تجلّيات الغيطاني

تجلّيات الغيطاني

ملاحظات حول “كتاب التجليات” للغيطاني

د. عبدالسلام حيدر

 

اشتهر جمال الغيطاني (1945- 2015) بعملين متميزين هما: “الزيني بركات” (1971) و”كتاب التجليات” (1983-1986). أما “الزيني بركات” فهي روايته التاريخية الأشهر، وفيها يصور فترة هزيمة مصر المملوكية أمام العثمانيين، وهى من الفترات التي تميزت بالقهر والقمع. أما “كتاب التجليات” فهو كسابقه يهتم بالتعبير عن قهر الإنسان ولكن خلال فترة زمنية متطاولة، ولكنني اعتبره بمثابة رثاء سردي حزين ومؤثر لوالد المؤلف الذي توفي فجأة في 28 أكتوبر 1980 إبان وجود ابنه (الكاتب/الراوي/البطل) في باريس.

أول ما لفت نظري في “كتاب التجليات” أن الغيطاني نجح في هذا العمل في تحطيم الشكل التقليدي للرواية، ويتضح ذلك بشكل جلي في أمرين: في معالجته للزمن، وهو البطل الأساسي في “كتاب التجليات”، وعبر “استلهامه” للأشكال السردية ذات الصبغة الصوفية التي تذكرنا بكتابات المتصوفين الكبار مثل التجليات والأسفار والمواقف والمقامات. ففي “كتاب التجليات” انشغل راوي الغيطاني برصد أحاسيسه الداخلية عبر لغة صوفية تراثية مستعارة، فأختلط زمنه الحاضر بأزمان وحيوات مختلفة، بعضها قريبة كحياة والده وحياة جمال عبدالناصر وبعض الأصدقاء. والأخرى بعيدة كحياة الحسين عليه السلام، وحياة المتصوف الشهير ابن عربي، ويقوم كلاهما – الحسين وابن عربي – بدور المرشد للراوي إبان تجلياته عبر أزمنة وصفها بأنها “متجاورة، متداخلة، فلا حد، ولا غد ولا أمس” (ص201)، وهو ينتقل في يسر “من حال إلي حال ومن زمن إلي زمن ومن حيز إلي حيز” (ص207).

فكأن الراوي رحالة زمني لا يمل الارتحال بين الأزمنة. وهذه الفكرة كما نعلم مألوفة ومتكررة في الكثير من الأعمال الإبداعية، ويتبع هذا في العادة اختلاط أو تداخل للأمكنة وتمازج للأجساد والسمات. كأن تتجلى له صورة الأب الحقيقية عبر الآباء الذين صنعوا وجداناته الروحية والسياسية (من عبدالناصر حتى الحسين مرورا بشخصيات عديدة منها ابن عربي)، وتداخل تجليات الراوي خير دليل علي تماهي أو تمازج هؤلاء الآباء في وعي الراوي الذي يتماهى بدوره مع المؤلف!

والتجليات – كما سبق – يهتم بالتعبير عن قهر الإنسان المعاصر الذي يراه الراوي امتداداً لقهر تاريخي متوارث. وقد عايش الراوي عصراً جديداً من القهر بدءاً من منتصف سبعينات القرن العشرين وحتى زمن كتابة التجليات (1983-1986)؛ حيث وقف الغيطاني وراويه موقف النقيض لسياسات الرئيس المصري أنور السادات.

وعند هذه النقطة يحدث انتقال على المستوى الشكلي؛ فبعد “التجليات” ينتقل راوي الغيطاني إلى “المواقف” التي يحتذي فيها “مواقف” المتصوف الشهير محمد بن عبد الجبار النِّفَّري (ت. 354هـ/965م). وفي موقف “كان وسيكون” تجلى عبدالناصر – للراوي – شاكياً له قسوة ما يعاني من الغربة وخيانة الأصدقاء، وهنا لم يملك الراوي منع نفسه من معاتبة عبدالناصر فيقول له: “تركت لنا خليفة السوء، أنت الذي اخترته، خليفتك هو الذي قوض عهدك” (ص 206). وهذه الجملة تمثل – في رأيي – عمق “كتاب التجليات” ورسالته التي تدفعنا لتصنيفه كعمل هجائي للسادات وعصره؛ فكراهيته الغيطاني وراويه للسادات كانت ولا ريب دافعاً أساسياً لا يقل أهمية عن دافع رثاء الأب، لكتابة التجليات.

وتتجلى كراهية راوي الغيطاني للسادات عندما يضع عبدالناصر في موضع الحسين، ويضع السادات موضع قائد جيش يزيد بن معاوية. أما جيش عبدالناصر فكان كجيش الحسين قليلا ضئيلا، ولكنه يضم أبطالاً كوالد الراوي ومازن أبوغزالة والرفاعي وإبراهيم زيدان وعبدالمنعم رياض. وتبلغ الفانتازيا ذروتها فنجد أحمد عرابي وشهداء ثورة 1919 في جيش عبدالناصر. ثم يصف السادات وجيشه فيقول: “ومن النقطة التي تعلقت بها في الفراغ حلقت دهشاً، مشمئزاً، إذ رأيت من لا أطيق ذكره، من خلف عبدالناصر في حكم مصر – لعنه الله – أقبل فبقى في الخلف، جباناً كعهده في عمره، يدبر ويدفع بغيره لينفذ، وفي الوقت الملائم ينجو بنفسه، كان في عدة آلاف من الجنود، وخدم الاحتكارات الأجنبية، جنود يرتدون الحرب في زمن ابن معاوية قاتل الحسين. وجنود يرتدون الزي الخفي للموساد، ومقاتلين من قوة الانتشار السريع الأمريكية، ومرتزقة مجهولي الهوية، وأرباب بنوك” (ص226). ويتوالى موت أبطال جيش عبدالناصر كأبطال جيش الحسين. وعندما يقتل الجميع يتكالبون علي عبدالناصر حتى يصرعونه ثم يتقدم السادات ليحز رأسه.

ويذكر راوي الغيطاني في سرده أن صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية ذكرت بعد مصرع السادات “أن حمايته كلفت دافع الضرائب الأمريكي ثلاث مليارات من الدولارات”. وهنا تتحول الكراهية إلى عنصرية ممقوتة تتجلى في قول الراوي: “وهكذا يكون هو أغلى العبيد سعراً منذ أن عُرف العبيد” (ص235).

وبعد مصرع السادات أخذه حادث الإغتيال في تجلياته، حتى كتب ما يشبه قصيدة غنائية في “خالد الاسلامبولي” قائد المجموعة التي اغتالت السادات، والذي وصفه محمد حسنين هيكل بالبطل فاحتذاه أغلب كتاب جيل الستينيات. ففي “موقف النجم” طلب منه مرشده الثاني – ابن عربي – أن ينظر إلي نقطة ما من السماء بعيدة، فرأى نقطة خضراء لم تقع عينيه علي مثيل لها. وقد وصف هذا الإخضرار بأنه مشع، وبراق، وهادئ أيضاً.

وعندما تقترب النقطة الخضراء منه يكتشف أن بها طائر قادم من سمتِ القبلة. ثم أخذ الطائر يدنو من الراوي حتى صار في مواجهته؛ “فإذا به ضياء خالص، ونور صرف، ومن ذلك تتشكل الملامح الإنسانية التي تعلقت بها غير مصدق، وعندما اكتمل وجه الطائر الآدمي، زعقت: “أنت.. أنت”. لم أعرفه إلا في صور المحاكمة المطبوعة والمرئية. مدثراً بالبياض، يلف قضبان القفص الحديدي، كذا صور الهجوم، يندفع في قلب النهار، عبر مركز الضوء، معه صحبة صدورهم عارية داخل مرمى الخطر كله، يقتحم المنصة ليخلص زمناً، وينقذ أمه، عرفته في الصور المرئية التي التقطت علي عجل، ينزل من عربة النقل، يلقي القنبلة، ثم يعود في ثوان ليمسك المدفع، عرفته بخيالي وها هو أمامي. حراً من كل قيد، مكشوفاً من كافة الحجب، طائراً أخضر من ضوء. ها هو يثبت جناحيه حتى يستمر معلقاً في الفراغ، أقول بحنان عظيم: “خالد، تكلمت أنا وفعلت أنت، تمنيت أنا، وتمنى غيري، وأديت أنت”.

يهز رأسه الذي دقت ملامحه وصار في هيئة وحجم رأس طائر، لم يجيبني، إنما قرب فمه من فمي، وكنت غير قادر علي عناقه لأني بلا ذراعين لا أقدر علي الدنو منه لأنني مسير. لكن فمي تطلع إلي فمه كما يتطلع الطفل إلي ثدي أمه قبل الرضاعة، عندئذ قطر في فمي ثلاث قطرات من شراب طيب حلو. تذوقت واستحسنت، عرفت أنه أطعمني ما يشبه المن والسلوى، فتحت عيني والشبع يملأني، والجوع قصي عني، نسيت مذاق أي طعام تناولته طيلة عمري.

يرتفع خالد، يثبت عند نقطة مرتفعة متطلعاً إلي رأسي وكأنه يطمئن عليّ، عندئذ رأيت فجوة حمراء في مقدمة صدره، بقعة ضوء قان تقطر دماً حقيقياً وكأن للضوء عروقاً، بالضبط في موضع القلب، صحت: “هل تألمت؟”. جاءني صوته من موضع شروق الشمس: “أعطاني الله من هذه القوة، لكن الله قواني عليها”. رأيت قطرات الدم تندمج بالفضاء الكوني، تدور مع الأفلاك، تولد مع جديدها ولا تندثر مع قديمها الذي حان أوان فنائه. رأيتها تمد الحمرة المصاحبة لبزوغ الفجر علي ضفتي النيل، تصبغ أطراف النخيل، وشواشي الأشجار الفارهة. وفي عتمة الليل تستقر قطرة علي هيئة نجم في السماء” (ص220-222).

ثم يخاطب قارئه فيقول: “أيها القارئ الحميم، هذا جزء من كل وما أوردته كل من بعض، فالسر عظيم. أرفع البصر. حدق إلي الشرق ستراه، لا تمل النظر، ضوءه الواهن سيلفت انتباهك، وكلما أطلت النظر اتضح لك كنهه وأسفر لك عن نتف من سره، واذكر أن هذا النجم الوليد قطرة من دماء خالد الذي خلصك وخلصني” (ص223).

والحقيقة فأن هذا المستوى من كراهية السادات والتأييد الكامل لاغتياله لم يكن نادراً بين أفراد جيل الغيطاني ممن يعرفون بجيل الستينيات. والحقيقة لم يكن هذا مأخذي الوحيد على الغيطاني وجيله هذا، ولكني كنت – وما زلت – انزعج بشدة من ضحالة معارف بعضهم اللغوية، وعدم اتقان هذا البعض للغة التي احترفوا الكتابة بها، واعتماده بشكل كامل على المصححين الذين ربما تدخلوا في الصياغة أيضاً.

وأذكر أنني حضرت في ألمانيا ندوة للغيطاني يقرأ فيها من “التجليات” فصدمت – وصدم غيري كذلك – بأنه لم يستطع قراءة جملة واحدة من كتابه هذا بشكل صحيح لغوياً، حيث كان يخطيء في القواعد وفي تشكيل الكلمات، وهذا ما لاحظه حتى طلاب أقسام الاستشراق الذين حضروا الندوة. وقال البعض إذا كان هذا يحدث مع نصه الخاص، فما بالك بالكتب الأخرى؟! فالغيطاني عندما يتحدث بشكل عفوي تظهر موهبته وأستاذيته، ويبرع في تدبيج حديث منطقي مقنع، فلماذا يتلعثم ويخطيء في قراءة كتبه الخاصة؟! الحقيقة لم أجد إجابة لهذا السؤال، لذا كنت أتساءل دائماً عن مدى قناعة الغيطاني بتكلف هذه اللغة التراثية في كتاباته السردية، وبصفة خاصة في “كتاب التجليات”، حيث أصبحت لغته التراثية ذات صبغة صوفية.

ولأن هذه المشكلة اللغوية لم تقتصر على الغيطاني وحده، بل شملت أغلب كتاب جيله، فإنني أتعجب ممن يدعي وجود “إنجازات لغوية” ما لجيل الستينيات! وسبق أن قلت في كتابي “الأصولي في الرواية” (ص172):

“كُتاب هذا الجيل اهتموا بالتجريب اللغوي، ولكنهم علي عكس ما يشاع لم يتمكنوا من إحداث قطيعة أو ما يشبه القطيعة المعرفية مع لغة الأجيال السابقة، بل إن المعرفة اللغوية لبعضهم كانت ضحلة إلي حد ملفت؛ لذا فمن الغريب أن البعض يريد التستر علي ضعف الحصيلة اللغوية لكثير من كُتاب هذا الجيل بتعميمات عن التجديد اللغوي لكل كتاب هذا الجيل. فالإنجازات اللغوية التي ينسبها إدوار الخراط أو غيره لكتاب هذا الجيل يمكن الوقوع عليها عند الكثيرين من كتاب الأجيال السابقة علي سبيل المثال عند المازني ويحي حقي وبشر فارس وكذلك عند بدر الديب وجبرا إبراهيم جبرا والطيب صالح. ربما كان التجديد لهذا الجيل يقتصر علي مستوى الشكل فقط. حيث فتحوا أبواب النص السردي لكثير من العناصر التقنية والأنواع الأدبية التي تمازجت أو تجاورت في نصوصهم لعل أبرزها: تحطيم الترتيب الزمني التقليدي، والاعتماد كثيراً علي النهاية المفتوحة، وتفتيت الرؤية السردية عن طريق الخلط بين أنواع مختلفة من الرواة “وتوسيع دلالة “الواقع” لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشعر”.

د. عبدالسلام حيدر

بروكسل 19 أكتوبر 2015

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!