقين في كتابه دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين لم يجد أفضل من كلام الصوفيّة يستند إليه! فإذا قال جولد تسيهر: “إنّ الصلة بين المسلمين وإلههم تشبه الصلة بين العبد القنّ والمتوجّس، فهي علاقة تخفض قدر الإنسان وتضع منزلته”! ردّ الغزالي على هذه بردّ يقارب ما قاله أحمد زكي شادي في ثورة الإسلام فالعلاقة بين الإنسان وربّه أزكى من هذا الفهم الضيق، ثمّ ذكر جملة من نصوص القرآن الكريم تؤكد أنّ الله ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ [الأحزاب:43] والله ﴿الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف:196] ﴿وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام:196]. فعل ذلك الغزاليّ بعد ذكره مجموعة من الآيات تشير إلى الروح السائدة في العبادات والتي تنطوي على عواطف نضرة ومشاعر بلغت الأوج تجردًا ولقاء.
هذه المشاعر النضرة لا يعبر عنّها سوى الصوفيّة، فنجد الشيخ محمّد الغزاليّ يستشهد بمناجاة لا يحيل على مصدر أو يذكر اسم قائلها، إلّا أنها تعود لصوفيّ من القرن الثالث الهجريّ، بل إنّه يذكر مناجاة تعبّر عن نقاء قائلها تعود إلى أبي حيّان التوحيديّ في كتابه الإشارات الإلهيّة، وإن لم يذكر اسم المؤلف أو الكتاب. ربّما استأنس الشيخ الغزاليّ بنصوص التصوّف، وربّما دان بالعرفان لبعض الصوفيّة في تشكيل تجربته الدينيّة وتطوير نظره إلى الكتاب العزيز، وربّما خاصم جملة من المعتقدات الصوفيّة، وانتقد سلوك المتصوّفة، إلّا أنه من الصعب جدًا قبول اعتباره (خصمًا) للتصوّف، أو كافرًا بكلّ ما جاء فيه.