حوارٌ مع الدكتور عبد المجيد الصغير حول قضايا تهم التصوف والعلوم الإسلامية والمجتمع
تتمتع المدارس الصوفية المغربية بسند تاريخي؛ فلا تنكر أدوارها في تحصين الإسلام وحمايته والذوذ عنه ونشره..، ولا يخفي أثرها في مختلف المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وكان حظ العلوم الشرعية وافرا في هذا المجال، حيث اجتهد صوفية المغرب فوضعوا العلم الشرعي في عمق اهتماماتهم البحثية وبوؤوه مكانا عليا، تعلما وتدريسا وتأليفا، وأسسوا في كل زواياهم مدارس للعلوم الشرعية، وشيدوا مكتبات علمية امتدت مكانتها وقيمتها العلمية في الآفاق.
وقصد الإسهام في تأصيل عناية الصوفية بالعلم الشرعي وفق رؤية علمية تطمح إلى التجديد المنهجي في هذا المجال، ومحاولة الإحاطة بمكانة الزوايا في خدمة العلم الشرعي ونشره، وكذا إبراز الخصوصية العلمية التي انفردت بها الزوايا على مدار التاريخ، يسرنا أن تستضيف المفكر المغربي والأستاذ الباحث الدكتور عبد المجيد الصغير في حوار علمي من أجل تطارح قضايا تهم التصوف والعلوم الإسلامية والمجتمع.
- بداية ما هي المناهج الكفيلة بقراءة الخطاب الصوفي قراءة تقترب من حقائقه المعرفية ومقاصده الأخلاقية
جوابا على سؤالكم الأول هذا، لابد من التأكيد أن قيمة أي منهج لا تكمن في ذاته بقدر ما تكمن في نجاعته، هذه النجاعة المتمثلة في القدرة على مقاربة الموضوع المدروس من حيث طبيعته وخصائصه المتميزة. فالعبرة إذن ليست في المنهج بقدر ما هي في مدى قدرة هذا المنهج أو ذاك على التكيف مع الموضوع…، ولطالما عرف فكرنا المعاصر مواقف تتبنى رؤى منهجية مختلفة ومتباينة، ولطالما أريد تنزيل تلك المناهج على قطاعات ونماذج مختلفة من تراثنا الإسلامي؛ إلا أن العديد من تلك المناهج كان محط رؤى إسقاطية عكست في الغالب مواقف أيديولوجية أو أحكاما مطلقة فقدت فيها الشروط العلمية…
حقا! إن التجربة الصوفية من حيث الموضوع تحتمل النظر إليها من زوايا بحثية وطرق منهجية مختلفة ومتنوعة، ولكنها تجربة تفرض على كل مقتحم لمجالها أن ينتبه إلى بعدين أساسين فيها، بعدها المعرفي الذي يقتضي من الباحث أن يأخذ في الاعتبار أن للتجربة الصوفية ارتباط بذلك النشاط الإنساني الذي هو الفكر وما يعرفه من بناء مفاهيم ونظريات، وقيم وتصورات؛ ولكن التصوف في نفس الآن “تجربة” أخلاقية عملية تبغي التحقيق وتطمح إلى التنزيل على أرض الواقع، وهو ما يفرض الانتباه من جهة أخرى إلى المقاصد البعيدة لهذا الفكر، سواء كانت مقاصد أخلاقية فردية أم جماعية…، ولعل الانتباه إلى هذا البعد العملي في التجربة الصوفية هو الذي يحتم على الباحث المعاصر، مهما كان تخصصه العلمي، أن ينظر إلى التجربة الصوفية كتجربة معقدة وذات أبعاد مركبة، ومن ثم عليه ألا يغفل عن “الظرفية” التاريخية التي من شأن الإحاطة بها أن تلقى الضوء على جوهر التجربة الصوفية، وعلى طبيعة أهدافها المعلنة أو المضمرة.
- كلامكم هذا عن تعدد تجليات التجربة الصوفية يدفعنا للتساؤل عن تقييمكم لتلك المقاربات المعاصرة التي تتسلح بمناهج العلوم الإنسانية وتتجه لدراسة الخطاب الصوفي باعتباره ظاهرة مركبة تشمل الأبعاد المعرفية والسلوكية، ونعم مختلف مناشط الإنسان الحيوية من سياسة واجتماع واقتصاد؟
إن تعدد مظاهر التجربة الصوفية وتداخل عناصرها يغري حقا بتعدد المناهج الممكن الاستئناس بها في مقاربة هذه التجربة. وإذا كنا لا نشك في التقدم الذي حققته بعض مناهج العلوم الإنسانية في هذا العصر، فإن المؤكد أن الشرط الأساس الذي مكن من نجاح هذه المناهج في الغرب كان هو ازدهار وتقدم الدراسات التاريخية وتوفر المعطيات الاجتماعية الدقيقة التي تساعد على تطبيق تلك المناهج وعلى التحقيق من نجاعتها. وكمثال على ذلك داخل التجربة الغريبة ما تحقق على صعيد علم مقارنة الأديان ودراسة “الكتاب المقدس”؛ فقد قام المهتمون بهذا العلم بمجهودات ضخمة لأجل إضفاء الصبغة العلمية على هذا العلم بفضل استفادتهم من التقدم الحاصل في مجال الدراسات اللغوية واللسانية وتحليل الخطاب والنقد الأدبي والدراسات التاريخية والأبحاث الأركيولوجية…، مما مكن الباحثين من الضبط العلمي لمنهجيتهم في دراسة قضايا ومشاكل تاريخ “الكتاب المقدس”…، وعليه فإن الضابط العلمي الأساس في دراسة أية ظاهرة، إنسانية، تاريخية كانت أم اجتماعية أم فكرية أم دينية، يكمن أولا في إحكام وصف طبيعة الظاهرة ومعرفة خصوصياتها والوقوف على مقاصد أصحابها، قبل الاهتداء إلى المنهج أو المناهج المناسبة لدراسة تلك الظاهرة، دراسة علمية موضوعية، وفي غياب ذلك الضابط العلمي الواجب اشتراطه في أي منهج مقترح تصير تطبيقات هذا المنهج على المادة المدروسة مجرد “إسقاطات” ومقارنات صورية ليس لها نصيب من الواقع الفعلي. ومع الأسف فإن ساحتنا العربية اليوم لا تخلو من نماذج لهذه “الإسقاطات” التي يطغى عليها الهدف الإديولوجي ويقل فيها الضبط العلمي المطلوب…
وخلاصة القول أنه بالنظر إلى تداخل عناصر عديدة في تشكيل التجربة الصوفية، لغوية وفكرية واجتماعية واقتصادية وتاريخية، فإن هذه التجربة تغري حقا بتعدد الرؤى التحليلية والمناهج العلمية الطامحة في تحليل الظاهرة الصوفية من وجهة نظرها؛ ولعل هذا ما كان قد حملنا منذ سنة 2000م على فتح وحدة في الدراسات العليا بشعبة الفلسفة بكلية آداب الرباط، اعتنت بتحليل الخطاب الصوفي في الإسلام، وبرصد أبعادها التواصلية، وقد تعمدنا فتح تلك الوحدة في وجه الباحثين الوافدين عليها من تخصصات مختلفة، فلسفية واجتماعية ونفسية وأدبية ولسانية وتاريخية؛ وذلك ما أعطى ثماره ونتائجه الإيجابية في مقاربة الخطاب الصوفي، عكستها العديد من الأطاريح والأبحاث التي ستساهم قطعا في ترميم تاريخ هذا الخطاب خصوصا عبر التاريخ المغربي.
- إذن كيف تقومون المنجز من طروحات في الدرس الصوفي اليوم؟ وكيف يمكن أن يستعيد الدرس الصوفي مكانته في الجامعة اليوم، تحقيقا وبحثا ودراسة وتجديدا؟
سؤالكم هذا كسابقيه، هو أيضا سؤال منهجي، متعلق أولا بتقويم الأبحاث التي مورست هنا أو هناك على الخطاب الصوفي في الإسلام؛ وحيث أن حديثنا هذا ليس حديثا عن تاريخ مجرد مذاهب فلسفية أو محط تيارات فكرة، ولكنه حديث عن ظاهرة اجتماعية بكل ما في الكلمة من معنى، اتخذت لنفسها “تجليات” سواء على المستوى الفكري أو الاجتماعي أو التاريخي، حيث ذلك، فنحن في الواقع أمام ظاهرة حققت حضورا في تاريخ المجتمعات الإسلامية عبر قرون طويلة، مما جعل التصوف يعكس حالة تلك المجتمعات، إيجابا أو سلبا…، وكان من حسنات الفكر الصوفي في الإسلام، اضطلاع رجاله قبل غيرهم بممارسة “النقد الذاتي” دفعا لكل السلبيات النظرية أو العلمية التي يمكن أن تعكر صفاء التجربة الصوفية ووسطيتها. وقد سبق للشيخ أحمد زروق أن أكد في القاعدة 35 من قواعد التصوف أن “غلاة المتصوفة كأهل الأهواء من الأصوليين [المتكلمين] وكالمطعون عليهم من المتفقهين؛ يرد قولهم ويجتنب فعلهم، ولا يترك المذهب الحق الثابت بنسبتهم له وظهورهم فيه، والله أعلم”!
إذن فلنعترف مع ابن خلدون بأن التصوف “من العلوم الحادثة في الملة” العاكسة لأوضاعها الاجتماعية والسياسية، ومن ثم اختلفت مظاهر وتجليات التجربة الصوفية في الإسلام، باختلاف بيئات مجتمعاته ومناطقه الجغرافية، وهو ما يفرض على الدراسات الأكاديمية والأبحاث العلمية أن تراعي مختلف تجليات وخصوصيات وظرفيات الظاهرة الصوفية…، ولأجل ذلك كانت مسؤولية كل باحث في تاريخ الفكر الإسلامي عامة وفي تاريخ علم الكلام والتصوف خاصة، تقتضي منه التحرر من العديد من الأحكام المسبقة التي صاحبت نشأة المذاهب الفكرية والاتجاهات المذهبية والسياسية في تاريخ الإسلام، وكذا تلك الأحكام التي صيغت حول نفس الموضوع في عصرنا الحديث، والتي أطرتها هي الأخرى ظرفيات تاريخية ومحددات إديولوجية خاصة.
وبإمكاني أن أؤكد لكم أن الدراسات الصوفية على المستوى الأكاديمي كانت إلى حدود الثمانينيات من القرن العشرين منعدمة في الجامعة المغربية، ولا شك أن ذلك كان فيما نعتقد يمثل صدى للحركات الإصلاحية السلفية التي كانت تتخذ من انزلاقات بعض التنظيمات الطرقية القديمة مبررا للانصراف عن التصوف، ليس ممارسة فحسب، بل دراسة وبحثا كذلك!
هكذا ظل الإهمال للفكر الصوفي في مدرجات الجامعة المغربية تقليدا مراعي بل قانونا غير مكتوب، وذلك رغم ما تتوفر عليه التجربة الصوفية بالمغرب من مادة تغري بالتأويل وبالفضول العلمي والبحث الأكاديمي…، ولم تكن الساحة العلمية إذ ذاك تشهد من الأبحاث التي ترصد التجربة الصوفية غير تلك التي كتبت بأقلام المستشرقين، وهي أبحاث لم تكن، منذ القرن التاسع عشر خاصة إلى أواسط القرن العشرين، تخلو من عيب منهجي يتمثل في كونها على العموم قراءات إديولوجية سافرة تعكس هموم المركزية الأوروبية، وتسعى في ضوء هذه المركزية وفي ظل ضغوط الفترة الكولونيالية إلى “تأويل” الظاهرة الصوفية جملة باعتبارها “بضاعة مسيحية” أو أنها “ثورة روحية” ضد مادية الإسلام، في المشرق، أو “ثورة وثنية” وبربرية ضد العرب والمخزن بالمغرب…! لهذا كان من الصعب الاستفادة من العديد من الأعمال الاستشراقية حول الطرق الصوفية بالمغرب، اللهم إلا إذا كان الدارس على دراية بالنقد الإديولوجي كي يستطيع أن يميز بين غني المادة المرصودة وفقر ومحدودية التأويل الإديولوجي الموظف.
ومع ذلك، وبالرغم من تلك العوائق، يمكننا أن نؤكد أن المجهودات التي بذلت منذ عقود قليلة من السنين لإدراج الدرس الصوفي ضمن المواد والمواضيع والإشكالات الجديرة بالطرح على بساط البحث الأكاديمي، قد أتت أكلها بعد أن تصدر لمغامرة إعادة الاعتبار للمتن الصوفي في الإسلام عامة وفي تاريخ المغرب خصوصا، ثلة من الباحثين المتخصصين في شتى العلوم الإنسانية، فأصبح للمتن الصوفي بعدا فكريا وآخر أخلاقيا عمليا، وآخر لغويا وآخر اجتماعيا وسياسيا…، وبذلك صارت التجربة الصوفية تغري أكثر من دارس وتثير أكثر من باحث أكاديمي، ويتجلى ذلك من خلال كل تلك الأبحاث الأرضية الإسلامية الأصيلة للتجربة الوصفية والتجذر التاريخي العميق لرجال التصوف خاصة في المجال المغربي، والبعد الإنساني، والتواصلي العميق للخطاب الصوفي في الإسلام، إلى درجة أن بعض الأبحاث التي أنجزت تحت إشرافنا بينت بوضوح مدى مساهمة الفكر الصوفي، وخاصة فكر محيي الدين بن عربي، في تغذية الفكر الفلسفي الغربي منذ عصر النهضة بالعديد من الرؤى الفلسفية التي كان يهود الأندلس يمثلون فيها حلقة وصل بين ذلك التصوف والفلسفة الحديثة….
- إذا كان التصوف الإسلامي بهذه الأهمية من الحضور في تاريخ المجتمع، فما هو السر في نجاح هذا الفكر الصوفي في الاستمرار والانتشار، رغم العديد من العوائق والمثبطات التي كانت تعترضه من طرف نماذج فكرية أخرى مخالفة كانت تعمل على الحد من انتشاره؟
بداية يجب الانتباه إلى أن التصوف كتجربة روحية وتأمل وجودي وتحقق ذوقي شعوري، إنما هو بعد طبيعي من أبعاد التجربة الدينية عامة، وإن الدين الذي لا يفتح آفاق رقي الروح وتعميق الوعي بالوجود، ويرسخ شعور الفرد بقدرته على الاتصال بالذات الإلهية وتحقيق العبودية لله وحده، هو دين يشكو من خلل ولا يشبع حاجة الإنسان الطبيعية. وإن القارئ والمتأمل في القرآن الكريم يدرك بسهولة أن هناك بالفعل “فلسفة قرآنية” متكاملة، يتعلق جزء منها بالجانب العقدي، كان موضع عناية من طرف علماء الكلام والتوحيد، كما تعلق جزء من تلك الفلسفة القرآنية بالجانب التشريعي التنظيمي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وذلك ما اعتنى به كبار الفقهاء ومنظر وعلم أصول الفقه والسياسة الشرعية…، ثم نجد جزءا ثالثا من تلك الفلسفة القرآنية يشدد على البعد الأخلاقي والسلوكي للإنسان، وهو الجزء الذي يؤكد الفقيه والعالم والسلفي الكبير محمد علال الفاسي أنه يشكل “ثلث القرآن الكريم…، وهو ما يستوجب نظرا عميقا في النفس الإنسانية وأغوارها والحاجات الروحية ومعارجها، ووسائل خلق الأجواء الصالحة لحياة الطاعة والزهد والخوف والرجاء. وقد عرف القائمون على هذا الجانب من العلم القرآني بالعباد في القرن الأول، ثم أطلق عليهم اسم الزهاد، وأخيرا عرفوا باسم الصوفية…”.
وعليه فإن استمرار الفكر الصوفي في العطاء وفي الحضور داخل المجتمعات الإسلامية المختلفة، لم يتحقق إلا لكونه استطاع أن يتكيف مع البيئة الإسلامية وأن يتغلغل في أعماق الحياة الشعبية. وقد ضرب التصوف المغربي نموذجا متميزا في هذه المجال، مما يجعلنا نلاحظ كم كان للموقع الذي اختاره الفكر الصوفي داخل أوساط الجمهور من تأثير ضمن له البقاء رغم العديد من السلبيات التي تسربت إلى ذلك الفكر…
- إذا نستطيع أن نستخلص معكم أصالة التجربة الصوفية في الإسلام ونجاحها في الاستمرار كتجل من تجليات الأمة عبر فترات تاريخها الطويل، وأنها تجربة جاءت لتلبي حاجة ضرورية من حاجات التدين الذي طبع به ضمير المسلم عبر التاريخ. لكن في ضوء هذا التجدر للتجربة الصوفية، ما هي أوجه خصوصية المعرفة الصوفية داخل العلوم الإسلامية الأخرى؟
الحديث عن خصوصية علم ما هو حديث مشروع في إطار رصد أنماط المعارف والعلوم المتداولة، خاصة بالنسبة للتصوف الذي ألحق دائما بمرتبة “الإحسان” التي تبرزه وتميزه عن مرتبتي الإسلام والإيمان! والواقع أن الوعي بخصوصية التجربة الصوفية عموما، أمر يشترك فيه العديد من مفكري الإسلام ذوي مشارب فكرية وتخصصات علمية متباينة؛ فهذا ابن خلدون في كتابه “شفاء السائل لتهذيب المسائل”، يحرص على أن يشدد على كون “الباطن” الذي يشتغل به الصوفي قبل غيره هو “أصل الاستقامة ومنبع الصلاح والفساد لجميع الأعمال”، وأن الدين إذا بني على قاعدة “إنما الأعمال بالنيات” فذلك تلميح إلى مركزية الباطن الذي يتجرد الصوفي لإصلاحه وتهذيبه، وأن الفقهاء إذا كانوا قد شغلوا بالفتوى وما “تعم به البلوى”، فذلك قد صرفهم في الغالب عن العناية بذلك الباطن والانتباه إلى قيمة “أعمال القلوب”.
ولعل هذا التقويم الخلدوني لمنزلة التصوف بين علوم الملة لا يختلف عن ذلك التقويم الآخر الذي نجده عند معاصره الإمام الشاطبي الذي رغم حرصه على تتبع بدع الصوفية المتأخرين، لا يجد بدا من الإشادة بأعمال القلوب بجانب أعمال الجوارح؛ حيث يؤكد أن “كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي. وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا”. الأمر الذي يعني أن هناك أصولا وضوابط يجب مراعاتها في تنزيل العلم على الواقع العملي، وتلك على حد قوله قمم عليها “عول من شهر من أهل التصوف؛ وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه”. والواقع أن الناس قد تعودا أن يراقبوا أنفسهم دون أنفاسهم! وذلك ما يسعى الصوفية إلى استدراكه في وقوفهم على دقائق الأنفاس وأعمال القلوب، إذ هي دقائق وأعمال على حد قول الشاطبي أيضا “لم تزل يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريغ فيها، حتى صارت كالنسي المنسي، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصي عن أهله”! من هنا وجب اعتبار التصوف “فقها” وإن كان أدق أنواع الفقه وأصعبه.
ثم إذا كان الامام الشاطبي قد نبه إلى وجوب اعتبار التصوف بعدا من الأبعاد الممكنة للتجربة الدينية، فإن الشيخ أحمد زروق، الآتي بعده، حرص في “قواعده” المشهورة أن يحدد “الاتجاه الوسطي” الذي يجب نهجه في إثبات هذه النسبة والمنزلة التي أوضحها الشاطبي للتصوف بين علوم الملة، حيث أكد أن “لا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكامه إلا منه، ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه [وهو الباطن الذي يشتغل الصوفي بدراسته] ولا هما إلا بإيمان؛ فلزم الجميع”! ومن ثم قال الامام مالك قديما: “من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق؛ ومن تفقه ولم يتصوف تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق”!
ونعتقد أن جل تلك التقييمات للتجربة الصوفية في الإسلام تعكس هذه المنزلة للتصوف كعلم مكمل ومسدد لباقي علوم الملة؛ ولعل الوقوف على أمثال “الرعاية” للمحاسبي أو كتاب “العلل” للحكيم الترمذي، و “الأحياء” للغزالي، توضح مدى مساهمة التراث الصوفي في خدمة علوم الإسلام وتعميق النظر في مقاصدها الكبرى…..
- هل استطاع المغاربة، في تشكيل هويتهم العقدية والفقهية والسلوكية، أن يحققوا نوعا من المصالحة بين هذه المكونات والتي كانت فيما قبل تتسم في بعض الفترات، بنوع من الصراع؟
ربما كان من شأن سؤالكم هذا أن يجرنا إلى الحديث عن مسألة “الخصوصية” المغربية المتجدرة في التاريخ؛ ونعتقد أنه لا يمكن الحديث عن تجليات الفكر المغربي في أي حقل من حقول المعرفة الإسلامية، دون أن نضع في الاعتبار تلك الخصوصيات متعددة المظاهر، الجغرافية منها والتاريخية والسياسية والمذهبية. وإذا كان المغرب بفضل موقعه الجغرافي قد حقق استقلاله المبكر عن كل السلط السياسية الخارجية، فإن موقعه ذلك قد أبقاه بعيدا عن الخلافات المذهبية المختلفة التي كانت تعج بها باقي أطراف العالم الإسلامي؛ وذلك ما ساهم في ترسيخ نزعته العملية، بما تعنيه من عزوف عن الخوض في المشكلات النظرية وإعطاء الأولوية للتنظيمات العملية والإجراءات التشريعية. وقد كان لسيادة المذهب الفقهي المالكي بجانب التصوف السني والكلام الأشعري الوسطي، سببا ونتيجة في آن معا لتلك النزعة العملية البادية على الإنتاج الفكري المغربي، تلك النزعة المشددة على التمسك بالسنة والإجماع ونقد الخروج عن الجماعة…، ولا ريب أن الاتجاه العملي البادي على الفكر المغربي بكل تجلياته قد ساهم في جعل الفكر الصوفي بالمغرب يتميز هو الآخر عن باقي التجارب الصوفية الأخرى، سواء في الأندلس أو المشرق، بعناية أقطابه أكثر من غيرهم بالجانب العملي وابتعادهم عن الإشراق والإغراق في “الشطحات” المغالية. ولعل الواقف على منظومة عبد الواحد بن عاشر، وهو الصوفي والفقيه المالكي، يدرك مدى النجاح الذي حققه الفكر المغربي في التوليف بين تلك العناصر الأصيلة المكونة للخصوصية المغربية والمعبرة عن العمق الفكري للمغرب…
عموما نستطيع القول إن المغرب لم يعرف صراعا حقيقيا كذلك الذي كان ينشب من حين لآخر في المشرق بين أقطاب من المتصوفة وفئات من الفقهاء، وذلك بفضل ما كان يتمتع به صوفية المغرب من جمع المسلك الصوفي والالتزام بضوابط الممارسة الشرعية المجمع عليها. وما حدث من صراع أو توجس في فترات تاريخية معينة، فقد فرضت ذلك أسباب سياسية ظرفية، وكان صراعا محصورا غالبا بين رجال السلطة السياسية وأفذاذ من الصوفية في ظروف تاريخية شهدت انحلال السلط السياسية نفسها، وهو ما دفع بالعديد من الحركات الصوفية إلى الاضطلاع بمهمة الدفاع عن حوزة البلاد، خاصة ضد الغزاة الصليبيين الذين كانوا يهددون المغرب في عمقه…، ولذلك كانت “رباطات” الصوفية رباطات للجهاد والمراقبة والحراسة بقدر ما كانت رباطات للمجاهدة والعبادة واستمداد العون من الله تعالى…، وقد اعترف علال الفاسي بهذا النجاح الذي حققه التصوف المغربي في احتلال تلك المنزلة المحترمة بين الجمهور والفقهاء على السواء، بقوله: “مما امتاز به التصوف المغربي أن معظم رجاله ودعاته من أهل العلم بأصول الدين وفروعه. ولذلك فهم يعرفون كيف يكيفون آراءهم، وقلما تجدهم مصطدمين مع العلماء كما وقع في المشرق العربي…، والتصوف المغربي، إلى جانب الفقه المالكي، له الأثر الفعال في توجيه كل الأفكار والسياسات التي جرت ببلادنا، فالفقه والتصوف عنصران أساسيان في تكييف المجتمع المغربي وتسييره”.
- ما هي تجليات العمل الصوفي المغربي في العناية بالعلم الشرعي؟ وارتباطا بهذا، ما هي الإضافة العلمية والعملية للتصوف في حقل العلوم الشرعية؟
علاوة على لك الشهادة الإيجابية التي أوردناها لعالمنا الكبير علال الفاسي في حق التجربة الصوفية بالمغرب، فإن التذكير واجب أيضا بذلك الحرص الذي كان الامام الشاطبي قد أبداه بخصوص ضرورة تنزيل العلم على أرض الواقع، هذا التنزيل الذي يقوم مقام الإشهاد على نجاعة العلم وفائدته، وليس كعلماء التصوف، خاصة منهم المغاربة، من كانوا أحرص الناس على تنزيل العلوم الشرعية على أرض الواقع وتحويلها إلى مواقف عملية حية، لا مجرد عقائد وتصورات ومفاهيم وقواعد نظرية مجردة. ولعل هذا القصد الأساس كان وراء حرص أولئك الصوفية أكثر من غيرهم على أخذ العلم من أفواه الرجال والتحقق من نجاعته عن طريق “السن” والتربية؛ وقيمة السند إقرار بأهمية وفائدة “النموذج” الذي يمثل تنزيلا حيا للعلم على الواقع وعلى “مجاري العادات” وترسيخا له في الواقع. وقد روي صاحب “التشوف” أن أبا مدين الغوث، حين إقامته بمدينة فاس، كان حريصا ألا يتجاوز ما يحفظه من آية من آيات القرآن الكريم إلى غيرها من الآيات، حتى يتقن عمليا ما تم له حفظه أولا، إدراكا منه أن العلم الشرعي إنما جعل للتنزيل والتنفيذ، لا لمجرد الاستحضار والترديد.
وإذا كان صوفية المشرق، وعلى رأسهم الغزالي في “الأحياء” قد ساهموا مساهمة طيبة في العناية بالعلم الشرعي، وزاوجوا بين طلب العلم والتحقق بمقاصده العليا، فإن صوفية المغرب قد حازوا في هذا المجال قصب السبق بفضل تلك الخصوصية التاريخية والاجتماعية للمغرب، والتي أهلت الطرق الصوفية وزواياها لتلعب العديد من الأدوار الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، تتناسب وطبيعة الساكنة المغربية، مما أكسب التجربة الصوفية بالمغرب أهمية، كجزء من التركيبة الاجتماعية ثم “كمؤسسة” في شكل زاوية أو طريقة يلجأ إليها أحيانا كثيرة، تفاديا لكل اختلاف قبلي وحسما لكل صراع فئوي يخص تدبير شأن من شؤون الجماعة، خاصة في بادية المغرب…، وهذه مناسبة للتنبيه إلى أن صوفية المغرب قد لعبوا إبان فترة الأزمات أدوار إيجابية في الحفاظ على العلم الشرعي، وضمان أداء شعائر الإسلام؛ والتذكير واجب هنا بذلك الدور الريادي الذي قام به الشيخ أبو محمد صالح، دفين آسفي، وبمعية مريديه، وأتباعه، إبان العصر الموحدي، في تمهيد طريق الحجيج المغربي وضمان سلامته عبر طول الشمال الإفريقي حتى مصر ثم الحجاز؛ وذلك بالرغم من الفتاوى الذي صدرت من بعض الفقهاء بإسقاط فريضة الحج على المغاربة بذريعة كثرة فتن الطريق والاضطرابات السياسية التي كان يعاني منها العالم الإسلامي إذ ذاك….
كما يجب ألا ننسى اليوم أن فكرنا المغربي المعاصر إذا كان قد استطاع أن يقف على التراث الفكري والعلمي المغربي خاصة، والإسلامي عامة، فإن خزانة الزاوية الناصرية بتامكروت، والخزانة الكتانية بفاس، يرجع إليهما الفضل في الاحتفاظ بذخيرة كبيرة من ذلك التراث العلمي…، ولا نبالغ إذا قلنا إن تلك العناية الصوفية المغربية بالعلوم الشرعية المختلفة ظلت تقليدا مراعي بين كبرى زوايا التصوف المغربي إلى وقت قريب، ولعل زاوية الشيخ ماء العينين بــ “السمارة” في العمق الصحراوي المغربي، وما كانت تعرفه من نشاط علمي، بجانب نشاطها الجهادي دفاعا عن وحدة المغرب، لخير دليل على ذلك…، كما أن في مواقف محمد بن عبد الكبير الكتاني وفي أعماله الفكرية ما ينهض دليلا على طبيعة التصوف المغربي كتصوف جامع بين العلم والعمل، وكتجربة متجدرة في المجتمع المغربي، معانقة لهمومه ومعبرة عن طموحاته…
- إذا كان التصوف يمثل هذا الحضور في التجربة المغربية إلا يحق لنا التساؤل عن إمكانية توظيف قيم التصوف الأخلاقية في منظومتنا التربوية؟
إن منطق التطور وضرورة المراجعة النقدية يفرضان علينا حينما نسترجع ما تراكم لدينا من تراثنا الحضاري المتنوع، إلا نقف منه موقف المردد المستنسخ؛ بل علينا أن نتعلم كيف نميز بين المظهر والجوهر، أو بين الشكل والمقصد، وإن من شأن القراءة الواعية للخطاب الصوفي أن تدفعنا إلى إدراك مقاصد هذا التراث، وتعرفنا سبيل تنزيل قيمة بما يناسب حياتنا المعاصرة. والحقيقة أن التصوف في جوهره فكر نقدي و”نقد ذاتي” بامتياز، من شأنه أن يجعل الفرد متمتعا بوعي شديد بمسؤولية كجزء من المجتمع، وقد حاول أحمد بن عجيبة، من صوفية المغرب، أن يرى في تشديد الصوفية على وجوب “صدق التوجه” إلى الله وإخلاص النية في كل عمل ما، من شأنه أن يحول القيم الصوفية إلى “قيم إنسانية” قابلة للتعميم والتنزيل في كل مجتمع إنساني بما هو كذلك. فما دام مقصود القيم الصوفية جملة وجماعها هو صدق التوجه إلى الله، وإخلاص النية في كل عمل، صار علم التصوف بالتالي مرتبطا بالإنسان من حيث هو إنسان، وبالتالي “ما من علم إلا ويمكن الاستغناء عنه [افتراضا] في وقت من الأوقات، إلا علم التصوف، فلا يستغني عنه أبدا في وقت من الأوقات”، لأننا حينما نستغني عن “صدق التوجه” وعن الإخلاص لن نعود مجتمعنا إنسانيا، بل نصير مجرد ذئاب يأكل بعضها بعضا!
حقا! الفكر الصوفي في عمقه فكر نموذجي طامح دوما نحو الكمال، إلا أن القيم الصوفية، كما صاغها أهل السنة تحديدا، قابلة للتنزيل لتكون قيما بحسب درجة مستوى الإنسان من التربية. ولقد أثر عن هؤلاء الصوفية قولهم: “الجسد في الحانوت والقلب في الملكوت”! كما اثر عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي قوله: “ليس التصوف بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنما هو الصبر على الأوامر، واليقين في الهداية”. بل إن الشاذلي، خلافا لتلك التصورات الغنوصية والرؤى المأساوية للوجود التي تسربت إلى الرهبنة المسيحية، كان يؤكد: “لم يكن نزول آدم نزول إهانة، بل نزول كرامة”! وتلك رؤية تفاؤلية للوجود جعلت أبا الحسن الشاذلي يقبل على الحياة ويلبس الفاخر من الثياب ويكره الزي المرقع الذي اصطلح عليه بعض صوفية الوقت…، ثم لم يمنعه تصوفه، وقد بلغ من الكبر عتيا وكف بصره، أن يشارك مع إخوانه في مصر في جهاد الصليبيين!
وخلاصة الكلام هنا أن صوفية المغرب خاصة قد رفعوا شعار إخلاص النية وصدق التوجه إلى مرتبة القيم التي من شأنها “تخليق الحياة العامة” مما جعل الشيخ زروق ينبه في مستهل كتابه “قواعد التصوف” أن “كل من له نصيب من صدق التوجه، له نصيب من التصوف”!
- إذن كيف السبيل إلى إحياء قيم التصوف؟ وما هي المنزلقات التي قد يسقط فيها مثل هذا العمل اليوم؟
أعتقد أن لا سبيل لإحياء قيم التصوف السني العملي إلا عبر ما أكدنا عليه آنفا من ضرورة المراجعة النقدية لما تراكم لدينا من تراث صوفي، نستطيع بفضل تلك المراجعة بمنهجية علمية دقيقة ورؤية موضوعية، أن نميز بين الغث والسمين، ونفصل بين المقاصد والأشكال، وذلك منهج من الضروري سلوكه تجاه كل علوم الإسلام…، وأظن أن المسلك الذي نهجه بعض كبار أصوليينا قديما وبعض الدارسين من المعاصرين، حينما ميزوا بين الاجتهاد الفقهي المذهبي المحدود وبين المقاصد الكلية الضرورية للشريعة، هو مسلك محمود يمكن نهجه بخصوص تقويم الخطاب الصوفي؛ فنميز ضرورة بين أسس وأصول ومقاصد الخطاب الصوفي؛ وبين ما ألحق بهذا الخطاب أو ارتبط به عبر التاريخ من شكليات وأمور فكرية أو سلوكية عارضة، ربما اعتبرها البعض مجرد “ملح” لغة الشاطبي، أو اعتبرت لدي البعض دواخل وطوارئ…، وذلك تمييز من شأنه أن يعرفنا على “القيم الصوفية” الكبرى، هذه القيم التي ربما تبين لكم من جوابنا السابق كم هي قابلة للتفعيل والتنزيل، خاصة في ظل ما صار العصر يتطلبه من ضرورة “تخليق الحياة العامة” وبعدما اكتوى العالم بنار ذلك الفصل الكاذب بين القيم والممارسة السياسية والاقتصادية، مما جعل إنسان العصر يشكو من الانفصال بين ما يؤمن به وما يفعله، وكأنه يعيش بين منطقتين متباعدتين وينطوي على شخصيتين “متشاكستين، يؤمن بشيء ويأتي خلافه! والفكر الصوفي إدانة صريحة لمثل هذا “الفصام” المرضي ودعوة للإنسان كي يعيش حياة سوية مطمئنة مسألة مع نفس ومع محيطه الإنساني القريب والبعيد ومع الوجود بأكمله.
غير أن تفعيل هذه القيم الصوفية، خاصة في بعدها الإنساني المشار إليه آنفا، لا معنى له إلا في ظل اعتبار هذه القيم شكلا من أشكال تنزيل القيم الإسلامية ذاتها ومقاصد الإسلام الكبرى. فلنحذر أن نفسد القيم الصوفية بجرها إلى أن تصبح مطية لإشباع نزوات وغرائز ذاتية، أو لإرضاء أغراض سياسية ضيقة، أو مناسبة لتأويلات “غنوصية” تحت شعارات ومصطلحات تحرف عن مقاصدها النبيلة. وذلك عيب طالما عانى منه الفكر الصوفي قديما، وأساء صورته الإسلامية الناصعة.