ابن رشد والتأويل
د. يوسف الزدكي (المغرب)
أولى الفكر الإسلامي في العصر الحديث اهتماما لإشكالية التأويل، حيث تعددت المنطلقات النظرية والخلفيات الإيديولوجية التي اشتغلت على النصين الأدبي والديني سعيا منها إلى بلورة نظرية جديدة للتأويل في ضوء المناهج الغربية الحديثة وفلسفات التأويل رغبة منها في التأسيس لحداثة إسلامية جديدة وفي مقدمة هذه الفئة محمد أراكون ونصر أبو زيد وطه عبد الرحمان ومحمد سليم العوا، لكن التأويل ليس وليد اليوم، بل هو إشكال عربي قديم شهد رواجا واسعا في حقول معرفية متنوعة مثل علوم القرآن والتفسير والمنطق واللسانيات، وخاض في غماره المفسرون وعلماء اللغة العرب والفلاسفة، وفي مقدمتهم أبو الوليد بن رشد وهو من أعظم شراح أرسطو وقرائه الأوفياء في منطقة الغرب الإسلامي.
أَوَّلَ ابن رشد فكر أرسطو من زاوية القارئ الفيلسوف الذي يحمل أفقا فلسفيا خاصا
يتجلى في نزوعه للتوفيق بين الشريعة والفلسفة، وفي ضوئها يمكن التقريب بين
الخطابتين العربية واليونانية وإيجاد المواطن المشتركة بينهما، في سبيل إيجاد لغة
خطابية كلية تشترك فيها جميع الأمم والشعوب في بقاع العالم بقوله:
“إن الألفاظ التي ينطق بها هي دالة أولا على المعاني التي في النفس، والحروف التي تكتب هي دالة أولا على هذه الألفاظ، وكما أن الحروف المكتوبة –أعني الخط – ليس واحدا بعينه لجميع الأمم كذلك الألفاظ التي يعبَّر بها عن المعاني ليست واحدة بعينها عند جميع الأمم، ولذلك كانت دلالة هذين بتواطؤ لا بالطبع. وأما المعاني التي في النفس، فهي واحدة بعينها للجميع كما أن الموجودات التي المعاني التي في النفس أمثلة لها ودالة عليها واحدة وموجودة بالطبع للجميع”[1] ومن ثم راغ مشروعه القرائي إلى تشييد بناء نظري عتيد حول مفهوم التأويل يناسب أفقه انتظاره، وفي هذا الصدد، يعد ابن رشد من رواد الفكر التنويري التجديدي بما يحمله مشروعه التأويلي من رؤية توفيقية مجسدة لنظرية التناسب عند أرسطو وابن سينا[2].
ينطلق ابن رشد من أنماط الخطاب ومقاماته التداولية، فالقول البرهاني أليق بالفلاسفة، بينما القول الجدلي يناسب الجمهور، لذلك قسم المتلقين إلى ثلاثة أصناف:
“صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا، وهم الخَطابيون، الذين هم الجمهور الغالب
وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يَعْرى من هذا النوع من التصديق.
وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجَدَليُّون بالطبع فقط، أو بالطبع
والعادة.
وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون، بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة[3]
ينبني هذا التصنيف الرشدي على موقع المؤول في المنظومة المعرفية، ومقامه الفكري وأفق توقعه، لكن، ما هو حد التأويل عند ابن رشد؟
يعرف ابن رشد التأويل بأنه ” إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوُّز من تسمية الشئ بشبيهه أو بسببه، أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي”[4]
لقد خص الإسلام العلماء بالتأويل لكونهم العالمون بالحقيقة، المطلعون على أسرارها، بدليل أنه ” إن كان الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصا بهم، فيجب أن يكون بالبرهان، وإن كان بالبرهان، فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل، لأن الله عز وجل قد أخبر أن لها تأويلا هو الحقيقة، والبرهان لايكون إلا على الحقيقة”[5]
أما التأويل الجدلي، فقد اختص به أهل الجدل، بينما التأويل الخطابي مناسب لجمهور العامة، نرى إذن أن التأويل البرهاني المبني على القياس اليقيني هو المعيار الأثير عند ابن رشد.
وقد وظف العلاقات المنطقية ( علاقة التضاد – علاقة التناقض – علاقة التداخل) بين القضايا في بلورة مشروعه المعرفي المبني على التوفيق بين المواقف الفلسفية المتعارضة في إطار نظرية متجانسة عرفت بنظرية التوسط.
أما التأويل الصحيح عند ابن رشد فهو ذو حمولة دينية لأنه “الأمانة التي حملها الإنسان فحملها وأشفق منها جميع الموجودات أعني المذكورة في قوله تعالى: “إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ علَى السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ والجِبَالِ، وأبَيْنَ أن يَحْمِلْنَها وحَمَلَها الإنسانُ”)”[6]
التأويل الصحيح مطية ابن رشد للطعن في أقوال الفرق الكلامية أمثال المعتزلة والأشاعرة المبنية على التعصب الأعمى والهوى، يقول ابن رشد: تأويلاتهم – الأشاعرة والمعتزلة – لا تقبل النصرة، ولا تتضمن التنبيه على الحق، ولاهي حق، ولذلك كثرت البدع)[7]
وفي هذا الصدد، يرى الدكتور محمد مفتاح أن “الواسطة يكون فيها شبه من الوجود القديم، وفيها شبه من الوجود الكائن الحقيقي، وقد يغلب أحد الشبهين على الآخر، فإذا غلبت جنبة شبه الوجود القديم سمي “قديما”، وإذا غلبت جنبة شبه الوجود الكائن الحقيقي سمي “محدثا” كما أن القرآن فيه ظاهر وباطن،
وواسطة مترددة بين الطرفين، وأن فيه “ما يؤول” و”ما لا يؤول” وواسطة مترددة بين الطرفين أيضا”[8]
في نهاية المطاف، يمكن القول أن التأويل عند ابن رشد يخدم مصلحة الأمة الإسلامية ويعلي من شأن القياس المنطقي البرهاني الذي وضع أرسطو لبناته الأولى، كما أن فيلسوف قرطبة ينحو منحى توفيقيا في جل أطروحاته العقدية والفلسفية، سالكا الحد الوسط الذي يحقق للأمة الإسلامية الوحدة ويبعد عنها التصدع الفكري والخلاف المذهبي والتناحر السياسي، وهي عناصر تفتقدها الأمة العربية اليوم في ظل واقع التشرذم والتجزئة والانقسام، وهيمنة نزعات التعصب والتطرف الدينيين المفضيين للإرهاب المقيت مما يجعل استحضار هذه المقولات مفيدا، فما أحوجنا اليوم إلى بعث الروح التأويلية لابن رشد لما تحمله في طياتها من أفكار التنوير وإشادتها الجمة بالتأويل البرهاني المخصوص به الراسخون في العلم والنخبة العالمة.
الهوامش
[1]- تلخيص كتاب العبارة – 57
[2] – التناسب مصطلح نقدي قديم، يوناني الأصل، تطرق إليه أرسطو في الخطاب معبرا عن ذلك بما أسماه “الاعتدال” وخص به الأسلوب، حيث شملت الدراسة خمسة محاور وهي: تناسب الأسلوب مع الموضوع، تناسب الأسلوب مع المواقف النفسية، تناسب الأسلوب مع نوعية السامعين، تكييف الصوت والملامح مع الموضوع، استعمال الألفاظ المركبة والأعجمية في حالة الانفعال لنشر الحماسة بين الجمهور، هذه هي المحاور الخمسة التي أثارها أرسطو، وحاول من خلالها إقامة نظرية متكاملة الأجزاء والعناصر قائمة على فكرة التناسب في الخطاب – فن الخطابة – ترجمة عبد الرحمان بدوي
[3]- فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال – 58
[4]– المصدر السابق – 32
[5]– نفسه – 38
[6]– فصل المقال -62
[7]– المصدر السابق – 66
[8]– التلقي والتأويل – 98 -99
المصادر والمراجع المعتمدة:
- أرسطو: فن الخطابة – ترجمة وتعليق الدكتور عبد الرحمان بدوي – طباعة
ونشر دار الشؤون الثقافية العامة ـ الطبعة الثانية 1986 بغداد.
- ابن رشد: أبو الوليد – (520 ه – 595 ه) – تلخيص كتاب العبارة – تحقيق محمد قاسم – الهيئة العامة المصرية للكتاب – طبعة 1981
- ابن رشد: أبو الوليد – (520 ه – 595 ه) – فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال – دراسة وتحقيق محمد عمارة – المؤسسة العربية
للدراسات والنشر – الطبعة الثانية – 1981
- محمد مفتاح: التلقي والتأويل – المركز الثقافي العربي- الطبعة الأولى 1994