وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين
عادل بن عبد الله
تصدير: كم من المسلمين تفاخر على سائر الديانات بهذه الآية، ولكن كم منهم قرأ “العالمين” ولم يقرأها مرادفة “للمسلمين، بل كم من المسلمين قرأ “العالمين” دون أن يختزلها في مذهبه وطائفته، ودون أن يجعلها مرادفا لمقالات حزبه أحيانا؟
عندما أشار الإمام مالك رحمه الله إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وقال :”كلٌّ منا رادّ ومردود عليه إلاّ صاحب هذا القبر”، تسابق أهل العلم إلى اعتماد هذا الأثر لتحقيق غايتين رئيسيتين: أولا نزع القداسة عن كل الاجتهادات وإن كانت من لدن أكبر العلماء المعتبرين عند أهل السنة، وثانيا تبرير سلطة الحديث النبوي في بناء الفتاوى المعتبرة داخل المذهب، أي داخل الطائفة “الناجية” و”المنصورة”. لم يكن هذا التوظيف لقولة الإمام مالك غريبا على العقل الديني في المجتمع الإسلامي التقليدي، ولم يكن الإمام ذاته بقادر على أن يتجاو عتبة الأسئلة التي تطرحها احتياجات مجتمعه على منظوراته المدينية العالمة. أمّا أن يبقى العقل الإسلامي المعاصر رهين الفهم عينه، فذاك أمر يحتاج إلى طرح بعض التساؤلات المشروعة. وليكن مدخلنا هو تحديد بعض مستويات “اللامفكّر فيه” عند التعامل مع هذا القول المالكي الشهير، الذي تجاوزت سلطته حدود المالكية حتى غدا “قاعدة” أصولية سنّية لا مطعن فيها.
للوقوف على مقدار الخلخلة التي تحتاجها حركات الإسلام السياسي الحديث حتى تخرج من موقعي “المفتي” أو “المجتهد في المذهب”، وتحاول الارتفاع إلى مرتبة “المجتهد المطلق”، يكفي أن نطرح السؤال التالي: هل كان مالك بن أنس -رحمه الله- يقبل كل ما يصل إلى علمه من حديث، أم كان يقبل من المرويات ويردّ بناء على معيار لم يكن بالضرورة هو معيار أبي حنيفة النعمان مثلا –المقلّ في اعتماد الأحاديث-، ولا معيار الإمام أحمد –المكثر منها-؟ بالطبع لا يمكن للباحث المنصف إلا أن يجيب بأن الإمام مالك لم يكن يقبل كل ما يبلغ علمه من الأحاديث، أي إنه كان يرتضي فقط الأحاديث التي يشهد على صحتها غياب المطاعن في الأسانيد أو في المتون حسب “معاييره” أو “شروطه”. ولكن هل يعني ذلك أنّه بإسقاطه لجملة من الأحاديث ورفض بناء فقهه عليه يكون قد ناقض نفسه في وجوب الأخذ عن الرسول (ص) بإطلاق ودون تخصيص؟ للإجابة على هذا الإشكال، قد يكون من المفيد أن نعيد صياغة قولة الإمام مالك بصورة تحافظ على المعنى الظاهر دون أن تستنسخه، بحيث نكون أمام الصياغة التالية: “كل منا راد ومردود عليه إلا ما صحّ “عندي” وعند “الموثّقين” من محدّثي أهل السنة وعلمائهم من أحاديث صاحب هذا القبر”.
هل ينبغي أن نقف عند هذه الصياغة الجديدة للقول المالكي، أم إنّ علينا أن نتقدم خطوة أخرى بحيث نتدبّر المعنى من موقع يتجاوز الموقع المالكي الأصلي، دون أن يُلغيَه وذلك باعتباره لحظة “في التاريخ” و”للتاريخ”، وليست لحظة قابلة لأن تفيض على “التاريخ كله”؟ لقد كان مالك -رحمه الله- يفترض تطابقا بين قول الرسول”في ذاته” وبين “آثاره ” الشفوية –التي دُوّنت فيما بعد وكان هو نفسه ممن قام بتدوينها في مُوطّئه-، تلك الآثار التي عليها مدار أغلب الفتاوى داخل المذهب السني. وكان مالك ومعه سائر الفقهاء والمحدثين مضطرين -لأسباب تشريعية وسياسية – إلى تغليب هذه المطابقة التأسيسية “الخطيرة” بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ذاته، –وهو قول افترض العلماء إمكان استعادته بصورة يقينية -ولو بالمعنى دون اللفظ – اعتمادا على سلاسل إسناد مُوثّقة عندهم، وذلك على الرغم من أنّ اليقين الوحيد الممكن لم يكن يتجاوز المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم، أي أولئك الذين كان باستطاعتهم التأكد من أوامره ونواهيه بشخصوهم أو عبر وساطة غيرهم من الأحياء موثوقين، وليس عبر أية وساطات مدارها “الأسانيد” الممتدة على قرون-، وبين النصوص المذهبية التي لم يكن دورانها شفويا وتثبيتها كتابيا مبرّئين من أثر التاريخ بإكراهاته السياسية وبالحاجيات العملية للجماعة المؤمنة، بحيث كان الكثير من المرويات عن النبي صلى الله عليه وسلم ضربا من “تنصيص التاريخ”، أي ضربا من الاستقواء بالنصوص على حركة الواقع من جهة أولى، وعلى المخالفين من جهة ثانية.
لقد تأسّست حجّية الحديث النبوي في الثقافة الإسلامية على جملة من الآيات والأحاديث والآثار والتخريجات العقلية، التي كان مؤدّاها اعتماد المدوّنة الحديثية من أجل تنظيم الاجتماع الإسلامي وضمان استمراره. ولكنّ هذا الاعتماد لم يكن ليتكرّس واقعيا لولا قيامه على “مسلّمة” جوهرية هي التسوية بين الحدث وأثره، التسوية بين القول النبوي وتاريخه الشفوي والمكتوب، أي بين الحضور النبوي والذاكرة الجماعية التي تفترض التماهي معه ومطابقته. وإذا ما أردنا صياغة ذلك ضمن تركيب أكثر ضبطا ووضوحا، قلنا: لقد دعا القرآن إلى اعتماد القول النبوي بما هو حجّية ملزمة وربط طاعة الله بطاعة الرسول في أكثر من موضع، ولكنّ الفقه -منذ لحظة الشافعي- جعل هذا الأمر السياقي- الذي يمكن إجراؤه زمن النبوّة من خلال حضور الشخص النبوي والقدرة على التأكّد من أوامره ونواهيه- حكما مطلقا، بل أصلا من أصول التشريع، وذلك بتعويض الحضور “الحيّ” للنبي بحضور نصّي عملت كل المرجعيات العلمية السنية على البرهنة على أنه مرادف للأوّل”بالضرورة”، ومفترضة أنّ تلك “المرويات” المعتبرة “صحيحة”، هي الأثر الخالص والنقيّ لذلك الزمن النبوي المقدّس.
مثّل الحديث – أو سلطة النبيّ – مرجعية عليا لا يمكن الطعن فيها. ولكنّها في الحقيقة كانت تعكس إلى حد كبير الحاجة إلى “تنصيص التاريخ” – أي إلى ضبط حركته بنصوص مفارقة وذات قدرة إلزامية عالية-، وهو ما يعني أن الكثير من “المرويات” –حتى الصحيحة منها- كانت تعكس الواقع الإسلامي اللاحق على زمن النبوة أكثر مما تعكس زمن النبوة ذاتها؛ فقد تسرّب إلى “المرويات” المنسوبة إلى النبي-بمختلف درجات صحتها- الكثير من التأثيرات العقائدية والتركيبات المخيالية والرهانات الإيديولوجية – السلطوية التي عرفها الاجتماع الإسلامي في قرونه الأولى، بحيث يكون من المتعذّر أخلاقيا ومعرفيا مشايعة “المحدّثين” في مسلّمتهم الكبرى التي مدارها أنهم باعتماد علم “الجرح والتعديل” يستطيعون استعادة اللحظة النبوية “كما هي”، أي يستطيعون استعادة زمن الرسالة نقيّا من المنظورات المذهبية المتأخّرة وغير متأثر بها إلى هذا الحد أو ذاك.
من مظاهر العطالة في الفكر الإسلامي المعاصر -خاصة في تعبيراته السياسية الإخوانية والسلفية- هو المحافظة على الخيارات التقليدية –أسئلةً ونتاجا وحلولا- والعمل على استعادتها من غير زحزحة أو استئناف حقيقيين؛ فالإسلام السياسي مازال مصرا على أن يقف عند اللحظة”المالكية” دون أن يجعل منها مبتدأ لخبر يتجاوزها ولكنه لا ينقضها. ونحن نذهب إلى أنّ الصياغة المعاصرة لقولة مالك، تلك الصياغة التي ستكون وفيّة للإمام وإن خالفته في الظاهر بحكم اختلاف الأزمان والرهانات، لا يمكن أن تكون إلا على النحو التالي: “كلّكم رادّ و مردود عليه إلاّ صاحب هذا القبر عندما كان حياّ وكان في استطاعة المسلمين التأكد من صدور الأمر الشرعي عنه يقينا لا ترجيحا”. ففي هذه الحالة فقط يكون ردّ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم كفرا أو نفاقا لا شيةَ فيهما، وعلى هذا المقتضى فقط يجب أن نفهم كل تلك الآيات القرآنية الحاثة على طاعة الرسول والداعية إلى التسليم له في المكره والمنشط. أمّا أن نردّ بعض “آثاره” النّصية غير المبرّأة من فعل السياسة والتاريخ، أو المنافية للعلم، فذاك أمر ثان لا يمكن أن نُسويّه بالأوّل مهما كانت تلبيسات الكثير من أصحاب المذاهب من سنّة أو شيعة أو خوارج، ولكنه أمر لا يمكن أن نبلغ فيه حد القبول بدعوى القرآنيين والإعراض جملة وتفصيلا عن الأحاديث الشريفة التي يشهد لها نص القرآن وصحيح العقل وقواعد العمران وغيرها من “المعايير”، التي يمكن أن نتفق عليها في قبول “المرويّات” أو ردها.
ختاما، يبدو أنّ الرهان الأهم المطروح على العقلين الإسلامي والحداثي “معا” –في هذا السياق الذي يهيمن عليه دواعش الإرهاب الديني والإرهاب الاقتصادي المعولم- هو العمل على “تحرير” النبيصلى الله عليه وسلم من سلطة “الموقّعين عن رب العالمين”، ومن سلطة المحدثين ومروياتهم التي تحجب الله وتستعبد الإنسان، لكن دون أن يجعلوا من “صاحب الديانة” مجرد “مفهوم تحليلي”أو “فائض معنى” لا أثرا واقعيا له في حياة الناس، وفي تشكيل نمط وجودهم الفردي والجماعي في هذا العالم. إننا نحتاج إلى مقاربة”تفهّمية” متعاطفة مع موضوعها البحثي – بحكم أنّ الموضوع هنا هو “أسوة” و”قائدهم” والمفردة الأهم من بين مفرداتهم النهائية التي ليس وراءها إلا الصمت أو العنف أو اللغو، كما يقول أحد الباحثين-، لكن دون أن نتماهى مع الموروث المذهبي الذي “تقدس” على غير وجه حق ، ودون أن نخضع لإغراءات توظيفه في سجالاتنا المعرفية وصراعاتنا السياسية-الإيديولوجية المحتدمة خاصة بعد الربيع العربي، وبعد ما تقوم به “الحركات الجهادية” من إرهاب للناس، حجب عنهم صورة “النبي-الرحمة” ولم يُبق لهم إلا المخاوف من “النبي-المشرّع” الذي تبدو ملامحه أقرب إلى “علماء السلطان” في السياقات الامبراطورية منه” إلى “رسول الرحمن”في القرآن الكريم.
ولكنّ هذه المقاربة التفهمية ستبقى متعذّرة ما دام الهاجس”السياسوي” المباشر يمنع الإسلاميين من الحسم في الكثير من “المرويات النبوية”، خوفا من خسارة القواعد الانتخابية “المتدينة” تدينا تقليديا، أو خوفا على انهدام نسق الذات الجماعية إن هي عاشت تدينها أو آمنت بنبيها بصورة مختلفة عن الصورة التراثية- . كما أن تلك المقاربة التفهمية ستبقى متعذرة ما دام الهاجس السياسوي نفسه يمنع العلمانيين من مفارقة موقع “الاغتراب” عن أناهم الجماعية خوفا على امتيازاتهم المادية والرمزية المرتبطة بالموقف الصدامي مع مظاهر التدين، بل من الدين ذاته في كثير من الأحيان. لا شك عندنا في أننا أمام وضعية “انتقالية” وأنها ستتحرك بالضرورة صوب آفاق تأويلية تكون أقرب إلى استحضار النبي، باعتباره “رحمة للعالمين”. فما ينبغي أن يبقى من “أقوال” النبي وأفعاله وتقريراته بعد إعادة تدبرها من موضع”مواطني” –لا يتعارض بالضرورة مع الموقع الإيماني- هو ما سينفع “الناس” جميعا بمسلميهم وكفّارهم، بسنّتهم وشيعتهم وخوارجهم، بمؤمنيهم ولا أدرييهم وملحديهم، أي هو ما ينفع كل عيال الله الذين جمعتهم رابطة”المواطنة”، ليس باعتبارها بديلا عن رابطة الدين أو نفيا لها، بل باعتبارها تدبرا للإيمان من موقع كان عند أجدادنا في المجتمعات التقلدية السابقة على ظهور مفهوم المواطنة من باب”اللامفكر فيه”، بل كان عندهم من باب ما هو” مستحيل التفكير فيه” أصلا.
عربي 21