يرى من خلال الوجوه

يرى من خلال الوجوه

قراءة في رواية ” يرى من خلال الوجوه”

بقلم: د. لبنى المقراني 

“يرى من خلال الوجوه” هي ثاني رواية أقرأها للكاتب والفيلسوف المبدع ” إيريك إيمانويل شميت”. كانت الرواية الأولى “ليلة النار” التي تروي تجربة روحية عميقة عاشها الكاتب في الصحراء الجزائرية.

 تتناول رواية “يرى من خلال الوجوه” تفكّر الإنسان المؤمن وحيرته وأسئلته التي يخطئ من يظنّ أنّ الإيمان بالله _ مهما علت درجاته_ يقدّم أجوبة مرضية لها. يعرض الكاتب من خلال شخصيات روايته عددا من الرؤى المختلفة، كما يظهر هو شخصيا بفلسفته الخاصّة ضمن حبكة روائية رائعة. تتمحور جلّ النقاشات بين شخصيّات الرواية حول الله والإنسان والأديان والتطرّف والإلحاد والإرهاب، وحول عالم الأموات، غير أنّ الرواية تظهر ذلك العالم المحجوب عنّا كعالم يتداخل مع حياتنا. ونجد هنا نوعين من الأموات، نوع موجود دون تأثير ونوع مؤثّر سواء بشكل إيجابي ملهم كأرواح الفلاسفة والفنّانين الذي يحاولون الاستمرار في نشر أفكارهم وفلسفاتهم من خلال الأحياء أو سلبي يشبه وسوسة الشياطين.  لم يلامس الكاتب عالم الغيب من خلال الأموات فقط وإنّما أيضا من خلال فكرة جريئة وهي الحوار المباشر مع الله، الذي جرى مع الشخصيّة الأساسيّة للرواية، وهي شخصيّة أوغستين، الصحفي اليتيم المشرّد.

يعمل أوغستين في جريدة يوميّة بإحدى المدن الصغيرة في بلجيكا، بصفة متدرّب لا يتلقّى أيّ أجر من صاحب الجريدة الجشع. يرسله هذا الأخير ذات يوم إلى الشارع بحثا عن مواضيع للنشر فيصطدم بإرهابيّ شاب قبل دقائق من تفجير نفسه قرب كنيسة أثناء مراسم جنازة، مما يسفر عن ضحايا وأضرار، ولكنّ أوغستين ينجو وتتوالى الأحداث بعد ذلك. لأوغستين مقدرة خاصّة على رؤية الأموات، فقد رأى والد الإرهابيّ وهو يحثّه ويدفعه دفعا إلى تنفيذ عمليّته تلك وكذلك فعل الإرهابيّ نفسه مع أخيه الأصغر الذي وقع تحت تأثيره بالفعل. أرى الكاتب مبالغا في تصوير هذا القدر من تأثير الموتى في حياتنا، حتّى أنّه قال في أكثر من موضع “من يكتب حين نكتب؟” مشيرا إلى إلهام الموتى للكتّاب والمفكّرين. لعلّ الفكرة لا تتعدّى كونها خيال كاتب أو ربّما كانت جزءا من تساؤلاته دون اعتقاد حقيقي.

يجتمع أوغستين بأربع شخصيّات رئيسية في الرواية، وأعني هنا تحديدا الشخصيات التي جرت بينه وبينها حوارات، وهي المراهق الإرهابي ذو الأربعة عشر عاما، المحقّقة في قضيّة التفجير التي نكتشف حقيقتها في آخر الرواية، الكاتب نفسه والله … نعم اللهّ!

تمثّل شخصيّة المراهق الفكر المتطرّف والكراهية التي تقود إلى الإرهاب، غير أنّه يبرز ضحيّة للمجتمع الذي بات ينبذه بعد عمليّة أخيه الإرهابية، مما يخلق داخله صراعا نفسيّا قاسيا ينتهي بترك المدرسة رغم تفوّقه واتباعه خطى أخيه. أما المحقّقة فتمثّل الفكر الإلحادي الناتج عن قرار وليس عن قناعة، إذ لا تنكر هذه الشخصية وجود الخالق ولكنّها ترفضه. تتبنّى المحقّقة فكرة غريبة وهي أنّ ما يعبّر عنه الإنسان من كراهية وعنف إنّما هو انعكاس للعنف والغضب الإلهي بالأساس. يبدو هذا التصوّر معاكسا تماما لكلّ ما نعرفه من جرائم وفظائع ارتكبها الإنسان عبر التاريخ باسم الإله والدين، وهكذا يكون الإنسان من وجهة نظرها ضحيّة مغلوبة على أمرها، مرتكزة في ذلك على نصوص دينيّة مجتزأة من سياقها وأهدافها تراها هي محرّضة على العنف والقتل. يختلف إلحاد هذه الشخصيّة عن الإلحاد الكلاسيكي إن صحّ التعبير، بمعنى إلحاد هؤلاء المؤمنين بذكاء الطبيعة، حيث رسمت صورة مثاليّة وفق رؤيتها البسيطة للحياة ولصفات الخالق وإذ لم يكن الواقع متوافقا مع تلك الصورة قررت رفض هذا الإله المخالف لمرادها. تبدو شخصيّة المحقّقة مشوّشة، قلقة، باحثة عن الحقيقة ولكنّها غير صبورة، تسأل ولكنّها لا تتبنّى في الأخير سوى آرائها السابقة، لذلك يصعب على مثلها أيّ تغيير في معتقداته الراسخة. في المقابل لا نرى لأوغستين فلسفة خاصّة أو رأيا يتبنّاه، لديه سؤال واحد شامل، سابق لكلّ سؤال ويختصر جميع الأسئلة وهو ” لماذا؟ “، غير أنّه محاور جيّد لمّاح عكس ما يوحي به مظهره البسيط أو الأبله كما يظنّ الناس أو يظنّ هو نفسه. 

يعبّر الكاتب عن آرائه بطريقتين: بشكل مباشر، باعتباره شخصيّة يحاورها أوغستين، وبشكل غير مباشر من خلال الرواية نفسها. يتبنّى الكاتب مبدأ حريّة الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، ويرى سبب تحجّر الفكر الإرهابيّ في ادعائه معرفة الأجوبة على جميع تساؤلات البشر. يعرّف الكاتب الإنسان بشكل طريف حيث يقول إنّه كائن يمشي على قدمين، ليس له ريش، وأكثر تعاسة من الحيوان، لأنّه مسكون بأسئلة لن يجد إجاباتها مطلقا، فهي رحلة بحث بلا نهاية. يجد الكاتب أريحيّة في التعبير عن أفكاره من خلال حواره الصحفي مع أوغستين، حيث يرى أنّ الأديان تبدأ إلهيّة ثمّ تنتهي بشريّة مبتعدة بذلك عن النار الأولى، وأنّها تحتاج للتجديد من وقت لآخر على يد القدّيسين (الأولياء) واللاهوتيين والفنّانين والمتصوّفين. يُضيف الكاتب أن الشكّ والإيمان يسيران بطريقة متوازية على طول الحدود المشتركة بينهما، إذ أنّهما لا يعيشان في المنطقة نفسها على حدّ تعبيره، يعني بذلك العقل والقلب. ويواصل معرّفا العنف كمرض فكريّ يظهر عندما يرفض الإنسان حدوده.

يبقى الحوار الأهمّ في هذه الرواية هو ذلك الحوار مع الله الذي رتّب له الكاتب وجعل وسيلته عشبا مخدّرا خاصا. شرب أوغستين مغلي ذلك العشب وانطلق نحو اللقاء الذي بدا كحوار صحفي بينه وبين عين كبيرة في السماء. لماذا العين؟ ربّما للدلالة على الشعور الدائم بالرقابة الإلهية، كما أنّ العين تنقل دواخل المتكلّم وشعوره فيخفّ غموضه.  ذكّرتني فكرة اللقاء وطريقته بقصص الأطفال ذات الخيال الجامح، وهي كما أحسب بساطة مقصودة تهتمّ بالغاية، والغاية هنا معرفة المراد الإلهي من خلق الإنسان حرا ومن الرسالات والكتب السماوية. يجيب الله عن أسئلة أوغستين ويشرح له خصائص كلّ كتاب سماويّ وكلّ مرحلة دينيّة، ولكنّه يبدو غير راض عن مدى استيعاب الإنسان للمشروع الإلهي، إذ لا يوجد قرّاء للكتب السماويّة في مستوى ذلك المشروع، كما جاء على لسان الله في الرواية، وينتهي الحوار بجملة يقولها الله “أنا أتألّم لحال الإنسان!”. رغم جديّة المواضيع المطروحة إلّا أنّ الحوار لم يكن جديّا تماما، إذ جاء في إطار هلوسة سببها ذلك المخدّر العجيب، هذا يشبه رؤيا مناميّة توافق ما كان يفكّر فيه النائم قبل نومه.  فغالبا ما جاء على لسان الله ليس سوى الأفكار التي كانت تدور في رأس أوغستين، وما كان يدور في رأس أوغستين ليس سوى أفكار الكاتب. ما كنت لأجزم بذلك فالأمر يحتمل أن يكون مجرّد طرح لأفكار لا يتبنّاها الكاتب بالضرورة، غير أنّ الرسالة الأخيرة التي جاءت ضمن مجموعة رسائل في آخر الرواية والتي كتبتها ابنة الكاتب بالتبنّي بعد 100 عام على مولده (28 مارس 2060) وبعد وفاته أيضا تؤكّد أنّ ما جاء من أفكار يطابق آراءه وفلسفته.  في الحقيقة لم يرق لي ذلك التجسيد للذات الإلهيّة وودتُ لو استطاع الكاتب إيجاد طريقة أخرى لإيصال فهمه لمبدأ الحريّة الذي أراده الله للإنسان ولمجمل الأفكار التي جاءت على لسان الله.

تستحقّ هذه الرواية قراءة متمعّنة فهي بالإضافة إلى عمق طروحاتها غاية في المتعة والتشويق.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!