على قدر أنفاس الباحثين في تصوف ابن عربي، يحدث فهمٌ جديدٌ لكتاباته ومصنفاته

على قدر أنفاس الباحثين في تصوف ابن عربي، يحدث فهمٌ جديدٌ لكتاباته ومصنفاته

 

 

حوار مع الدكتور محمد أمعارش حول الشيخ الأكبر ابن عربي وتراثه الصوفي.

أجرى الحوار: الأستاذ صلاح بوسريف

محمد أمعارش

باحث وأكاديمي مغربي، حصل على الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالرباط حول موضوع: “هيرمينوطيقا الأسماء والصفات: قراءة ابن عربي البرزخية لنصوص الصورة الإلهية”. وتخصص في هيرمينوطيقا النص وممارسة الفهم في الخطاب الديني. له عدة مقالات ودراسات وترجمات منشورة، نذكر منها:

-ما وراء الاعتقاد والانتقاد عند ابن عربي: وجهة نظر عرفانية حوارية.

– تثوير القرآن وتفجير معانيه.

 كما شارك في عدة ملتقيات علمية دولية. له كتب تحت “.الطبع، منها: “النسق وإنتاج المعنى: دراسات في المعرفة البنيوية “.صدر له عام 2017 كتاب: “النص والاختلاف: هرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي” وهو سفرٌ ضخم يلخّص رحلة الباحث ومعايشته لنصوص ابن عربي شطرًا كبيرًا من عمره.

 

صلاح بوسريف: كاتب وشاعر وأديب مغربي، صدرت له العديد من المؤلفات الشعرية والنقدية، آخرها عمله الشعري عن العارف جلال الدين الرومي: “يا هذا تكلم لأراك”، عن دار النشر “فضاءات” بالأردن.

 

 

 

نص الحوار:

 

  1. ما الذي جرك إلى الاشتغال على الخطاب الصوفي، وتحديدا على ابن عربي، علمًا أن كثيرين ولجوا عالم ابن عربي، وقاربوه من زوايا متعددة. ألهذا الحد، يحتاج ابن عربي إلى كل هذه القراءات، ومن أي زاوية ذهبت إليه؟

 

الجواب:

 

 تجربة اللقاء بالتصوف يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي، خصوصا وأن التصوف في مختلف التجارب الثقافية الإنسانية، هو دعوة للتجربة المعيشة  نفسها بما هي انخراط ، بل انغماس للذاتي في الموضوعي، وصدور في القول عن معيشات قصدية. لذلك اسمحوا لي أن أتكلم عن تجربة القراءة والفهم من هذا الأفق الذي يفتحه التصوف للراغب في الخوض فيه، والذي يصر فيه صوفية العالم على استحالة فهم تجاربهم، ما لم يكن الفهم نفسه طريقا وسلوكا وتجربة حية، ومسارا ضمن توجه الذات إلى موضوعها القصدي باستعداد يفتح طرفي الذات والموضوع على بعضهما البعض ويجعل إمكانية تشارحهما وحوارهما ممكنة، لوجود هذا الاستعداد  نفسه، فيقبل الموضوع أن يتحول عن موضوعيته الخارجية المنفصلة والمنعزلة، وتستعد الذات من سؤالها وطلبها للموضوع أن تخرج من عمائها، وتتحول عن ذاتيتها إلى ما يغايرها. ووجود هذا الاستعداد  الأنطولوجي  للفهم وإرادة التفاهم والتفهم في الذات، هو أبلغ سؤال وطلب للموضوع، بحسب قابليته هو نفسه للاستجابة لنمط توجه الذات إليه، كما يرى ابن عربي.

  أما عن  تجربة لقائي بالتصوف من حيث التاريخ، فإن ذلك يعود إلى قراءاتي المبكرة في بدايات ثمانينات القرن الماضي، للكتابات الصوفية وتحديدا مصنفات ابن عربي، وقد كانت بعض السوانح من هذه القراءات منشورة بصحيفة “المحور الثقافي” التي كنت أشرف على رئاسة تحريرها، ويبدو أثر ابن عربي في الترجمات والعروض التي أنجزناها أنذاك مع جماعة من أصحابنا، لكل من فوكو وهيدجر وبارت ولاكان وديريدا وبودريار وكريستيفا وغيرهم من أعلام الفكر والأدب في الغرب، ومن عملنا على التملك النقدي لمفاهيم الحداثة والكتابة والأدب والفكر، التي لم يَخْفَ فيها أثر ابن عربي تصريحا أو تلميحا، أو تصرفا أو تحويرا، ثم كتبنا افتتاحيات للأعداد المنشورة من مشرب ابن عربي، وعلى رأسها افتتاحية “لا يعول عليه”، التي تلقتها بعض الأوساط النقدية في الملحق الثقافي لصحيفة “الاتحاد الاشتراكي” المغربية، بردود أفعال تستغرب هذا التناص مع “رسالة لايعول عليه” لابن عربي، وتدين الافتتاحية بكونها تلاصا لا تناصا، مما اضطرنا إلى تخصيص صفحتين من الصحيفة في أحد أعدادها لتدبيج رؤيتنا النقدية للحداثة، كان عنوانها” حرمان الحداثة من تأسيس القداسة”،  تضمنت تمردا على الدوكسا الفكرية وعلى المفاهيم المستقرة، من مشرب تصوف ابن عربي، ممزوجا بالنقدية السلفية لابن تيمية، وجعلنا لباسنا النقدي على صورة لباس المرقعة الصوفية التي تختلط فيها الألوان والأشكال، ويتحاور فيها الجديد والقديم. وكنا نخفي هذا التوجه والمصدر الصوفي في ثنايا المقالات حتى أحدثنا مقالة ” مقامات الذات والكتابة”، نشرت في أعداد لاحقة في أواسط الثمانينات،وكشفنا فيها أيضا عن فتوح عبارة ابن عربي في الحديث إلى رولان بارت وإلى جاك لاكان وإلى جاك ديريدا، وقد وجدنا في حوار ابن عربي وابن تيمية وابن رشد أيضا، على قضايا الفلسفة والدين والمنهج والحقيقة والقراءة والفهم والنص، ما يشكل مادة للتحويل وإعادة التأسيس في حوارنا مع مفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة في الفكر الغربي المعاصر، وكنا بصدد تشكيل تيار نقدي من جماعة من الشبان الباحثين الذين تستهويهم المغامرات الفكرية والإبداعية، التي تخرج عن المألوف الثقافي أنذاك، قبل أن تتلقفنا الدراسات العليا الجامعية الأكاديمية، التي اشتد فيها ارتباطنا بابن عربي أفقا للتفكير في قضايا الفهم والقراءة، وبتشجيع من أساتذتنا الأجلاء في جامعة محمد الخامس. هذا مع الارتباط بابن عربي أفقا للتجربة الروحية الذاتية في خوض غمار الحياة والسلوك إلى الحقيقة، ومراوغة المعنى المستقر لهذه الحقيقة،وذوق قلق الوجود.    

 

  لقد أخذت منا هذه التجربة الوجودية في الاشتغال على الذات أولا، وقتا طويلا وممتدا، تقلبنا فيه بين مشاريع معرفية وعرفانية، لم ترض إجاباتها عن هذه الأسئلة القلقة، انفتاحات النفس وانفساحات الروح على تجربة الأقاصي، فعثرنا في الطريق الصوفي لمختلف الثقافات والشعوب والعصور، على أرضية انطلاق لتنشئة جسدنا الثقافي وتدريبه وترويضه على المواطنة الثقافية الكونية، فتركنا ردحا البحث في الأوراق، إلى رياضة الأذواق، لتحصيل هذا المقام، قبل الكلام فيه أو مطالعة كلام من تكلم فيه، وكانت النصيحة من معلمي طرق الصوفية والعرفان والإشراق في العالم، أن الحكمة الأولى للباحث تقضي أولا تجلية وجلاء مرآة النفس، وإعدادها لانطباع الصور والحقائق فيها، وليس إلا الرياضة الروحية والجسمية، طريقا إلى العلم والمعرفة، وأن القراءة لا يأتي منها فتح ولا شيء، ومما استهدينا به من أقوال صوفية العالم، ما عبرت عنه عبارات قطع العلائق، والتخلية قبل التحلية، والانخراط في ممارسة الفهم ورياضته، والصبر حتى الفتح وإفاضة الفيض، مع ما يلزم عن ذلك من صمت وإمساك للنظر حتى يستوفي شهوده في النفس، ومما نصح به صوفية المسلمين الداخل إلى طريقتهم والباحث عن ذوق حقيقتهم، قول أبي مدين: ” أطعمونا لحما طريا لا تطعمونا القديد”، في إشارة منه إلى ترك قيل وقال، والصدور في القول عن تجربة حية ومعيشة، لا عن نقل من مطالعة الكتب وتجارب الآخرين.

غير أنا أدركنا أن رد الفعل الصوفي على هذه المصادرات ليس بموجب لاطراح علوم الأوراق ومطالعة الكتب والأقوال، حيث تعرفنا مع ابن عربي أن القراءة والمطالعة هي أيضا تجربة صوفية، فالعالم معطى في النصوص، ومطالعتها رياضة كذلك، وتجربة قراءة النصوص وكون الفهم طريقا، إذ ليست مطالعة الأوراق وقراءتها بل وكتابتها وإعادة كتابتها، منفصلة جميعها عن التجربة الصوفية في العالم ومع الآخرين، وعليه قول ابن عربي ” فلا يرمي العارف ولا يُهمل شيئا من كلام المخلوقين”، ويقول في الكينونة الإلهية الحادثة بالحديث والقول: والله شهيد لأنه عند قول عبده على الحقيقة لا عند عبده، فهذه الكينونة الإلهية هي التي تحدث بحدوث القول، وسبب ذلك أنه تكوين، والتكوين لا يكون إلا عن القول الإلهي في كل كائن، فجميع ما يتكون في الوجود فعن القول الإلهي، فما بين الحق والعبد مناسبة أتم ولا أعم من مناسبة القول، ولهذا كان عند لسان كل قائل، فإن القول كون مفارق قائله، فإن لم يكن الله عنده ضاع القول”. واختصارا أورد حكاية دالة في باب تحصيل الطريق من القراءة والمطالعة، فقد ذكر عبد الكريم الجيلي أحد تلامذة مدرسة ابن عربي، نقلا عن الشيخ إسماعيل الجبرتي، أنه قال لبعض تلامذته: “عليك بكتب ابن العربي رحمه الله تعالى، فقال له: يا سيدي إني رأيت أن أصبر حتى يُفتح علي من حيث الفيض، قال: الذي تريد أن تصبر له هو عين ما ذكره لك الشيخ في الكتب” ، ثم أورد نصا آخر يقول فيه: ” وقد رأيت صبيانا من أهل الطريق من إخواني، بلغوا بمطالعة الكتب، في أيام قليلة، ما لم يبلغ رجال باجتهادهم أربعين سنة أو خمسين سنة، على أنهم كانوا سببا لدخول أولئك الصبيان إلى الطريق، لكنهم لما وقفوا مع سلوكهم، وسار أولئك الصبيان في مطالعة الكتب وفهمها، تأخروا عن مداهم، فصار الصبيان شيوخا، والشيوخ صبيانا… فمطالعة الكتب عند المحققين أفضل من أعمال السالكين، ومجالسة أهل الله تعالى مع الأدب أفضل من مطالعة الكتب، فعليك بملازمة الشيوخ، فإن لم تجدهم، فلازم مطالعة كتب الحقائق، واعمل بمقتضاها، تصل لمقصودك، وتقع بذلك على معبودك، والسلام، انتهى كلام الجيلي رحمه الله”.

ثم وجدنا أن ابن عربي اشتغل في حياته على المطالعة والقراءة والفهم والكتابة، ولم يترك بعده طريقة للرياضة الروحية من أجل تحصيل الفهم والمعرفة المباشرين، ولا خلف إلا كتبه وقراءاته، وكانت ذِكرَه في الطريق ووِردَه في التحقيق،  وقد ذكر أن معلميه ومشايخه هم كل الوجود الناطق، فـ” الوجود مدرسة “ كما يقول، بما فيه الوجود في القول والكتابة، وأن الطريق إلى الحق ليس فحسب على عدد الطرق الموجودة، وعلى عدد الخلائق، بل على عدد أنفاس الخلائق، مما دلنا على أن القراءة والكتابة طريق صوفي أيضا، فصحبة الكتب والنصوص، تورث العلم والفتح، وهي رياضة صوفية كذلك، بل صحبة العالم كله، هي كذلك، ومما ذكره ابن عربي عن مشايخه : ” وفي جملة أشياخنا الذين انتفعنا بهم في طريق الآخرة في هذه الأمم، ميزاب رأيته بمدينة فاس، في حائط ينزل منه ماء السطح، مثل ميزاب الكعبة، فوقفت على عبادته، وأجهدت نفسي عسى أجري معه في ذلك، ومنهم ظلي الممتد من شخصي، أخذت منه عبادتين قد أخذ نفسه بهما، وأشباه ذلك، وأما الحيوانات فلنا منها شيوخ، ومن جملة شيوخنا الذين اعتمدت عليهم، الفرس فإن عبادته عجيبة، والبازي والهرة والكلب والفهد والنحلة، وغير ذلك، فما قدرت قط أن أتصف بعبادتهم، على حد ما هم عليها، وغايتي أن أقدر على ذلك في وقت دون وقت…” ، ثم وقفنا مع ابن عربي، على أن الإنسان الكامل هو الإنسان الجامع المنفتح على الحق والخلق، يتغذى من العالم ويمشي في الأسواق وفي حاجات الآخرين، ولا يتميز عن غيره إلا بالجمعية، أي أنه صورة المجموع، لا يطلب علوا في الأرض، ولا ينتظر هبوطا من السماء، ومن كماله وجود النقص فيه، وصرف نظره إلى العالم لا صرف نظره عن العالم، فهو محل التجلي، وموطن الظهور، وللمواطن حكم لا ينبغي طلب الحقائق خارجها.  

إن مطالعتنا لكتب ابن عربي كشفت لنا خطأ ما اعتقدناه قديما من أن الطريق الصوفي خاص بطائفة من الزهاد والعباد ممن اتخذوا رسوما في الحياة، أو لباسا ووردا خاصا، أو سلكوا على يد شيخ مرب فريد،  وخطأ ما اعتقدناه أيضا من أن الطريق إلى الحق الصوفي يبدأ من الانتساب إلى طائفة من المتسمين بالصوفية، وأن أول ما يتعلمه المريد قطع العلائق مع العالم، والخروج منه جملة وتفصيلا، وطلب الحقائق المباشرة وراء حجب العلوم والنصوص والكتب والدنيا ومن فيها وما فيها، وهو يبين أن  ” العالِم لا يرمي بشيء من الوجود، وإنما يبرز إليه ما يناسبه منه، ولا يغلب عليه حال من الأحوال، بل هو مع كل حال بما يناسبه، كما هو الله معنا أينما كنا، فإن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، بل هم بهذا القدر جاهلون وعنه عمون وهذا هو الذي أداهم إلى ذم الدنيا وما فيها، والزهد في الآخرة وفي الكونين، وفي كل ما سوى الله وانتقدوا على من شغل نفسه بمسمى هذه كلها …ورأوا أن كل ما سوى الله حجاب عن الله فأرادوا هتك هذا الحجاب فلم يقدروا عليه إلا بالزهد فيه…ومحل الرؤية هي دار الشهوات وعموم اللذات، ولوكانت حجابا لكان الزهد والحجاب فيها وكذلك دار الدنيا…فما خلقه لنزهد فيه، فوجب علينا الانكباب عليه والمثابرة والمحبة فيه، لأنه طريق النظر الموصل إلى الحق، فمن زهد في الدليل فقد زهد في المدلول، وخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين”.

لقد تِهنا لسنوات في طلب الطريق إلى ذوق الحقائق التي ذاقها الصوفية، ليصح لنا الكلام فيها، فيكون الفتح بعد إعداد المحل له، وبعد دفن أنفسنا في أرض الخمول. وكانت النصيحة من ابن عربي أن لا يُرمى شيء من العالم والوجود، بل يُطالَع ويُعظم، يقول ” وأهل الكشف لهم الاطلاع على جميع المذاهب كلها، والنحل والملل والمقالات في الله اطلاعا عاما، لا يجهلون منه شيئا، فما تظهر نِحلة من منتحل، ولا ملة بناموس خاص تكون عليه، ولا مقالة تكون في الله، أو في كون من الأكوان، ما تناقض منها، وما اختلف وما تماثل، إلا ويعلم صاحب الكشف من أين أُخذت هذه المقالة أو الملة أو النحلة، فينسبها إلى موضعها، ويُقيم عذرا لقائل بها، ولا يخطئه، ولا يجعل قوله عبثا، فإن الله ما خلق سماء ولا أرضا وما بينهما باطلا، ولا خلق الإنسان عبثا، بل خلقه ليكون وحده على صورته. فكل ما في العالم جاهل بالكل، عالم بالبعض، إلا الإنسان الكامل وحده فإن الله علمه الأسماء كلها، وآتاه جوامع الكلم، فكملت صورته، فجمع بين صورة الحق وصورة العالم، فكان برزخا بين الحق والعالم، مرآة منصوبة يرى الحق صورته في مرآة الإنسان، ويرى الخلق أيضا صورته فيه، فمن حصل في هذه المرتبة، حصل رتبة الكمال الذي لا أكمل منه في الإمكان، ومعنى صورة الحق فيه، إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه، كما جاء في الخبر، فبهم تُنصَرون، والله الناصر، وبهم تُرزقون، والله الرازق، وبهم تُرحمون، والله الراحم، وقد ورد في القرآن في مَن علِمنا كماله، واعتقدنا ذلك فيه، أنه: بالمومنين رؤوف رحيم. وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. أي لترحمهم”،  ومن عدم تخصيص هذه الرحمة وحكرها على طائفة من الناس، أنه يستحيل أن يوجد الحق الواسع الرحيم والرحمن في هذه الطريق وفي هذا العقد وعند هذا الشخص ولا يوجد في ذاك أوعند ذلك، “فأينما تولوا فثم وجه الله”، و“أنا عند ظن عبدي بي”، ولذلك فإن الاتساع الذي طلبناه من طريق، لا يتعين ولا يتحقق إلا بكل الطرق في العالم، ومن هذا العرفان بالرحمن، ما استنتجه ابن عربي من عدم تخطئة أحد في معتقده أو ظنه، فقد يكون الحق عنده، وإنما التخطئة في الحصر والحجر والتضييق لا غير، والحقيقة المطلوبة هي على صورة العالم كله وما عليه الوجود من تنوع واختلاف، ” الحقيقة هي ما هو عليه الوجود بما فيه من الخلاف والتماثل والتقابل، إن لم تُعرف الحقيقة هكذا وإلا فما عرفت”، ولذلك كان عند ابن عربي ” بسط الرحمة على الكافة أولى من اختصاصها في حقنا”.

   لقد انتهت متاهتنا في طلب الطريق الواحد الموصل، إلى استحالة هذه الطريق، إذ هي مجموع الطرق كلها في العالم، فخرجنا بخلاصة أنه مع كثرة التيه تعرفنا الطريق في الطرق كلها، فكثرة التيه كما قال أحد الصوفية، تريك الطرق، بل إن التيه في الطريق وبين الطرق هو على صورة الحقائق الزلقة الطيارة التائهة والسيالة المنفلتة والمبددة كما يسميها ابن عربي.

   ثم انتهينا كذلك إلى ما انتهى إليه ابن عربي في أن الانتقال في المعارف والتجارب، ليس بالترك السلبي، للمعارف السابقة والتخلي عنها، بل في الانتقال فيها وبها، واستعادتها في التجربة الجديدة بتوسيعها، يقول: ” إن النقلة في المقامات ما هي بأن تترك المقام، وإنما هو بأن تحصل ما هو أعلى منه من غير مفارقة للمقام الذي تكون فيه، فهو انتقال إلى كذا، لا من كذا بل مع كذا، فهكذا انتقال أهل الله، وهكذا الانتقال في المعاني، لا يلزم من انتقل من علم إلى علم، أن يجهل العلم الذي كان عليه، بل لا يزال معه إذا كان عالما”.

أما الخلاصة الكبرى التي انتهينا إليها في تحقيق الطريق إلى العرفان، هو أن مشروع الحياة الذي كنا نبحث عنه، ليس رسوما تتبع ولا منهجا تترسم خطواته، بل هو الحياة نفسها معيشة كما عليه أمرها من تنوع واختلاف وشؤون، فصار مشروع الحياة عندنا، هو الحياة نفسها بوصفها مشروعا مفتوحا على التجربة والقراءة، فوجب محبة الحياة والمصير إليها لا الزهد فيها، لأنها محل تجلي الحق، وهي الإمكانية الوحيدة المتاحة للرؤية والشرط الوحيد للتجلي والظهور، يقول ابن عربي في “لا يعول عليه” منتقدا الزهد في الأشياء، ومبينا تناقض الصوفي الزاهد في قوله بالتجلي الإلهي في العالم، مع الزهد في هذا العالم: ” دعوى رؤية الحق في الأشياء، مع الزهد فيها لا يعول عليه”.

إن هذا التلقي الإبداعي الخلاق والمفتوح الذي عبر عنه ابن عربي، هو الذي يسمح بانفتاح نصه وقوله على جميع القراءات الممكنة، والتي لا نرى التوقف عنها أو عندها، أي عند حدود كتاب أو قراءة، أو الادعاء بتناهي الأقوال والتجارب القرائية. لذلك فإن تجربة ابن عربي في سلوكه القرائي الصوفي وفي نتائج هذا السلوك المطبق على الكون وعلى النصوص واللغة وعلى المفاهيم والآراء والاعتقادات، وفي أبعاده الأنطولوجية والأخلاقية يحتاج إلى أكثر من بحث وأكثر من مقاربة، بل إن الباحث الواحد قد يتجدد له فهم ابن عربي في كل قراءة منفصلة في الزمان والوقت والنَّفَس، وعلى قدر أنفاس الباحثين في تصوف ابن عربي، يحدث فهم جديد لكتاباته ومصنفاته، من غير دعوى أن هذا الفهم أقرب وذاك أبعد. أو أن هذه القراءة تغني عن تلك، يرى ابن عربي أن  ” العالِم الفهِم المراقب أحواله، يتلو المحفوظ عنده من القرآن، فيجد في كل تلاوة معنى، لا يجده في التلاوة الأولى، والحروف المتلوة هي بعينها، ما زاد فيها شيء، ولا نقص، وإنما الموطن والحال تجدد، ولا بد من تجدده، فإن زمان التلاوة الأولى، ما هو زمان التلاوة الثانية”. وهذا القول يسمح لنا باعتبار أن ما تُرك من ابن عربي في البحوث المنجزة عنه أكبر بكثير مما أثبت أو تناولته الدراسات والأبحاث، فمن كان بحرا بلا ساحل كما وصف به، يستحيل أن ترسو فيه سفينة البحث والكتابة. أو يحيط به غواص أو سباح واحد، هذا إن لم نقل أن كل غواص أو سباح لا يطلع من هذا البحر إلا بجثته الغريقة، أو بِصَمْته الأبدي الناطق عن الحاجة إلى غواص أوسباح جديد، يبدأ تجربة البحث والاستكشاف حيث انتهى سابقه صريع هذه الغواية اللانهائية المسماة قراءة وإعادة قراءة، في محاكاة أبدية أو مضاهاة لصنيع الخلق المتجدد في الكون، والخلاق على الدوام بعبارة ابن عربي نفسه.             

 

 

  1. تذهب سعاد الحكيم، وهي من العارفين بكتابة الصوفيين ولغتهم، إلى أن ابن عربي خلق لغة جديدة، أو ما سمته بمولد لغة جديدة عند ابن عربي. أين تبدو لك جدة لغة ابن عربي، وهل الصوفية فعلا تميزوا باختلاقهم للغة جديدة؟

 

الجواب:

في الحقيقة يمكن تسمية لغة ابن عربي بما نشاء: خلق وإنشاء لغة جديدة، أو تجديد للغة القديمة، بل إلباس لغة قديمة لمضمون جديد، فعندما قرأتْ بعض المذهبيات كلام ابن عربي في الدين والألوهية، لم تخرج منه إلا بما فهمته بحسب استعدادها  للفهم، من أن كلامه هذا دين جديد ينسخ الدين القديم جملة وتفصيلا. ولم تر فيه تجديدا للغة وللفهم، بل إحداثا لقول مختلف عن أقوال المتقدمين. وقد عمل ابن عربي نفسه على دفع هذا الغلو في أقواله، بإرجاعها إلى أصولها في نصوص الوحي وفي التجارب الدينية الإنسانية، حتى لكأنها تبدو مما غفل عنه النظر اللغوي والعقل الفقهي، فجاء وكشف عنه وأظهره من شدة خفائه والغفلة عنه. ولعل اللغة الجديدة التي تتكلم عنها السيدة سعاد الحكيم، هي اللغة الإبداعية الكاشفة عن لا شعور اللغة القديمة نفسها، أي عن الكلام القديم الذي يتكلم في هذه اللغة والذي يختفي وراء مقاصد المتكلم ومقاصد السامع معا، فثمة مقصد للكلام نفسه وللغة نفسها، يخترق المتكلم والسامع، وهو الجديد الذي لم يُسمع من اللغة، لعارض هو استعمال اللغة نفسها للتواصل والتبليغ، فإن استمعنا للغة من حيث كونها نداء للحقيقة البدئية فيها، بدت تتكلم ولا نتكلم بها، وهذا لا يسمعه إلا الشعراء والفنانون والمبدعون عامة، المنصتون لإيقاع الكلام الوجودي في مسامع وجودهم، فإن عبروا عنه خرج لغة جديدة وفهما جديدا ومتجددا، ويكون الجديد في اللغة هو على قدر السامع لا على قدر المتكلم.

أما نحن، في طريقنا الذي يلتقي ويفترق في آن مع طريق العارفة الباحثة السيدة سعاد الحكيم، فنرى طريقا آخر للغة ابن عربي وهو العودة إلى ينابيع اللغة، أو الكلام المتجدد الذي يسكن اللغة اللاغية، ويضمن لها الاستمرار في الحديث إلينا عبر حدوثها فينا، وقد تأمل ابن عربي نفسه المعاني التي تتضمنها مفردات المعجم الثقافي العربي وتداعيات معاني الكلمات ومنها معاني اللغة والقول واللفظ والكلام والنطق واللسان والذكر والكتابة والإنشاء…

مولد كتابة جديدة أقرب بالنسبة لي، وبالنظر للسقف المعرفي الفلسفي لوقتنا الذي نحن فيه، لتوصيف خطاب ابن عربي إلى زماننا، لعلها لعبة كلمات ولغة ولغو، ولكن علينا أن نأخذ هذه اللعبة اللاغية بالجدية اللازمة التي كان يأخذها بها ابن عربي في كتابته حديث اللغة، من لعبة الأضداد التي تفتحها اللغة العربية في كلماتها. وقد ذكر أن حدوث الكلام ما هو إنشاء أعيانه ومفرداته، بل هو حدوثه في السمع ” كما تقول حدث عندنا اليوم إنسان أو ضيف، ولا يلزم من حدوثه، أنه ما كان له وجود قبل هذا الحدوث” ، فهو حدوث متعين بالنسبة لمن حدث عنده، أي بإضافته إلى آخر يعَيِّنه، إذ ما حدث وما ظهر إلا فيه، فوجب التمييز حسب مواطن الحدوث ومجاليه، فاللغة مجلى هذا الحدوث والحادث والحديث وموطنه، والسامع مجلى أيضا والمتكلم مجلى كذلك، والحادث هو الأثر الظاهر في هذه المجالي على التبادل التفاعلي بينها، الذي يصير به الحدوث أمرا ظهوريا بين أمرين أو أمور. خلاصة القول أنه عندي أن ابن عربي قد أحدث أثرا في اللغة لا تجديدا، هو كتابة ابن عربي نفسها التي وفرت للغة فضاء للقاء جديد بين كلماتها ومبانيها، وهو عودة بهذه اللغة إلى ينابيعها الأولى أي إلى تبعثرها وتشتتها وتبددها، وإلى مساءلة هذا الوجود اللغوي نفسه من حيث هو وجود حادث من نداء الحقيقة بعبارة هيدجر، أو الإشارة بعبارة ابن عربي وهي ” النداء على رأس البُعد”، أو ” سماع نداء الحق من ألسنة الخلق” فيطرق المسامع ويُحدث أثرا.

الإصغاء الأصيل للكلام البدئي، معناه تحمل الإقامة في اللغة، وتحمل مسؤولية رعي كلماتها، ومجيئ الكلام إلينا.

ليس الأمر إذا إحداثا للغة، بل إقامة في اللغة إلى حد الدوار، وسبرا لأغوارها وجلاء وتجلية لضجيج الكلمات.

 

 

  1. حين بدأت معك بلغة الصوفية،  فأنا أردت أن أذهب معك إلى ما يلي: هل فكر الصوفي وخياله، مساوقان لهذا الابتداع في اللغة، أم أننا ونحن نتحدث عن الخطاب الصوفي، نفصل عندهم الدال عن المدلول، وبالتالي، فلغة الصوفية، وهذا يهم ابن عربي أيضا، تبقى هي أهم ما يدهشنا ويشغلنا؟

 

 

الجواب:

  

   إن من الخطأ الفصل بين اللغة والفكر والوجود، واعتبار اللغة مجرد أداة محايدة للتواصل ونقل تجارب فكرية ووجودية تشكلت خارجها، فالفكر لا يفكر بوساطة اللغة، بل داخل اللغة التي هي منزله ومأواه بعبارة هيدجر: ” اللغة مسكن الوجود”، ونحن نأخذ عبارة هيدجر هذه بمعناها الاختلافي لا التشابهي، وتخريجها على الوجود الاختلافي المتنزل باختلاف المنازل اللغوية. فبدون التملك اللغوي العربي للوجود المعبر عنه في منزل اللغة العربية ومن مجلاها ومرآتها، لن تستفيد الفلسفة العربية والشعرية العربية درسا من تفكيكية هيدجر، ولن نتمكن من الإجابة على غرار هيدجر، عن الطريقة التي يسكن بها الوجود اللغة العربية، والتي قد لا تكون مشابهة كلية لطريقة سكناه لغة يونان وألمان ويابان، بل سيكون نقل التمرينات الهيدجرية، اللغوية الألمانية واليونانية، إلى الفكر العربي، مزيدا من حَجْبِ الوجود وتعميق نسيانه في الفكر العربي، ومزيدا من الاغتراب في التركيب اللغوي لفلسفة الوجود عند هيدجر، بدل تفكيك التركيب اللغوي لوجودنا نحن في العالم ومع الآخرين، وذاك أن الحقيقة الفلسفية الوجودية التي ينطق عنها هيدجر هي الحقيقة التي تحصلت من تأملاته في ما تواضعت عليه أصول الدلالات في اللسانين اليوناني والألماني بشأنها، ومن استنباطاته منهما.

   قَطْعًا ستساعدنا استراتيجيات التفكيك عند هيدجر وممارسته التشقيقية للعبارات والتوليدية للأفكار، لكن لن تسعفنا لغته الخاصة في تعبيره عن هذا الوجود، ما لم تكن لغة حوارية يحققها لسان الترجمة التأصيلية والإبداعية وليس النقل التوصيلي فحسب، وهو اللسان المنصت لأكثر من لغة تتكلم الوجود المستضاف فيها، كل منها بطريقتها الخاصة وأساليبها في التعبير والإشارة، والمستمدة من خاصياتها في تأمل ذاتها، بما في ذلك أصول الدلالات والاستدلال والعبارات والإشارات في سياق اللغة العربية. 

المدهش حقا في تجربة ابن عربي هو قيامه بهذا العمل الذي نبه إليه هيدجر ومارسه على لغة يونان وألمان، أي إعادة الربط بين اللغة العربية والفكر والوجود، لا من حيث كون اللغة مجرد معبر عن الفكر والوجود وحامل وأداة ووسيلة نتوسل بها،  بل من حيث كون اللغة نفسها فكرا ووجودا أيضا. ونحتاج إلى هذا الافتتاح الذي بدأه ابن عربي لاستئناف تفكيك التركيب اللغوي للوجود المتكلم بالعربية وفي العربية.

                        

 

  1. بماذا تفسر تهافت الغرب اليوم، وخصوصا أمريكا، على أشعار جلال الدين الرومي، إلى الدرجة التي يبدو معها وكأنه ظهر اليوم، علما أن الرومي كان معاصرا لابن عربي، وكان أقل حضورا وقيمة من ابن عربي، بماذا تفسر هذا الاهتمام بالرومي دون ابن عربي؟

 

 

 الجواب:

 بعيدا عن نظرية المؤامرة، وعن الاستقطابات السياسية للتصوف في الخصومات الطائفية، يجب أن نحسن الظن بالفطرة الإنسانية السليمة التي  تسعى إلى التماهي مع القيم المشتركة والجوهرية والأصيلة في الأديان والثقافات الإنسانية، وأن الطلب على ابن عربي والرومي وغيرهما من أعلام التصوف الإسلامي يعكس التطلع الإنساني إلى البحث عن أرضيات مشتركة بين الثقافات، قابلة لبناء مستقبل أفضل للتعايش والتفاهم والحوار وتحسين شروط  العيش المشترك والاستقرار والأمن في المعمور. ليس الأمر إذا مسألة تهافت على ابن عربي والرومي والحلاج وغيرهم، بل إعادة استكشاف لسبل أخرى في الإسلام فتحها هؤلاء الأعلام، غير السبل والصور التي تقدمها حركات الإسلام السياسي، التي عسكرت الدين والثقافة العربية الإسلامية، واختزلت مشروع الإسلام في القتال والاقتتال والحروب والدماء والحدود والجنايات. إذ أوجد التصوف مستندات إلهية في مفاهيم الرحمة والعفو والمغفرة والسماحة، تسمح بتعرف ملامح مغايرة لما عليه صورة الإسلام في المشهد الديني والاجتماعي في حياة المسلمين، أي الكشف عن ملامح “ألوهية موسعة أو واسعة” في جوهر الإسلام الصوفي، تسع جميع الخلق بدون استثناء، ولا تضيق عن أحد أينما تولى وكيفما كانت وجهته.

غير أنه لا بد من الإشارة إلى أن هذا الموقف الصوفي المفتوح، هو اعتباري، وليس جوهرانيا في كل دعوى تصوف أو طريقة صوفية، قد تنزلق بالتصوف إلى الفقه التقليدي أو إلى تجمع طائفي…

فن إدارة الخلاف والاختلاف وتدبير التسامح والانفتاح والتعايش، وتجاوز نزعات الشر والتدمير، يجمع عرفاء وحكماء الصوفية في العالم، والاهتمام الحاصل في وقتنا، بابن عربي والرومي والحلاج والشيرازي، وغيرهم من العرفاء والحكماء، هو اعتراف بأن ثقافتنا العربية الإسلامية  تستحق منا أفضل مما نقدمه اليوم للبشرية، وما نصدره للعالم من تخلف ومن صور الدماء والأشلاء، باسم الحل الإسلامي لمشاكل العالم، والحال أن التنطع والتطرف في صفوف المسلمين قد جعل هذا الحل في حد ذاته مشكلا لشعوبهم وأممهم، ومشكلا مطروحا أمام أنظار العالم لحله.

أما ما ذكره السؤال من ملاحظة الاهتمام بجلال الدين الرومي في الغرب، أكثر من الاهتمام بابن عربي، فأعتقد أن الاهتمام الأكاديمي والعلمي والمعرفي  يظهر توجها إلى ابن عربي أكثر من الرومي، وأن الاهتمام الإعلامي والأدبي والفني يتوجه بقوة إلى الرومي، نظرا لأمرين، التوجه التنظيري والفلسفي لابن عربي ومن داخل اللغة العربية، لا يسمح إلا للمتخصصين  بفهمه وترجمته ونقله، فيما العبارة عن تصوف ابن عربي أبين وأيسر ترجمة للعامة في تصوف الرومي. ثم إن ابن عربي وتحت الضغط السلفي كان أكثر عرضة من غيره من الصوفية للتسفيه والتكفير والتنفير والتشويه. والرجل لم يترك طريقة صوفية، يرعاها منتسبون إليها كما رعت الطريقة المولوية تصوف الرومي، وانفتحت لها المؤسسات في موطنها، ونظمت لها مشاهد ومزارات ودعايات سياحية نقلتها بالصورة إلى عموم الناس في العالم، وجعلتها قريبة منهم.

ثم إن ابن عربي مرعب ومخيف للفكر الديني التقليدي ولمؤسساته وحركاته، بل للمركزية الغربية نفسها، ليس فحسب بكسره لقيود الحصر وطوق الانغلاق، كما فعل الرومي، بل لأنه فكر من داخل هذه القيود، وأقام فيها وانتقل فيها، وهي المجال المفترض أنه محفوظ  للفقهاء والمحدثة والمفسرة وأهل الرسوم عامة، وهنا خطورته، بالمقارنة مع الرومي، الذي يسهل أخذ كلامه على أنه شطحات وجذبات للروح وتجربة شخصية وفنية ورياضية.      

  1. هل يمكن أن نقرأ الصوفية بالسريالية، أو بالسريالية الصوفية، كما فعل أدونيس، مثلا، وهل يمكن اعتبار الصوفية، اختراقا في الفكر والنظر، وهل هي اليوم فكرا ونظرا، إضافة إلى اللغة، قابلة للاستحضار في الإبداع الشعري والروائي، ووفق أي منظور ؟

 

الجواب

التجربة الصوفية هي طريق السؤال النقدي لمراوغة المعنى المستقر، ومن هنا لقاؤها مع كل فكر نقدي يطلب الاختلاف والمغايرة، ويكسر الحصار المضروب على الذات حتى لا تباشر أخذ زمام المبادرة في تحديد مصيرها ومعنى وجودها في العالم ومع الآخرين، تقترب الصوفية من السريالية ومن الوجودية ومن الشيوعية ومن الاشتراكية ومن الليبرالية ومن الحداثية، ومن غيرها، على قدر الفهم العميق للتجربة الإنسانية مع المطلق ومع الحقيقة ومع الحرية ومع الغيرية.

تحرير الإنسان من الارتهان للتقليد في الدين أو الحياة أو الفن، ديدن كل إنسان حر مفتوح على العالم. ولذلك كان العرفاء من الصوفية أبعد الناس عن التقليد في الدين، بل يحرمون التقليد على أنفسهم، ما لم يكن صادرا عن تجربة ذوقية وكشفية وفهم خاص، وكما يقول ابن عربي: “ما تعبَّدنا الله بفهم غيرنا، فإنه بالمقابل يقول: ” وما تعبَّد الله الناس بنظري فهو حكم يخصني، أعطانيه دليلي”.

 

 

 

  1. كيف قرأت رواية “موت صغير”، التي هي نوع من سيرة ابن عربي، وقوبلت باهتمام كبير. هل الرواية استطاعت أن تضع يدها على جوهر فكر ابن عربي، أم اكتفت بسرد سيرته، دون شيء آخر، والشيء نفسه يمكن قوله عن رواية الجنيد؟

الجواب

  رواية “موت صغير” للروائي السعودي محمد حسن علوان، قدمت ابن عربي لعموم قراء الروايات في الصورة التي قبضه فيها الروائي، إذ حاول رسم ملامح شخصية ابن عربي مما التقطه من سيرته القديمة ومن أخباره وأقواله بضروب من التدخل والاختزال والتأويل والترجمة عنه، وإعادة تركيب واستئناف لما توقف فيه ابن عربي نفسه، وهو عمل في الفهم والقراءة، يحضر فيه اشتغال الروائي على ما استرجعه من النسيان؛ أي من ذاكرة النصوص والأخبار عن ابن عربي، أي ابن عربي محولا من تاريخه إلى تاريخ قراءته وفهمه من الأفق المعرفي للعصر وللأزمنة العربية المعاصرة، التي تشهد أعمال عنف وإقصاء وكراهية وتطرف. فتكون استعادة الروائي ابن عربي في هذه الأزمنة، من باب تنفيس قبضة انحباس الزمن العربي الإسلامي المعاصر، ومن باب دمج أفقَيْ عصر ابن عربي وعصر الروائي، في البحث عن مخرج لعنف الروح والجسد الثقافيين للأمة، حيث  جعل الروائي مدار رحلة ابن عربي وسفره في الزمان والمكان، هو البحث عن الحب عبر تنفيذ وصية:” طهر قلبك ثم اتبعه”، وهي الرحلة التي تنتهي به إلى اللقاء بدين الحب الإلهي الذي يدفع دين الكره الإنساني، موازاة مع رحلة مخطوط من زمن ابن عربي إلى نهاية العشرية الأولى من قرننا هذا. ليس الأمر إذا متعلقا بما إذا كان الروائي قد وفق في رسم ملامح الشخصية الحقيقية أو الواقعية أو الموضوعية لابن عربي، ولا ما إذا كانت الرواية تعكس بالفعل فكر ابن عربي وموقفه الصريح أو الضمني من القضايا التي اختار الروائي أن يمتحنه بها، ولا ما إذا أصاب الروائي أو أخطأ في تأويل عبارة أو ترجمتها، والتعبير الفني الأدبي والتخييلي عنها، بل بابن عربي كما يراه الروائي في مرآته ومرآة وقته، وكما عبر عنه بعبارته. ولا حرج في ذلك من حيث مقتضيات العمل الفني التي يصير فيها التاريخ والواقع مادة محولة لصالح هذا العمل واشتراطاته.

غير أنه بالنسبة لي فإني أرى أن إقامة صورة لابن عربي في العمل الفني في العصر، سواء كان عملا روائيا أو شعريا أو سينمائيا أو مسرحيا أو تشكيليا أو موسيقيا، ينبغي أن يكون في العمل الفني نفسه من حيث شكله الإبداعي ونمط ظهوره المتعين في مَظهر، ما يدل على المعنى الملتقط من سيرة ابن عربي الشخصية والفكرية، فأعلام كبار من قامة ابن عربي وممن هم على شاكلته في علو النظر وسمو النفس وقوة الإبداع والعطاء، لا يمكن للشكل الفني الذي يعبر عنهم إلا أن يكون بليغا في تشكيلهم، وهذا ما يؤاخذ على الروايات التي تتناول سيرهم بالتأريخ الخطي وتوثيق الوقائع. إذ أعتقد أن إظهار ابن عربي في العمل الروائي ينبغي أن يتم الاشتغال فيه بقوة على جلاء مرآة الرواية وصقلها أوَّلا، ليس لتعكس حرفيا سيرته، بل ليكون شكل الرواية المصقولة المجلوة معبرا عن صقالة الطالع فيها، فعبارة:” طهر قلبك ثم اتبعه” التي تكررت في رواية ” موت صغير”، لا ينبغي أن يمر عليها الروائي بوصفها شاهدا ومضمونا فحسب، بل شكلا للعمل الروائي نفسه، فتعطي الرواية هذه العبارة من معمارها الخاص الذي به سميت رواية عن ابن عربي، فحكاية سيرة ابن عربي في المتن الروائي ينبغي أن يوازيها أيضا حكاية طريق وصول هذا المتن إلينا وإلى الفهم عبر الأسانيد الروائية أي عبر الشكل الذي تقدم به الرواية متنها. الرواية الخطية التي تتبع الوقائع بالتأريخ والتتابع الزمني، شكل تقليدي في الكتابة الروائية، لا يمكنه أن يقدم هوية سردية لابن عربي كما هي عليه كتابته وسرده، الذي يكره هذه الخطية ويكره الأشكال المستقرة، ولا أدل على ذلك من البعثرة والتشتيت أوالتبديد الذي كتبت به “الفتوحات المكية”، طريقة كتابة ابن عربي نفسه عن إشكالات الحياة والحقيقة والموت والحب والذات والغير،هي بحث في شكل إظهار هذا الإشكال والاستشكال في سيرة الكتابة نفسها، فتتوازى وتتضاهى الأشكال والمضامين والوقائع، حتى لا يسمع المشكل ويرى إلا في إيقاع تشكله اللغوي الكتابي. نداء الشكل الروائي الذي يعبُر به ابن عربي إلى العصر، ينبغي أن يكون نداء مسموعا ومرئيا في الرواية ومحكيا في الرواية أيضا. وهو ما لا نجد أن رواية ” موت صغير” قد اشغلت عليه، أو أعارته اهتماما في بلاغتها وشعريتها السردية، فكيف لمن كانت حياته وسيرته اشتغالا على تفكيك الأبنية المعرفية لعصره، ومساءلة المفاهيم المستقرة، وتثوير النصوص، أن يعبر عنه شكل كتابي روائي نمطي وتقعيدي مستقر ومتشابه وأحادي المنظور وحيادي، يصلح للكتابة عن ابن عربي كما يصلح للكتابة عن ابن تيمية وعن أبي العتاهية وعن ابن خلدون وعن غيرهم، إن تحدي الشكل القابل لالتقاط الصورة المركبة والمعقدة لشخصية ابن عربي أو لفكره أو لسيرة حياته، هو التحدي المطروح على العمل الفني الخلاق والمبدع، أما المضامين الفكرية والوقائع والأحداث التاريخية، فمعلومة مطروحة في الطريق، وإنما المزية لنظمها وصورة إنشائها في مظهر يقبل التعبير عنها من موطن إظهاره. ولعلي لا أكون مبالغا إذا قلت إن رواية ” التجليات” لجمال الدين الغيطاني، تظل إلى غاية اليوم صورة أقرب إلى ما ذكرناه من الاشتغال على ابن عربي سرديا، من معراجه الروحي بما يضاهي سيرة كتابته في البناء الروائي وفي نسيج لغة، فهي أقرب شكل للتعبير عن فرادة التجربة الكتابية عند ابن عربي.    

وبخصوص رواية الجنيد فإني لم أطلع عليها بعد.

 

  1. عند الصوفية، لم تكن اللغة وحدها هي أداة التعبير، كانت هناك رموز ورسوم وإشارات، ما الداعي إلى هذه الرموز، هل لغة الصوفي في لحظة ما عجزت عن قول المحال؟

الجواب

 لغة الصوفي هي على شاكلة موضوعه المعرفي، وقديما قال الجنيد حينما سئل عن العارف والمعرفة، فأجاب: ” لون الماء لون إنائه”، فالمعرفة تابعة للمعروف، من هذه الزاوية، تأخذ شكله. ولهذا لا أعتبر استعمال الصوفية للمعميات والرموز والألغاز، كما قيل لإخفاء مقاصدهم أو قول المحال، بل للتعبير عن الخفي والمحال والمشتبه والملتبس والمحير بما يناسبه ويضاهيه من العبارة التي تظهره على ما هو عليه من التباس وغموض وكناية وإضمار، لأن إرادة التوضيح وتبديد الغموض، إخراج للغامض من غموضه، أي جعله تحت قبضة المحكم، وقد أدرك ابن عربي هذا الوضع البرزخي للعالم كله في اعتباره له نوما وخيالا في خيال يحتاج إلى تعبير، أي عبور به من خيال إلى آخر، فتأخذه العبارة المناسبة له وتظهره في مظهرها على ما هو عليه أمره، ولذلك جاء الخطاب بالمتشابه من القول في القرآن إلى جانب المحكم، لضرورة التعبير عن الأمر المشتبه بالقول المشتبه. لا يحتاج المتشابه والرمز والإشارة إلى تفسير أو إيضاح، بل إلى فهم بالإنصات إلى توقيعات حديثه عن الأمر المختلف المفتوح، الذي ليس في قوة العبارة المحكمة ولا اللغة التواصلية أن تضبطه وتقيده. ففهم المتشابه والرمز يقتضي تجربة مغايرة في الفهم، هي تجربة رؤيته في العبور والاعتبار، من حيث هو نظام تشفير للحقيقة المختلفة والملغزة، فكُّها هو في إعادة تشفيرها بشفرة مناسبة لها تنقلها من سامع إلى سامع، فيسمع ما يناسبه، أي يسمع الإشارة في نفسه ولذلك ميز ابن عربي في الفهم بين التفسير والإشارة، التفسير توضيح للغامض والإشارة نعته حقيقة، والإحالة عليه كما هو في مكانه، وفهمه هو رؤية ازدواجيته والتباسه، واستصحاب وجهيه في عملية الفهم بالعبور بينهما، وفتح الحوار بين الوجهين، وعملية الفهم هذه تجعل من القارئ نفسه معبرا لظهور المعنى المتوتر والمتردد في قراءته وفهمه، فيكون الفهم على صورة المفهوم، أي كاشفا للالتباس مفجرا له، لا طامسا ومزيلا له، محققا له لا ماحقا. ففهم المتشابه في الألفاظ والمعاني، طريق إلى فهم “التشويش في العالم”، إذ العالم دار امتزاج، بل إن الحاجة إلى المتشابه ماسة وضرورية في فهم الخطاب الإلهي ، فـ ” لولا التشابه ما عقلنا من كلام الله شيئا، ولا وقفنا منه على معنى” ، وهكذا قابل ابن عربي بين جمالية المتشابه وقدرته القوية على التعبير عن الحقائق، وبين استبشاع طلاب تأويله لوجه تشابهه، قال: ” أحسن القول ما تشابه من الكلام فاشترك فيه الحادث والقديم، فالله الرؤوف الرحيم، والنبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم”.

من هنا فإن الرمز واللغز ليس مشكلا للحل، بل هو الحل لقول ما هو في الأصل مرموز وملغز. فليس هناك ما لا ينقال وما يستحيل قوله، بل ما يقال بطريقة أخرى هي طريقته بوصفه محيرا ولامنقالا ومستحيلا.

وطريق الرمز موقف يعطي موضوعه على ما هي عليه هويته الاختلافية والالتباسية، وليست معرفة تسلب موضوعها هذه الهوية. وذاك أن العبارات القلقة تعبر عن قلق الوجود نفسه، فإن عبرنا عن الوجود القلق بعبارة واضحة، أزلنا عنه قلقه، وأحلناه إلى وجود واضح، فلم يكن هو.

 

  

 

  1. في كتابك عن ابن عربي ” النص والاختلاف، هرمينوطيقا الصورة الإلهية عند ابن عربي”، ما الذي سعيت للذهاب إليه في تجربة إبن عربي، هل كنت مشغولا بالنص أم بالمنهج، وأدوات القراءة، كما يحدث عند الكثيرين، ممن يبقى النص عندهم ذريعة، فقط لتأكيد المنهج؟

الجواب

انكشف لنا من المصاحبة القديمة لكتابات ابن عربي، ومن مطالعة امتداداتها في مصنفات التصوف الإسلامي، أن مفهوم الصورة يحتل صدارة المفاهيم الموجهة لتصوفه، وأن كل ما كتبه لا يخرج عن المباني الروحية والتأويلية التي أقامها على نصوص الوحي، وعلى تجربته في القراءة والفهم، إذ يستحيل فصل مجموع أعماله بمختلف عناوينها وموضوعاتها التي خاضت فيها، عن تنظيره للصورة، فالصورة قضية محورية في الإلهيات والإنسانيات عند ابن عربي، من حيث هي تأمل للظاهر في المظاهر، محررا على رسوم المسلمين ونصوصهم في الوحي، وتجربتهم الروحية في العالم ومع الآخرين،  ومن ثمة أشرقت فكرة هرمينوطيقية في طريق البحث، مفادها: أنه بدون تحصيل العلم بالنصوص الأصول الشرعية الممدة لابن عربي بالجهاز القرائي الذي تبناه في معاملة المقالات والمذاهب والآراء والتجارب السلوكية، والواهبة له فهم العالم، والتعاطي مع الحقائق على ما هي عليه من تشابه واختلاف، والمعينة له في طريق الكشف التفاعلي عن معنى ممكن لوجود الإنسان في العالم، وصورة وضعه البرزخي بين الحقائق الكونية المادية الحسية، والحقائق الروحية الغيبية، لن نتمكن من فهم أفضل لمنظومته العقدية والصوفية، التي خاض فيها كثير من الباحثين قبلنا، باعتبارهم لها، معطيات نظرية فلسفية، ومفاهيم محدثة ومنفصلة عن سياقها الشرعي الإسلامي، هي حصيلةُ تجربة روحية خالصة في الطريق الصوفي، ونتيجةُ تأمل خاص في الوجود والموجود، وتعبيرٌ عن رأي مخالف ومنفرد، وقد يكون شاردا عن المعلوم بالضرورة من عقيدة المسلمين، ومنقطعا عن فهمهم لنصوص الكتاب والسنة.

 

وقد تصدى الكتاب لعمل التأصيل المهمل في الأبحاث التي تقدمته، وقمنا بتحرير مسائل نزاع الباحثين في أصالة موضوعة الصورة في المجال الإسلامي، أو النسخة الإسلامية لنص الصورة، مقارنة مع النسخة اليهودية المسيحية، أو النسخة الهرمسية، بل النسخة الدهرية المادية الهيغلية والفيورباخية، وعالجنا مسألة أصالة النصوص بنقد قراءة التشابه، ونظرية التأثير والتأثر، والدخيل والأصيل، كما بلورتها الدراسات الاستشراقية والسلفية. والقصد إشباع البحث بتأصيل مسائل الصورة وما تفرع عنها من قضايا كلامية في الرؤية والتحيز والمكان والجسم والجسد والتحول والتغير والإسم والمسمى وغيرها…

 وقد فحصنا الأجهزة القرائية لتراث الصورة عند المسلمين، فوجدناها ثلاثة: القراءة التمثيلية، والقراءة التأويلية، والقراءة التخييلية، وهي كلها على صورة وشكل ما يجري في نصوص الصورة من لعبة اختلاف. فحديث الصورة، والنزاع في أمرها، مسألة تطبيقية في نظرية الأسماء والصفات، وليس القول في هذه الصفة إلا إعادة تمثيل أحاديث الأسماء والصفات والنسب الإلهية، وإعادة تشخيص وإخراج للنزاع الحاصل في قراءتها على الإيجاب والإثبات أو على السلب والنفي ( ما عرف بالتشبيه والتنزيه)، أو على الجمع بينهما، إذ الصورة نواة ومحل تكثيف واقتصاد دلالي ورمزي لباقي الصفات، وحديث الصورة بالصيغة المستشكلة ” خلق الله آدم على صورته”، يختزل في بنيته العميقة كل الاختلافات بين المذاهب والاتجاهات والاحتمالات في قراءة الأسماء والصفات، وكل قراءاته تُضمر مواقف كلامية وعقدية، بل إن الخلاف في الأسماء والصفات، اتخذ صورة الحديث المذكور، بل صورة تنازع الأسماء الإلهية نفسها. ثم إن الحاصل من نظر ابن عربي في اسم الصورة الإلهية، وكل مسمى بالصورة، أن الصورة ليست مسألة حدود مرسومة وثابتة، بل مسألة عتبات وبرازخ ترتبط بالصيرورة والتحول والحركة، بسطها وتسريحها في الوجود أولى من السعي إلى وضعها تحت القبضة والقيد النظريين في مفهوم أو معلوم أو موجود.     

أما عن سؤال المنهج فقد أفدنا من نظريات العلوم الإنسانية المعاصرة، خصوصا ما ارتبط منها بفلسفة الوجود واللغة والكلام، والنص والقراءة، والفهم والتأويل، فاعتمدناها في عمليات إعادة بناء فهم نصوص الأقدمين، وشغلنا مفاهيمها في البحث، بوصفها آليات للتحليل والتفكيك وإعادة البناء، وأغلب هذه المفاهيم مستقاة من الفنومينولوجيا في صيغها الفلسفية والهرمينوطيقية والسيميائية والتفكيكية، كمفهومي الشعور والبنية القصدية، ومفهومي الدائرة الهيرمينوطيقة واندماج الآفاق، ومفهومي النص المتعدد والقراءة الجمع، ومفاهيم الإنتاجية والأثر والطروس، ومفاهيم التفكيك والتفجير والتبديد والاختلاف والتكرار، وغيرها، فقد أفرغت في البحث في قوالب ابن عربي واصطلاحاته، وخُرِّجت على رسومه وحدوده، وتحولت من مفاهيم جاهزة ومبنية سلفا، إلى آلية للتشغيل المزدوج والمندمج؛ تشغيلها في تفكيك النصوص بتفكيكها في النصوص. وقد عملنا على ألا تتضخم هذه المفاهيم وإطاراتها النظرية في الكتاب، حتى لا تحجب موضوعه، بتحويلها من النظرية إلى الممارسة، أي بجعلها ممارسة للنظر والعمل، وتشغيلها بدل ترصيع الدراسة بها والاكتفاء بالاستشهاد بها، فعدد من هذه المفاهيم لم يُسمَّ في الكتاب، مع حضوره القوي في تفكيك مقولات الوجود واللغة، وذلك تخففا من أثقالها النظرية وحمولاتها اللغوية والاصطلاحية في الثقافة الأوروبية وفي سياقها الاصطلاحي العلمي أو الفلسفي، فتحولت في التجربة القرائية للباحث، إلى أثر عن خُبْرٍ لا نقل عن خَبَرٍ، وإلى شهادة وتدليل لا استشهاد واستدلال، أي تحويل هذه المفاهيم لحساب القراءة، بهدف الكشف من جهة، عن بنية الصورة في نصوص الوحي عند المسلمين، وعن بُنى تلقيها في علم أصول الدين عندهم، وفي الكشف من جهة أخرى، عن تراث هرمينوطيقي إسلامي أصيل في قراءة النصوص، أنتج أجهزة قرائية متنوعة ومختلفة، تسمح باحتضان الاختلاف في المعنى، والانفتاح على تجربة البحث الإنساني المتواصل عن منطقة تعايش الأضداد في تنازعها أمر الحقيقة المبددة في العالم.   

 

 

  1. في الشعر العربي والمغربي بالتحديد، كيف تنظر إلى حضور الخطاب الصوفي، أعني الأفق الصوفي في  بعض هذه التجارب الشعرية؟

 

لا تشغلني مسألة حضور الخطاب الصوفي في الشعر العربي أو المغربي الحديث، وبالتحديد في القصيدة الشعرية المعاصرة، إذ عادة ما نتناول هذا الحضور تقنيا، ومن منظور نظرية التأثير والتأثر، أو نظرية التناص سواء كانت تناصا في المضامين والأشكال، أو تناصا في الأنساق، وهي صنعة واصطناع أقنعة، ولكن الشاغل في الوقت، ومن صحبة الكتابة الصوفية نفسها وقراءة الشعر، هو مسألة  الينابيع والبدايات، أي العودة وليس الحضور، عودة الشعر إلى حاضنته الصوفية البدئية، وعودة التصوف إلى شعريته، فالشاعر أوالفنان أو المبدع عامة هو صوفي بالأصالة، كما الصوفي شاعر بالأصالة، يكشف الصوفي في قراءته لرسالة الشريعة عن الحقيقة الشعرية لهذه الرسالة، وعن اللقاء البدئي بين الخلق والحق، الذي أساسه إرادة التعرف التي تعني عند الصوفي تعاطفا ومحبة، ورغبة في الخروج المتبادل من قبضة العماء أو الكمون. مثلما يكشف الشاعر في شعره عن لقاء كلمات ومعان لم يسبق لها أن تلاقت. الحكمة الشعرية هي الحكمة الصوفية نفسها، وهي التسمية التي أعطاها ابن عربي لحكمته على لسان الغراب الحالك:” أنا بوطيقي الحكم موسيقي النغم”، وحسبنا بالغراب الذي يحمل في التصور الثقافي العربي نذر الشؤم، ونعيب الخوف، أن يتحول بالتخليق إلى جمال الحكمة ومتعة النغم.

ولعلكم حين ذكرتم تصوف جلال الدين الرومي، تستحضرون، أن هذا الصوفي دخل التصوف من باب الشعر، إذ تتحدد اللحظة الحاسمة في انتقاله إلى التصوف، من حدث تركه إلقاء الدروس والمواعظ، إلى إلقاء الشعر.

 يلتقي التصوف والشعر في سكنى اللغة والمجازات والمعابر، والحساسية المفرطة للكلمات، والمغامرة بارتياد المجهول، والقدرة على تحريك الخيال نحو قيم الجمال، الصوفي يعيش كالشاعر حالا إبداعية غامرة، وهما تحت حكم اسمي: الخلاق والبديع.

انتهى

    نُشرت مقتطفات من هذا الحوار في يومية ” المساء ” المغربية، وآثرنا أن ننشر هنا الحوار بتمامه نظرًا لما تناوله من أفكار وقضايا يهتم بها الباحثون وقرّاء المعارف الصوفية.

مقالات ذات صله

1 تعليقات

  1. mongi gharbi

    السلام عليكم
    لدي سؤالان استلهمتهما من الاطلاع على هذا الحوار القيم:
    1-لماذا لم يمكن ناشره القارئ من تحميله أو من طباعته على شكل وورد أو ب.د,ف على سبيل المثال؟
    2-هل أجري هذا الحديث بصفة مباشرة أم هو عبارة عن أجوبة حررها الباحث نفسه عن أسئلة وجهها له الصحفي كتابيا؟ مرد تساؤلي هذا تعدد وطول الاقتباسات التي أوردها الباحث متن أجوبته من مؤلفات الشيخ ابن العربي.
    شكرا
    منجي غربي-تونس

    الرد

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!