مرآة البحر ومرآة الجدول

مرآة البحر ومرآة الجدول

مرآة البحر ومرآة الجدول

بقلم: أماني العاقل

إنّ قدرة الإنسان على تحقيق وجوده الروحيّ والإنسانيّ تبدأ من لحظة الكشف عن وعيه الداخلي وتنميته، وهذه حالة يمتزج فيها العقلي بالروحي والنفسي، فيبدأ باحثاً عن جوهر يفسّر معه سرّ وجوده، يسعى في الكون هائماً باحثاً عن إجابة، ثم يصحو من هذه الحالة على فكرة أنّ ثمّة قوة جمالية أطلقت في هذا الكون، وثمة معرفة هبطت ذات يوم على هذه الأرض، فيحرّر ذاته من قيد بعض الصفات البشرية التي قد تقيد تصوراته عن الوجود، ويتحرر من قيد الإيديولوجيا واللغة، ويهيم باحثاً يقتفي أثر من سبقوه في طريق السؤال.
ويبدو للباحث أو المتذوق في مجال التصوف أن المتصوفة قد أبدعوا في التعبير عن هذه المدركات وقد امتد بهم الكون ليرسموا لحظات من توهج “النفخة الإلهية” في أجسادهم في لغات مختلفة وأنماط متنوعة، فنجد التصوف في كل اللغات “العربية، الفارسية، الصينية، الهندية..”فاختلفت الأجساد والأشكال للتعبير عن تجليات “المطلق” و”اللامحدود” و “اللامرئي”، لكن اللغة وحدها لا تكفي، إذ يشعر القارئ أنه  يحتاج ما هو أبعد من اللغة، فيبحث عن تجربة صوفية حقيقية تساعده في فهم نفسه وتأويل بعض ما دوّن.
ولنأخذ على  سبيل المثال  كتاب “المثنوي” لجلال الدين الرومي الذي حاور فيه ذاته وسعى للكشف عن تجليات وصور للمعنى الروحي، لكنه وجد في هذا البحث تقييداً، لاجدوى منه، وذلك بحسب قوله: “وإنّ لي ردحاً من الزمان أبحث عن صورة روحي، لكن صورتي لم تكن تبدو قط في (مرآة) إنسان!!” وهو بذلك يتجاوز مفهوم ابن عربي عن رجل يبحث عن مرآة روحه في صورة امرأة يكمل بها معرفته بنفسه، فالصورة التي يعنيها جلال الدين هي صورة من الهيولى تأتي في ما بعديات تصورات ابن عربي عن صورة تكامل قد تتجلى في المرأة، إن صورة “الروحي” غير المتجلية في “مرآة إنسان” عند جلال الدين تمثّل حالة من الوعي الكلي لمفهوم عميق عبّر عنه في أكثر من موضع كقوله: “قلت أيها القلب، ابحث عن المرآة الكلية، وامض إلى البحر، فلا نفع يتأتى من الجدول.

إنّ طلب الوصول إلى المصدر هو أول خطوات الطريق، وهو طلب عقلي وروحي في مستوى الوعي، يدرك الإنسان من خلاله أنه فاقد مهما امتلك، وباحثٌ مهما تعلّم، يظنّ أنه قد وصل إلى ما يريد لكنه يتجاوزه باحثاً عن معنى جديد، وكلما كبُر المعنى طال الطريق:” ومن هذا الطلب، وصل العبد (الفقير) إلى حبّك، فإن الألم هو الذي جذب مريم إلى جذع النخلة!!”

ما تزال تبحث عن الجدول و البحر يبحث عنك”، فالجدول هو الانشغال بالصورة عن المعنى، أو الانشغال بالتفاصيل البشرية عن الوجود الإلهي، أو الوقوع في أسر عشق صورة بشرية تشغل عن عشق أكبر.. تماماً كالانشغال بالجدول عن البحر، إن حضور القلب مدعاة لحضور العشق، ولعلّ عشق جلال الدين الرومي بدأ بالألم والاحتراق إلى أن وصل إلى الانعتاق وبلوغ المعرفة الكلّية، تماماً كما بلغت القديسة مريم عليها السلام عبر الألم أوج معرفتها .

إن الغاية من هذه الأمثلة تعيدنا إلى سؤال، كيف عرف جلال الدين ربه؟ كيف استطاع التعمّق في حواراته مع عالمه الداخلي ليسمع صوت الله فيه، وكيف اهتدى أخيراً إلى أهمية البحث عن البحر وترك الجدول..
لكلّ منّا جدوله الذي يشغله عن البحر، وليس بالضرورة لكي يعثر أي منا على بحره أن يلبس عباءة من صوف ويدور في الأروقة منادياً (الله) جلّ جلاله كما فعل جلال الدين الرومي، إن المهمة الأولى لكل إنسان هي أن يميز جدوله من بحره، فلكل منّا جدوله الخاص وبحره الخاص، إن عثرنا عليهما سنصل إلى البحر الكلي الذي دعا إليه كبار المتصوفة والعارفين الروحيين، البحر الذي ينقذ الإنسانية من كل هذا الدمار والموت وحب الموت، العثور على البحر يعني أننا نمضي في طريق “الصراط المستقيم”. لقد بدأ خلاص جلال الدين الرومي بالألم الذي طهّره من اتّـباع الجدول، وأعتقد بأن الحياة الإنسانية في هذا العالم تعيش المخاض المؤلم ذاته، إنها مرحلة اختيار “البحر أو الجدول” .

ليس البحث عن الله من اختصاص جماعة واحدة أو حكراً على شخص بعينه، فلكلّ منا جدوله وبحره، ومرآته وصوره. إن “المرآة الكلية” التي ينادي بها جلال الدين الرومي هي مرآة أوسع من تقييدها بشخص بعينه حتّى ولو كان جلال الدين عينه، إنها مرآة المعنى التي ينعكس فيها حبّ الخير وحبّ الموسيقى وحب الفن، وحبّ الحياة، و ضياع هذه المرآة أغرق الكثير منا في متاهات ظلاميّة ولكثرة اشتداد الغرق أغرقنا أوطاننا وحضارتنا وتاريخنا معنا، وليس ثمة خلاص قبل معرفة البحر من الجدول..

لا تكفي هذه القطرات العابرة للتعمّق في مرآة المثنوي أوغيره من فيوضات جلال الدين الرومي، فإنما هذا المقال هو إلقاء حجر صغير عابر يقلق ركود بحيرة القلب، وقد يأتي في مقالات لاحقة ما قد يكون جدير بالبوح.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!