حاجتنا إلى التصوف و ضرورة التجديد العرفاني
محمد التهامي الحراق
ما الذي يمكن لأهل التصوف أن يسعفوا به المسلمين اليوم للخروج من مأزقهم التاريخي الراهن؟ كيف يمكنهم أن يتدخلوا و يستثمروا مخزونهم من التجارب الروحية والإرث العرفاني، مذاقاتٍ وجديةً وطرقاً تربويةً وتراثاً مكتوباً وحضوراً معمارياً وتقاليدَ تعليمية واجتماعية وقيما أخلاقية؛ وذلك من أجل نفخ الحياة في الروحانية الإسلامية التي بدأ يلحق حضورَها التصلبُ والتكلس والجفاف من جراء آفتي التسييس والتطقيس اللتين تحاصران تدين المسلمين اليوم؟ هل ثمة وعي برهانات اللحظة التاريخية باعتباره شرط كل تدخل فاعل قادر على الإسهام في التغيير من منظور إصلاحي عرفاني؟ و هل ثمة رؤى مؤهلة لاستلهام الإرث المذكور واستشفاف اللحظة واستشراف أفق روحي أوسع و أرحب؟
لنسجل بداية أن الاحتياج قائم للمنظور العرفاني كيما يسهم أهله في انتشال الإنسان من سجون الرتابة وغول الاستهلاك ومظاهر الاختناق المادي التي تحاصره، و كذا من طوفان الانفتاح غير المرشد الذي صار يوقع الإنسانَ، أحايينَ كثيرة، في تيهان بلا أفق، ومسار بلا بوصلة، وعجز فادح عن إنتاج الأمل، مما يفضي إلى نضوب كل دواعي الشغف في الحياة؛ أي نضوب المعنى الذي من شأنه أن يمنح جدوائية وجودية للفعل الإنساني هنا والآن. مثل هذا الوضع، والذي يتخذ ميسما كونيا، يستدعي الإرثَ العرفاني الروحاني الإسلامي ليقول كلمته في هذا الواقع المضطرب رمزيا و المرتبك روحيا؛ خصوصا أن هذا الواقع تشترك فيه البشريةُ جمعاء، سواء منها تلك التي ظنت بأنها صفت حسابها مع “الإرث الديني” باسم الحداثة وقيمها التنويرية، و التي كان من آفاتها التاريخية تهميشُ الروح و توثين العقل ومتاخمة الجنون في العبث بمصير الإنسان من خلال الحروب، و كذا الشطط الاقتصادي، وتكريس الفوارق بين الفئات والأعراف والمجتمعات، وتأليه الربح والاستهلاك، وإهدار الاختلاف وتجفيف المعنى المغذي لإنسانية الإنسان؛ أو ذاك الجزء من البشرية الذي ظل يتخبط و يتمزق بين أشكال التدين الموروثة ومقتضيات الحداثة التي صارت قدرا كونيا؛ خصوصا في المرحلة العولمية التي انهارت خلالها الحدود بين الثقافات والذاكرات والأديان واللغات، مما أطلق عنان السؤال في مختلف الاتجاهات، و صدَّعَ كل السياجات التي كان يضربها حراس الأنظمة الاعتقادية والتيولوجية على أنظمتهم في مختلف الأديان، الأمر الذي مس من قدسية كثير من مُسَلَّمات تلك الأنظمةِ وألقى بها في حلبة الارتباك والارتياب؛ بل جعلها مهدَّدةً بالتفكك و الانحلال ما لم تجدد من حضورها وتعد من صياغة منظومتها بما يستوعب هذا الانقلاب الأنطولوجي الذي عرفت البشرية.
كلا الجناحين، إذن، طاله الإرباك، وكلاهما أضحى يأمل في حضور جديد للدين؛ فالجناح الأوّل أدرك وهمية دعوى تصفية الدين من حياة الإنسان لاحتياج هذا الأخير للمعنى المغذي لظمئه الروحي، ومن ثم صار يأمل في حضور ديني مسهم في هذه التغذية الروحية الحتمية، فيما يأمل الجناح الثاني في حضور جديد للدين يصالحه مع القيم الإيجابية للحداثة بما هي قدر كوني لا مناص منه. ثم إن كلا الجناحين أيضا مشتركان في الاحتياج لقراءة روحية جديدة للدين؛ قراءة تتجاوز، من جهة، ما من أجله حاولت الحداثة “طرد الآلهة من المدينة”، أي تجاوز مآزق التحجير على عقل الإنسان، وممارسةِ الاستبداد باسم المطلق، والزجِ بالإنسان في حروب دموية فتاكة باسم الحقيقة المتعالية، وهي المآزق التي يكابد ويعاني منها الجناح الثاني اليوم؛ مثلما تتجاوز تلك القراءة الروحية الجديدة، من جهة ثانية، كل العوائق التي قد تحول دون توفير الخطاب الديني للتغذية الروحية الضرورية للإنسان المعاصر، ودون الاستجابة لاحتياجه للمعنى بما يفتح له آفاقَ الأمل في التآزر والخلاص والسعادة والتعايش بسلام مع الذات والآخر والطبيعة والمصير.
ضمن هذا الأفق تتوجه الأبصار والبصائر إلى منابع الروحانية في كل الأديان والثقافات، لمساءلة قدرتها على الاستجابة لمثل هذا الاحتياج. فهل يعي أهل التصوف الإسلامي اليوم هذا الأمر؟ وما هي إجاباتهم المقترحة لإنقاذ الجناحين من سوء حضور تدين يهدده التسييس بالتحول إلى وحش دموي كاسر، و يهدده التطقيس بالتحول إلى جثة هامدة لا روح فيها ولا حياة؟
علينا هنا أن نكون صرحاء إلى أبعد حدّ، ليس صراحة أخلاقية فحسب؛ بل صراحة معرفية مسؤولة تستفز كل اطمئنان واهم بأن ثمة حلا جاهزا أو جوابا ناجزا ينتظر منا فقط التقاطه وإماطة اللثام عن حقيقته. إن التصوف بمختلف مظاهره الإسلامية، وخصوصا بمظهره التنظيمي الطرقي، يتعرض اليوم لغزو الآفتين اللتين يُطلب منه الإسهامُ في الإنقاذ منهما؛ أعني آفتي التسييس والتطقيس. وتبرز آفة التسييس، أساسا، في بعض المقاربات السياسوية والحداثوية التي لا تلتفت إلى التصوف ضمن الأفق الروحي الكوني المشار إليه آنفا، وإنما من أجل الزج بتنظيماته الطرقية في أتون الصراع الإيديولوجي المتأجج مع الإسلام المتشدد بمختلف أشكاله العلمية والحركية والتكفيرية الجهادية، وهو ما جعل جل تلك التنظيمات الطرقية، التي وصلت بحكم أسباب تاريخية واجتماعية وثقافية عديدة إلى وضعية طلليةٍ صارت معها محدودة الحضور مشلولة الفعل؛ جعلها تجد في هذا الالتفاتِ فرصة ليس لإحياء دورها وتجديده ضمن الرهانات الروحية الكونية الراهنة، بل فرصة للانتفاع المادي والحظوظي فقط، الأمر الذي يظهر في استجابة جل الزوايا لهذا الالتفات عبر استدعاء الطقوس الموروثة للممارسة الصوفية الطرقية، بدل إحياء وتجديد البعد التربوي والعلمي والتأطيري الروحي لهذه التنظيمات، والذي من أجله يجب أن يلتفتَ إليها الملتفتون.
وهنا نصل إلى الآفة الثانية التي طالت هذه الممارسة الصوفية في جل الزوايا، أعني آفة التطقيس؛ ذلك أن الإهمال قد طال هذه المؤسسات الروحية لمدى غير قصير من الزمن، حيث تمت محاربتها، في المغرب مثلا، قبيل الاستقلال وبعيده، وعملت السلفية الوطنية على محاصرة الأدوار الاجتماعية و التأطيرية لهذه المؤسسات لصالح مؤسسات عصرية بديلة ستتبلور في أحزاب، وهو ما تم في إطار صراعي تنافسي رام تقزيم دور الزوايا دينيا باسم “البدعة” و”الضلالة” و “المروق عن الشرع”، وسياسيا باسم “العمالة” و”الخيانة” و”التواطؤ مع المستعمِر”، و انتعش على المستوى الفكري، لاحقا، بمعجم المرجعية اليسارية التقدمية باتجاهيها القومي والاشتراكي، و هو المعجم الذي وصم الزوايا بـ”تكريس الرجعية” و”نشر الخرافة” و “إعاقة التقدم”. وقد كان من نتائج هذه المحاصرة الدينية والسياسية و الفكرية، والمتضافرة مع عدة تحولات تاريخية و اجتماعية، أن انكمشت الزوايا على نفسها، وتراجعت أدوارها؛ بل انقرض حضور بعضها، فيما استمر جلُّ البعض الآخر في امتداد شعائري طقوسي، غاب عنه الوهج الروحي والعلمي والتربوي، مثلما غاب عنه الفعل الاجتماعي والسياسي.
في ضوء هذا الاقتراب، نرى أن أوّل ما يجب القيام به لتأهيل التصوف اليوم للإسهام في الإجابة عن الاحتياج الإنساني الكوني الراهن لروحنة و تجسير العلاقة بين المتعالي وقيم الحداثة الكونية، هو عدم اختزال التصوف في الطرقية من جهة، ثم تحرير الممارسة المنتسبة للمرجعية الصوفية من آفتي التسييس و التطقيس من جهة ثانية؛ وهما الآفتان اللتان تطوقان تدين المسلمين اليوم في أشكاله المختلفة. كما يقتضي التأهيل المذكور من أهل العرفان تجديد قراءة موروثهم لاستشفاف روحه المتعالية السارية في ذاك الإرث الباذخ، وإعادة صياغتها وطرحها في “كشوفات” و”فتوح” و”مذاقات” تلائم تلك الروح من جهة التعالي، وتستجيب للراهن على مستويي المعقولية الحداثية واحتياجها للمعنى. من هنا مثلا، لا تغدو كرامات “المشي على الماء” أو “الطيران في الهواء” أو استماع الهواتف” من الأمكنة البعيدة والأزمنه القاصية … إلخ، كراماتٍ مثيرةً لدهشة أهل الزمان، أو مغذية لآمالهم و منعشة لمواجيدهم؛ ذلك أن هذه الكرامات قد خطفَ و بدّد أثرَها التطورُ التكنولوجي، بل جعلها حقائق تعاش، ليس فقط بسلاسة بلا غرابة، بل بسلاسة فائقة الرتابة، مما جعل الكرامة “الخالدة”، كما فطن لذلك جم من العرفانيين، هي الاستقامة، حيث اعتبروا “الاستقامة أعظم كرامة”. الأمر الذي يستدعي من عرفانيي زماننا أن يجتهدوا في تجديد قيم هذه الاستقامة من منظور يراعي “الوقت” و احتياجات أهله، و يعمل على تثمير حضور تلك القيم بما يجيب عن رهانات الإنسان هنا و الآن؛ إذ كيف يمكن، مثلا، تمنيع الإنسان اليوم حيال مختلف الانحرافات التي توقع به في الأنانية المفرطة، وفي اعتناق ديانة الاستهلاك، وتأليه الربح، والجنون المادي الذي لا حدود له ؟؟… وكيف يمكن إبداع معنى، من داخل التعالي، متجسدٍ في نماذج تقدح و تحرك في الإنسان قوة التحدي ليكون فوق الإكراهات، ويتغلب على نوازع العنف والشر والشره والتسلط فيه؛ إنسان يعظِّم الإله المطلق في ذاته وفي خلقه، في ماضيه وحاضره ومستقبله؛ إنسان ينشد قيم التعايش مع المختِلف كيفما كان، لأنه في البدء والختام نفخة إلهية، قال له الإلهُ سبحانهُ كن فكان!