زراعة النّور في كون منشور .. كلّ إنسانٍ حاملٌ أمانات

زراعة النّور في كون منشور .. كلّ إنسانٍ حاملٌ أمانات

زراعة النّور في كون منشور

 كلّ إنسانٍ حاملٌ أمانات

 

بقلم: د.سعاد الحكيم

 

تسرق الدّنيا الإنسان وخاصّةً إن كان في الصفّ الأوّل والطبقة العليا – ولا يسلم من ذلك إلّا القليل -، فيفرح بإنجازاته وينظر إلى ما لديه (من مال أو منصب أو علم…) على أنّه ملكيةُ حيازةٍ صرفة، يحقّ له أن يتصرّف فيه بما يشاء، لا يُناقش في ذلك ولا يُحاسب، لأنّه تصرّفٌ للإنسان فيما يملك. ولكن، حبّذا لو يعيد النظر كرّةً ثانية بوعي جديد، بوعيٍ باحثٍ عن حقوق الآخرين فيما يملك، فالأرجح أنّه سيتّضح له أنّ حجماً لا بأس به ممّا يعدّه ملكيّة له هو بحكم الوديعة المسؤول عنها، وأنّ حجماً آخر أيضاً لا بأس به هو من جنس ملكيّة التصرُّف والاستخلاف والنيابة لا أكثر.

إنّ خُلُق الأمانة هو ركنُ ركينٌ في المنظومة الأساسيّة للأخلاق (وهي منظومة رباعيّة في الفكر الدّندراوي: الصّدق والأمانة والحياء والشّجاعة).. فمن لا أمانة له فلا خُلُق له، وكيف يكون صاحب خُلُق وهو خائن. ومن النّاس من يكون أميناً في وظيفته لا يقبل رشوة، ولكن تضعف نفسه أمام المبالغ الكبيرة فيخون أمانة وظيفته.. ومن النّاس من لا يرفّ له طرفٌ مهما كانت المبالغ الماليّة المعروضة كبيرة إلّا أنّه ضعيف أمام غواية المرأة أو السُّلطة، نورد هذه الأمثلة لنقول: إنّ الإنسان يُمتحن في أمانته عند كلّ منحنى حياتيّ: في كلّ معاملة تجاريّة، وفي كلّ تعامل إنسانيّ، عند تسلُّمه لرئاسة أو إمارة أو منصب أو وظيفة، وعند تحصيله لعلم أو مال، عند ولادة ولدٍ له، عند ولادته إنساناً مُسْتَأمناً على كوكب الأرض.

ونتشارك في التفكُّر في ضرورة الأمانة في مجال المعاملات ورعاية الودائع، ونجمل نتاج تفكّرنا في الفقرات التّسع الآتية:

 

 

1 – الأمانة في النّصوص القدسيّة:

يأمر الله تعالى في كتابه العزيز النّاس جميعاً بأداء الأمانات، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النّساء 58].. وأثنى تعالى على الأُمناء، يقول عزّ وجلّ: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون 8]. وفي سورة الشُّعراء نجد رسلاً كراماً يقول واحدهم لقومه: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾، ومنهم نوح [107]، وهود [125]، وصالح [143]، ولوط [162]، وشعيب [178]، وموسى [الدّخان 18].. سلام الله عليهم أجمعين.

أمّا المصطفى المجتبى صلوات الله عليه، فيذكره القرآن الكريم في سورة التّكوير 21: ﴿مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾. ولا ننسى يوسف عليه السّلام: الحفيظ العليم والمكين الأمين.

وتخبرنا كتب السّيرة النبويّة الطّاهرة، أنّ سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله، وقبل ظهور رسالته الخاتمة، كان في قومه هو: الصّادق الأمين. وتدلّنا أحداث حياته العظيمة على أنّه كان أميناً مع النّاس كلّهم، وفي الظّروف كلّها، فلم يفرّق في أمانته بين مؤمن ومشرك، وبين صديق وعدوّ.. فالأمانة أمانة ولها حقوق واجبة الأداء. والدّليل؛ أنّ الكثير من قومه كان يودع ما يريد ادّخاره من مال أو ما يخاف عليه من متاع عند الصّادق الأمين صلوات الله عليه، حتى بعد ظهور الرّسالة المحمديّة الخاتمة، وآمن بها من آمن وكفر بها من كفر، تابع فريق من قومه بوضع أموالهم ومتاعهم أمانة لديه وهم يكفرون به نبياً ورسولاً، وربّما يساندون جبابرة قريش في إيذائه. ومع ذلك، وحين خرج من مكّة المكرّمة مهاجراً، ترك في فراشه الإمام عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، ليس فقط ليظنّ من هم حول الدّار أنّ النبيّ الأميّ صلوات الله عليه نائمٌ في فراشه، بل ليردّ الأمانات إلى أهلها في الصباح.. لقد كلّف المصطفى المجتبى صلوات الله عليه الإمام عليّ كرّم الله وجهه بردّ الأمانات إلى قومٍ كفروا به وبرسالته، آذوه وأخرجوه من دياره، إذن، الأمانة خُلُق إنسانيّ عابر للمعتقدات والقوميّات وعلاقات المودّة وغير ذلك. والأمانة هي خُلُق للإنسان المؤمن يتعامل به مع النّاس جميعاً حتى وإن غدروا به، يقول صلوات الله عليه: ((لا إيمان لمن لا أمانة له))، ويقول أيضاً صلوات الله عليه: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنْ خانَك)).

 

2 – الأمانة في المعاملات التجاريّة:

كثير من النّاس عندما يدخلون السّوق (دكّانهم أو محلّ تجارتهم…) يخشون على مصالحهم الماديّة من حُسْن الخُلُق؛ من الصّدق والأمانة على الأخصّ، فيضعونهما بين قوسيْن ويندفعون في غمار البيع والشّراء. وكثيراً ما يصرّح تاجر في مجلس صفاء مع صحبه أنّه من المستحيل أن يَصْدُق أو أن يكون أميناً في تجارته، لأنّ عملية البيع ترتكز في معظمها على شيء من الغشّ والكذب؛ إمّا غشّ في البضاعة نفسها، أو كذب في قول سعر التّكلفة للزّبون.. ونسي هذا الإنسان أنّ سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله تَاجَرَ، باعَ واشترى، وربحت تجارته، وهو الصّادق الأمين.

وقد رتّبت التّعاليم النبويّة القويمة تشريعات للمعاملات التجاريّة يمكن الرجوع إليها في دواوين الحديث الشّريف، ونكتفي بأن نذكر منها قوله صلوات الله عليه: ((مَنْ غَشَّنا فليس منّا)). وقوله صلوات الله عليه: ((لا يحلّ لأحدٍ أن يبيع شيئاً إلا بيّن ما فيه)). وقوله صلوات الله عليه مبيّناً أنّ الدَيْن المالي أمانة واجبة الأداء: ((من أخذ أموال الناس يريد أداءَها أدّى الله عنه، ومن أخذها يريدُ إتلافها أتْلَفَهُ الله)).

 

3 – الأمانة في التّعاملات الإنسانيّة:

إنّ النّفوس الإنسانيّة الكبيرة تأنف الخيانة وتستقذرها، ومن هنا يوافق طَبْع المروءة ما يدعو إليه الدِّين من خُلُق كريم. ومن الأمانة في التّعامل الإنسانيّ، نذكر أنموذجيْن:

  • إعطاء كل ذي حقّ حقّه (لأنّ الحقوق أمانات).. يعطي زوجه حقّها ووالديْه حقّهما وأولاده حقوقهم وكذا كلّ من تربطه به زمالة أو صداقة أو جيرة..
  • حفظ الحديث الذي حدّثه به وعدم إفشاء الأسرار.. يقول صلوات الله عليه: ((المجالس بالأمانة)). ويقول أيضاً صلوات الله عليه: ((إذا حدّث الرّجل بالحديث ثم التفتَ فهي أمانة))..

إنّ الخيانة لا تكون في المال فقط أو بين الزوجيْن فقط، بل هناك الخيانة الإنسانيّة التي يشعر بها الإنسان عندما يعلم أنّ صديقه أو أنّ من يحبّ من النّاس قد استخلص غيره ليفشي إليه أسراره وأحاديثه. يقول سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله ذاكراً آخر الأيّام: ((أوّل ما يُرفع من هذه الأمّة الحياءُ والأمانة، وآخر ما يبقى منها الصلاة، وقد يصلّي قومٌ لا خلاقَ لهم)).

 

4 – الأمانة في المُلْك والرّياسة والمنصب والوظيفة:

إنّ الشعب عندما ينتخب نائباً عنه أو رئيساً، أو عندما يبايع مَلِكاً بولاية الأمر، فإنّ الشّخص المنتخَب أو المبايَع هو صاحب أمانة حمّله إيّاها النّاس، وبالتّالي يتعيّن عليه أن يكون أميناً في ملكيّة التصرُّف التي تسلّم دفّتها في بلاده.. أيْ مؤتمناً على أرواح النّاس وأعراضهم ومصالحهم، وعلى الدولة وخزينتها ومؤسّساتها وحسن تعيين الشّخص المناسب في المنصب المناسب.

يقول سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله: ((إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة)) قالوا: كيف إضاعَتُها يا رسول الله؟ قال: ((إذا أُسندَ الأمرُ إلى غير أهله، فانْتَظِر الساعة)).

وكما في المُلْك والرّياسة كذلك فإنَّ كلّ منصب إداريّ، وكلّ وظيفة حكوميّة، هو أمانة، ويتعيّن أن يمارسه الإنسان على أنّه كذلك، فلا يسرق من وقت العمل، ولا يقبل هديّة أو رشوة ولا يبيع معلومة، ولا يستهتر في استخدام الموارد وغير ذلك ممّا يستبين للإنسان إن نظر في هذا الاتّجاه.

 

5 – أمانة العلم:

إنّ العلم أمانة، وقد كان سلفنا الصّالح لا يرضى العالِمُ منهم أن يعطي العلم إلا لمن يستوثق من صيانته لأمانة العلم، وأنّه لا يطلب به جاهاً لدى مسؤول أو سلطة أو مال، وأنّه سيؤدّيه بدوره لمن هو أهل له.

مع تطوّر الأيام، والحياة في الكون المنشور، أصبحت أمانة العلم مسؤوليّة جيل من العلماء.. كلّ جيل يتلقّى ما أنجزه السّابقون من علوم، ثم بعد أن يتقنها يبدأ قَدْر الوسع بتنميتها ومراكمتها والتقدّم بها.. وهذه الأمانة في استقبال علوم الأجيال السّابقة وتوريثها للأجيال اللاحقة هي عملية يرصدها التّاريخ ويدوّنها، ونراه يُخرج من حسبانه، أيّ جيل أهمل تراثه العلميّ. وحيث إنّ العلم يبقى في الأرض فإنّه سوف ينتقل إلى أرض أخرى ويبدأ مساراً جديداً مع قوم يستقبلونه ويجعلونه جزءاً من تراثهم العلميّ.

 

6 – الزّكاة أمانة:

حيث إنّ الحقوق أمانات؛ فإنّ القدر المعلوم للزّكاة، لا يعدُّ ملكاً للشّخص الذي هو في حوزته، بل هو أمانة لديه، ويتعيّن عليه أن يؤدّيها للأصناف المذكورين في هذا الرّكن العظيم.

 

7 – الولد أمانة:

يفرح المرء بالولد، وهو فرح مشروع وإنسانيّ، ويعدّه رزقاً وهبةً وهذا حقّ.. فالولد فرحة ورزق إلهيّ ونعمة وهو أيضاً أمانة عليه أن يرعاها حقّ رعايتها. والدّليل على كونه أمانة، أنّه لا يتصرّف فيه بما يشاء، بل رتّب الشّرع له حقوقاً، كما رتّبت الدّولة له حقوقاً، وكذلك المجتمع والنّاس. فالولد هو أمانة الدِّين والوطن والمجتمع والإنسانيّة.

 

8 – الحياة أمانة:

منذ تسري نفخة الرّوح في بدن الإنسان، تبدأ أمانة الحياة.. فكلّ ما خلق الله تعالى فينا ولنا فهو أمانة: العقل أمانة، والحواسّ أمانة؛ السّمع والبصر والشمّ واللّمس والذّوق، والصحّة أمانة، والوقت أمانة… والدّليل؛ إنّ الله سبحانه يسأل الإنسان عن عمره فيما أفناه.. كما أنّ معظم النّاس عندما يبلغ واحدهم سنّ الشّيخوخة يلتفت إلى عمره كلّه إلى مراحل حياته كلّها.. والسعيد هو من يرجع طرفه من هذه النّظرة راضياً سعيداً.

 

9 – أمانة الأرض:

ولا ننسى كوكب الأرض، فإنّ الله تعالى جعل الإنسان خليفة في الأرض.. والخلافة أمانة. وهذه الأمانة ورغم أنّها مسؤوليّة دينيّة إلا أنّها إن تمّت خيانتها تتسبّب بكوارث كونيّة.

وخيانة كوكب الأرض تكون بأساليب متعدّدة منها: العبث بمقوّمات الحياة على الأرض، التسبّب بالإضرار بالغلاف الجويّ، التوحّش في استهلاك الموارد الطبيعيّة، الإخلال بالتّوازن البيئيّ.. وغير ذلك ممّا يؤثّر على سلامة الأرض، وعلى تسليمها عامرة بالحياة والموارد للأجيال اللاحقة.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!