“دائرة المعارف الإسلامية” .. أو سر المنزل رقم 14 !
بقلم: معتز شكري
توطئة : موسوعاتهم وموسوعاتنا !
لأنني مهتم بالبحوث اليهودية ، طالعت بقدر كبير من الانبهار الموقع الإليكتروني الخاص بدائرة المعارف اليهودية – أضخم وأكمل موسوعة يهودية في العالم – وهي المسماة بالجودايكا ( Encyclopedia Judaica) وباغتني سؤال له ألم السوط : هل قدر علينا أن نكون نحن فقط أمة الأعمال الناقصة والإنجازات العلمية غير المكتملة ؟ .. وقبل أن يبادر أحدكم فينفي أن نكون فريسة لمركب نقص يصور لنا ذلك قدرا محتوما لطبيعة فينا من دون الأمم الأخرى ، أبادر أنا فأحكي لكم شيئين ، أولا نبذة سريعة عن الجودايكا هذه ، وثانيا قصة موسوعة “إسلامية” – أكرر “إسلامية” ! – عكف عليها آخرون ليسوا من ديننا ولا من لغتنا فأنجزوها في عشرات الآلاف من الصفحات عن كل صغيرة وكبيرة في حياتنا وديننا وتاريخنا وجغرافيتنا وأدبنا وأعلامنا ، إلخ ، مع صور وخرائط ورسوم وجداول ووثائق وملاحق ، وأخفقنا نحن في مجرد “مواصلة” ترجمة دقيقة كاملة لها إلى اللغة العربية !
ولدت فكرتها في منزل بشارع حسن الأكبر، بحي عابدين العريق بالقاهرة
أولاً ، الجودايكا استغرق العمل فيها 35 سنة ( هل نطيق نحن مثل ذلك النفس الطويل في الأعمال الثقافية ؟!) وقطعت الحرب العالمية الثانية العمل فيها الذي كان قد بدأ في 1928 وأثمر عن عشرة مجلدات ، فلم ييأس القائمون عليها ، وواصلوا العمل الدؤوب بعد الحرب ، برياسة اثنين من رؤساء التحرير للموسوعة ومشاركة خمسين محررا موزعين على أقسام للموضوعات المختلفة تراعي تخصصاتهم الدقيقة ، وهؤلاء هم “المحررون” النهائيون ، فأما كتابة المداخل الأصلية التي تتشكل منها بحوث الموسوعة فتولاها أكثر من 1200 عالم وباحث حشدتهم هيئة الموسوعة فكتبوا أكثر من 21 ألف مادة في مختلف الشئون والتخصصات اليهودية !
وفي عام 1972 ، صدرت الطبعة الثانية من الموسوعة ، ثم صدرت منها طبعة جديدة هي المتاحة حاليا للبيع في 22 مجلدا وتتضمن إضافات وتحديثات بلغت 2600 مدخل جديد حتى آخر التطورات والأحداث التي تخدم الباحثين!
أما ثانيا – أعزائي القراء – فهو هذا المقال الطويل الذي يقص فيه كاتب هذه السطور تجربته مع مشروع كبير نجح في مرحلته الفردية رغم المعاناة وضيق ذات اليد لمجموعة من مناضلي العلم والثقافة لم يكن لهم سند سوى حب العلم ، وجاء مخيبا للآمال عندما توفرت له المؤسسات الثرية وأموال الخليج !
وهنا نلمس السر العجيب في أمتنا هذه التي تثمر فيها – بعكس الدنيا كلها – الجهود الفردية وتخفق فيها الجهود المؤسسية ، وكأن الأمل الوحيد لنا فيما يبدو هو مشروع أو اثنان كل قرن من تلك التي تفني أعمار أصحابها وصحتهم ومالهم (الدكتور المسيري رحمه الله نموذجا).
سر المنزل رقم 14 !
معظمنا يتذكر الفيلم العربي البوليسي ( سر المنزل رقم 13 ) ، أما أنا فأحكي لكم سر المنزل رقم 14 ، وهو هنا ليس عنوانا بوليسيا ولكنه يصلح بمنتهى الجدية لأن نضعه عنوانا لنجاح المشروع الفردي – بعيدا عن العمل المؤسسي – للطبعة العربية الأولى من (دائرة المعارف الإسلامية) والمترجمة عن الأصل الأجنبي The Encyclopedia of Islam ، والتي مر على بداية العمل فيها ( عام 1933) قرابة سبعة وسبعين عاماً الآن !
ففي ذلك المنزل بشارع حسن الأكبر، بحي عابدين العريق بالقاهرة، وبالتحديد في شقة متواضعة بالطابق الأول، كان الأستاذ الكبير الراحل إبراهيم زكي خورشيد يحتضن مشروع حياته، ويرعاه حتى آخر أيام عمره في أواسط الثمانينيات من القرن الماضي. فقد شاء القدر أن يكون هو آخر من بقي على قيد الحياة من أصحاب المشروع الأصلي الذي بدأ أوائل الثلاثينيات، والوحيد الذي رافق المسيرة الصعبة له طوال ما يربو على خمسين عاماً. وكان قد تساقط خلالها باقي الرفاق بانتقالهم للعالم الآخر، وذلك باستثناء الدكتور عبدالحميد يونس الذي لم تكن تسعفه ظروفه الصحية في تلك الآونة بالاستمرار في تحمل أعباء ذلك المشروع المرهق.
لم تكن هذه الشقة بالطبع هي أول مكان يبدأ فيه أولئك الفتية مشروعهم عقب تخرجهم في كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1931، وفي الصدارة منهم إبراهيم زكي خورشيد ورفيق حياته منذ الصبا الدكتور عبدالحميد يونس، والأديب والمترجم أحمد الشنتناوي، فقد استأجروا في البداية غرفة صغيرة في المكان الذي توجد فيه الآن عمارة وهبة بوسط القاهرة. ولكن خصوصية المنزل رقم 14 بشارع حسن الأكبر تكمن في أنه شهد المراحل التالية والأخيرة للمشروع.
رؤية من الداخل
ويهمني هنا وقبل عرض المسيرة الشاقة لهذا المشروع الجاد والخطير، أن أقدم شهادتي وإن كانت للأسف عن فترة قصيرة نسبياً، فقد أتيح لي شرف أن أشارك في هذا المشروع في سنواته الأخيرة، وبالتحديد ما بين عامي 1984 و1986، تلميذاً للأستاذ خورشيد، وعضواً بفريق الترجمة والتحرير لمواد الموسوعة، مع رفاق نابهين آخرين، وكنت وقتها مترجماً محترفاً حصلت للتو على دبلوم الترجمة الإنجليزية العالي ومضى على تخرجي في قسم اللغة الإنجليزية عشر سنوات تقريباً. وقد ساهمت في الطبعة العربية لدائرة المعارف الإسلامية – قبل توقفها في عام 1987 – بترجمة عدة بحوث، منها “الحمدانيون” و”الحنابلة” و”حيدراباد” و”الحمام” في المجلدين 15 و16.
ظل الأستاذ خورشيد يصدر الموسوعة في شكل “ملازم” متتابعة في طبعة رخيصة غير فاخرة، تقوم دار الشعب القاهرية بطبعها وتوزيعها ثم تجليدها بعد ذلك. وفهمت منه خلال عملي معه أنه كان صاحب حق نشر الطبعة العربية بعد شراء حقوقها قديماً من دار النشر الأصلية بمدينة ليدن Leyden الهولندية (ومعروف أنها واحدة من أكبر معاقل الاستشراق في العالم)، أما دار الشعب فكانت بمثابة الوكيل الذي يتعاقد معه للطبع والتوزيع مقابل نسبة معينة.
كانت الغرفة الداخلية من الشقة تشهد الأستاذ وهو يعكف على مراجعة الترجمات التي يقوم بها تلاميذه ويراجع البطاقات أو كما كان يفضل أن يسميها “الجذاذات”، وهي ذاتها التي يعتاد الباحثون الآن أن يطلقوا عليها اسم “الفيش” أو “الكروت” وهي التي تحمل عناوين مداخل الموسوعة entries ، للترتيب للأجزاء التالية وفقاً للألفبائية العربية، وتوزيع موادها على المترجمين.
كان الأستاذ خورشيد يتولى بنفسه ترجمة بعض المواد بالرغم من كبر سنه وكثرة شواغله واهتماماته في تلك المرحلة المتأخرة من حياته (فقد كان على سبيل المثال يلقي محاضرات في الترجمة على طلبة الدراسات العليا بآداب القاهرة يودعها خلاصة خبرته باعتباره من أكابر شيوخ الترجمة في العالم العربي، كما كان يرأس جمعية إحياء التراث الموسيقي، وكان عضواً في بعض المجالس القومية المتخصصة بمصر، كما كان يكتب المقالات وتنشر معه مقابلات في وسائل الإعلام المختلفة).
من طرائف تلك المرحلة أنني كنت أرى المحاسب يعرض عليه الميزانية ومشكلات التمويل والإيرادات والمصروفات، ويظلان يتناقشان، وأحياناً “يتعاركان”، حتى يمكن “تضبيط الحسبة” في النهاية للخروج بالدراهم المعدودات التي يأخذها هو ومن يشاركه العمل!.
يعيشون لرسالتهم.. ولا “يتعيشون” منها
وإن كان ثمة درس يتعين علينا اقتناصه هنا فهو أن العمل كتب له النجاح لأنه كان أشبه بسيمفونية رائعة يعزف لاعبوها على قيم حب العلم والتبتل في محرابه والنهل من منابعه، دونما نظر إلى أي عائد مادي أو منافع دنيوية.
ويعجبني هنا قول لأحد فضلاء مصر المعاصرين، د.غريب جمعة، متحدثاً عن علَم آخر هو الأستاذ فريد وجدي، ومشيراً إلى رواد ذلك العصر، حيث وصفهم بأنهم كانوا “أصحاب رسائل ودعوات يعيشون لها ولا يتعيشون منها”.
ومن الطريف أيضاً أنني كنت أعكف على الترجمة والبحث والتحرير، والتعامل مع البنط الصغير جداً للمادة الأصلية، والتقليب في المصادر والمراجع أياماً وليالي للبحث عن معنى اصطلاح أو لفهم نقطة غامضة أو لإحكام الأسلوب بلغة عربية مشرقة.. ثم أفاجأ بعد أسبوع من العمل الشاق في ترجمة نحو 20 صفحة ب”شيك” بمستحقاتي مزخرف زخرفة ملونة وجميلة بعنوان “لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية”، ويحمل مثلاً مبلغ 11 جنيهاً (أقل من أربعة دولارات عندئذ) تصرف من حساب اللجنة في بنك مصر!.
ومع ذلك، كنت أواصل العمل في الموسوعة بحب وإقبال ليقيني أنه عمل تاريخي شديد الأهمية، ويشرف كل من يساهم فيه. وكثيراً ما كنت أسمع الأستاذ خورشيد إذا ادلهمت الأمور وتفاقمت المشكلات المالية والإدارية وهو يهدد قائلاً: “إنني لو نفضت يدي من هذه الموسوعة فسوف تنهار تماماً”.
ولكنه لم ينفض يده بالطبع لأن الموسوعة كانت مشروع حياته، ولكن الدنيا هي التي نفضت يدها منه، فانتقل رحمه الله إلى رحاب مولاه في أوائل عام 1987م، وتوقفت الموسوعة بالفعل.
ودفعني ذلك لكتابة مقال رثيت فيه الفقيد، وانتهزت الفرصة فناشدت الدولة في مصر أن تدعم دائرة المعارف الإسلامية، “وتوفر الجو المشجع والإمكانيات للمترجمين والمحررين الأكفاء حتى تكتمل مجلداتها، وحتى لا ينقطع واحد من أخصب روافد العلم وأعمق مراجع الحضارة الإسلامية العظيمة” (جريدة الأحرار 2 مارس 1987 ص 8).
وحتى تدرك الأجيال الشابة من المترجمين ما كان عليه الحال، وكيف كنا نسعى لاكتساب الخبرات والتتلمذ على أيدي شيوخ الترجمة حتى ولو أنفقنا من جيوبنا على هذا العمل، أضرب مثالا واحدا بأحد البحوث التي ترجمتها وهي منشورة في المجلد 16 من الموسوعة بتوقيعي، (وفي الطبعة الأحدث لمركز الشارقة للإبداع صارت في المجلد 17)، وهي مادة (الحمام) بتشديد الميم، فقد اضطررت من أجل فهم المادة ومصطلحاتها التاريخية والمعمارية ونقل الأسماء الجغرافية ورد النصوص التراثية إلى أصولها العربية واستيعاب طقوس دخول الحمامات في التراث الإسلامي وما ارتبط به من عادات وتقاليد… إلخ، للرجوع إلى نحو 12 مصدراً ومرجعاً ما بين عربية وإنجليزية. فلم تكن المسألة مجرد ترجمة على صعوبتها ولكنها كانت أشبه بعمل الباحث والمحقق.
كيف بدأت “القصة”؟
رأينا إذن كيف “انتهى” ذلك المشروع العلمي الضخم، في صورته الأولى على الأقل، فلتكن لنا الآن وقفة حتى نرى كيف بدأت القصة. ولننصت إلى ما رواه الأستاذ خورشيد بنفسه في أحاديث كثيرة لوسائل الإعلام، من بينها حديث مطول أجريته معه ونشر على جزأين، الأول في حياته بصحيفة “الخليج اليوم” 1986م، والثاني عقب رحيله في الأهرام الدولي 1987م:
“عندما تخرجنا في كلية الآداب سنة 1931، كانت كلية الآداب في هذه الفترة في عز مجدها العلمي، إذ كانت كعبة لطائفة من أئمة أساتذة العالم من كل جنس. وكان عدد طلاب الكلية لا يزيد على ستين طالباً في مختلف أقسام الكلية. وفي هذا الجو العلمي العجيب كنا نحرص على حضور المحاضرات في جميع أقسام الكلية لأننا أدركنا أنه لن تتاح لنا الدراسة على أمثال هؤلاء الأساتذة مرة أخرى. وكان من هؤلاء عدد من أعظم المستشرقين أمثال نللينو أستاذ طه حسين، وشاخت، وغيرهما”.
“وباحتكاكنا بهؤلاء المستشرقين تبين لنا أنهم جمعوا خلاصة أبحاثهم في دائرة معارف إسلامية كبرى أصدروها باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية .. ومنهم شاخت، و بلا، وأرنولد، وليفي بروفنسال، وغيرهم”.
الجميع قالوا: مستحيل!
صمم خورشيد ورفاقه على القيام بترجمة هذا العمل الكبير، بعد أن اقتنعوا بضرورة نقله للعربية، لكي تتاح للعرب والمسلمين المعاصرين فرصة الاستفادة مما فيه من بحوث ومعلومات ومنهجية علمية، وللتصدي في الوقت نفسه لأي شبهات وتصحيح أي أخطاء وقع فيها أولئك المستشرقون.
في البداية استطلعوا آراء عدد من كبار المسؤولين ورجال العلم في مصر طالبين المشورة والنصيحة، ففوجئوا بأن الجميع تقريباً يحذرونهم من الإقدام على ذلك لأنه مشروع بالغ الضخامة وهو من شأن الحكومات والمجامع العلمية الكبرى لا من شأن المبادرات الفردية.
يقول خورشيد: كانت الآراء كلها مجمعة على استحالة القيام بهذا العمل الخطير.. وقد نوَّه بذلك لاحقاً أستاذنا الدكتور مصطفى عبدالرازق في رسالة بعث بها إلينا قال فيها “لقد همت طائفة من أهل العلم أن تعرب هذا الأثر الجليل، فتخاذلت هممهم دونه، أما أنتم فيسعدكم شباب في عنفوانه، وشوق إلى الدرس والمجد يمده الإخلاص في العلم والإخلاص في العمل”.
ثم .. قامت القيامة!
نهض الفتية المثقفون لمشروعهم بكل حماسة ودأب ولم يلقوا بالاً لكل الصعوبات الجمة مثل العقبات المالية والرجوع للمراجع الأصلية وضخامة العمل حتى ظهرت في عام 1933 باكورة الطبعة المترجمة. وبعد بداية صدور الأجزاء الأولى من هذه الطبعة العربية للموسوعة، “قامت القيامة” بتعبير الأستاذ خورشيد، حيث حاول كما يقول “بعض أساتذتنا أن يضموا هذا العمل إلى لجنة كانت لهم.. ووجدنا أن هذا معناه فناء لشخصياتنا.. هنالك لم نشعر إلا بالحملات تتوالى علينا.. بل لا أغالي إذا قلت إننا حوربنا حتى في أرزاقنا”.
وبدأت الحملات في بعض المجلات الثقافية التي كانت تصدر آنذاك.
ويكمل الأستاذ خورشيد القصة قائلاً: “استمرت الحملات ضدنا لترصد أية أخطاء وتهوين قيمة العمل كله.. والواقع أن هذا كان آخر شيء نتوقعه من أساتذة لنا أجلاء، خاصة أننا لم نكن في ذلك العهد ندعي العصمة، بل كنا ندرك أن كل عمل كبير معرَّض لأن تقع فيه أخطاء وكنا نتوقع منهم العطف والتشجيع والمساندة ونحن في عز الشباب لم ننصرف إلى لهو أو عبث.. وقررنا أن نمضي في طريقنا عملاً بنصيحة الأستاذ الشيخ مصطفى عبدالرازق الذي أكد لنا أن الاستمرار كفيل بإسكات جميع الألسنة، وبالفعل انبرى لتأييدنا لفيف من الأساتذة والكتاب من أمثال العقاد والمازني، كما أرسل لنا عدد كبير من المفكرين في البلاد العربية يشجعوننا على مواصلة العمل، منهم محمد مسعود والدكتور عبدالحميد بدوي، والدكتور السنهوري، ومحمد كرد علي، وشفيق غربال وغيرهم”.
التصدي لأخطاء المستشرقين
لاشك أن ترجمة عمل استشراقي ضخم يثير إشكالية ما يقع فيه المستشرقون من أخطاء في كثير من الأحيان، سواء عن جهل أو عن خبث متعمد وسوء نية، مما هو معروف وله نماذج كثيرة في أعمالهم، ولكن الأستاذ خورشيد يوضح وهو يروي قصة هذا المشروع الكبير أنه ورفاقه كانوا منتبهين تماماً لهذا الجانب.
ولذلك فقد قرروا أن يأخذ المشروع الفوائد المتمثلة في المادة العلمية المرتبة بمنهج علمي مبسط ويتجنب المضار المتمثلة في ترديد أخطاء المستشرقين أو ترويج نظرتهم المشوهة أحياناً للإسلام وعلومه وما يتصل به، فيقول: “سرنا في منهجنا الذي اتبعناه في هذه الدائرة بأن نعهد بالمقالات والبحوث، خاصة الدينية إلى أستاذ من علمائنا في الدين للرد على ما قد يشوهها من انحراف في النظرة أو القياس في فهم حقيقة ديننا وشريعتنا “.
وهكذا، عندما صدرت الموسوعة كان القارئ يجد ما كتبه المستشرق ثم يجد بعده مباشرة رداً وتفنيداً بقلم أحد كبار العلماء المسلمين المتخصصين في الموضوع.
ولأهمية هذه النقطة من المهم أن نتوقف عندها لأنها للأسف لا تزال موضعاً لسوء فهم لدى البعض حتى الآن. فهناك من يرفض التعامل مع النتاج الاستشراقي برمته وبأي صورة من الصور، باعتباره في الأصل وبحكم نشأته كان وربما لا يزال في جانب منه يرمي لمحاربة الإسلام وتشويه صورته السمحة والنيل منه، وتنفير غير المسلمين من الدخول فيه، ومساعدة المستعمرين الأوروبيين على استغلال الشعوب المسلمة، وكذلك لأن طليعة الذين قاموا بالاستشراق كانوا من المنصرين ورجال الدين الغربيين الناقمين على الإسلام.
ومع الإقرار بذلك كله، إلا أننا يجب أن نفرق بين أمرين: أن نتقبل ما يكتبونه عنا كما هو ونروج له بيننا مهما كان فيه من ضلال وقبح.. وبين أن نترجمه وننقله من باب معرفة ما يقولون عنا حتى نتمكن من أمن مكرهم والتصدي لإفكهم وتحذير الناس من أوهامهم وتصحيح زلاتهم وأخطائهم.. وفي الأثر “من تعلم لغة قوم أمن مكرهم”.
وإذن، فإن ما كان يمكن أن يكون مأخذة كبيرة وخطيرة على هذه الموسوعة أن يترك مترجموها أمثال تلك الأخطاء كما هي دون رد أو تفنيد.. وقد كان بمقدورهم أن يكتفوا بالترجمة تاركين للعلماء في أرجاء العالم الإسلامي أن يردوا ويفندوا بعد أن صارت المادة متاحة بالعربية، ولكنهم أبوا إلا أن يحملوا أنفسهم أيضاً مئونة استكتاب العلماء المسلمين للقيام بمهمة الرد والتصحيح والتفنيد والدفاع عن دين الله القويم.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، يتعين علينا أن نعترف مهما كان ذلك يؤلم غرورنا أننا – أبناء الأمة الإسلامية – قصرنا كثيراً في العصور المتأخرة في إصدار مراجع علمية موسوعية من وجهة نظرنا، في الوقت الذي عكف فيه هؤلاء على دراسة ديننا ولغتنا وحضارتنا لإخراج هذه الأعمال الموسوعية الضخمة، وهكذا لم يجد الباحثون في العصر الحديث أمامهم سوى مثل تلك الأعمال للنهل منها.
ولأن ديننا أيضاً يحثنا على أن نعطي كل ذي حق حقه ولا يجرمنا شنآن قوم على ألا نعدل، وعلى أن ننشد الحكمة والعلم النافع في أي مكان وأيَّاً كان مصدره، فقد امتازت دراسات المستشرقين الحديثة على ما فيها من علل بالإتقان وسد الثغرات في كثير من موضوعات البحوث الإسلامية، لدرجة أن الأستاذ خورشيد قال عنها “إنها عمل جاد جداً.. ومهم جداً.. ولم يكتب مثلها في اللغة العربية، ويكفي أنه عندما ترجمنا مادة أفغانستان، رجعت إلى عالم من علماء أفغانستان هو الشيخ صادق المحمدي، فقال لنا بعد أن قرأ المادة: “والله يا أبنائي إن هذا المستشرق يعرف عن بلدي أشياء لا أعرفها!”.
وارث سفيه !
في هذا الصدد، أذكر أن الأستاذ خورشيد كثيراً ما كان يستشهد معي ومع غيري بعبارة قالها الأستاذ الراحل أمين الخولي في ندوة عقدت بالإذاعة المصرية حول التراث وكان خورشيد مشاركاً فيها، وهي قوله: “إن موقفنا من التراث العربي والإسلامي أشبه ما يكون بموقف الوارث السفيه، لأن الوارث الرشيد يبدأ أولاً بحصر التركة ونحن لم نحصر التركة حتى الآن !”.
الموسوعة الأصلية
تجدر الإشارة إلى أن دائرة المعارف الإسلامية التي شارك في كتابتها وتحريرها ما يربو على خمسمائة باحث متخصص، كلٌّ يكتب مادة مركزة يودعها خلاصة تخصصه الذي عكف عليه طوال حياته العلمية ( أنا على سبيل المثال ترجمت مادة الحمدانيين التي كتبها مستشرق فرنسي هو إم. كانار وهو متخصص في تاريخ الدولة الحمدانية) بدأ العمل فيها أواخر القرن التاسع عشر، ثم نشرت في عدة طبعات متلاحقة فيما بين عامي 1913 و1936، وجاءت في ثلاث طبعات باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية ، وكانت أجزاؤها تصدر تباعا.
وحتى قبل أن تستكمل مجلدات طبعة 1936 التي صدرت في أربعة مجلدات وملحق للفنون كانت قد نبعت في مصر وبجهود فردية تماماً كما أوضحنا فكرة نقلها إلى العربية.
للأسف، ولضخامة المشروع وجهود أصحابه الفردية المحدودة وعدم تفرغهم الكامل له لاضطرارهم للانشغال بأعمال أخرى يرتزقون منها، توقف الإصدار العربي الأول (الذي استمر ما بين 1933 و1965) عند حرف الطاء. وعندما شرعت في عام 1954 لجنة من المستشرقين المحدثين بإشراف جيب وبرنارد لويس وغيرهما في إخراج طبعة جديدة باللغات الثلاث الإنجليزية والفرنسية والألمانية، في إطار استكمال وتحديث وتنقيح مواد الموسوعة، عاد روادنا الأوائل وعلى رأسهم الأستاذ إبراهيم زكي خورشيد إلى العمل من جديد سعياً وراء إخراج طبعة ثانية من المواد المترجمة، مضافاً إليها المواد المستحدثة في الطبعة الثانية الأصلية. وهذه هي المحاولة الشاقة التي استمرت بخطى بطيئة ومتثاقلة لقلة الإمكانيات، منذ عام 1969 وحتى وفاة خورشيد أوائل عام 1987، متوقفة هذه المرة عند نهاية مادة (الخزف) في صفحة 317، وهي آخر صفحات المجلد السابع عشر والأخير.
طبعة جديدة ولكن .. الطموح وحده لا يكفي !
وأخيراً، وقبل بضعة أعوام، جاءت أحدث محاولة لاستكمال الموسوعة في ثوبها العربي، بمبادرة من كل من مصر والشارقة لإحياء العمل واستكماله في آن واحد.
وصدرت هذه الطبعة الجديدة كثمرة من ثمار التعاون بين الهيئة المصرية العامة للكتاب ومركز الشارقة للإبداع الفكري، وكان صاحب المبادرة في فترة التسعينيات من القرن الماضي هو الدكتور الشيخ سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة، الذي أنشأ هذا المركز كما هو معروف بهدف طبع ونشر الموسوعات وأمهات الكتب الإسلامية والتراثية.
وكان في منظور القائمين على هذا المشروع الجديد أن (دائرة المعارف الإسلامية) تعد حالياً العمل الموسوعي الوحيد المكتمل عن الإسلام “مترجماً”، إلى أن يتهيأ للأمة المسلمة أن تضع مؤلفها الموسوعي الخاص بها.
وقد حشدت هيئة الكتاب المصرية فريقاً من نخبة العلماء والمترجمين والمتخصصين لإنجاز هذا العمل الموسوعي الضخم، بهدف استكمال ترجمة جميع المواد التي لم يتح للفريق القديم من الرواد ومساعديهم إنجازها لقلة الإمكانيات.
وصدرت بالفعل هذه الطبعة التي كان الجميع ينتظرونها بشغف، في 33 مجلداً تتضمن أكثر من 25 مليون كلمة وما يزيد على 9 آلاف مادة مرتبة أبجدياً وتغطي كافة جوانب الحضارة الإسلامية.
وللأسف، لم تسلم هذه الطبعة أيضاً من المنتقدين، وإن كان الإنصاف يقتضينا أن نصغي لما يقولون، لأنه يجب أن تكون الغاية المشتركة للجميع هي مصلحة العمل نفسه .
على سبيل المثال، كتب الكاتب المصري جمال الغيطاني في صحيفة (أخبار الأدب) بتاريخ أول يوليو 2001؛ مؤكداً أن الأمر في إصدار هذه الطبعة “لم يتم للأسف كما ينبغي ، ولم يقتد بما أقدم عليه الأسلاف”.
ومضى الغيطاني قائلاً: “إن الأمر لا يحتاج إلى مقارنة النص العربي بالنص الأجنبي، بل يمكن مقارنة النص العربي بالعربي، فقد تم اختصار المواد التي ترجمت من قبل اختصاراً مخلاً، وأزيلت الهوامش، بل إن أول ما يستوقفنا عنوان الترجمة العربية نفسه مختصر دائرة المعارف الإسلامية .. ماذا يعني مختصر دائرة المعارف؟ وهل رصد الدكتور سلطان القاسمي الأموال الطائلة لترجمة المختصر؟
أما الكارثة الأعظم فتبدأ فيما يلي حرف الخاء، فالمترجمون معظمهم لا يعرفهم أحد، وبعضهم طلاب في قسم اللغة الإنجليزية، وبالتالي جاءت الترجمات غير دقيقة، وبالطبع خلت الموسوعة فيما يلي حرف الخاء من أي تعليق يوضح أو يعارض آراء المستشرقين، بل إن هذه الطبعة تخلو تماماً من ذكر أي معلومات عن دول الخليج على سبيل المثال، لأنها لم تكن استقلت بعد.. وفي مثل هذه الأحوال كان لابد من إضافات علمية بأقلام متخصصين، كما جرى الأمر في دائرة المعارف العربية التي طبعت في السعودية منذ سنوات”.
واختتم الغيطاني مقاله بقوله: “لقد قرأت أسماء محترمة ضمن هيئة التحرير، وكلما استفسرت من أحدهم عن كيفية مشاركته في تلك الفضيحة أفاجأ برد الفعل ومحاولات التنصل، ولا أريد أن أحرج أحداً، لكني أطالب بطرح موضوع ترجمة هذا العمل المشين للثقافة المصرية لكشف ظروفه وملابساته.. إلخ”.
وقد علمت من الأستاذ صلاح عيسى ، المثقف والكاتب البارز ورئيس تحرير صحيفة “القاهرة” في لقاء معه في مكتبه قبل نحو عام ، وكان يسمع مني حكايتي مع الموسوعة ومع الأستاذ خورشيد ، أن هجوم الغيطاني جاء في أجواء كان يوجد فيها على ما يبدو سوء تفاهم أو جفوة لسبب أو لآخر بينه وبين الدكتور سمير سرحان ، وهو ما يعني أنه مع اتفاق كاتب هذه السطور – من خلال تجربته الشخصية مع الموسوعة – مع انتقادات الأستاذ الغيطاني ، إلا أن حياتنا الثقافية والأدبية لا تسير دائما للأسف وفق مباديء ثابتة وإنما بالأحرى وفق أهواء ومصالح وتربيطات وشلل ، بحيث يمكن للكاتب الواحد أن يبدل مواقفه كما يبدل ثيابه ، فيرضى حينا ويغضب حينا ، وكله حسب العلاقات والظروف !
ومن جانب كاتب هذه السطور، فقد أتيح له علاوة على ما قرأه من تعليقات منتقدة لهذه الطبعة أن يتصفحها بنفسه، ومما لاحظه واستغربه أنها جاءت خالية من الصور والرسوم التوضيحية التي كانت مصاحبة لبعض المواد في الطبعة العربية السابقة.. وهو أمر غريب في موسوعة يفترض فيها أن تأتي مستكملة ومزيدة لا أن تقتطع بالحذف الصور والخرائط والرسوم مهما كان الدافع لذلك.
أمر مثير للدهشة
الأمر الآخر الذي أثار دهشتي ولم أجد له تفسيراً، اللهم إلا في ضوء ما أشار إليه الغيطاني عندما رصد على هذه الطبعة عبارة “مختصر”، هو أنني عندما استعرضت البحوث التي سبق لي ترجمتها وتحريرها أثناء عملي مع الأستاذ خورشيد وجدت بعضها محذوفاً بالكامل، ومن ذلك مادة عن “الحيض” وما يتعلق به من أحكام في الشريعة إلخ، فهل مثلاً حذفها القائمون على الطبعة الجديدة لأنها تتحدث عن شئ “عيب” وغير لائق من وجهة نظرهم ؟! .. أم ماذا كان السبب؟!
المهم .. أن ذلك يدفعنا دفعاً لنتيجة لا مناص منها، وإن تكن مؤسفة بالنسبة لواقعنا العربي في مجال النشر العلمي، وهي أن الجهود الفردية القليلة تثمر أحياناً مع الإخلاص والتفاني ما لا تثمره الجهود المؤسسية التي يتوافر لها المال والإدارة والدعم وفرق الخبراء وأطقم المشرفين.. وذلك لأسباب كثيرة لا تخفى على ذوي الفطنة، مع أن هذا عكس ما يتم في الغرب.. وإن شئتم فاقرأوا من جديد ما جاء أعلاه في (سر المنزل رقم 14).. أعاننا الله تعالى على إصلاح واقعنا والاستفادة من دروسه المؤلمة.