حبّات نور عابرة للدهور- سعيد بن المسيب

حبّات نور عابرة للدهور- سعيد بن المسيب

  حبّات نور عابرة للدهور

حبة النور الأولى

سعيد بن المسيب.. عالمٌ محرّر من الأغيار
بقلم الدكتورة سعاد الحكيم
لم يأت على المسلمين حينٌ من الدهر، كانت فيه أيامهم ضنينةً بأشخاص صالحين، هم خزائن خير فيّاضة للعالمين، حبّات نور يتجلّى حُسْنها الرحماني لكل ذي عينٍ مبصرة وقلب أوّاهٍ منيب.. حبّات سيظل نورها مرسلاً في الناس ما أضاءت الأرض بنور ربها..

نفتح أحياناً كتاباً من كتب سير النبلاء أو ديواناً من دواوين علوم المسلمين، نقلب صحائفه بأناملنا، ثم نقرأ حياة – أو أقوال – إنسانٍ فقيه أو زاهد أو محدّث أو عابد أو صوفي، وكثيراً ما نستشعر بأن الزمان ينزاح من بيننا، وتصبح الكلمة المدوّنة أرض لقاء نوراني، وندرك بأن الموت لا يأكل أجساد الحروف الصادقة، بل تظل حية باقية فاعلة، تقدح بأنوار أصحابها في كل حين.

وسوف تكون لقاءاتنا في أيام شهر رمضان المبارك، حول أشخاص هم حبّات نور، نختارها من زمان ومكان دون ترتيب. وذلك، لأن أصحابها نهضوا من زمانهم ومكانهم ليصبحوا نجوماً في سماء الإنسان.. أما عبارة «حبة نور»، فلا تحمل أيّ إيحاءٍ بالقلة، بل تدل على الوحدة والتماسك، وقد تكون «الحبة» بمقدار حبة خردل وقد تكون بمقدار جبل أو نجم أو كوكب.. ونبدأ مشوارنا الرمضاني سائلين الله تعالى لنا ولكم حسن العبادة وجميل القبول.

 

سعيد بن المسيب.. عالمٌ محرّر من الأغيار

ولد التابعي الجليل سعيد بن المسيب حوالى عام 15 هـ في المدينة المنورة في زمن خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وتوفي في أواخر القرن الأول الهجري، على الأرجح عام 94 هـ وعمره 79 سنة.

أخذ عن ثلة جليلة من الصحابة منهم والده المسيب بن حَزَن، والخليفة عمر بن الخطاب، والإمام علي بن أبي طالب، والخليفة عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وغيرهم.

كان عبد الله بن عمر يقول لأصحابه: «لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا – أي ابن المسيب – لسرّه». وهو في نظر الإمام أحمد بن حنبل: أفضل التابعين، وفي نظر مكحول والزهري: أفقههم وأعلمهم. وعدّه علماء عصره واحداً من فقهاء المدينة المنورة السبعة الذين يقصدهم الناس والعلماء للعلم والفتوى. وها هو صاحب مجلس علم يقصده أبناء المدينة المنورة وأهل الأمصار على اختلاف توجهاتهم، وكان يفتي وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزالون أحياء بين الناس، وكان عمر بن عبد العزيز عندما ولي المدينة المنورة لا يقضي بقضاء حتى يسأله عنه.

يكره كثرة الضحك، ويصافح كل من يلتقي به، ويسمع الشعر ولا ينشده، ولا يكلم أحداً ما بين صلاتي العصر والمغرب.

1 – سعيد العابد: يبدو من تاريخ المسلمين أنه كلما ازداد الإنسان معرفة بربه تعالى كلما سارع إلى طاعته.. وها هو سعيد بن المسيب يسارع إلى الصلاة فيصل إلى المسجد النبوي قبل رفع الأذان فيسمع صوت المؤذن ويصلي في الصف الأول، يقول: «ما أذّن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد»، وربما يصل إلى المسجد بعد رفع الأذان ولكنه يحرص على أن يكون في الصف الأول من الملبين لنداء الصلاة، يقول: «ما فاتتني التكبيرة الأولى منذ خمسين سنة، وما نظرت في قفا رجلٍ في الصلاة منذ خمسين سنة».

ورأى يوماً الحجاج بن يوسف الثقفي يصلي في المسجد النبوي ولا يتمّ الركوع والسجود في صلاته، فأخذ كميةً من الحصى بكفّه ورماها عليه، ويروى أنه من يومها أحسن الحجاج الصلاة.

لم يكتف هذا التابعي الجليل بالصلاة في المسجد جماعة طوال حياته، بل كان يُكثر من صلاة النافلة في بيته، ويكثر من الصيام، وروي عنه أنه حجّ أربعين حجّة.

2 – سعيد والدنيا: لم تكن الدنيا لتغرّ بغرورها شخصاً من معدن الصحابي الكريم سعيد بن المسيب. وقد كان في مكنته أن يستظل بعلمه وحاجة الناس إليه في الفتوى والحديث لتجري عليه عطايا الدولة للعلماء، ولكنه أبى إلا أن يعمل في التجارة ولم يقبل ما فرضه له الملوك من بيت مال المسلمين. وكان يتجر في الزيت، وبضاعته تزيد قيمتها على أربعمائة دينار. ولم ينفق كل دينار يربحه، بل كان يدخّر ويرى ذلك من فقه الرجل. ومن دعائه: « اللهم إنك تعلم أني لم أمسكه (أي المال) بخلاً ولا حرصاً عليه، ولا محبة للدنيا ونيل شهواتها، وإنما أريد أن أصون به وجهي…، وأَصِلَ منه رَحِمي، وأؤدي منه الحقوق التي فيه ، وأعودَ منه على الأرملة والفقير والمسكين واليتيم والجار».

3 – سعيد وبني أمية: لم يكن هيناً على رجال التابعين – علماء وصلحاء – أن ينتقلوا بسلام ويُسر من زمن الخلافة الراشدة إلى عصر الملك المتوارث والاستكراه أحياناً على المبايعة.

رفض سعيد بن المسيب مبايعة ملوك بني أمية، وأصرّ على موقفه وجهر به، ولكنه – في الوقت نفسه – لم يشارك في ثورة ولم يشجع على فتنة، بل ظل انكاره لهم على مستوى اللسان والقلب. ونراه يحذر المسلم من اعتماد اللامبالاة تجاه الحكام والولاة، أو من السكوت التام عن الظلم، فيقول: «إن الأعمال الصالحة تُحبط إذا لم يُنكر قلبُ الإنسان ظلَم الحكّام وأعوانهم».. وهذا مطلوب في كل زمان، فإن لم يقدر الإنسان على الجهر بموقفه لأي سبب وجيه، فعلى الأقل يكون له في قلبه موقفاً واضحاً، يحفظه من الوقوع في التغييب والتهميش.

قدم عبد الملك بن مروان إلى المدينة المنورة، وطلب من حاجبه أن يأتيه برجلٍ من المسجد النبوي فيحدّثه. دخل الحاجب المسجد فلم يجد فيه إلا سعيد بن المسيب، فأخبره بطلب عبد الملك، فرفض وقال: «لست من حدّاثه». رجع الحاجب وقال لسيده: ما وجدتُ في المسجد إلا شيخاً أشرتُ إليه فلم يقم، وقال: أنا لستُ من حدّاث أمير المؤمنين. قال عبد الملك: ذلك سعيد بن المُسَيّب ، فدعه. وفي مرة أخرى أرسل عبد الملك رسولاً إلى ابن المسيب خاصة حتى يأتيه ليكلمه، فقال للرسول: «ما لأمير المؤمنين إليَّ حاجة، ومالي إليه حاجة، وإن حاجته لي غير مقضية، فقال عبد الملك: رحم الله أبا محمد، أبى إلا صلابة».

وعندما أراد عبد الملك بن مروان أخذ البيعة لولده الوليد بن عبد الملك ولياً للعهد، رفض سعيد ذلك، فضربه والي المدينة هشام بن إسماعيل، وطاف به شوارع المدينة المنورة، وهدّده بالقتل، ومنع الناس من مجالسته.. وهذه المحنة دفعته للابتعاد عن الناس ومؤاثرة العزلة.

ورغم الفتوحات الكبرى في زمن الوليد بن عبد الملك (86 هـ – 96 هـ)، حيث وصل المسلمون شرقاً إلى حدود الصين وغرباً إلى الأندلس وحدود فرنسا، ورغم حب هذا الملك للعمارة وبناء المساجد ومنها الجامع الأموي بدمشق، إلا أن التابعي الأبي سعيد بن المسيب رفض أن يزوجه ابنته عندما طلبها للزواج، وزوّجها على درهمين لرجل فقير هو كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي المكي. ثم أخذ ابنته وأوصلها إلى بيت زوجها مساء اليوم الذي زوّجه إياها، وقال له: إنك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت، فكرهتُ أن تبيتَ الليلة وحدك، وهذه امرأتك. ودفع ابنته داخل البيت وأغلق الباب. ولم تكن ابنة سعيد لتقل عن أبيها خلقاً وأدباً، كما وُصفت بأنها أعلم نساء عصرها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وما كان سعيد ليترك ابنته وزوجها في شدة، بل أرسل لهما بعد شهر من زواجهما عشرين ألف درهم لتكون عوناً لهما ويسرة.

مباركٌ التابعي الجليل، العالم الفقيه المحدّث، سعيد بن المسيب.. اختار تقوى الله وحسن الخُلُق ميزاناً يزن به الرجال، فمن رجحت كفته جعله في الأعلين وإن كان معدماً أو فقيراً، ومن قلّت بضاعته من الطاعة وقارف المعاصي والمظالم استصغره وأنكره وإن كان ملكاً أو أميراً.. رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!