دولة الباطن

دولة الباطن

دولة الباطن

بقلم د. وفاء أحمد السوافطة

قضية الوراثة المحمدية، في مجتمع الطرق الصوفية، قضية غاية في التعقيد، لكنها تُعتبر الأساس الفكري، أو البُنية التحتية للوجود الصوفي. فـ(دولة الباطن)، حسب اصطلاح حسن الشرقاوي، إنما تحكمها قوانين خاصة، ولها تنظيم هرميّ يتصدر أعلاه القطب الغوث، ويعاونه الإمامان، والأوتاد، والأبدال، والنجباء، والنقباء، وغيرهم([1]). و”لابد للوارث من نسبة خُلُقية ومعرفية من الموروث”، حسب ما يرى أحمد زروق([2]). ولذلك، فالورثة المحمديون أتم وأكمل من غيرهم. يقول أبو العباس المرسي: “قد يطلع الله بعض الأولياء بحكم إرث الأنبياء، فينطق بالغيب”([3])، وقد ذهب المرسي إلى حد بعيد عندما اعتبر أن القطب هو “مركز دائرة الوجود”، كما كان يرى ابن عربي؛ بل يضيف المرسي أن الله لو كان يُرضيه خلاف السُنة، لكان التوجه في الصلاة إلى القطب الغوث أولى منه إلى الكعبة([4]).

وتنتقل الوراثة بين أركان دولة الباطن، حسب ترتيب إلهي، يوحيه لأوليائه المحققين، فيختارون خلفاءهم ومساعديهم، أو قد يُلهَم الخليفة بأن يملأ شاغر سلفه، بناءً على رؤيا أو على مشاهدة قلبية. ولا يمكن أن تخلو مناصب دولة الباطن. فكلما شغر منصب، بوفاة صاحبه، يستلم خليفته مكانه، إما بناء على ترشيح أركان دولة الباطن، من أقطاب وأئمة وأبدال، أو بناء على ترشيح الخليفة لذاته، عن طريق رؤيا يراها. ولذا، ترى سعاد الحكيم أن معظم الطرق الصوفية تُظهر رجالاتها الكبار على أنهم ختم الأولياء. لكنها تقول إن المستشرق شودكوفيتش([5]) يجد مبرراً لذلك بالالتفات إلى مفهوم ” النيابة “؛ أي أن “كل طائفة ادعت لوليها مقام الختم، فهي إنما ترى نائب الختم المحمدي، أو ترى على صفحة ولايته القمرية انعكاس صفات ولاية الختم الشمسية”([6])، بمعنى أن الختم الحقيقي هو محمدﷺ، وكل من جاءوا بعده هم مجرد انعكاس لولايته، أو نوّاب لخلافته الباطنة. ابن عربي يرى أن الختم ختمان: ختم يختم الله به الولاية، عامة، وهو برأيه عيسى عليه السلام؛ وختم يختم الله به الولاية المحمدية، خاصة، وهو شخص لم تقطع به النصوص، ويكون آخر الورثة المحمّديين الكاملين([7]).    

ويقول الشيخ اليشرطي إن الولايات مختلفة، متباينة القوة، فهناك من هو ذو مددٍ قوي، وهناك من يستمد مدده من أسماء إلهية أقل فاعلية، إن صحّ التعبير، أو أنها محدودة بتجليات خاصة، على أدق التعابير. فالأسماء الإلهية، في عُرف الصوفية، يأتي على رأسها اسم الله الأعظم، لأنه يختص بكل زمان ومكان، ولـه الهيمنة على كل التجليات والأسماء والصفات والأفعال الأخرى. أما اسم الرحمن، على سبيل المثال، فيختص بتجلي الرحمانية([8])، وكذلك اسم المنتقم يختص بشؤون النقمة، في زمان ما ومكان ما. وبناء عليه، فإن بعض الأولياء الذين يستمدون من غير اسم الله الأعظم يكونون، في حقيقة الأمر، أقل فاعلية ممن يستمدون من الذات مباشرة. يضاف إلى ذلك، أن الذين يستمدون من الحضرة المحمدية تكون علومهم أشمل وأكمل؛ لأن صوفية المسلمين يعتقدون أن محمداً ﷺجاء برسالة شاملة، عامة، تامة، بينما غيره من الأنبياء والرسل كانت رسالاتهم محدودةً بزمان ومكان محدّدين، وكذلك اختصوا بأسماء إلهية دون اسم الله الأعظم. يقول الشيخ: ((أهل الكتاب عبدوا اسم (الرب) واسم (الرب) مقيَّد. والمسلمون عبدوا اسم (الله) واسم الله مطلق {}))([9]). ويقول واصفاً قوته الباطنية: ((لا تخافوا. شيخكم مدده قوي))([10])، ويقول، أيضاً: ((… لو درتم الدنيا، فلن تلقوا شيخاً غيري))([11]).

ويبدو للمتتبع سيرة الشيخ اليشرطي، قوة شخصيته وجاذبيته. فالشيخ، عندما نزل عكا، وجلس للتعليم في مسجد الزيتونة فيها، اجتذب حوله، في فترة قصيرة، مئات المريدين. مما مكّنه من أن يبني زاويته فيها، خلال فترة قصيرة. وقد كان من بين هؤلاء المريدين مئات العلماء، ممن تميزوا بالعلوم الشرعية، إلى جانب العلوم الصوفية. ففي وقت كان فيه بعض مدّعي التصوف يفاخرون بإهمال الجانب الفقهي والعلم الشرعي، كان الشيخ اليشرطي يوصي أتباعه بضرورة اكتساب العلم الشرعي والتزام الحدود الشرعية، وأن الحقيقة والشريعة صنوان لا يفترقان. فقد سُئِل، مرة، عن السير والسلوك في طريق الصوفية، فقال: ((هو السير المحمدي الذي كان عليه نبينا محمد ﷺ.  فالشريعة والحقيقة متلازمتان، لا تصحّ إحداهما إلا بالأخرى))([12]). ولكن، على أن لا يقف المريد عند ظواهر الشريعة، لأن ((كل حكم من أحكام الشريعة تحته كنز من كنوز الحقيقة، ولا ينال ذلك الكنز، إلا بإتقان ذلك الحكم الشرعي))([13])

ويبدو أن من أهم العوامل التي دفعت باتجاه انتشار شعبية الشيخ اليشرطي بساطة لغته وتصرفاته. فقد كان يحدث مريديه، بلغة رمزية بسيطة وسامية. ففي ذات مرة قال لهم: ((عندما يحلِّق طير النسر في الفضاء، يشكِّل، بجناحيه، شبه دائرة، كحلقة الذكر. وهو، كلما علا، بسط جناحيه، وارتاح، حيث يأخذ حكماً من العلوِّ. ويظل هكذا، حتى يبلغ أعلى مقام من الأحكام، فيرتاح راحة تامة. قال الله تعالى: {  }([14]). ومع هذا، أتعلمون ما الذي ينزل بهذا الطير، من أسمى مرتبة إلى أسفل؟ إن الله، سبحانه وتعالى، منح النسر حدّة البصر. فإنه يرى أدق الأشياء على الأرض، وهو في الأجواء. وإنها هي الشهوة التي تهبط به إلى الحضيض. أتعرفون كيف ذلك؟ حين يكون النسر مرتفعاً، يقع بصره على جيفة في الأرض، فيسقط عليها، دون وعي، وبعزم هائل، بحيث لو صادف في هبوطه ذاك، شجرة، لأهاضت جناحه، أو عوداً، لاقتلع عينه، أو صخرة، لحطمت رأسه. والسرّ، في أمره، هو انقياده للشهوة، وميله إلى المادة))([15]). لقد جاءت عبارات الشيخ، في هذا النص معبّرة بدقّة عن العلاقة ما بين سمو الروح وتدني النفس. فالنفس إذا ما سمت بأمانيها وتطلعاتها ورغباتها ووصلت أعلى المقامات، كانت روحاً محضاً؛ وهي إذا هبطت بها الشهوات كانت نفساً دنيِّة تمرّغت في جيفة أرضية، قد تَرِدُ بها إلى موارد الهلاك.

وقد تقصّد الشيخ اليشرطي بساطة الأسلوب، في حواره مع علماء الطريقة ومثقفيها؛ إذ كان يقدم لهم فهماً جديداً لعلوم مَن سبقوهم، بأسلوب بسيطٍ، غاية في الاختصار والتركيز. وكان، في هذا الأسلوب، يرتكز على البُعد الاجتماعي للتصوف، وينأى بهم عن التهويمات الفلسفية؛ فها هو، ذات مرة، رأى الشيخ إسماعيل الخطيب الطوباسي يمسك بيده كتاباً، فسأله: ((ما هذا الكتاب)) ؟ قال: كتاب المعرفة. فأجابه: ((تعال، لأقول لك ما هي المعرفة. المعرفة والحقيقة أن تذكر الله بإخلاص، وتحب أخاك بإخلاص، وتطعم هذه اللقمة بإخلاص))([16])

إذن، فقد كان من المميزات الهامة، التي طبعت مشيخة الشيخ اليشرطي، التصاقها بالنبض الاجتماعي. فقد شكّل أتباع الطريقة مجموعاتٍ صوفية متآلفة متكافلة، في القرى والمدن، أغنتهم عن النقابات والجمعيات الأخرى، وضربوا مثلاً في التآلف والانسجام، أثار حفيظة الجماعات السياسية حولهم، لأن هؤلاء السياسيين رأوا في هذه المشيخة منافساً قوياً لسلطتهم على الجماهير. وكذلك، لا ننكر اصطدام المشيخة اليشرطية بالمصالح الإقطاعية لبعض الأسر المهيمنة في القرى والمدن التي دخلتها الطريقة. 

وعودة للحديث عن اقتراب مبادئ الطريقة من النبض الاجتماعي، والتنظيمات التي سلكتها للمريدين لتنظيم أمورهم الحياتية، فقد تشكّلت الجماعات الشاذلية، في تلك المناطق، من مقدمين، وهم نواب الشيخ في القرى والمدن الكبيرة؛ ومريدين، يعتقدون في الشيخ، ويخضعون لسلطة المقدم، في بلدهم، ومنهم: أهل الأسباب ” الذين يسعون للرزق في بلادهم، ويزورون الشيخ…، ثم يعودون إلى أوطانهم وأعمالهم؛ ومنهم الذين يعملون لدنياهم، ويعيشون بجواره، من سكان المدينة؛ ومنهم الفقراء الذين هاجروا، ليكونوا على مقربة من الشيخ، ثم أوجدوا لأنفسهم عملاً في تلك المدينة “؛ و”أما الذين أقامهم مولاهم… في مقام التجريد، فهؤلاء يعيشون في الزاوية، بين يدي الشيخ، منقطعين عن الدنيا”، وهم أهل التجريد([17]). ويجتمع مريدو الطريقة، في كل زاوية من الزوايا المنتشرة في البلاد المختلفة، ليلتي الإثنين والجمعة، ويقيمون الصلوات الخمس والأذكار، ويقرأون الدروس الدينية، من الفقه والحديث والتفسير وغيره([18]).

وتصف فاطمة اليشرطية النشاطات الجماعية التي كان مريدو الطريقة يمارسونها في زاوية عكا، حيث مقر الشيخ اليشرطي، فتقول: ” كانت وفود الزائرين، من المدن القريبة، والأقطار المجاورة أو البعيدة، تدخل الزاوية، جماعات وأفراداً. وكثيراً ما كان بعضهم يردد قول: الله الله مولانا، لا إله إلا الله… وحال وصول الزائرين، كانوا يدخلون حرم الزاوية، فيصلّون، ويذكرون، وينشدون الأناشيد الصوفية القديمة والحديثة، في المجالس، وفي حَلَق الذكر”([19]). وحَلَق الذكر، هي واحدة من أوراد الطريقة الشاذلية اليشرطية التي تتكون، عادة، من (الوِرد)، الذي يجب على كل منتسب تلاوته صبحاً ومساءً، بعد صلاتي الفجر والمغرب، وهو عبارة عن استغفار وصلاة على النبي وترديد للفظ التوحيد، مئة مرة لكل فقرة ([20]). وتتلى، أيضاً، الوظيفة الشاذلية، التي سماها الشيخ أبو الحسن الشاذلي، صلاة الفتح([21])

أما (الذكر)، في الطريقة اليشرطية، فهو على نسقين: الذكر الخفي، وهو الذي يختار له المريد ركناً هادئاً قصياً، ليذكر الله فيه، ويكون بترداد لفظ “الله” بصوت خافت؛ والذكر الجلي، وهو الذي يجهر به على شكل نغمات، في حَلَق الذكر، مع الجماعة. وهذا، النوع الأخير يكون عادة في ليلتي الجمعة والإثنين، كما يكون كلما دبّت الهمّة في قلوب المريدين المجتمعين([22])

أما من الناحية الفكرية، فقد حاول الشيخ أن يجسّر الفجوة بين تعاليم طريقته التي تتطلب قدراً كبيراً من الثقافة الدينية والصوفية، وبين الأمّيين من جماعات أتباعه، في بعض الأحيان، ومتوسطي الثقافة، في أحيان أخرى، وذلك عن طريقين: الأول ـ محاضراته الدينية والصوفية التي كان يلقيها على المريدين مساء كل يوم؛ والثاني ـ تشجيعه للعلم، وإيفاده البعثات للمدارس والجامعات ومعاهد العلم المختلفة، كالأزهر الشريف، ومن هؤلاء الشيخ عبد الله الجزار، الذي كان منشداً في زاوية عكا، في أول انتسابه، ثم ابتعثه الشيخ اليشرطي إلى الأزهر الشريف، ولما عاد بعد ذلك عُـيِّن مدرساً في الكلية الأحمدية؛ إلى أن تولى منصب الإفتاء الشرعي، في عكا وكان مقدماً في الزاوية اليشرطية، وكان علماً من أعلام الفقه الإسلامي في فلسطين([23]).

وكانت هذه النفقات التعليمية تعتبر من ضمن نفقات الزوايا. إذ كان يُنفَق على الزوايا من مال الشيخ، ومن ريع ما يُحبس لها من الأوقاف، ومما يقدمه المريدون من المال والهدايا([24]). وكانت بعض الزوايا تشكل اكتفاءً ذاتياً، من حاصل ما يُجنى من أراضيها. فقد كان المتجردون من الفلاحين يشرفون على زراعة تلك الأراضي، ورعاية أشجار الزيتون وسواها، وبالإضافة إلى ذلك كان هؤلاء يعملون على ” حرث الأرض وزرعها، وجمع الحصاد وقطف الثمر، وعصر الزيتون لاستخراج الزيت…، ونقل المؤن، وتربية الماشية… وحياكة الثياب، وتنجيد الفراش، وشراء الحاجات من السوق، والكنس، والرش، والتنوير”([25]).

([1]) الشرقاوي، الحكومة الباطنية، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992م ، ص 31. والأوتاد، لدى الصوفية، هم أربع رجال من أهل المراتب يحفظ الله بهم الجهات الأربع، ولذلك يعبر عنهم بالجبال. انظر: سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، ص 517و520؛ وكذا فالبدل هو أحد أصحاب المراتب ممن تبدلت صفاته الفانية بالصفات الباقية. انظر: م. ن، ص190؛ أما النجباء فهم 300 من رجال الغيب على قلب آدم عليه السلام؛ والنقباء اثنا عشر في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون. انظر: م. ن، ص 517 و1068.

([2]) زروق، قواعد التصوف، ص 12.

([3]) المناوي، الكواكب الدرية، ص 24.

([4]) م. ن، ص 25.

([5]) تسمّى باسم علي شودكوفيتش، وهو باحث متخصص في تراث ابن عربي لأكثر من نصف قرن.

([6]) الحكيم، الولاية الصوفية، (مقال)، دمشق، مجلة التراث العربي، ع 35و36، 1979م، ص ص 191-192؛ وقد ورد المقال، ذاته، ضمن كتاب المؤلفة عودة الواصل، انظره: ص 200.

([7]) الحكيم، عودة الواصل، ص 194و198.

([8]) اليشرطية، فاطمة، نفحات الحق، ص 149، والإشارة إلى الحديث رقم 245.

([9]) م. ن، ص 149؛ والآية رقم 115، من سورة البقرة .

([10]) م. ن، ص 253.

([11]) م. ن، ص 340.

([12]) م. ن، ص 113.

([13]) م. ن، ص 112.

([14]) سورة الذاريات، الآية 22.

([15]) اليشرطية، رحلة، ص 303.

([16]) اليشرطية، نفحات، ص444.

([17]) اليشرطية، رحلة، ص 254.

([18]) م. ن، ص ص261-265.

([19]) م. ن، ص 273.

([20]) م. ن، ص 152.

([21]) وهي صلوات وأدعية، وضع أصلها الشيخ عبد السلام بن مشيش، وأضاف عليها الشيخ أبو أحمد العربي الدرقاوي، ورتب سور القرآن وآياته فيها الشيخ أحمد زروق. انظر: م. ن، ص ص 155.

([22]) اليشرطية، رحلة، ص ص 164 -165.

([23]) م. ن، ص ص 267-268.

([24]) م. ن، ص ص 250-251.

([25]) م. ن، ص 251.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!