بقلم الدكتورة سعاد الحكيم
في فضاء إسلامي روحاني، يتساوى فيه الذكر والأنثى أمام الله تعالى، ولا درجة لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى والسعي المبذول للتقرب من الله سبحانه.. نلتقي في مدينة البصرة في القرن الثاني الهجري، بسيدة تخلل حب الله تعالى خلايا بدنها كلها، فصيّرها روحاً صرفاً لا تصبر لحظة على مفارقة محراب عبادتها.. مشغولة بالله سبحانه، ذكراً ومناجاة وصلاة وصياماً، لكأنها أصبحت من جميع جهاتها وجهاً متوجهاً إلى الحق تعالى.. إنها السيدة رابعة العدوية، رحمها الله سبحانه وأحسن إليها.
عديدة هي القصص – وأيضاً الأفلام السينمائية – التي تُحاك حول حياتها، لتجعلها أنموذجاً للتحول الكبير من الغفلة والجهالة والفسق وربما الفجور إلى الحضور والمعرفة والتقوى ومدارج الصالحين.. قصص تروي خيال البعض وأحياناً تدعم تصورات فكرية لدى بعض آخر..
وبعيداً عن الروايات والأفلام، والخيالات والأوهام، فإننا لا نملك إلا القليل من حياة هذه السيدة الاستثنائية في تاريخ المسلمين.. وهذا القليل الصادق يخبرنا أنها ولدت لعائلة فقيرة تعيش في كوخ في أطراف البصرة، وأنها سُمّيت رابعة لكونها رابعة بنات هذه العائلة.
ذاقت اليتم طفلة، وكانت في مطلع صباها عندما حدث قحط ومجاعة في البصرة، فخرجت مع شقيقاتها بحثاً عن اللقمة، ولكنها ضاعت عنهن في السوق.. رآها لصٌ فاعتبرها غنيمة، أمسك بها عنوة، ودون رادع من ضمير باعها كجارية مملوكة لأحد تجار الرقيق، ويقال بستة دراهم. تنقلت من دار إلى دار، تعلمت أصول الخدمة في البيوت وحصّلت فناً من فنون الموسيقى وهو العزف على الناي إن اضطرها الظرف للمشاركة في حفلة ترفيه في بيت مالكها.. بدأت تنضج رابعة وحيدة دون أخت أو صديقة أو صدر حنون، وكانت لياليها في خلوتها صمّاء لا حركة مخلوق ولا نَفَس إنسان.. وعندما يصمت كل شيء يستوحش الإنسان إلا إن اهتدي إلى سبيل ربه، أنيس المستوحشين سبحانه. وربما، في هدأة الأكوان حولها، اتجهت بكلها إلى ربها، وتفجرت من أعماقها ينابيع المحبة والأنس، وصار للحياة طعم ومعنى.
إن كل شيء يخص الله تعالى، يصبح مميزاً مشهوداً، وها هي رابعة بعد أن جردت ذاتها من ذاتها لتكون لله تعالى، رأى مالكها هذا الجوهر النوراني الذي يضيء في زاوية من زوايا بيته الكبير.. فاعتقها متقرباً بتحريرها من الله سبحانه. خرجت من البيت الكبير، ومن دنيا الناس، لتستقر في غرفة متواضعة متهالكة نطلق عليها مجازاً لفظ بيت.. وكان بيتها لا يحوي من متاع الدنيا شيئاً إلا دلواً ومصباحاً وحصيرةً وكفناً أبيض معلقاً في الحائط بمسمار.
رابعة العابدة: لقد كانت هذه السيدة الجليلة لا ترى لنفسها فضلاً أو عملاً، بل تحس يقيناً ان الله سبحانه هو الذي أنعم عليها بالعمل الذي تقوم به، فإن صلّت حمدت الله سبحانه وشكرته على نعمة أدائها الصلاة وسألته القبول، وإن أحيت الليل فالشكر لله سبحانه الذي وهبها ذلك.. حتى التوبة من كل ذنب وعن كل ما يبعد عن الله سبحانه تجد رابعة أنها إن لم تكن مسبوقة بتوبة من الله تعالى على الإنسان فلا يعول عليها. قال رجل لرابعة يوماً: إني أكثرت من الذنوب والمعاصي، فلو تبتُ، هل يتوبُ عليّ؟ فقالت: لو، بل لو تاب عليك لتُبْتَ.. وهذا درس عظيم يعلّم العابد الزاهد معنى الافتقار إلى الله تعالى ويحفظه من الكبر والظن بأفضليته على الآخرين.. وكانت تقول: «استغفارنا يحتاج إلى استغفار، لعدم الصدق فيه».. رحمها الله تعالى من مؤدبة للسالكين عظيمة.
وكانت إذا صَلّتْ العِشاء قامت على سطحٍ لها وشدّت عليها درعها وخمارها ثم قالت: «إلهي، أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلّقت الملوك أبوابها، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه، وهذا مُقامي بين يديك»، ثم تقبل على صلاتها. فإذا كان وقت السحر وطلع الفجر قالت: «إلهي، هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري! أَقَبِلتَ مني ليلتي فأهنأ، أم رددتها عليّ فأعْزى؟».
ويروي المناوي في الكواكب الدرية، انها كانت تصلي ألف ركعة في اليوم والليلة. فقيل لها: ما تريدين بهذا؟ قالت لا أريد به ثواباً (أي ليست نيتي طلب الثواب)، وإنما أفعله لكي يُسرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فيقول للأنبياء، انظروا إلى امرأةٍ من أمتي هذا عملها.
رابعة الشاعرة: إن النصوص الشعرية والنثرية التي نملكها منسوبة إلى هذه السيدة الجليلة قليلة ومعدودة، ومع ذلك لم تمتد إليها أصابع الزمان بل تزداد بهاءً ورونقاً مع كل قراءة جديدة.. تصوّر حال الإنسان الذي انفتح وجوده على مستويين يعيشهما معاً؛ مستوى ظاهر ومستوى باطن.. وصار في مكنته أن يكون موجوداً وفي اللحظة نفسها في البعدين معاً؛ فتقول مناجية ربّها:
إني جعلتك في الفؤاد مُحَدِّثي وأبحتُ جسمي من أراد جلوسي
فالجسمُ مِنّي للجليس مؤانسٌ وحبيب قلبي فـي الفؤاد أنيسي
ملهمة هذه الأنثى التي عزفت عن الزواج، لا كراهة في بناء عائلة، ولكن لأن حبها لله تعالى بسط سلطانه على مساحة ذاتها فلم يعد هناك موقع يضع فيه أحدٌ أثر وجود.. وقد أفصحت وهي من رجال البدايات، عن نوعين من الحب هما: حب هوى وحب استحقاق. فقد يحب الإنسان إنساناً آخر لا لسبب بل لأن قلبه مال إليه فهواه، وقد يحب غيره لا لميل قلب ولكن لأنه كشخص يستحق الحب. ونادراً، ما يحب واحدنا شخصاً بالحبين معاً، وها هي رابعة، المحررة من حب الأغيار، تخاطب ربها سبحانه، حاكيةً عن حُبَّيْها له تعالى.. والأهم من ذلك، هو أن للحب الأول، حب الهوى، علامة وهي كثرة ذكر المحبوب، وللحب الثاني، حب الاستحقاق، عطاء وهو زوال الحجب عن عين البصيرة لتشهد المحبوب في بديع خلقه. تقول:
أحبُّك حبين: حـبَّ الهوى، وحبُّـاً لأنـك أهـلٌ لذاكـا
فأمّا الذي هو حـبُّ الهوى فشغلي بذكرك عَمَّن سـواكـا
وأمّا الـذي أنت أهـلٌ له فكشفك للحجب حتى أراكـا
فلا الحمد في ذا، ولا ذاك لي ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكـا