عقلاءُ المجانين بجبل لبنان
بقلم: خالد محمد عبده
ينبهنا إلى سير المتصوفين المسلمين في جبل لبنان المقدّس الأب ميشال الحايك،وهو أحد الدارسين العرب المهتمين بالجدل الإسلامي المسيحي، وقد خصص في وقت سابق جزءًا من دراساته لمناقشة كتابات عمّار البصري، المؤلف المسيحي الذي عاش في القرن الثاني الهجري، وكتب (البرهان) و(المسائل والأجوبة) ([1]) وهما نصّان من أهم النصوص الجدلية في التراث المسيحي العربي، نظرًا لتمثيلهما للقرن الثاني الهجري الذي شهد ازدهارًا وانفتاحًا كبيرًا في هذا اللون من الدراسات، وبخاصة من المعتزلة، وقد حفظ لنا البصري في كتابيه نصوصًا جدلية إسلامية لا تزال أصولها مفقودة حتى اليوم. ومن جملة دراسات الأب ميشال ما كتبه عن (المسيح في الإسلام) ([2]) ورغم كتابته لهذا الكتاب في وقت مبكر من رحلته العلمية إلاّ أن الطبعة الأخيرة للكتاب نالت شهرة وذيوعًا بسبب تأليف محمد عمارة كتابًا للرد على ما طرحه الأب ونشره مع مجلة الأزهر([3]) التي تصدر شهريًا في مصر، ويظل نصّ الأب دليلاً على حسن مطالعته للتراث الصوفي، وامتدادًا للاهتمام المسيحي بما ورد عن المسيح في الإسلام، وفي كتب المتصوفة بشكل خاص، ويمكن أن يقارن الباحث المهتم بين جهد الحايك وما ألّفه زويمر عن (مقام المسيح المكين في إحياء علوم الدين) ([4]).
نشر العلامة الأنطاكي مقاله عن أولياء جبل لبنان بعنوان (جبل لبنان الجبل المقدس عند المسلمين) ([5])وقد وصفه في خلاصة مركزة بقوله: (جبل لبنان هو الموعد الروحي لجميع الأولياء من المسيحية والاسلام، يتآخون فيه “بينما اهل الحرب منشغلون في حربهم”، من حولهم).
لم يكن مقال الأب ميشال هو المقال الأول عن جبل لبنان بل سبقه إلى التنبيه والرحلة إلى هذا المكان مصطفى البكري الصديقي [1099ه-1162 ه، 1687-1748] وقد نبّه على أهمية هذا المكان عند الصوفية قائلا: (اعلم أيها الأخ الواقف على هذه المواقف أن هذا الجبل المعظّم المبجّل المقصود بالزيارة، جبلٌ مباركٌ له خواص عند الخواص أهل الإشارة، إذ من المعلوم، لدى أرباب الفهوم والاختصاص، إن الله تعالى اختص بعض الأمكنة والأزمنة والأشخاص، وقد طرق السمع، من أهل المعرفة والسمع، أن لهذا الجبل، الذي ينفي الخبل، حالاً ظاهر الرجحان، وإنسًا باهر الميزان، وأن كل من حوله ممن له قدم في الولاية يأتيه زائرا ولو بالروحانية وهذه على فضيلته آية) ([6]).
ربما جسّدت هذه الإشارة من طرف مسيحي وآخر مسلم نوعًا من اللقاء المشترك بينهما، وربما كان في إعادة يوحنا صادر نشر سير المتصوفين([7]) في كتابه تذكيرًا بهذا اللقاء، وقد أحسن بذكر أخبار جملة من الأولياء والصالحين الذين جاوروا هذه البقعة من بحر الشام، وقد حفّزنا على جمع أخبارهم لنذكّر بها القارئ الذي يشهد كل يوم صراعًا واقتتالا. ونأتي في هذه المقالة على ذكر خبر شيبان المصاب.
لا يعطينا ابن الجوزي تفصيلاً لحياة شيبان الموله أو المصاب، ويكتفي بذكر اسمه ضمن عقلاء مجانين جبل لبنان، فلم يذكر منشئه ولا صفة أحواله وأفعاله كما فعل مع الحسن البصري([8])، لكننا من خلال الرواية التي يذكرها ربما نستطيع أن نتعرف على ملامح هذه الشخصية من القول المنسوب فيها لذي النون المصري الذي رحل إلى هذا المكان وانعقدت بينه وبين أحدهم أخوة روحية صار فيما بعد يُعرف بـ(أخي ذي النون).
يصف ذو النون المصري شيبان على النحو الآتي: (رأيت رجلاً أبيض الرأس واللحية، أشعث أغبر نحيفًا نحيلاً كأنما أخرج من قبره ذا منظر مهول) وهي أوصاف تصدق على كثيرين من أهل التبتل والعزلة، ويحسن بنا ذكر الخبر من صفة الصفوة حتى نتعرّف على حكمة هذا العاقل الذي نقذفه بالحجارة في عصرنا.
نصّ الرواية: (عن محمد بن أحمد بن سلمة قال: حدثني سالم قال: بينا أنا سائرٌ مع ذي النون في جبل لبنان إذ قال لي: مكانك يا سالم حتى أعود إليك. فغاب عني في الجبل ثلاثة أيام وأنا أنتظره ! إذا هاجت علي النفس أطعمتها من نبات الأرض وسقيتها من ماء الغدران. فلما كان بعد الثالث رجع إليّ متغير اللون ذاهب العقل؛ فقلت له بعد أن رجعت إليه نفسه: يا أبا الفيض أسبعٌ عارضك؟ فقال: لا . دعني من تخويف البشرية، إني دخلت كهفًا من كهوف هذا الجبل فرأيت رجلا أبيض الرأس واللحية أشعث أغبر نحيفا نحيلا كأنما أخرج من قبره، ذا منظر مهولٍ وهو يصلّي. فسلّمت عليه بعد ما سلّم ، فرد علي السلام وقام إلى الصلاة فما زال راكعًا و ساجدًا حتى صلى العصر واستند إلى حجر حذاء المحراب يسبّح، لا يكلمني.
فبدأته بالكلام فقلت له: رحمك الله توصيني بشيء. ادع الله عزّ وجلّ لي بدعوة! فقال: يا بني آنسك الله تعالى بقربه. ثم سكت. فقلتُ: زدني. فقال: يا بني من آنسه الله بقربه أعطاه أربع خصال: عزًّا من غير عشيرة، وعلمًا من غير طلب، وغنى من غيرِ مال، وأنسًا من غير جماعة. ثم شهق شهقة فلم يفق إلا بعد ثلاثة أيام حتى توهمت أنه ميت. فلما كان بعد ثلاثة أيام قام فتوضأ من عين ماء إلى جنب الكهف، وقال لي: يا بني كم فاتني من الفرائض صلاة أو صلاتان أو ثلاث قلتُ: قد فاتتك صلاة ثلاثة أيام بلياليهن. فقال: إن ذِكر الحبيبِ هيّج شوقي .. ثم حبُّ الحبيب أذهب عقلي.
وقد استوحشت من ملاقاة المخلوقين، وقد أنست بذكر رب العالمين، انصرف عني بسلام. فقلت له: يرحمك الله وقفتُ عليك ثلاثة أيام رجاء الزيادة، وبكيت. فقال: أحبب مولاك ولا ترد بحبِّه بدلاً. فالمحبون لله تعالى هم تيجان العباد وعلم الزهاد وهُم أصفياء الله وأحباؤه. ثم صرخ صرخة فحركته فإذا هو قد فارق الدنيا. فما كان إلا هنية وإذا بجماعة من العباد منحدرين من الجبل حتى واروه تحت التراب. فسألت ما اسم هذا الشيخ؟ قالوا: شيبان المصاب. قال سالم: فسألت أهل الشام عنه. فقالوا: كان مجنونًا خرج من أذى الصبيان. قلت: تعرفون من كلامه شيئًا؟ قالوا: نعم. كلمة واحدة، كان يغني بها إذا ضجر: إذا بِك لم أُجنُّ يا حبيبي فبمن؟! قال سالم: فقلت عُمي والله عليكم) ([9]).
المصدر: (ذوات: شهر مارس)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1): كتاب البرهان ، وكتاب المسائل والأجوبة ، حقّقه وقدّم له ميشال الحايك، ونُشر بيروت ، 1977.
(2): نشرت دار المشرق كتاب “المسيح في الاسلام” لميشال الحايك عام 1961، وفي عام 2004 أصدرت دار النهار الكتاب في طبعة ثانية.
(3): نشر الدكتور محمد عمارة كتابه مع مجلة الأزهر 2010.
(4): نُشر كتاب زويمر في مطبعة النيل المسيحية بالقاهرة 1921 وراجع عن زويمر كتاب حمد إبراهيم عبد الله “صموئيل زويمر لقاء المسيحية والإسلام 1867 – 1952″الصادر في البحرين عام 2011.
(4): أصل المقال نُشر في مجلة اللقاء بلنان عام 1988، عدد 4، وأعاد موقع طواسين نشره على هذا الرابط ضمن أرشيف التصوف يمكن مطالعتها من هــــنا .
(6): راجع مقال الأستاذ أحمد سامح الخالدي، في مجلة الرسالة العدد 798، 18 أكتوبر 1948، ص 1185.
(7): صدر كتاب (سير المتصوفين المسلمين في جبل لبنان) ليوحنا صادر، في دار صادر ببيروت عام 2004، ورغم إحالته على مقالة الأب ميشال حايك التي سبقت هذا الإصدار بما يقارب الثلاثين عامًا إلا أن كتابه يمكن اعتباره نسخة موسّعة من مقال الحايك ليس أكثر! بل إن مقالة الحايك أفضل في تقديمها نبذة جيدة عن مكانة جبل لبنان وهو ما لا نعثر عليه عند صادر، كذلك فإن مقالته تتحلى بآداب البحث العلمي في الإحالة والتوثيق أكثر من الكتاب، على سبيل المثال ونحن بصدد الحديث عن شيبان في حاشية رقم 38 يذكر الحايك أن الخبر المتعلق بشيبان والوارد عند لسان الدين الخطيب “روضة التعريف بالحب الشريف”، تحقيق عبد القادر احمد عطا، بيروت 1968، ص 681 -682 ، دلّه عليه صديقه صبحي حبشي، يحيل صادر على نفس الطبعة دون أن يذكر أنه نقل عن الحايك، ودون أن يذكر بيانات هذه الطبعة رغم رجوعه إلى هذا المصدر للمرة الأولى في كتابه الذي يصف عمله فيه بالتحقيق.
(6): راجع آداب الحسن البصري وزهده ومواعظه، لابن الجوزي، نشرة دار الصديق، بيروت،2005.
(9): يذكر هذا الخبر لسان الدين الخطيب في الطبعة المشار إليها (هامش7) باختلاف طفيف، وترد أيضًا في تاريخ مدينة دمشق وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأماثل، لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله الشافعي، نشرة دار الفكر، بيروت1995،مج 20 ص93، وتتكرر في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، لابن الجوزي، دون أية تفاصيل أخرى عن المذكور.