بقلم الدكتورة سعاد الحكيم
ندخل – بالتصور – مدينة البصرة التي بناها عُتبة بن غَزْوان سنة ست عشرة هجرية بأمر من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. نقترب من المسجد الجامع فيها، الذي يُقال بأنه ليس له في العراق مثيل، فنرى حلقات للعلم والدراسة، يُلفتنا منها مجلس علمي للتابعي الجليل الحسن البصري؛ الزاهد، العابد، الفقيه، المحدّث، المفسّر، الواعظ..
ولد الحسن في المدينة المنورة حوالى عام 21 هـ، وكانت والدته مولاة لأم المؤمنين السيدة أم سلمة، فنشأ في فضاء إسلامي أصيل، قريب عهد بالينابيع، لم تقترب من أعتابه شبهة تغيير أو انزياح.
بعد عام 37 هـ (بعد معركة صفين)، وكان في حوالى السادسة عشرة من عمره، ذهب إلى البصرة واستكمل دراسته في حلقات العلم فيها؛ في زمن كان الجامع يقوم بوظائف عديدة علمية واقتصادية وسياسية واجتماعية، ولم يكن مجرد مسجد للصلاة.. إلى أن أصبح إمام التابعين ومحط أنظار اللاحقين. يصفه خالد بن صفوان في رواية يقول: «لما لقيت مسلمة بن عبد الملك بالحيرة قال: يا خالد، أخبرني عن حَسَن أهل البصرة، قلت: أصلح الله الأمير، أخبرك عنه بعلمٍ، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، [إنه] أشبه الناس سريرة بعلانية وأشبه قولا بفعل، إن قعد على أمرٍ قام عليه، وإن قام على أمرٍ قعد عليه، وإن أمَرَ بأمرٍ كان أعْمَل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس ورأيت الناس محتاجين إليه. قال مسلمة: حسبك يا خالد، كيف يضل قوم هذا فيهم؟!».
1 – الحسن واحدٌ من جيل بين جيلين: إن قَدَر رجال التابعين أن يعيشوا في هذا الحين الدقيق من الدهر، المتحيّز بين زمن الجيل الأول من المسلمين وهم الصحابة وبين زمن الجيل الثالث من المسلمين وهم الذين لم يلتقوا بصحابي واحد. ومن هنا نفهم السبب في كون الحزن والزهد والخوف والدمع هي السمات المشتركة لكل علماء التابعين وصلحائهم.
وأقول؛ نستشف من أقوال الحسن البصري، أنه يتوجس خوفاً من غربة الإسلام بعد غياب جيل الصحابة الكرام، وانتشار المسلمين في الأمصار خارج مكة المكرمة والمدينة المنورة.
يقول مقارناً بين صفة مَنْ أدرك من الصحابة وصفة مَنْ يحيط به من تابعي التابعين: «لقد أدركتُ أقواماً كانوا أأمر الناس بالمعروف وآخذهم به، وأنهى الناس عن منكر وأتركهم له. ولقد بقينا في أقوام أأمر الناس بالمعروف وأبعدهم منه، وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه، فكيف الحياة مع هؤلاء؟!».
وفي السياق النقدي نفسه يقول: «لقد أدركتُ سبعين بدرياً، لو رأيتموهم لقلتم : مجانين. ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب».
2 – الحسن وجلالة النصح والموعظة: كان الحسن البصري خطيباً مهيباً، يُسمع لوقع عباراته رنين في قلوب السامعين، ينتقي ألفاظه ويُجريها بسلاسة على صحائف النفوس كشلالات ماءٍ غَمِرٍ لا يُبقي دَنَس.. يقول، من موعظة طويلة في ذم الدنيا: «يا ابن آدم، بعْ دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تَبِعْ آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً.. الثواءُ هاهنا قليل والبقاءُ هناك طويل.. إحذر هذه الدار الصارعة الخادعة الخاتلة التي قد تزينتْ بخُدَعِها، وغرّتْ بغرورها، وقتلتْ أهلها بأملها، وتشوّفتْ لخطّابها، فأصبحتْ كالعروس المجلوّة: العيونُ إليها نافذة، والنفوسُ لها عاشقة، والقلوبُ إليها والهة، ولألبابها دافعة، وهي لأزواجها كلّهم قاتلة… فإنّ صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور له أَشْخَصَتْه عنها بمكروه».
يلفت الحسن البصري من يستقبل أقواله على الاشتغال بعيوب نفسه عن عيوب الناس، يقول: «لا يستحقّ أحدٌ حقيقة الإيمان، حتى لا يعيب الناس بعيبٍ هو فيه؛ ولا يأمُر بإصلاح عيوبهم حتى يبدأ بإصلاح ذلك من نفسه؛ فإنه إذا فعل ذلك لم يُصلح عيباً إلاّ وجد في نفسه عيباً آخر ينبغي له أن يُصلحه. فإذا فعل ذلك شُغِل بخاصّة نفسه عن عيب غيره». ويرى بأن المؤمن هو مصدر أمن في محيطه، يقول: «ابن آدم، إنك لن تجمع إيماناً وخيانة، كيف تكون مؤمناً ولا يأمنك جارك، أو تكون مسلماً ولا يسلم الناس منك».
ولا ينسى الحسن البصري تحذير الإنسان من الشراهة في الطعام ولو كان حلالاً، لأن امتلاء المعدة بالطعام يؤثر في نظره على صحة البدن عبر الأنفاس وعلى نوعية الحياة العلمية عبر التفكر. يقول: «يا ابن آدم، كُلْ في ثلث بطنك، واشرب في ثلث بطنك، ودع الثلث للتفكير والتنفس».. ولا نملك نحن أبناء القرن الواحد والعشرين إلا أن نُطرب من وَقْع ندائه في مفتتح كلامه (يا ابن آدم).. لقد نسينا تحت وطأة التفتت والتشتت اننا جميعاً خُلقنا من نفس واحدة.
ومن طرائف تنويعه في الوعظ، أنه نصح رجلاً بالفعل لا بالقول، دافعاً إياه ليرى بعينه لا بالغيب ولا بالرمز فظاعة فعله.. فقد روي أن الحسن لما بلغه أن رجلاً اغتابه بعث إليه بطبق فيه رطب. وقال له: «أهديتَ إليّ باغتيابك لي حسناتك، فكافأتك عليها، فاستحيا الرجل، ولم يعد يذكره بسوء»..
3 – الحسن البصري والصور الفكرية.. يتكئ الحسن البصري على حقائق إنسانية، كالموت والمرض والفقر، ليجعل منها موضوعات لمواعظه، وبذلك يتسرب وعظه إلى قاع النفس البشرية ليوقظ ما يترسّب فيها من مخاوف ومكبوتات..
إضافة إلى حقانية موضوعاته، وإلى جلالة عباراته، نلاحظ أن العديد من أقوال الحسن البصري يرسم صوراً فكرية، تقفز من النص إلى ذهن القارئ، ومن ذهنه تقفز لتمثل أمام عينيه.. وربما، تلازمه ويذكرها كلما دعت مناسبة حياتية. مثلاً يقول: «إنما أنت، أيُّها الإنسان، عَدَدٌ؛ فإذا مضى لك يومٌ فقد مضى بعضُك»، وأقول دون مبالغة، إنّ هذا العدّ العكسي لعمر الإنسان، لكأن عمر الإنسان هو حفنة تراب يمسكها بيده ويتسرب منها كل يوم حبة.. هو من الصور التي قد تلاحق المتلقي في منحنيات حياته وعند رؤيته لكل طفل حديث الولادة.
ويرسم أيضاً صورة فكرية تجعل القارئ يدرك أنه في أكثر لحظات حياته حاجة لصحبة أو عون فإنه سيكون وحيداً.. وبالتالي عليه أن يبحث وهو في هذا العالم عن الرفيق الشفيق في هذه اللحظات.. يقول: «ابن آدم، إنك تموتُ وحدك، وتدخلُ القبر وحدك، وتُبْعَثُ وحدك، وتُحاسب وحدك».
مبارك التابعي الجليل الحسن البصري، عاش في القرن الأول الهجري (توفي 110هـ)، وخطابه الوعظي العالِم لا يزال مشعاً وجديداً ومعاصراً، وأيضاً قابلاً لأن يتذوقه أصحاب التوجهات الفكرية المتعاندة والرؤى المتصارعة لما فيه من قيم إسلامية ومثل أخلاقية، كما أنه يدعو إنسان اليوم للتأمل والتفكر في ذاته ومآله وفي معتقداته الإيمانية ومدى انعكاسها على ممارساته التعبدية والأخلاقية. باختصار، إن مواعظ الحسن تحرك سواكن متلقيها وتدفعه لمراجعة نفسه للاطمئنان من كونه صادقاً مع ربه سبحانه ومع ذاته ومع الناس.. رضي الله عن التابعي الجليل الحسن البصري وأرضاه.