الإنسان والعالم في الخطاب الصوفي

الإنسان والعالم في الخطاب الصوفي

الإنسان والعالم في الخطاب الصوفي في الغرب الإسلامي.

                                                   د. محمد رضى بودشار

باحث في التاريخ والتصوف – تطوان المغرب.

تطوان - التصوف - محمد راضي

                                                          

 

تعد إشكالية علاقة الإنسان بالعالم من أبرز القضايا الذي خاض فيها الفكر الصوفي والمدونات الصوفية على اختلاف صنوفها، وعيا منهما بذلك أو عن غير وعي، تصريحا أو تضمينا. ونظرا لغنى هذه المدونات بأشكال العلاقات القائمة بين الإنسان الذات المفكِّرة، والمفكّر فيها، والعالم؛ أي الموضوع المتصل والمنفصل عن هذه الذات،  فقد أمكن استخلاص شكلين رئيسين لهذه العلاقة المفترضة بين هذين القطبين؛ الأولى: علاقة المعية والاتصال، والثانية:  علاقة التقابل والانفصال، فأين تتجلى ملامح هاتين العلاقتين؟

لا غرو أن التجربة الصوفية، من حيث كونها خطابا فكريا متضمنا في مقالات، أو من حيث كونها ترجمة لتجربة إنسانية، تعبر عنها الكتابة المنقبية، تفصح عن رؤية إلى الإنسان والعالم،  عبر رؤية نسقية تجمع بين النظرة القيمية  والتصورين المعرفي والوجودي للإنسان، بدرجات متفاوتة. لهذا، فإن قراءة النصوص الصوفية المنقبية لتبيّن تصور الخطاب الصوفي للإنسان والعالم، تظل قراءة تجزيئية  قِطاعية، محصورة الآفاق، ومحدودة النتائج، إن لم تكن مصحوبة بقراءة أخرى موازية أو قبلية للمتون الصوفية النظرية. كما أن تبيّن هذا التصور من كتب التصوف بمعزل عن المدونات المنقبية التي تعْرض التصوف باعتباره حقيقة اجتماعية وواقعة ثقافية، فردية أو جماعية، يظل من جانبه يحوم حول أفكار ومفاهيم، وكأنها أنساق منغلقة على نفسها، مكتفية بذاتها.

إن خصوصية الإنسان، من حيث كونه كائنا عاقلا وثقافيا، تتجلى في جمعه بين مكونين رئيسين للذات الإنسانية وهما النظر والعمل. من هذه الزاوية، يصير من الضروري الإحاطة بالمادة الصوفية المتوفرة في مختلف المصنفات حتى يتسنى لنا الوقوف على الفكرة والتجربة الصوفيتين.

 والافتراض الذي ننطلق منه من خلال تتبع مسار الصوفي ومدارجه هو كونه يعيش في عالم ويطمح إلى عالم آخر مغاير للواقع، وملائم للذات[1]. لهذا، فإن الوعي بعدم المطابقة، وعدم الائتلاف بين الفكر والواقع، وبين الذات والغير، وبين الصوفي والعالم، يشكل بداية السؤال؛ أي بداية التجربة الإنسانية بأبعادها العميقة، وهذا ما يدفع إلى ضرورة “تكوين” الذات، و”إعادة بناء” العالم، وفقا للمقولة الصوفية الشهيرة: “الإنسان عالم صغير، والعالم إنسان كبير”[2].

أمام هذه العناصر، نجد أنفسنا ملزمين بالتساؤل عن طبيعة حضور علاقة الإنسان بالعالم، كما تضمنها الخطاب الصوفي تصريحا أو تلميحا. فكان لا بد من إيلاف العنصر الناظم لهذه العلاقة والمتغيرات التي تعرفها. إن الوجود الإنساني في هذا العالم الأرضي أو الدنيوي وجود مؤقت ومرحلي؛ لأن الإنسان، كغيره من المخلوقات كائن فان، سيلتحق بالعالم الأخروي أو العلوي؛ وهو العالم الذي صدر عنه وأُهبط منه[3]. وهو أمر نجده في الإسلام، وفي كثير من الديانات والأساطير القديمة. فهذا الأمر بالنسبة إلينا هو العنصر المحدد لطبيعة علاقة الإنسان بالعالم.

ومن ثم، فإن هذا الوجود المرحلي والمؤقت للإنسان في العالم الدنيوي سينظم إلى أقصى حد الخطاب الصوفي فكرا وممارسة، انسجاما مع فلسفة الاكتفاء بالقليل الذي يضمن الحياة التي وهبها الخالق للإنسان، مع توجيه الاهتمام كل الاهتمام للعالم الأبدي الأخروي. وعليه، تروم  هذه الدراسة الوقوف على  علاقة الإنسان بالعالم والكشف عن الحساسية التي تمتع بها الخطاب الصوفي تجاه عالمه. فالإنسان من حيث هو إنسان يدافع الزمن ويدافعه. والكتابة الصوفية خاصة المنقبية  تعمل على تخليد أخبار الأولياء وحماية أثارهم من الإهمال والنسيان، وهذا نوع من أنواع مدافعة الزمن، كما أن طي الزمن يشكل حيزا مهما من الكرامة الصوفية والنشاط الولوي والنص المنقبي؛ إذ بها يتمكن من الانتصار على الزمن وإخضاعه إليه. ويترقب الموت ويترقبه[4]، باعتبار أن للموت في الخطاب الصوفي حضورا حقيقيا وآخر مجازيا[5]. وللتخفيف من قساوة الوجود الأرضي،  يسعى الصوفي إلى أن يحبُّ وفي الآن نفسه يريد أن يُحَب، يعبُد ويتحرر[6]، إنه يخضع للعالم، ويتجاوزه[7]، فهو بذلك من  أشد الناس غربة في العالم[8]، لأنه يشعر بحدة تأرجحه بين عالمين عالم حقيقي يعيشه مع غيره، وعالم يطمح إليه وينتظره، ويحقق نسخة منه، ويقدمه بديلا فكريا واجتماعيا. وهذا ما يجعلنا نفترض أن الصوفي يعيش في هذا العالم عالمين متناقضين، وهما عالما الشقاء والرخاء، لكل واحد منهما خصوصيته ومقاصده.

          لقد تقرر أن الإنسان جزء لا يتجزأ من العالم، بل من الوجود عامة، ورغم ذلك، وبما أنه كائن له ما يميزه عن باقي مكونات العالم، لكونه عاقلا وواعيا، ومستخلفا في الأرض، وحاملا للأمانة، فعلاقته بالعالم، لا بد من أن تتحكم فيها مجموعة من المحددات. فإلى جانب كونه  يدرك أناه وذاته، فإنه يتفاعل مع الذوات الأخرى، ويتعامل معها، فينشأ عن ذلك مجموع الأحاسيس النفسية والعلاقات الاجتماعية. علاوة على كونه يظل غريبا عن العالم، ليس لكونه صدرـ أو صدرت روحه ـ عن عالم آخر، ولكن لكونه يدرك مدى انفصاله عن العالم. ومن ثم فإن لغته التي يتواصل بها، ويبدع من خلالها، ويعي ذاته وغيره بها، يقصِد بها اختراق الذات والعالم نحو عوالم أوسع وأرحب حقيقة ومجازا.

ومع ذلك، فيظل الجانب الثقافي في الإنسان جانبا مهما، لأنه يؤهله إلى تجاوز الطبيعة، وهذا يعني من الناحية النظرية والعملية أنه عنصر مستقل عن العالم، وإن كان يعيش فيه ويتعامل مع مكوناته وعناصره. من هذا المنطلق سنحاول وضع أشكال علاقة الإنسان بالعالم، كما يمكن تبيُّنها في المدونات الصوفية النظرية والمنقبية كالأتي:

1-الإنسان وتجربة الانفصال عن العالم:

إن الدراسة المتأنية للمدونات الصوفية، في مختلف صنوفها، تُبين، لا محالة، السعي الحثيث لهذه المدونات، أو بالأحرى للخطاب الصوفي، إلى إقرار فكرة كون الحياة لن تستمر في العالم إلا بفضل الولاية والصلاح اللذين هما، في الواقع، استمرار لوظيفة النبوة في هداية الناس، وإصلاح أمورهم وأحوالهم الدينية والدنيوية.

فالإنسان الصوفي، وإن كان جزءًا لا يتجزأ من العالم، فهو يقع في الطرف المقابل للعالم، لأنه لا ينخرط فيه إلا من أجل التصدي لأحوال الفساد ومظاهره؛ لأنه يعمل على تمكين إصلاح ذاته وتصفيتها وتأهيلها لهذه الوظيفة المنيعة. وهذا ما لا يجعله ينعزل عن العالم ، وإنما عن الجماعة، بالاتجاه نحو الخلاء[9]، أو الإقامة في مكان يتمكن فيه من ممارسة طقوسه وشعائره، ليعود في نهاية المطاف لإصلاح المجتمع[10]. ومع ذلك، فقد يمكن ملاحظة من خلال قراءة تراجم الأولياء، في كتب المناقب أن طبيعة الإسلام من حيث هو دين يراعي البعدين الفردي والاجتماعي للإنسان، يحول دون العزلة التامة والمطلقة للصوفي عن جماعته، لأن رسالته ليست متعلقة بذاته فقط، وإنما كذلك بالمجتمع والبيئة؛ فظلت الصلاة، خاصة صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، عناصر مكسِّرة لإيقاع حياة العزلة لدى الصوفية، ليلتحقوا بالجماعة التي ينتمون إليها.

ومن الطبيعي أن علاقات المسلم بمجتمعه، ومنظوره للزمن، يحدان من حدة نفوره من العالم، وابتعاده عنه، إذ يتحتم عليه العودة إلى هذا العالم، أو بالأحرى إلى هذه الجماعة. هكذا، نسجل أن انعزال الأولياء والصوفية عن الجماعة ظاهرة معهودة حفلت بها المدونات الصوفية، و كتب المناقب والتراجم. فنجد من الأولياء من يروم مغادرة عالم الجماعة أو المجتمع، والإقامة في الأماكن والمساجد المهجورة، والارتحال منها كلما أحس بانكشاف أمر ولايته[11]، وبذلك تترسخ لديه الرغبة في الانعزال ريثما يجد أماكن أخرى مهجورة، وهكذا… بل أكثر من ذلك نجد من يغادر عالم الإنسان جملة وتفصيلا، ويلتحق بعالم الطبيعة البري، ليصير هناك جزءا لا يتجزأ من هذه المنظومة، إذ يستأنس بمكوناتها، ويعيش فيها جنب النبات والحيوانات في مودة وتعايش[12]… وهذا يعني أن الصوفي لا يقبل بعالم الإنسان الفاسد، في حين يجد صلاحَ نفسه في صلاح المنظومة الطبيعية. إنه بهذا الفعل يتجه إلى العالم الأصلي والصافي، وهو عالم الطبيعة.

وبعض الصوفية  يرفض العالم اليومي والمعتاد لدى الناس، ولا يُرى إلا في هدوء الليل وسكينته، وكأن للناس عالمهم النهاري، أما الولاية فعالمها عالم ليلي. إن المتغير هنا بين الولي وبين غيره، في هذا المقام، ليس المكان وإنما الزمن. وبذلك يحقق التقابل والقطيعة مع العالم، من جهتي الزمن والمكان. فالذي يزيد من رمزية الليل وعمق دلالته عند بعض الأولياء هو زيارتهم للقبور[13]. إنهم بهذا الفعل يقطعون الصلة مع العالم: عالم الأحياء، للالتحاق بـ”عالم الأموات” أو الاستئناس به، وكأنهم في رحلة وجودية للبحث عن عالم حقيقي، يلائم تصوراتهم وأفكارهم. فالصوفي، على هذا الأساس، ليس كغيره من الناس يهاب الموت ويخشاه، بل يبحث عنه، ويتأمله، ويترقبه في كل لحظة[14]؛ فبهذا العمل ينتصر على الموت. وينتصر عليه، مرة ثانية، حين تُخلد أخباره بعد موته، وينتصر عليه، أيضا، حين تستمر كراماته في الوجود والتحقق حتى بعد موته[15].

إن هذا الإنسان يحقق الحياة في الموت، ومن هذا المنظور،  تظل حياة الآخرين مجرد موت وإن كانت تقوم على الحركة، أو بالأحرى، إن حالَ الحياة ما هي إلا حالة الفساد؛ أي هي حال الموت الحقيقي، الذي ينتصر عليه الولي الساعي إلى  تعمير الزمن بالأعمال الصالحة الفاضلة. وعلاوة على ذلك، إنه يتمكن من تحقيق الانتصار على عنصر طالما شغل الناس، بمن فيهم الفلاسفة، وهو الزمن حينما يتمكن من طيه، وجعله في متناوله. إن رفض الصوفي لهذا العالم هو تعبير قوي عن إرادته في التحرر من كل القيود، بما في ذلك  قيود الذات والمجتمع والسلطة والطبيعة، حين يعبر عن رغبته في الطيران في الهواء، والمشي على الماء، وطي الزمن.

لكن إنجاز مثل هذه الأعمال الخارقة، ليس متاحا لأي كان، فالصوفي يتمكن من ذلك حين يخْلد للرياضة والمجاهدة، ويكرس حياته لتغذية روحه، والرقي بها في مراقي الصوفية، آنئذ يتمكن من تجاوز ذاته، والانفتاح على الكون، والمعرفة الحقيقية بخالقه، بعدها “يتصالح” الصوفي مع عالمه، حينما يكتشف أن الحب هو العنصر الناظم للوجود الإنساني، والوجود الكوني. وعبر هذا الحب يتجاوز حساسيته تجاه العالم، وبه يتواصل معه، ويصير وسيلة لتلطيف حياته ووجوده، ويكسر به إيقاع الزمن الرتيب، ومنه يمتح المعنى لذاته ويؤكد الامتلاء لها.

هكذا يصير التصوف هو الحب، والحب هو التصوف، وما نموذج شجرة المحبة  التي نظر لها ابن الخطيب إلا مشروع فكري وجودي صوفي يصبو إلى الإعداد المعرفي والتربوي، من أجل الرقي بالإنسان، لكي يستعيد مكانته الأولى. فإذا كانت “شجرة المعرفة” هي سبب خروجه من الجنة، فإن شجرة المحبة هي بمثابة محاولة للعودة إلى هذه الجنة[16]، لذا يمكن القول إن التصوف بما هو نظرة إلى العالم، فإنه معرفة المحبة، ومحبة المعرفة، اللتان تسهمان في  تكوين الإنسان الكامل.

إن وجود الإنسان مقابل العالم، يعني أن الإنسان، في هذا السياق، صادر عن عالم آخر، وهو بذلك يروم استعادة هذا العالم، وتحرره من العالم الذي أُنزِل إليه، وبهذا فإن اختيار الصوفي وسعيه إلى الموت، طبيعيا كان أو اصطناعيا، ما هو في الحقيقة إلا محاولة لتحرير الروح من الجسد المرتبط بالطين أو بالعالم، وبتعبير ابن الخطيب أسر النفس في الجسد[17]. هذه الرغبة في التحرر، نجملها في التحرر من الثقافة التي أنشأها الإنسان في المدن، التي أفرغت الإنسان من بعده الروحي، ليلتحق بالعالم الخالي من الوجود الإنساني، كما هو حال سياحته في القفار والمفازات، أو تردده على المقابر، أو الالتحاق بعالم الأرواح، وهو بهذا يبحث عن الإنسان الحر، والخالص، واللطيف، والكامل.

خلاصة القول، إن وجود الإنسان مقابل العالم في المدونات الصوفية، تمخض عن رفض صارم لحالة الفساد، وتأهيل للذات الصوفية للاضطلاع بمهام الإصلاح. ومن ثم، فإن معظم ما يحققه الصوفي من تصفية وتقويم هو في الغالب يُرسخ من أجل إصلاح العالم أو المجتمع. وهنا تكون عودة الواصل والسائح والمغترب من أجل إصلاح المنظومة الثقافية، وتقويم أحوال الناس وسلوكهم.

2- الإنسان جزء من العالم:

          من البديهي أن نقول إن المدونات الصوفية تقر بعلاقة الاتصال والمعية بين الإنسان والعالم. إن الخطاب الصوفي، وإن كان يحمل فكرا انتقاديا، في عصر من العصور، فهو من هذا الجانب فكر إصلاحي؛ أي إنه يقصد إلى إصلاح شروط الحياة في العالم وظروفها، عبر تثبيت أسس الصلاح في الزمن والمكان. لهذا فقد تقرر في كثير من المدونات الصوفية أنه يستحيل استمرار الحياة في غياب الولاية، تبعا لكون أمر الولاية الصوفية أمر وجودي، وفي غيابها أو انعدامها فساد للحياة والعالم[18]. وليس المقصود بالفساد الانحلال القيمي والخلقي، وإنما القابلية والأيلولة للانمحاء والانتهاء.

          فالولي، بما هو كائن إنساني، جزء من العالم والحياة، وبذلك فالولاية والحياة اسمان لشيء واحد وهو العالَم، لأن التصوف هو الصلاح، والصلاح هو الحياة. أما الموت فهو قرين الفساد والعدم، وهذا ما يُفسِّر دفاع الخطاب الصوفي عن الحياة والوجود، وتسخير الصوفية حياتهم لخدمة الناس عامة، ومن ذلك تعريض أنفسهم لمخاطر وأضرار مادية ومعنوية، من أجل تحقيق السعادة للغير، وتسهيل سبل الحياة لهم. والتصوف في هذا المقام يتسامى بالأخلاق، حيث يرفع من قيمة  الوجود الجماعي، ويسعى إلى تمتين حضور الآخر لدى الذات. بناء عليه، يصير قناة للتواصل تعلي من قيمة الإيثار والاعتناء بالآخرين. ولعل هذا الأمر يتبدَّى جليا حينما “يرفض” المجتمع، أو “ترفض” جماعة ما، موت ولي من أوليائها، لحظة جنازته بالتمسك بنعشه، والازدحام فيها، إلى غاية  موعد دفنه[19]، وبعد ذلك بالاستئناس بقبره والتبرك به والالتفاف حوله لسبب من الأسباب، ولغرض من الأغراض[20].

وهذا ما يجعل وليا من الأولياء الموتى يقوم بخدمة الأحياء، ويصير بذلك  من دوافع التضامن والتواصل. فإذا كان الموت حقيقة وجودية، تنقل الإنسان من عالم لآخر، فالولي يظل دائما ذلك الإنسان الخارق للعادة، وذلك الجزء الذي يتجزأ من العالم، الذي تأبى الجماعة أن يغادرها أو يغادر العالم، فيستمر وجوده في الفعل وكراماته في التحقق[21]. إن الولي إنسان يظلُّ في العالم، لأن العالم لا يكون خاليا من الولاية.

إن الولي حسب هذا التحليل، جزء من العالم، في حياته وفي مماته، لكونه صالحا يصلح به العالم، كيف لا وأن منظومته الفكرية، وقيمه وُظفت لخدمة الآخرين، فلا غرابة أن تدافع المدونات المنقبية عن كون الأولياء أوتاد الأرض، لا من الجانب الفلسفي الوجودي فقط، وإنما أيضا من جانب الفعل والعمل الاجتماعي والاقتصادي، حينما رعوا شؤون الناس، وسهلوا لهم شروط الحياة.

من جهة أخرى نجد أن مقولة الحب الصوفي تحمل في أحد أبعادها فلسفة انفتاح الإنسان الصوفي على محيطه، وفكرة خدمته لجماعته، فالحب على النحو الذي نستشفه من حياة الصوفية، ليس مجرد نظرية، وتجربة عرفانية وجدانية، إنه أيضا حركة اجتماعية توازي الحركة الوجودية الكونية، وإنه كذلك عنصر ناظم للعلاقات الاجتماعية. هكذا، يؤسس التصوف لحركية المجتمع المنشود، انطلاقا من قطبيته له، التي توافق حركة الوجود بكونها حركة حُبية عِشْقية. إن تحقيق هذه القيمة تمكن من القضاء على كثير من الرذائل، بتخلي الذات عن أنانيتها، وسياحتها في العالم، وانفتاحها على الآخر والمتعدد، فالحب ليس مجرد أحاسيس، إنما هو معرفة بالذات وبالعالم، وتعارف وتعامل معه، إنه ضابط للوجود والقيم، لكونه لا يتحقق إلا بالوجود وبالعالم، إنه لا يقبل الفراغ والعدم، انسجاما مع  مقولة كون الولاية هي سبب استمرار الحياة في العالم، لأنها وريثة النبوة[22].

والحاصل أن المدونات المنقبية تكشف عن الوجه العملي للتصورات الصوفية، بالكشف عن أشكال العلاقة القائمة بين الإنسان والعالم التي ترد في المدونات الصوفية النظرية، وهي علاقة تتميز بثنائية الانفصال والاتصال على غرار باقي الثنائيات التي أقامها الخطاب الصوفي.

الهوامش 

 

[1] انظر تاريخ الغرب الإسلامي، قراءات جديدة في بعض قضايا المجتمع والحضارة، ابراهيم القادري بوتشيش، دار الطليعة، بيروت، 1994: 114. الواقع والممكن في المناقب الصوفية، لمحمد مفتاح، ضمن التاريخ وأدب المناقب، منشورات الجمعية المغربية للبحث التاريخي، الرباط، 1989: 31. التاريخ وأدب المناقب من خلال مناقب أبي يعزى، أحمد التوفيق، ضمن المرجع السابق: 90. المتخيل والقدسي في التصوف الإسلامي، الحكاية والبركة، الميلودي شغموم، مكناس، 1991: 223. الكتابة والتجربة الصوفية، نموذج ابن عربي، منصف عبد الحق، منشورات عكاظ، الرباط، 1988: 411.

[2] الفتوحات المكية في معرفة الأسرار المالكية والملكية، ابن عربي، إعداد مكتب التحقيق بدار إحياء التراث الإسلامي، دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، د.ت: 2/147.

[3] انظر قصيدة النفس لابن سينا، يقول فيها:

 هبطت إليك من المكان الأرفع      ورقـاء ذات تعـزز   وتمـنع

 محجوبة عن كل مقامة عارف     وهي التي سفرت ولم تتبرقـع

 انظر عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن أبي أصيبعة، دراسة وتحقيق عامر النجار، دار المعارف، القاهرة، 1996  : 3/15ـ16. وقد عارضها ابن صفوان القيسي، بقصيدة أولها: “أهلا بمسراك المحب الموضع”، انظر الإحاطة في أخبار غرناطة، لسان الدين ابن الخطيب، تحقيق محمد عبد الله عنان، القاهرة، 1995 : 1/229.

[4]الأولياء حسب أبي الحسن المراكشي “مراقبون وقوع الأجل، والموت بين أعينهم لا يزول، هانت عليهم المصائب، لا يبالون بالدنيا أقبلت أم أدبرت، كأنهم في الدنيا عابر سبيل في كل نفس يتجهزون للرحيل”، المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف، عبد الحق البادسي، تحقيق سعيد أعراب، المطبعة الملكية، الرباط، 1414ـ1993: 22.

[5] تورد سعاد الحكيم في تعريفها للموت قول حاتم الصم: “من دخل في مذهبنا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موتا أبيض، وموتا أسود، وموت أحمر، وموت أخضر. فالأبيض : الجوع، والأسود: احتمال الأذى، والأحمر: مخالفة النفس، والأخضر: طرح الرقاع بعضها على بعض”، وترى الباحثة  أن ابن عربي لم يضف جديدا في هذا السياق. وهو التعريف نفسه  عند الجرجاني والكاشي. انظر المعجم الصوفي الحكمة في حدود الكلمة، سعاد الحكيم، دار دندرة، بيروت، 1981: 1030. ويقول ابن عجيبة: “قال أبو العباس المرسي رضي الله عنه: لا دخول على الله إلا من بابين، إما بالفناء الأكبر الذي هو الموت الطبيعي، أو بالفناء الأصغر الذي تعنيه الطائفة. وقال بعضهم: لا يدخل على الله حتى يموت أربع موتات الموت الأحمر، وهو مخالفة النفس والموت الأسود وهو احتمال الأذى من الخلق والموت الأبيض، وهو الجوع، والموت الأخضر، وهو لبس المرقعات”، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، أحمد ابن عجيبة، ضبطه وصححه  خليل المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417ـ1996: 327. ومن مجازية الموت ما قاله ابن سيد بونة لشيخه أبي مدين الغوث: “أنا بين يديك كمثل الميت بين يدي غاسله”، انظر كتاب في التصوف، محمد ابن الحجاج الطباق، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط، رقم 556 ك: 28.

[6] يقول الجرجاني: “الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة، الخروج عن رق الكائنات  وقطع العلائق والأغيار”،  التعريفات، الشريف علي بن محمد الجرجاني، مكتبة لبنان، بيروت، 1978: 86. والغزالي: “الحرية إقامة حقوق العبودية فتكون لله عبدا وعند غيره حرا”، إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، مكتبة مصر، 1998: 5/23.

[7] لم تكتفِ المدونات الصوفية بذكر كرامات الأولياء، وخرقهم للعوائد من مشي على الماء وطيران في الهواء، بل مهدت لذلك بالحديث عن ثبوتية الكرامات، انظر على سبيل المثال التشوف: 54ـ81. المقصد الشريف: 39ـ42.

[8] تنقسم الغربة عند الهروي إلى: الغربة عن الأوطان، غربة  الحال، غربة الهمة، فالأولى غربة عامة الناس، والثانية غربة الخاصة، والثالثة غربة العارفين، انظر منازل السائرين، عبد الله الأنصاري الهروي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1408ـ1988: 108. لقد استلهم ابن الخطيب أفكار الهروي قائلا: “فغربة العارف غربة الغربة، لأنه غريب الدنيا وغريب الآخرة”، روضة التعريف بالحب الشريف، ابن الخطيب السلماني، تحقيق محمد الكتاني، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1970: 2/483.

[9] يصف أبو الحسن المراكشي الطبقة الثالثة من الأولياء قائلا: “[…] ثم يخرج من العمارة حتى يصير كالوحش لا يأوي إليه أحد، فيقع في بحر التوكل على الله تعالى، فيأكل من نبات الأرض، ويركن إليه الوحش”، انظر المقصد الشريف: 24.

[10] المقصد الشريف: 26ـ27 ، يقول أبو مدين الغوث: “من علامات صدق المريد في إرادته، فراره عن الخلق، ومن علامات صدق فراره عن الخلق، وجوده للحق، ومن علامات صدق وجوده للحق، رجوعه للخلق”، انظر المستفاد في مناقب العباد بفاس ما يليها من البلاد، محمد التميمي الفاسي، تحقيق محمد الشريف، منشورات كلية الآداب بتطوان، 2002: 2/42.

[11] المقصد الشريف: 23.

[12] التشوف إلى رجال التصوف، ابن الزيات التادلي، تحقيق أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب بالرباط، 1404ـ 1984 : 216ـ 217، انظر أيضا المدونات التي ألفت عن شخصية الولي أبي يعزى يلنور:  دعامة اليقين في زعامة المتقين، لأبي  العباس أحمد العزفي، والمعزى في مناقب أبي يعزى، للصومعي التادلي.

[13] انظر على سبيل المثال ما ورد عن  ابن عاشر؛ فقد كان “معروفا بالكرامات الخارقة للعادات مقدما في صدور الزهاد منقطعا عن الدنيا وأهلها ولو كانوا من صالحي العباد ملازما للقبور من الخلاء المتصل ببحر سلا منفردا عن الخلق قاصدا حراسة المسلمين”، النجم الثاقب فيما لأولياء الله من مفاخر المناقب، ابن صعد التلمساني، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط، رقم 1910د: 120. ولقيه لسان الدين ابن الخطيب “قاعدا بين القبور في الخلاء”، نفاضة الجراب في علالة الاغتراب، لسان الدين بن الخطيب، نشر وتعليق أحمد المختار العبادي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، 1985: 2/379. وكان أبو يعقوب البادسي بدوره ملازما للقبور حتى ليلا، وله في ذلك كرامات، مناقب أبي يعقوب الزهيلي البادسي، عبد الله الأوربي،  ضمن “حرب الريف التحريرية ومراحل النضال”، أحمد البوعياشي، طنجة، د.ت : 1/339.

[14] يقول أبو الحسن المراكشي: “والموت بين أعينهم لا يزول”، المقصد الشريف: 22. أما الطباق فيقول: “ويحتاج المريد في [سلوكه] على نفسه ميزانين: ميزان الأعمال وميزان الأحوال، فميزان الأعمال هو العلم، فلا يقدر على تحمل إلا بعلم صحيح، وميزان الأحوال أن يجعل الموت بين عينيه”، كتاب في التصوف: 298.

[15] انظر ما قيل عن كرامات أبي العباس السبتي في أنس الفقير وعز الحقير، ابن قنفذ القسنطيني، نشر محمد الفاسي وأدولف فور، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 1965: 6ـ7.

[16] لقد كان ابن الخطيب في حاجة إلى رمز يتسم بالشمولية، وفق تصور منهجي محكم التنسيق والبناء، لأهداف سياسية وتربوية، من ذلك تحقيق الكمال، يقول محمد الكتاني، بخصوص منزع ابن الخطيب هذا: “المنهج المطلوب في إعطاء المحبة أو الحب الإلهي الصورة التي تنتظم الكون كله وهذا ما جعل ابن الخطيب يختار رمز الشجرة، لهذا الحب الإلاهي”، انظر: الحب الإلهي في التراث الأندلسي، محمد الكتاني، ضمن التراث الحضاري المشترك بين المغرب وإسبانيا، أعمال أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 1993: 196ـ197.

[17] استنزال اللطف الموجود في أسر الوجود، لسان الدين ابن الخطيب، تحقيق عبد الرحيم علمي، المناهل، ع. 53، شعبان 1417ـ دجنبر1996: 277.

[18] كثيرا ما تستشهد المدونات الصوفية بحديث رواه ابن مسعود: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال أربعون رجلا من أمتي قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام، يدفع الله بهم عن أهل الأرض البلاء يقال لهم الأبدال، لم يدركوا ذلك بصلاة ولا بصيام ولا صدقة. قال يا رسول الله فبم أدركوها؟ قال بسخاوة النفس والنصيحة للمسلمين”، انظر إثمد العينين في مناقب الأخوين، ابن تيجيلات، تحقيق محمد رابطة الدين، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ، كلية الآداب بالرباط، 1985ـ1986 (مرقون): 2/270، ويرد بصيغة مختلفة في التشوف إلى رجال التصوف: 45. وفي السياق ذاته يقول ابن تيجيلات: “ولولا العلماء لصار الناس ثل البهائم لا يعلمون شيئا. ولولا الأولياء لخربت الدنيا والأرض والسماء”، إثمد العينين: 2/334.

[19] الشيء نفسه نجده في جنازة أبي محمد بن عبد الله الهسكوري المغربي (-710هـ)؛ فقد “شهده عالم كثير من الناس ولما خرج نعشه ازدحم الناس عليه حتى صار النعش في أكفهم إلى أن وصل إلى قبره”: معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، ابن الدباغ الأنصاري القيرواني، وابن ناجي التنوخي، المطبعة الرسمية، تونس، 1320هـ: 4/101. وفي هذا الصدد، نجد في البستان، بخصوص جنازة  الولي يوسف بن عمر الأنفاسي،  (-761هـ)، ما يلي: “وصلى عليه عقب صلاة الجمعة وحمل ولم يبلغ قبره من كثرة الازدحام عليه إلا قرب غروب الشمس”: البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان، ابن مريم، نشر بعناية ابن أبي شنب، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د.ت: 298. وأما الرماح (-749هـ) فقد صلى عليه جمع عظيم”: معالم الإيمان: 4/120. وينطبق الأمر نفسه على ابن الحلفاوي،  فقد “كان الحفل في جنازته عظيما، استوعب الناس كافة، وحضر السلطان ، فمن دونه”، الإحاطة: 3/173، و كذلك أحمد الدقاق (-748هـ) الذي “ازدحم الناس على قبره، وقطعوا الحصير الذي حمل عليه تبركا به”، اختصار الأخبار عما كان بثغر سبتة من سنيّ الآثار، محمد الأنصاري السبتي، تحقيق عبد الوهاب ابن المنصور، الرباط، 1983: 16.

[20] يقول ابن قنفذ بعد وصف قبر أبي مدين الغوث بالعباد: “ومن الفقراء من بيت هنالك، وتحت هذا البيت وبجواره قبور كثيرة متزاحمة لالتماس بركة الشيخ أبي مدين رضي الله عنه، وزاويته قريبة منه. ولها أوقاف يجري من ذلك على المنقطعين للعبادة وبجواره جامع للخطبة ومدرسة للعلم، والعباد منظر شريف وبقعة مباركة وطئها الصالحون وسكنها المتعبدون”، أنس الفقير: 106.

[21] يقول ابن قنفذ القسنطيني:  “فإن قلت هل تنقطع الكرامة بموت صاحبها  أم لا؟ قلنا: لا تنقطع بموته، بل تظهر. فكثير من لا يعرف من لا يعرف في الحياة تشتهر بركاته بعد الممات، وتلوح عند قبره البركات. ولقد حضرت عند ولي الله تعالى على التحقيق وهو الشيخ الزاهد الورع الصالح أبو العباس أحمد ابن عاشر الأندلسي بمدينة سلا في عام ثلاثة وستين وسبعمائة. سأله أحد الفقراء عن هذا الفضل، فأنكر عليه سؤاله وقال: “لا تنقطع الكرامة بالموت؛ انظر إلى السبتي!” ويشير إلى الشيخ الفقيه العالم المحقق أبي العباس السبتي المدفون بمراكش وما ظهرت عند قبره من البركات في قضاء الحاجات بعقب الصدقات”، أنس الفقير: 6ـ7. ويعلق ابن قنفذ على ذلك قائلا: “فأعجبتني إشارة ابن عاشر بهذا المعنى أعني أن الكرامة لا تنقطع بالموت”، أنس الفقير: 9. ويؤكد مرة أخرى: ” فأنت ترى من هذه صفته [يقصد ابن عاشر] يصرح  أن الكرامة لا تنقطع بالموت، ويحيل على من هو معاين في السبتي رحمه الله”، أنس الفقير: 10.

[22] يقول ابن الخطيب: “فقد يرث ولي من الأولياء آدم أو إدريس أو إدريس أو إسحاق أو إسماعيل أو موسى أو يوسف أو عيسى، لكن لا يتوصل إلى نوره ولا حاله من محمد صلوات الله وسلامه عليه إلا القطب”، روضة التعريف بالحب الشريف: 2/509. وفي السياق ذاته يقول ابن عربي: “فأكمل الأقطاب المحمدي وكل من نزل عنه فعلى قدر من يورث فمنهم عيسويون وموسويون وإبراهيميون ويوسفيون ونوحيون، وكل قطب ينزل على حد من ورثة الأنبياء، والكل في مشكاة محمد عليه السلام الأمر الجامع للكل”، انظر: منزل القطب، ابن عربي، ضمن رسائل ابن عربي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت: 6.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!