حوار مع عدنان المقراني عن التصوف والأديان

حوار مع عدنان المقراني عن التصوف والأديان
التصوف والأديان 
حوار مع الدكتور عدنان المقراني
أجرى الحوار: خالد محمد عبده 
ذوات-مايو
سافر عدنان المقراني من تونس إلى روما لتعميق دراساته في المسيحية؛ فقد حصل من جامعة الزيتونة قبل سنوات طوال على درجة الدكتوراه، وكان موضوعها: (نقد الأديان عند ابن حزم الأندلسي)، لم يرد المقراني أن يستكمل مسيرته في بحث التراث، فعندما اقترح الأب اللبناني سمير خليل عليه أن يهتم بدرس المخطوطات المتعلقة بالجدل والدفاع بين الإسلام والمسيحية، أخبره أنه يريد أن ينتقل من النصوص إلى العالم الذي ينتجها واقعًا، فركّز المقراني اهتمامه على درس (نظرة المسيحيين اللبنانيين للعلاقات المسيحية الإسلامية بعد الحرب الأهلية)، ليتمم عمل الأب جورج مسوح حول نظرة المسلمين للعلاقات الإسلامية المسيحية، بحث عدنان في الواقع و “حجّ إلى الله في الإنسان” والتقى بالمسيحي العربي الشرقي، بعدما تعرّف في روما على المسيحي الغربي.

نحاول في هذا الحوار مع الدكتور عدنان المقراني أن نتحدث عن الإسلام والأديان والتصوف، بحكم خبرته العملية في هذا المجال.

1)   في مكّة بيتٌ حرامٌ عظيم وفي الجوار نبتت بذرة العظمة التي سقيت بماء السماء جاور العلماء مكّة من قديم الزمان، وكتبوا فتوحاتهم وسجّلوا مواجيدهم وأذواقهم وعلومهم وفقههم … مضى زمان الجوار الجامع، وظلت مكّة كما هي، بيتًا معمورًا بالصلاة والذكر والتسبيح. محبّو مكّة وإسلامها هناك، محبّو إسلام بلدانهم يهرعون إلى هناك، العارفون لا يرون من مكة إلا القديم الأزلي المنشود، وبعضهم يرى أن الأصنام لم تهدم جميعها في مكة كما هُدمت مع الفتح، بل زادت الأصنام في مكّة أكثر. كيف ترى مكّة اليوم ودورها في أنماط التدين المنتشرة في العالم الإسلامي؟ وهل تمكنت مكة من أن تكون مركزًا جامعًا وموحّدًا لأبناء الدين الواحد؟

ج. تعجبني أبيات مولانا جلال الدين في “ديوان شمس”، عندما يسأل الحاجَّ إلى بيت الله الحرام عن باقة الورود إن زار حقًّا البستان، وعن نفحات البيت إن كان قد ولج إلى السر العتيق. ولكن تعظيم شعائر الله يظلّ ضروريًّا حتى لا يتسرب إلى نفس السالك شيءٌ من العُجب والاستغناء، حتى يشعر مجدّدًا أنه صغير يحبو على الدرب، ومتعلّمٌ في بداية المسير. كما أن الاكتفاء بالشعيرة مدخل للرذيلة، فالقشور تحمي ما تحتها من لباب، وما عساها أن تحمي إذا كان بداخها هباب.

لغة الروح تحتاج إلى الرمز حتى تفصح عن بعض أسرارها. والحجّ غني بالرمز والإشارة، إنه أكبر مسرح ديني على الأرض، حيث يحاكي الحجيج حيرة امرأة وسعيها وحيدةً في الصحراء بحثًا عن ماء الحياة، يحاكون إبراهيم وصراعه مع شيطانه، يحاكون يوم الحشر والوقوف بين يدي الله في المكان نفسه الذي التقى فيه أبوا البشرية أوّل مرة بعد نزولهما إلى الأرض، هناك ألف وياء قصة الإنسان، العود على البدء. هذه بعض المعاني والأشواق التي يزخر بها الحج، والتي تحتاج إلى قلب سليم حتى يعي ويؤوّل.  أما اليوم، فلا أريد أن أحمّل التديّن المكي فوق ما يطيق من خطايانا وتيهنا. مكة اليوم هي صورة قلبنا الفارغ من المعنى التائه في صحراء القشرة، العطشان وماء زمزم يتدفّق بين يديه. سرّة العالم باتت خالية من الأسرار، والعيب في القارئ الذي لا يجمع الحروف ولا يعقد الكلمات في معان، لا في الحروف والكلمات المبعثرة.

من السهل اليوم أن نلوم “السلفية” و”الوهابية” وأن نبرئ أنفسنا من كل عيب ومسؤولية، ونقول هم السبب ونحن الضحية. نحن شركاء في الدم وفي الجريمة، لسنا أبرياء، تمدّد السلفية في مهد الحضارات الكبرى هو نتيجة الفراغ الموجود، نتيجة الفشل والهزيمة. وهذا ليس جلدًا للذات، بل استفزاز للوعي. سوف لن نبحث مجددا عن “كبش فداء”، حتى لا نبقى أطفالا يتهرّبون من تحمّل مسؤولياتهم التاريخية.

2)   الطّرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، إله واحدٌ وتعابيرٌ مختلفة، ومن لم ير التوحيد الكامن في كل تعدد ما شم رائحة الفهم والتعبد. هل بالفعل يمثّل هذا الكلام حقيقة نحياها أم أننا إزاء تصورات لا تحظى بالقبول عند طوائف كثيرة من أهل الأديان، فالمسلم لا يقبل بتصوّر المسيحي عن الله وكذلك المسيحي يفعل، وفي داخل كل دين تصحح كل فرقة معتقد شريكتها في الديانة؟ كيف يمكن أن نرى تجسيدًا لهذه الأفكار اليوم في عالمنا المليء بالصراع والاقتتال؟

ج. أفكارنا أجساد الحقيقة وأحيانا سجنها ووثنها. الأجساد تتدافع وتتصارع، لأنها مجبولة على “التحيّز” بمعنييه المكاني والنفساني. وراء الأفكار هناك ذوات ترقى وتشقى، تزلّ وتنزل، ترتفع ثم تهبط، لترنو برأسها إلى الضياء. هذه الذوات هي أم الأفكار ومحضنها، كثيرا ما تحجبنا الأفكار عن الذوات المفكّرة والساعية، نعطي أهميةً أكبر للأفكار والمعتقدات أكثر من الأشخاص الذين يجلسون أمامنا ونتحدّث معهم. ما تلك الأفكار إلا صوت الحركة، الحركة أهم من الأفكار، فنحن نغيّر أفكارنا في كل حين ما دمنا أحياء نتحرّك. هذه هي المشكلة الحقيقية في رأيي، إطلاقية الفكرة كانت على حساب إطلاقية الإنسان، فعلينا أن تعيد ترتيب الأولويات، الإنسان أولاً والفكرة ثانيًا. فالنهر الحي لا تعبره فكرة واحدة مرتين، فكلّ يوم هو في شأن.

إن قراءة متأنية للقرآن الكريم تظهر لنا أن التعدّد والتنوّع سنةُ الله في خلقه، وأن الله يدعونا لتدبّر هذا التنوع الدالّ على جمال الخالق وجلاله. أما من ينفي التعدد فهو لا ، فقط يعترض على إرادة الله سبحانه، ولا يفهم سنته تعالى، بل يريد أن يجعل الكون والمجتمع صورة عن جهله وفقره وجرداء قلبه وفكره. شخص لا يملك في رأسه إلا فكرة وحيدة يتيمة لا يرى غيرها يريد أن يستنسخ منها بعدد الأنفاس، حتى يكون الناس على شاكلة جهالته وفقره، لا على صورة الله ومثاله. إنه “تديّن” قاتل للتدين.

3)   تعقدُ اللقاءات والمؤتمرات الكثيرة من أجل الحوار بين الأديان بغية إصلاح خلل المجتمعات التي يُعبّر عنها أهل الحوار هل ترى بالفعل أن المؤتمرات الخاصة بالحوار تفيد المجتمعات أم تصب في صالح السياسة والحكومات؟

كون بعض اللقاءات الحوارية هي أقرب إلى الدبلوماسية الشكلية وتثبيت المراكز والسلطات، لا يجعلنا نشكّ أو نشكّك في جدوى الحوار وضرورة الإبداع في إنتاج أشكال جديدة له، تكون أكثر جرأة وقدرة على تكوين الإنسان وتحريره من وثنيته وقبليته الدينيتين، عندما يعتبر نفسه “عبد الله” الأوحد، فيصبح الأوحد صفة للمعبود والعابد معًا، في شرك خفي سرعان ما يظهر في الإقصاء فالقتل المعنوي والمادي باسم الدين. الحوار هو قاربنا المعرفي لاكتشاف عمل الله في الوجود ومع الناس والثقافات والأديان؛ فهو “تعبّد” حقيقي وتحرير للعبادة من كل صنم عقدي أو فكري، حتى لا نكون محليين للنخاع وندّعي العالمية والأبدية.

4)   ساهمت كتاباتُ إسلامية قديمة في تطوير أفكار النقد، خاصة ما يتعلق بدرس الدين المقارن، كما يشير الدارسون إلى ذلك، لكننا نشهد حضورًا مكثّفًا لما هو مدوّن في الكتب التراثية في أدب الجدل والدفاع بين الإسلام والمسيحية، ويستخدم  أبناء الديانتين اليوم نفس النقوض والدفاعات، مما يجعلهم يكررون كلامًا لا يعون أغلبهم ولا يعبر عن عصرهم كما عبّر عن السابقين، هل ترى أنّا لا نستفيد من هذا التراث الهائل، أم ثمة نماذج أخرى في الحقول العلمية طوّرت ما لا ينتبه إليه الشباب المتدين اليوم؟ وكيف يمكننا الاستفادة من تراث ابن حزم في نقد الملل والنحل أو من تراث ابن تيمية وغيرهما؟

لقد مرّ أدب الردود والجدال بمراحل عدة، فالمتكلمون الأوائل الذين نرى آثارهم في كتب عبد الجبار وابن حزم، كانوا على معرفة بالأديان ولم ينسبوا إليها ما لا  يعترف بها أتباعها أو يتناقض والمعرفة التاريخية. وخلف من بعدهم جيل اكتفى بما لديه من معلومات مستقاة من نصوصه الدينية الخاصة من دون الالتفات إلى الآخر وإن كان جاره. في كلا الحالتين، أدب الجدال هو أدب الهوية في أحسن الأحوال، وأدب الهيمنة في أسوأ الأحوال. يرى فقط نقاط الاختلاف، بل يصنعها ويضخّمها أحيانا. مهمة الحوار هي على العكس من ذلك تمامًا، تهدف إلى رؤية كل ما هو حقّ وخيّر وجميل في دين الآخر، حتى نتعلّم منه ونستفيد في إنضاج تجربتنا الروحية، حتى نكون أكثر إنسانية وعالمية، من دون خوف من ضياع الهوية وانفلات الروح من عقالها المزعوم. للأسف اليوم يتم اجترار جدال الأمس خدمةً للأنا والنحن والوهم الجماعي. وتلك والله لآفة التديّن تؤدي به إلى الموت الأكيد ما لم يتمسك المؤمن بعُرى التحرير الروحي عبر الحوار الرشيد.

ثمة أمر آخر يدخل في صلب الحوار، وهو ضرورة التكوين والاستعداد له بالمعرفة الحديثة، الحوار مع العلوم الإنسانية من ناحية والحوار مع لاهوتات العالم والأديان من ناحية ثانية، إتقان خطابات لاهوتية متنوعة والقدرة على استيعاب مضامينها الرمزية لهو بمثابة إتقان لغات مختلفة وتذوّق جمال آدابها وأشعارها. كلّ ذلك لن يلغي حسّنا الأدبي الخاص، بل سيصقله ويثريه ويخصبه.

إنّ الجاهل بتبخيسه الناس أشياءهم يظنّ أنه يُعلي من شأنه، ولكنه يزري بنفسه من حيث لا يدري، يتلفها من حيث يريد بقاءها، فلا بقاء إلا بالانفتاح على هواء جديد وأفق بعيد.

5-نلاحظ في الغرب والشرق فرارًا نحو روحانية الإسلام، واهتمامًا بنماذج صوفية من تراث الإسلام، كجلال الدين الرومي وغيره، كيف تفسر هذا الاهتمام اليوم؟

ليس بالضرورة فرارًا، بل قد يكون إقبالاً على نبع التديّن الصافي بعد تصحّر روحي وفقر معنوي مدقع. التصوّف هو جوهر التجربة الدينية، وهي تجربة إنسانية عالمية، من دونها لا معنى للعقائد ولا للشعائر إن لم تكن تعبيرًا عن تلك التجربة الخاصة؛ فاللقاء الشخصي مع الله وتذوّق حلاوة الإيمان لا يمكن تعويضه بأية أشكال أو ممارسات، بل هو لبّ الألباب والأساس لكلّ ما يمكن أن يُبنى فوقه.

كون التجربة الدينية (ولنسمّها الصوفية) بهذه الأهمية، لا يعني أن التصوّف وأهله معصومون من الخطأ والزلل. ولعلّ أشد الأنانيات خطورة وخفاءً هي أنانية مدّعي الولاية. الانعزالية والنظرة الفوقية والاستعلاء على الخلق والتواكل والاستسلام والاستقالة من التاريخ ومن المسؤولية الاجتماعية، كلّها أمراض يمكن أن يقع فيها المتديّن على النهج الصوفي مثل غيره من الناس.

هناك تفسير آخر للاهتمام المتزايد بالتصوّف، يمكن اعتباره خطةً جيو-استراتيجيّة من قبل قوى داخلية ودولية لمحاربة الإسلام السياسي من خلال تشجيع التديّن الصوفي، معتبرةً إياه تدينًا “يفرّ” من السياسة ولا يقبل عليها، ربما يقبل على موائد الساسة والوجهاء، ولكنه عادة تديّن مطيع ووديع! هذا التوظيف السياسي والأيديولوجي للدين يدّعي بأنه يحارب التوظيف السياسي المعاكس والمتمثّل في الإسلام السياسي، وكلاهما في الهمّ شرق. ولكن التوظيف الذرائعي لا يمسّ من جوهرية التصوّف وأهميته لمن طلب الحقّ بقلب سليم.

6- يرى أكثر من باحث تخصص في درس الرومي كـ فرانكلين وشيمل وباحثون آخرون أن تأثير الرومي في العرب لا يمكن الحديث عنه، بل إن بعض العرب لا يعرفون اسمه كما تقول شيمل، وبعضهم لا يعرف من أقواله سوى نزر يسير مترجم في صورة مشوّهة لا تخبر عن تعاليمه الحقيقة.. إلى أي مدى ترى صحة هذه المقولة؟ وكيف يمكن تعريف العرب بالرّومي؟

قبل أن نتعرّض للعوائق التي حالت بين الرومي والقارئ العربي، علينا أن نتساءل أولاً عن مصير الشعر الصوفي العربي، فما الذي تبقى من شعر ابن العربي وابن الفارض في الذاكرة الحية العربية؟ في الحقيقة، هنالك عوامل متضافرة حاصرت النفَس الصوفي عمومًا والتصوّف الفارسي خصوصًا: منها انحسار علم الكلام والفلسفة، والتصوّف الفلسفي العرفاني مرتبط بهما، في الثقافة الدينية العربية السنية.

ومن هذه العوامل أيضا، حركات الإصلاح الديني من محمد عبده إلى رشيد رضا إلى ابن باديس وعلال الفاسي… كانت ذات توجّه اصطلح عليه في المغرب العربي بـ “السلفية الوطنية”، وهي سلفية تأثّرت بالموجة الوهابية وإن بصورة أرقى، وكان يغلب عليها إلى حد ما الجانب العقلاني النقدي في مقابل ما اعتبروه خرافة ودروشة وتدينًا شعبيًا متخلّفًا وظهيرًا للاستعمار. ولا تزال هذه الرؤية قائمة إلى اليوم، نجدها مثلا في مشروع محمد عابد الجابري، الذي بنى البيان على البرهان وأقصى العرفان تمامًا من حقله المعرفي، معتبرًا القياس الصوفي (وهو لبّ الخطاب الرمزي) اعتباطيًا ولاعقلانيًا. وهذه الرؤية النقدية لا تخلو من وجاهة أحيانًا، فالتصوّف الشعبي انفصم في جزء منه عن التصوّف العالِم وتاه في شكليات وأمراض التديّن العام.

عامل آخر هو انهيار المؤسسة الدينية التقليدية التي كانت متمثّلة في الجامعات القديمة كالأزهر والزيتونة والقرويين، وهي جامعات استطاعت أن توفّق ضمن سياق التديّن السني بين الأبعاد الثلاثة للهوية الدينية: الانتماءات المذهبية الفقهية والكلامية فالصوفي، فكان الشيخ الزيتوني مثلاً يعلن عن انتمائه الثلاثي قائلاً بأنه مالكي أشعري شاذلي، وهو ما يدلّ على إدماج التصوّف في المنظومة المعرفية التقليدية كأحد مركّباتها الأساسية، باستثناء بعض الحالات الهامشية التي ظلّت تعارض التصوف. اليوم بعد تأميم المؤسسة الدينية واكتساحها من قبل الحركات السلفية، تم بتر هذا المكوّن الديني الأساسي وتبديعه، إلا ما ندر. يُضاف إلى كلّ ذلك، وبالنسبة إلى التراث الصوفي الفارسي تحديدًا، القطيعة الثقافية بين الثقافة العربية والثقافات الإسلامية الأخرى كالتركية والهندية والأندونيسية، وبصفة خاصة الثقافة الفارسية، فباتت جسورنا معها تمرّ عبر الغرب وليس عبر قنوات مباشرة. وهكذا اطّلع الناطقون بالإنكليزية على الرومي قبل العرب بعقود طويلة.

مولانا اليوم يمثّل حاجةً ماسّة لفهم الإسلام والقرآن، واسترجاع ما سماه الدكتور عبد الجبار الرفاعي “النزعة الإنسانية” في الدين، أو استعادة “الوظيفة الدينية للدين”، كما يقول محمد مجتهد شبستري، وهي تربية الإنسان وتهذيبه وجعله أكثر إنسانية وخيرية. بدون هذا المعنى الأساسي يصبح الدين وقودا لشحذ قوى الشر في الإنسان، ولشحن الأنا الفردية والجماعية. فنحصل على وحش لاديني يحتكر اسم الدين، على شاكلة المسيخ الدجّال في بعض الأحاديث التي تصوّر جنته نارًا وجحيمه جنةً.

فلننظر إلى مختلف المحاولات التجديدية الإيرانية معظمها ينطلق من أفكار مولانا، انظر محمد مجتهد شبستري أو عبد الكريم سروش مثلاً. تواصلنا مع هذه المشاريع الجادة لا يزال ضعيفًا للأسف، وإن بدت الأمور تتغيّر بالتدريج.

7- في إحدى القصص التي أبديت اهتمامًا بها في أحد نصوصك تظهر شخصيتان ينسجهما الرومي على نحو بديع تعبران عن نمطين من أنماط التدين، وهما شخصية (موسى والراعي) يبدو الراعي ببساطته أقرب إلى قلب القارئ، وموسى رغم رساليته أبعد نظرًا لقسوته الظاهرة وطبعه المناسب لمن يخاف على دين الله، هل ترى في أنماط التدين الحالية نموذج موسى أو الراعي؟ سامح الراعي موسى، رغم أنه صرفه عن مناجاته، ودعا له لأنه كان سببًا من أسباب وصوله واعترف موسى بحق الراعي في التعبير عن مشاعره في العلاقة التي لا تكون بين اثنين!

ميزة المقاربة الصوفية للدين والحياة خروجها من منطق الصراع والاستقطاب، فهي مقاربة فوق الثنائيات والتقسيمات الاختزالية، الواقع معقّد ويحتوي على أطياف عديدة ودقيقة من الألوان، لا يمكن اختزالها بحال في ثنائية الأبيض والأسود. فالكلام الصوفي ليس لاهوتًا جداليًا صراعيًّا تبريريًّا.

قوة هذه القصة تظهر على عدة مستويات، فهي غير مستمدة من أصل قرآني أو كتابي، لقد شعر مولانا أنه حرٌّ لكي يبدع قصة جديدة يضع كلماتها على أفواه الأنبياء والأولياء، بل ينسب فيها خطابات كاملة لله تعالى. هذه الحرية في الإبداع بعيدة كلّ البعد عن العقلية المحافظة العربية. ربما هذا سبب آخر حال دون اهتمام العرب بالرومي، وهو سبب ثقافي ذوقي، اللغة الفارسية تسمح بمساحة أكبر من “التجرّؤ” على الله، وهو تعبير خاطئ ولكنه قد يقرّب الفكرة، أدب الخلّة يسمح بالفارسية بما لا يسمح به عادةً بالعربية. يظهر ذلك حتى في الفرق بين “إحياء علوم الدين” وملخصه الفارسي “كيميائى سعادت”، للمؤلّف نفسه أبي حامد الغزّالي. كما يظهر بشكل عجيب في أشعار المتصوّف الحنبلي الفارسي عبد الله الأنصاري.

ثمة عنصر مهم في القصة، وهو كون وثنية الفكرة أخطر من وثنية الخطاب، وثنية الاستعلاء اللاهوتي المنمَّق أسوأ من وثنية التديّن الشعبي البسيط. وأن تنزيه الفكرة والعبارة يقتضي التواضع والمحبة للخلق جميعًا وتحرّرًا تامًّا من آثار الاكتفاء والاستغناء والإقصاء. مهمة الصوفي هي التحرّر من الوثنيات الباطنية، عُقد المثقفين بلغة اليوم، بعيدًا عن النمطية بلغة هي أقرب للصدمة والفضيحة.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!