قراءة في كتاب
كنت نيئا فنضجت
الحلقة الثانية
بقلم: د. قول معمر – الجزائر
4-ابدأ من جديد:
من المعاني النورانية في كتاب [كنت نيئا فنضجت فاحترقت]،تلك اللمسة السحرية في التعامل مع النفوس البشرية التي تحتضر بإعادة ماء الحياة لها وفتح نافذة الأمل التي أغلقتها الخطابات المختلفة السياسية والدينية (إلا ما ندر )،ويُعالج صاحب الكتاب سؤالا منهجيا عميقا كان من أهم القضايا المحورية في الميراث الروحي (التصوف)،هل يُمكن أن أبدأ من جديد؟ وأنا مُثقل بالتراب والطين وقلبي بين الطبع والران وذنوبي تقارب عنان السماء، أنا في هذه اللحظة خالي الوفاض من شيء مُشرق، يهمس صاحب الكتاب في أذن الأرواح العاشقة[الإجابة بنعم هي أعز وأغلى ما نقدمه لأنفسنا]،وتأمل معي في هذه الوصية النورانية النابعة من تجربة قاسية مريرة (أغلى ما نُقدمه لأنفسنا)،ليس هناك مسيح مُخلص أو مُنقذ أنت مسيح ذاتك ،وهذا في غاية العُمق والدقّة ،وهذا الذي ذكره الكاتب من مشكواة الرجال (رجال الله)،نقرأ في كلماتهم النورانية (لا تلتفت)،كما نقرأ (الصوفي ابن وقته)،البدء من جديد هو التحقق بهذه المعاني النورانية ،وهذا ما أراد الكاتب أن يُلفتنا إليه البدء من جديد هو عيش اللحظة الراهنة ،وفي كلام الكاتب حول هذه الفكرة مضامين وجودية تُلفتنا إلى الحقيقة الكيانية للإنسان ،الذي جعله الشيخ الأكبر (قدس الله سره ) مُلتحقا بالعالم العلوي بروحه وبالعالم السفلي بجسده وترابه وطينه ،ابدأ من جديد لفتة تربوية عميقة لا تيأس لا تقنط ،لا تستمع إلى كلام اليائسين ابدأ من جديد إشارة إيمانية عميقة معناها انظر إلى رحمت الله وإلى عفوه ومغفرته ،انظر إلى تاج الملك أيها الرفيق ولا تنظر إلى سوطه فتحسبنه أحد الحرس أو الجند ،ابدأ من جديد استلهام لمعاني الوحي الشريف )وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ( الأعراف/156.
ابدأ من جديد معناها اقرأ قصة آدم أيها الولد واغتسل بقوله وعجزه رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ الأعراف/23.
ابدأ من جديد ما زال هناك أمل أيها الرفيق ليست هذه النهاية والخاتمة إنها البداية ابتسم وأبشر ،فأبوك الذي تنتمي إليه حاز الشرف ونال الخِلعة لأنه كان ينظر إلى العاقبة ،وهذا ما ذكره مولانا الرومي في المثنوي ،إذ كان آدم يسمي المرء بعاقبته ويرى أن هذه الأسماء (مؤمن –كافر-تقي )هي عارية فقط ،لذا لما أدركت الملائكة السر سجدت ،ورغم أنه أدرك هذا جعله القضاء أسير حبة قمح ،فلا تعجب يا ابن آدم وابتسم ،لذا لا يجد مولانا الرومي كلاما جميلا يمدح به هذا الأب العظيم [فهكذا آدم الذي أحمل اسمه، ولو أنني مدحته حتى القيامة لما وفيته حقّه/ المثنوي ،ج1،بيت من:1234 إلى 1250].
وهذا المعنى النوراني هو الذي أشار إليه مولانا خالد في كتابه (ابدأ من جديد) انظر إلى العاقبة أيها الرفيق ما زال الطريق طويلا ،الولد سرّ أبيه ،لا تستمع إلى من يريدون أن يجعلوا منك مَلكا على الدوام ،اقرأ قصة أبيك واتبع سبيله واجعل [رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا] قلادة في عنقك حتى لا تضل السبيل.
يستلهم صاحب كتاب [كنت نيئا] من تجارب الآخرين وسيرهم ما يُنقذ به روحه وأرواح أحبابه ويُحيلنا على عبارة كانت السيدة العظيمة أنيماري شيمل (ألف رحمة ونور على روحها الطاهرة) مُعجبة بها [الحركة بركة]، وكيف كانت هذه الكلمة مُسعدة له – كما أسعدنا الكاتب بكتابه -الحركة بركة هي روح الأمر (ابدأ من جديد) .
ويهمس مولانا خالد في أذن الأرواح العاشقة بصدق (ابدأ من جديد) مُستلهما من عالم مولانا الرومي النوراني [لا تبع نفسك رخيصا وأنت نفيس في عين الحقّ)،لا تبع نفسك ليائس أو قانط ،ولا تبع نفسك لمدّعي ،وهذا هو المعنى أيضا الذي أشار إليه العطار ل[وما ذا أفعل لك أيها الخَلف الضال إذا لم تكن تعرف قيمة نفسك ]،ابدأ من جديد أنقذ نفسك وأحيي إنسانك (هذا تعبير المؤلف ) ،واترك التقليد، وبصرخة مليئة بالوجع والأسى على أحوالنا يهمس الكاتب لقلوب الأرواح العاشقة ليُسِرّ لها بألمه وحزنه [خلت حياتنا بالفعل من كل أصيل خلّاق وكلها تقليد وانصياع ومحو للشخصية والذات ومُتابعة للغالب، لا محبة ولا أخلاق غير المنفعة ]،تأمل معي في قوله (أصيل خلّاق) رفض للنمذجة والقولبة ورفض للدونية والتكرار والتولّد ،إنها روح كاتب يستنكف أن يكون غيره ،الروح ملولة من الصور والأشباح والعادات التي خرّبت كياننا [همومنا أن تكون حياتنا ذات معنى والمعنى المقصود لا علاقة له بحس أو دين أو عِرق أو عادة مما ورثناه وخرّب حياتنا]،وهذا المعنى النوراني هو محور كتابات مولانا خالد(في حدود ما قرأت) وهو ما طرحه أيضا في كتابه الجميل الأخاذ (معنى أن تكون صوفيا ).
5-البحث عن الله
قد يكون غريبا جدا ومُربكا أن تقول في مجتمع إسلامي إني أبحث عن الله، سُحت بروحي في كتاب [كنت نيئا فنضجت فاحترقت] وتبدى لي الكاتب حاملا سراجا بيده وهو يمرّ حيث سجدت الجباه وتفطرت الأقدام ويدخل بنا إلى المزارات والمقامات ،ويسري بنا حيث وضع إبراهيم القواعد في مكة حيث (الجمع غفير والقلب فقير إلى رحمت الله) ويهمس في أذن الأرواح العاشقة ويصدق معها ،كيف لا وهو الذي حدثنا عن كيمياء تمييز الأصيل من الزائف (البوح بالمكنونات ) ليبوح لنا ببعض الأسرار ويهتك لنا الأستار وبكل صدق وصديقية يسمح لنا بكل أدب ورقة أن نطلع على مكنونات نفسه وخبيئة قلبه (وإنه لشيء عُجاب ما سمعنا به من قبل)،لا تتعجل أيها الرفيق فتكن مُجسما [كانت تلك البقعة المقدسة أضيق مما توقعت، لم أجد فيها راحتي، إلا من خلال أفعال حرصت ألا أتخلى عن القيام بها، وأهمها فعل البحث والقراءة ]،هل قرأت أيها الرفيق أحدا حدّثك بهذا ؟!،إن هذا الكلام حرام -كما قال مولانا الرومي -على الذين لا يعقلون [وهذه الحكمة قد حرّمت على من لا عقل له، فليس هناك من يشتري بضاعة اللسان سوى الأذن] مثنوي،1،بيت 14،يُصارح مولانا خالد الأرواح العاشقة بصدق (أضيق مما توقعت) ،(لم أجد فيها راحتي) ،إنه أمر في غاية التعقيد وفي غاية الصدق ،من ضيّق حرم الله الآمن ،عندما تقرأ [كنت نيئا] وحديث مولانا خالد عن الصور والأشباح والعبث الذي يعلو مفرقنا عندها ستجد لهذه الشطحة تأويلا ،عندما تُدرك أن الذين يلبسون البياض ويطوفون حول بيت الله هم المتخاصمون على المتاع والحطام والفرج ،عندما تُدرك أن هذه الأجساد التي تطوف ولم تُطهر قلوبها من الكبر والجبروت والحسد والرياء ستجد لهذه الشطحة تأويلا ،عندما تعلم أن أداء المنسك لله يكون بحلق الأنا وغسل النفس بماء الحياة ستجد لهذه الشطحة تأويلا ،عندما تقرأ في المثنوي قصة الرجل الذي خرج من بيته مُسرعا لآداء الصلاة وأدرك القوم خارجين من الباب فقال بلسان روحه [آه]،فقال له رجل أدى الصلاة [هبِني هذه الآهة وأعطيك صلاتي كلَّها]،واقرأ إن شئت قصّة إبليس ومعاوية ،عندها ستعلم أن الكاتب كان باحثا عن هذه الآهة في وسط هذا الركام وهذا الزيف والعبث ،(أضيق مما توقعت) ،فَقْدٌ وَوُجْد أيها الرفيق [الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سرّ الإخلاص فيها ].
(لم أجد فيها راحتي) تأويل وتخريج لما تتوهمه العقول المتحجرة استخفافا بأمر الله ،لم أجد فيها راحتي فتح لتأويل الشطح ،وشكوى لله وتذلل ،(لم أجد فيها راحتي) تبرّء من النفس والحول والطول والقوة والتجاء إلى ركن شديد ،وكأني بالكاتب يقول ( يا عالما بالأسرار إن سرّي غير منجذب إليك فما أنا فاعل يا رب ؟! أنت الذي تهب القدم والوجه واليد وأنت الذي تهب اللسان فاجعله يا إلهي رطبا بذكرك واجعل سرّي مُترعا بكأس معرفتك،(لم أجد فيها راحتي) شكوى نجد فيه ريح يوسف أيها الرفاق [إلهي إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ] ،فيا عابد الصنم والوثن واللون والرائحة ،اجعل أنف روحك يقودك إلى تلك الديار .واجعل من قول (لم أجد فيها راحتي) راحلة لك أيها الرفيق المسافر ،ارحل عن كل ما قيّدك وأدمى قدمك ،واحمل الفأس كجدك أبراهيم واتركه في عُنق كبيرهم لعلّهم يرجعون.
(البحث عن الله) في كتاب [كنت نيئا) يأخذ مولانا خالد الأرواح العاشقة الملول في سياحة إلى مقامات السادات والكُبراء ويُجلسها على بساط أهل الله حيث تتوافد الأرواح الطيبة في مقام أم المساكين زينب –عليها السلام-حيث الصدق والصديقية الكل في فرح وسرور ،والكل في خدمة عيال الله [دخلت مقام السيدة زينب…وصوت النساء يعلو بالصلاة على النبيr والقصائد والمديح…هؤلاء النسوة يؤكدن أن الايمان بالآثار والأفعال هو الأبقى والأرفع، أما اللفظ والدفاتر المعبأة بالأخبار الضعيفة مجرد ترف…لا يقرأن للرومي ولا يعرفن الجنيد والحلاج…توزعن الماء والتمر وتزغردن باللسان ،لا وقت للبكاء فدمع العين خارج المكان جفّ من كثرة التعب] الله. تأمل في هذا المشهد النوراني وهذا الأثر الطيب ،واقرأ قوله )فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الروم /50،ولا تنظر إلى الأرض وإنما انظر إلى موضع قدمك ،وتأمل هؤلاء النسوة الطيبات وهن يرتلن ذكر الحبيب محمدr ،وتأمل معي أيها الرفيق في دقّة صاحب الكتاب ونقده الساخر (لا يقرأن للرومي ولا يعرفن الجنيد والحلاج) من هؤلاء ؟أنهم أساطين التصوف وأمراء قافلة الحب الإلهي ،لا تدرك النسوة العابدات عنهم شيئا ورغم ذلك هن على عتبة الحبيب مسرورات ،وانظر معي إلى قول الكاتب (يؤكدن أن الايمان بالآثار والأفعال هو الأبقى والأرفع)،إنه التحقق بمعاني الإيمان قولا وعملا مع غاية العجز والفقر والضعف وهذا من نور النبوة ،وكأني بالكاتب ينقد نقدا مُبطنا تلك المسالك الكلامية التي أسالت حبرا كثيرا وأهدرت عُمرا ثمينا ،وللمسالك الفقهية التي لم تستطع أن تنتُج أرواحا خلاقة وهو ما سجّله الغزالي رحمه الله [إن المتكلمين كتبوا المجلدات في الشؤون الإلهية وإن الفقهاء كتبوا المجلدات في الحيض والنفاس وعجزوا أن يرفعوا الناس إلى حضرة الله ،والمتصوفة-رغم بعض شطحاتهم هم من أثاروا هذا الجانب الجواني]،هذه الصورة النورانية التي يرسمها الكاتب وذلك السرور البادي على النسوة يختبىء خلفه روح متألمة لحال الأمة وما آلت إليه ،وهذا ما ذكره من قبل [الانشغال بالأغيار أهدر الكثير منا وضيّع أوقاتنا وأزعجنا وآلامنا ولم يبق لنا إلا القليل]،لكن تجد هذه الروح المتألمة (مولانا خالد) في صنيع النسوة باعثا له على السرور ،وإذا وقفت عند حديثه عن الصدق والعبث ستدرك هذا، وتأمل في كلامه الجميل وروحه الجريحة المُتعبة من عالم البشر والطين وهذا الزيف [لا وقت للبكاء فدمع العين خارج المكان جفّ من كثرة التعب] الله !رِفقا بنا أيتها الأصنام والحجارة لم يَبق في العين ماء يُسكب (الله لا إله إلا هو ).
في كتاب [كُنت نيئا] أيها الرفاق حديث عن رجل يبحث عن الله أو قل يبحث عن ذاته حاملا شمعة أوقدها من نار قلبه ،رجل وجد الله في الخرابات حيث الصمت عنوان الكلام والخلود سراجه ونوره حيث أولياء الله ،واقرأ ما كتبه حول حديثه عن (الأضرحة وكونها براح للحرية) ،يقول :[تدخل مهموما قلقا متوترا، تخرج هادئا ،الأضرحة مساحة بعيدة عن سلطة الواجب الإلزامي والقهر والبروتوكول والكلام والتنظير، لكل لغته التي يتقنها، ولا يفرض على أحد أن يتواصل بها …يزور الأضرحة ليغتسل ببكائه، جفت دموع عينه من كثرة الزحام في الخارج …لا ينشغل بأحد..]،هنا في هذا المقام تكتب النفس بأريحية دون تكلف وتظهر روح الكاتب مرحة مُقبلة شغوفا ،وهي التي كانت من قبل (في أقدس الأمكنة) ضيقة الصدر ،تدخل قلقا تخرج مُرتاحا ،لم يتنجّس المكان بالزائف لا وجود لأصنام يا عابد الوثن ،الصنم هو ذاتك ؟!تلتقي الأرواح العاشقة في هذه الرياض وهي مقبلة على الله بفرح راجية الفرج مقدمة رجل العجز والفقر والحاجة على قدم آلهتك وصنمك أيها السامري ،جالسة على الأعتاب تنتظر قلبا تُفرحه ونفسا تعيسة تُسعدها ودمعا تكفكفه، ويحيلنا الكاتب إلى إشارة مهمة جدا( لكل لغته التي يتقنها) ،كل قد علم تسبيحه ،اجمع ما تراه من فاكهة ورمان وعنب واعصره أيها الرفيق لتدرك أن شراب هؤلاء جميعا ذكر الله ،في الضريح [تغتسل الروح العاشقة ببكائها، جفت دموع عينها من كثرة الزحام في الخارج].
وأنت أيتها الأنظار الضعيفة ؟ليس هناك أصنام فيما تدّعون ،ليس هناك إلا أرواح باحثة عن الله وليس هناك إلا قلوب متأوّهة وأيد ممدودة إلى عياله آخذة بيدها إلى ربها ( ارجعي إلى ربك) ،واستمع إلى صاحب المثنوي [تعال]،واقرأ كلام الكاتب جيدا واترك التشبيه والتجسيم، ودع الضيق الذي أنت فيه وتعال إلى رحمة الله وسعته، ولا تحسبنّ أيها المسكين الفاني أن هذه الأمكنة تحوي الرفاة ،ليس هنا إلا قميص يوسف وشذاه ،فرفقا بهذه البقايا من المساكين التي تركت لكم عالمكم وما تعبدون ودعوهم وما توجّهوا إليه.
6-قشور ولباب
في سياحتي الروحية في عالم (مولانا خالد عبده الجميل)،استوقفني حديثه عن التصوف في كتابه [كنت نيئا] وكلامه مُقتبس من مشكواة النبوة ،وفي هذا المعنى يقول الغزالي في المنقذ من الضلال [..إنّ جميعَ حركاتهم وسكناتهم في ظاهرِهم وباطنِهم مقتبسةٌ من نورِ مشكاةِ النُّبوّةِ وليس وراء نورِ النُّبوّةِ على وجه الأرض نورٌ يُستضاءُ به]،وهو ما يتجلى في أنفاس المؤلف وكلماته التي توحي بقراءة واعية وفاحصة ودقيقة لما كُتب فيه شرقا وغربا ناهيك عن الإلمام بأقوال أساطينه ،واستمع إلى كلامه النوراني[التصوف قلب الإسلام وغُصنه الحي الذي يُسقى بماء الإيمان والصدق، التصوف امتداد لخلوة النبي في غار حراء، التصوف استمرار لدعاء النبي في الطائف “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي…..]،تأمل معي كيف جعل الكاتب التصوف قلبا ،وغُصنا تستمر خُضرته بما يجري داخله من ماء السماء، ولك أن تتأمل في جسد ضخم لا قلب فيه ،ليس القلب للدماء وإنما ليستمر ذكر الله ويرتفع هذا الطين والتراب ويغدو الحمأ المسنون جوهرا وغُباره عالما آخر (كما قال إقبال في مولانا الرومي) ،وتأمل في قوله (يُسقى بماء الإيمان والصدق) ،السقي هنا فعل وإرادة حركة وبركة أسباب ومسببات ،وماء الإيمان ذكر الله وإخلاص الأنفاس له قبل الاعمال والشعور بالخجل من زيف الأعمال والصور التي تُرفع وليس فيها حظ لله ،وانظر معي في قوله (التصوف امتداد لخلوة النبي في غار حراء) ،تأصيل لبذرة الإخلاص التي بذرها الحبيب وليست بِدعا كما أوهمنا أهل الصور والتراب ،وتحقق بسيرة المُجتبى الذي صنع الحق طير روحه واجتباه لقيادة الأرواح التائهة ومداواة النفوس العليلة وإنقاذها من (العبث)،الخلوة ليست اعتزالا أيها الرفيق كما أوهموك ،فمن قرأ [معنى أن تكون صوفيا ] واستلهم ما بثه الكاتب في هذا الكتاب أدرك أن الخلوة هنا هي إنقاذ إنسانك وإيقاظ روحك وبَعث لها ،وفي الحِكم هذا المعنى اللطيف الذي أشار إليه الكاتب [ما استفاد الرجل خير من خُلوة يدخل بها ميدان فكرة]،الفكرة هنا ليست غباء ودروشة إنها تدبّر في آيات الله ومُشاهدة تجلياته وجماله ،اختلى النبي الأكرم أياما وعاش مع الخلق هاديا أعواما ،فالصور النمطية التي يحكيها أرباب الصور عن التصوف مقلوبة تماما فاعدل الرأس أيها السيد واقرأ قول أبي سعيد [الصوفي من يعيش مع الناس و يختلط معهم ولا يغفل عن الله لحظة واحدة ] ،يتجلى هذا المعنى النوراني في هذا الكتاب[كنت نيئا] من بدايته إلا نهايته وليس ثمة ما يوحي باعتزال الناس وعدم مُخالطتهم إنما هي دعوة لاعتزال الصور والأشباح والألوان ،من تمسّك بهذه الظلال فليس من الأحياء ناهيك أن يكون من الناس إنما الناس في اصطلاح المؤلف من آمن بإنسان نفسه وسعى إلى إنقاذها من كل عبث. ويتأكد هذا المعنى عند قراءة تلك الأوصاف التي أضيفت إلى أهل الله (القصاب-القواريري-الحلاج-الخراز –الحداد-العطار..)، ولأمر ما أشار صاحب المثنوي إلى معنى جميل فيه ردّ على أصحاب الفهوم السقيمة [إن التصوف ليس من أجل تعقيد الحياة ،بل التصوف لأنه ليس من موجود حقّ سوى الله ].
التصوف استمرار لدعاء النبي في الطائف “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي” ،يُحيلنا الكاتب إلى مسلك العجز والضعف والتبري من الحول والقوة ،وكأنه بهذا يضع المفتاح في أيدي الأرواح العاشقة لتستأذن الدخول إلى حضرة الله والتشرّف بالعبودية له ،وقراءة مناجاة الطائف رؤية للطائف أيها الرفيق ،وهي تورية جميلة جدا من المؤلف (خالد عبده)،ولا تحسبن الطائف في مكة ؟!انظر حولك ! وتحسس ستجد أن أهل الصور والأشباح قد أدموا قدمك وروحك بجراح كثيرة وأنت تسير من مكان إلى مكان قائلا (أين المفرّ؟) ،اقرأ مجددا قول المؤلف[الانشغال بالأغيار أهدر الكثير منا وضيّع أوقاتنا وأزعجنا وآلامنا ولم يبق لنا إلا القليل] وردد قول مولانا الرومي [لو كُنت عبيدة بن الجراح لن ينصلح حالك إلا بالجِراح ]واسجد كما سجد ذلك الطاهر وردد معه “اللهم إليك أشكو ضعف قوتي” ،واعلم أنه ليس بعد الطائف إلا قول الحق ل[إنّا فتحنا ].
في هذه البداية الجيدة من المؤلف كفاية للأرواح العاشقة، فالحفنة تدل على الغدير والحبة تدل على البيدر الكبير (كما قال الرومي) .
وفي حديثه عن التصوف يسري مولانا خالد بالأرواح العاشقة إلى أرض مصر ليُحدثها عن جمعية نسوية للتصوف وكيف استبشر خيرا بالخبر وفضوله الجميل (الذي نفتقده) في الوقوف على حقيقة الأمر ونقده الساخر للحال البائس الذي وقف عليه، وسأل المرأة عن أورادها وتجربتها في التصوف [فلم تكن المرأة الصوفية عارفة برابعة العدوية كما أنها لم تُشاهد فيلم القديسة نبيلة عبيد؟!،خرجت باسما كما دخلت وحمدت الله أن التدخين مُباح في ذلك المكان]،تأمل هذه الصورة وتأمل ما شئت من دعاوى عريضة في زمننا هذا في كل مكان ،لذا يردف المؤلف نقده الساخر مُبينا للأرواح العاشقة أن هذه الصور مجرد عبث [لا مُشكلة لدي في فقر هؤلاء، فثراء الطيبات حول المقامات وأمام طاسات الزيت وفوق عجلة الأنابيب، وخلف آنية البيض والجبن أغناني وأسرني أكثر ممن يعدون أنفسهم صوفية رجالا كانوا أو نساء ]،طريق الله ليس جُبة ولا عمامة أو خِرقة صنعها حرفي من عرق جبينه وصوف شاته التي يعيش على لبن ضرعها ،لذا نجد الغزالي محمد –رحمه الله يُلفتنا إلى المعنى الجميل الذي طرحه الكاتب [إن الذين يُغبّر وجوهَهم دُخان المصانع وتُراب الحقول أولى بالله من أولئك الذين يرون في العُزلة خِدرا نفسيا]،
[أغناني وأسرني أكثر ممن يعدون أنفسهم صوفية] ،أسرني لصدقه وأغناني لأن فيه وجه الله ،وهذا ما جعل الكاتب زاهدا في أصحاب الدعاوى ،وهذه المعاني الجميلة نجد لها حضورا كبيرا لدى مولانا الرومي في نقده لمدعي التصوف مما يؤكد أن الكاتب كان مُستلهما لتراث مولانا الرومي ودلالا جميلا على عالمه الآسر ،ومما لفتني في هذه الحكاية الفضول الروحي والمعرفي عند الكاتب الذي يرفض أن يبني عالمه وإنسانه على (قال لي وسمعت ويُروى وحدثنا وأظن ولعل )وجميع هذه المسالك تكريس لما أراد المؤلف نقده التكرار والتولد والتقليد والمحاكاة .
وفي حديثه عن التصوف يتوقف مولانا بالأرواح العاشقة عند عالم الحلاج وعماد الدين نسيمي وابن عربي .دون أن ينسى أن يسجل حسرته على عدم عنايتنا بتراث أسلافنا […لكن من غير المعقول أن يكون اهتمامنا بمن ولدنا وتربينا على ميراثهم اهتماما سطحيا لا يعدو قشرة اللسان والصورة ] ،وهو خطاب موجه إلى النُخبة من الباحثين واعتراف صريح بفضل هؤلاء الرجال على ماء الحياة الذين أمدونا به مقدمين في سبيل ذلك أرواحهم ،ومن الغرابة جدا أن يجد هؤلاء اهتماما كبيرا لدى الغربيين في دراسة تراثهم واستخراج جماله ولآلئه كما فعل لويس ماسنيون مع الحلاج الذي لا زلنا نردد عبارته (أنا الحق) ولم نأخذ منها إلا كلمة (أنا) ظانين الرجل يهتف باسمه من دون الله ؟!،وليس هذا إلا امتدادا لما طرحه الكاتب خالد عبده [العبث] في كل شيء وفي كل معرفة ،وما أشبه حالنا بقصة الببغاء والدرويش في المثنوي والقياس الفاسد الي وقع فيه.
ويحدث مولانا الأرواح العاشقة عن السيدة العذراء مريم حديثا نورانيا جميلا ساحرا يفيض بلاغة ووجدا ونقدا مُبطنا لأصحاب الصور والأشباح ل[…إن حرّم الفقيه تجسيدها في مثال وجعل بيتها سجنا لها يظل قلبها مبتسما بما تُطعمه من مائدة السماء، تنزل المائدة لها دون طلب، لا تحتاج إلى حواريين، قلبها الأبيض يُغنيها عن صحبة الزائلين، كل شعرة من مريم تتدلى منها ملايين الأنفس…كلما تساقطت من عينها دمعة يمتلىء العالم من حولها بالنور، مريم أم النور واهبة الحياة، القرب منها وحدده الحياة بل هي الحياة كلها…] .
إن معنى جميلا كهذا وعبارات نورانية ،أرى من الأدب أن أحافظ على نورانيتها فالتعليق عليها إفساد لها كما أفسد أهل الصور والطين كل جميل ،ولا شك أن الأرواح العاشقة فقط ترى تحت كل حرف من هذه العبارات بِشارة بميلاد المسيح ،واقرأ قوله تعالى )فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ(مريم/27،واربط أتت مع تحمله لتدفن نفسك في أرض الخمول ،وابتسم كما قال المؤلف ومدّ يدك إلى لطف الحق ومائدته ،واترك صُحبة الزائلين.
قشور ولُباب نقد من المؤلف لما أسماه عبثا في كل تمظهراته ،حتى الحقل المعرفي الثقافي كان له نصيب من هذا الزيف ،[كلما تابعنا حادثة من حوادث العرب المثقفين ،نزداد كفرا بهذه المساحة الجغرافية لكل ما يحدث فيها، بكل ما يستجد من إحياء وبعث للرطانات القديمة، صدق النبي المجهول الذي قال :لأننا أمة لا تُحسن إلا الكلام كانت مُعجزتنا مجرد كلام ]
صرخة وألم ووعي لواقع الأمة البائس وجمود العقل عن الجدة والابداع والإيغال في مسائل عفا عليها الزمن ،أسالت حبرا كثيرا وأهدرت أعمارا وطاقات وزمن ،ولم تُثمر إلا أرحاما مقطوعة وأوطانا مشلولة وأجيالا تعيسة وأحوالا غير مرضية ،واستدعاء أحمق لقضايا لا ترد شاردا ولا تطعم جائعا ،وذكرني هذا النقد بفيلم لعادل إمام (الذي أدخل البسمة إلى قلبي وجعلني أضحك من أعماق قلبي ) ،” احنا بتوع الأوتوبيس ” وسأله رفيقه (أنت شيوعي ولا إخواني ؟!) فقال أنا جِعَان ؟! ،(لم نُحسن إلا الكلام ؟).
8-مناجاة
كعادة أهل الله ،يختم الكاتب كتابه بمناجاة وتضرع وشكوى وحديث مع الله عن الحلال الذي أضحى مسخا مشوها لا يُمكنه أن يُساهم في إخراج إنسان سوي خالي من الأمراض ،وعن عصاة مذنبين يحبونه أكثر من حب ابتهال البعض في المساجد والبيوت، وعن مقهورين وعن ضيق العالم على زمرة المساكين وعن طلب الرحمة وانتظار تجليها كما تجلت لأوليائه من قبل ،ومما يتجلى في هذه المناجاة النورانية ذلك البوح والصدق بمكنونات النفس بإظهار العجز والفقر ،واليقين في رحمت الله الذي يبسط يده للمجرمين والعصاة رحمة بهم من أيدي العتاة والمتجبرين والمتكبرين ،إنقاذا لهم من اليأس والألم ومداوة لجراحهم ،لأنهم يُدركون أن أرباب الصور منصرفون إلى قوله شديد العقاب فأخذوا مكان الله ليمارسوا الالوهية والربوبية وينزلوا بعباده أشد العقاب ويصبوا عليهم سوط عذاب ،أما الأرواح العاشقة فقد التجأت إلى قوله )قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(الزمر/53 ،وفي مناجاة الكاتب استلهام من هذه الآية العظيمة وهو يقف بين يدي ربّه مقرا بإسرافه وذنبه ،مُستحضرا سيرة أبيه آدم)رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا( .طالبا حسن العاقبة والختام.
ونستسمح الكاتب مولانا خالد إن أجرينا كلامه على غير مراده ،فهذا قصارى فهمنا وجهدنا ،ونشكره على هذه الفرصة وهذه المائدة المريمية التي أتحفنا بها سائلين له المولى البركة في عمره وروحه وفكره والفتح له وعلى يديه ،ونهمس في أذن كل روح عاشقة كما همس مولانا خالد [ابدأ من جديد ولا تلتفت ]،ونردد معه كما ردد دوما )رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا(
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين