الأخرويات Eschatologie عند محيي الدين بن عربي
بقلم: د.حامد طاهر
التصور الأخروي لما بعد حياة البشر ونهاية العالم Eschatologie لا نكاد نجده عند كثير من مفكري الإسلام بنفس القدر من التفصيل والعمق والتكامل الذي يوجد عليه لدى ابن عربي (ت 638هـ). وقد خصص له هذا الفيلسوف الصوفي عدة أبواب طويلة من موسوعته الكبرى (الفتوحات الملكية) ([1])، كما أشار إليه على نحو جزئي في مؤلفاته الأخرى، وقام بتحليله وعرضه من خلال:
النصوص الدينية التي وردت في الموضوع (الآيات القرآنية، الأحاديث القدسية، الأحاديث النبوية، بالإضافة إلى آثار الصحابة، وأقوال الصوفية)
الفهم الإشاري الذي يبدأ من اللغة، ويدور قريبا أو بعيدا، حول دلالاتها.
التحليل العقلي الدقيق جدا، والمقارنات المدهشة.
الاستعانة بالخيال، والرؤى المنامية.
وضع ذلك كله في إطار موحد، وتصور متكامل.
أما محاور هذا التصور، فقد وضعناها- خلافا للترتيب الذي وردت به في الفتوحات المكية ([2])-في الترتيب التالي:
أولا: البرزخ:
ثانيا: القيامة والبعث
ثالثا: جهنم ومراتب أهل النار.
رابعا: الجنة ومنازلها.
لكننا قبل أن نتناول هذه الموضوعات بالتفصيل، لابد أن نعرض لفكرة ابن عربي عن الموت، الذي تنتهي به حياة الإنسان في الدنيا، لكي تبدأ مرحلة مختلفة عنها تماما في الآخرة.
حقيقة الموت:
يرى ابن عربي أن الموت عبارة عن انتقال من منزل الدنيا إلى منزل الآخرة. وهو ليس كما يتصور الناس إزالة الحياة من الإنسان في نفس الأمر، وإنما اخذ الله بأبصارنا فلا ندرك حياته، وقد ورد النص في الشهداء في سبيل الله بانهم أحياء يرزقون، ونهينا أن نقول فيهم: أموات! ويؤكد ابن عربي أن الميت ينتقل، وحياته باقية عليه لا يزال، وإنما يزول الوالي عليه والمدبر له وهو الروح الذي كان يتولاه في هذه الدنيا ([3]).
يقول ابن عربي: والميت عندنا يعلم من نفسه انه حي، وأنت تحكم عليه بانه ليس بحي جهلا منك. وقد أصبح متصرفا فيه لا متصرفا، وهو تنبيه من الله لنا بهذه الحال أن الأمر كذا. فالتصرف فيه للحق لا لك في دعواك التصرف. ثم أن هذا الميت على الحقيقة متصرف بالحال والهمة لا بالقوة، فلولا تصرفه فيك ما غسلته ولا كفنته.. فهذا تصرف في الأحياء، وهم لا يشعرون، فيتصرف فيك وأنت لا تشعر، وهكذا يصبح الموت- في رأي ابن عربي- مجرد انتقال خاص على وجه مخصوص ([4]). وهذا ما سوف يتضح من حالة الموتى- الأحياء في الحضرة البرزخية.
أولا: البرزخ:
يحدد ابن عربي البرزخ بانه عبارة عن أمر فاصل بين أمرين، لا يكون متطرفا ابدا، كالخط الفاصل بين الظل والشمس، وكل أمرين يفتقران- أن تجاورا- إلى برزخ، ليس هو عين احدهما، ولكن فيه قوة كل واحد منهما. وإذا عجز الإنسان عن إدراك هذا الخط الفاصل بالحس، أي بالعين المجردة، فلابد أن يتصوره بالعقل ([5]).
ثم يعود فيقول انه مع إدراك الحس أو العقل للبرزخ بانه موجود، إلا انه ليس موجودا بالفعل. كيف؟ لابد هنا أن نستعين بمثال المرآة، فكما يدرك الشخص صورته في المرآة فيعلم قطعا انه أدرك صورته بوجه، ويعلم قطعا انه لم يدركها بوجه آخر، وخاصة عندما تكون المرآة أصغر في الحجم أو اكبر.. فهو يرى صورته في الحالتين أصغر مما هو عليه أو اكبر مما هو عليه، لكنه لا يقدر أن ينكر انه رأي صورته، مع علمه أن ما في المرآة ليست هي صورته الحقيقية بالحجم الكامل لها على الرغم من انه يقف أمامها وجها لوجه. لذلك فانه لا يوصف بانه صادق أو كاذب عندما يقول انه رأي صورته: في تلك الصورة المرئية؟ وأين محلها؟ وما شأنها؟ فهي منفية ثابتة، موجودة معروفة، معلومة مجهولة.. هذا مثال فقط على ما يزعم الإنسان انه قد أدركه في هذا العالم ([6]).
يقول ابن عربي: والى مثل هذه الحقيقة: يصير الإنسان في نومه وبعد موته: فيرى الأعراض صورا قائمة بنفسها، تخاطبه ويخاطبها: أجساد لا شك فيها ([7]).
أما المكاشف من الصوفية العارفين فيرى –في يقظته- ما يراه النائم في حال نومه، والميت بعد موته- كما يرى في الآخر صورة الأعمال توزن مع كونها أعراضا، ويرى الموت كبشا أملح يذبح، مع أن الموت نسبة مفارقة عن الضياع ([8]).
وهذا ما يطلق عليه ابن عربي الرؤية بعين الخيال، التي يخطئ الكثيرون فيخلطون بينها وبين الرؤية بعين الحس، والفارق كبير. فالرؤية الخيالية ميدانها واسع، وهي تدرك الأشياء في أحوالها ومواضعها المختلفة، بينما تفتقر الرؤية الحسية على رؤية الشيء في حاله واحدة، وموضع واحد. ويصف ابن عربي هذا العلم بانه دقيق جدا، ولا يتوصل إليه قلة نادرة من الأفراد ([9]).
ثم يعود ابن عربي إلى النصوص الدينية الواردة في الموضوع، فيقول: أن الشارع وهو الصادق- سمى هذا الباب، الذي هو الحضرة البرزخية التي ننتقل إليها بعد الموت وتشهد نفوسنا فيها بالصور والناقور.. والصور هنا جمع صورة بالصاد فينفخ في الصور وينقر في الناقور، وهو هو بعينة، واختلفت عليه الأسماء لاختلاف الأحوال والصفات، واختلفت الصفات فاختلفت الأسماء، فصارت أسماؤه كهو.. يحار فيها من عادته يفلي الحقائق، ولا يرى منها بشيء فانه لا يتحقق له أن النقر أصل في وجود الناقور، أو الناقور أصل في وجود اسم النقر؟! ([10])
هنا يبتعد ابن عربي عن المعنى اللغوي المتعارف عليه لكل من الصور والناقور، فيجمع أولا بينهما في المعنى مع انهما مختلفان، ويذكر أن الصور الذي هو عبارة عن (قرن ينفح فيه) جمع صورة.. لكي يتمشى مع الرؤية الخيالية التي قدمها لأدراك المرئيات في الحياة الأخرة ([11]).
وإذا كنا نفهم من (النفح في الصور) الذي ورد في النصوص الدينية انه عملية سماع الصوت إلى أبعد الأماكن من خلال النفخ في تلك الآلة لكي يقوم الموتى من قبورهم، فان ابن عربي يبتعد تماما عن هذا المعنى ويجعل الصور مستودعا للصور (جمع صورة)، كما يعطي للنفخ المعنى الخاص الذي أعطى الله تعالى به لآدم نعمة الحياة. بعد أن عدل صورته، كما أوجد به عيسى عليه السلام في رحم امه من غير أب.
يقول ابن عربي: واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الصور ما هو؟ قال: هو قرن من نور ألقمه إسرافيل. فأخبر أن شكله شكل القرن، فوصف بالسعة والضيق، فان القرن واسع ضيق ([12]).
ويمسك ابن عربي بوصف السعة والضيق الذي يتميز به القرن لكي يطابق بينه وبين الخيال!! فيقول: أعلم أن سعة هذا القرن في غاية السعة، لا شيء من القرون أوسع منه. وذلك انه يحكم بحقيقته على كل شيء وعلى ما ليس بشيء، ويتصور العدم المحض والمحال والواجب والإمكان، ويجعل الوجود عدما، والعدم وجودا، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم، أي من حضرة هذا: “اعبد الله كأنك تراه” و “الله في قبلة المصلي” –أي تخيله في قبلتك وأنت تواجهه لتراقبه وتستحي منه وتلزم الأدب في صلاتك، فان لم تفعل هذا أسأت الأدب.. فلولا أن الشارع علم أن عندك حقيقة تسمى الخيال، لها هذا الحكم، ما قال لك “كأنك تراه” ببصرك، فان الدليل العقلي يمنع من كان، فانه يخيل بدليله التشبيه والبصر، ما ادرك شيئا سوى الجدار، فعلمنا أن الشارع حضك أن تتخيل انك تواجه الحق في قبلتك المشروع لك استقبالها والله تعالى يقول (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة: 115) ووجه الشيء حقيقته وعينه. فقد صور الخيال من يستحيل عليه بالدليل العقلي الصورة والتصور، فلهذا كان واسعا.
وبالنسبة إلى ضيق الصور، أي الخيال، فانه يرجع إلى عدم إمكان قبوله أمرا من الأمور الحسية والمعنوية والنسب والإضافات وجلال الله تعالى وذاته سبحانه إلا بالصورة، ولو رام أن يدرك شيئا من غير صورة لم تعط حقيقته ذلك. فمن ها هنا هو ضيق في غاية الضيق، لأنه لا يجرد المعاني عن المواد أصلا، ولذلك كان الحس اقرب شيء إليه، فانه من الحس يأخذ الصور، وفي الصور الحسية يجلي المعاني… ([13])
ويخلص ابن عربي من تصوره للصور إلى أن: الخيال أوسع المعلومات، ومع هذه السعة العظيمة التي يحكم بها على كل شيء، قد عجز عن أن يقبل المعاني مجردة عن المواد كما هي في ذاتها: فيرى العلم في صورة لبن أو عسل أو خمر، ولؤلؤ، ويرى الإسلام في صورة قبة وعمد، ويرى القران في صورة سمن وعسل، ويرى الدين في صورة قيد، ويرى الحق في صورة إنسان أو في صورة نور، فهو –أي الخيال- الواسع الضيق. والله أوسع على الإطلاق، عليم بما اوجد عليه خلقه ([14]).
وأما كون القرن من نور –كما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم- فان النور سبب الكشف والظهور، إذ لولا النور ما أدرك البصر شيئا، فجعل الله هذا الخيال نورا يدرك به تصوير كل شيء، أي شيء كان.. فنوره ينفذ في العدم المحض فيصوره وجودا، فالخيال أحق باسم النور من جهة المخلوقات الموصوفة بالنور، فنوره لا يشبه الأنوار، وبه تدرك التجليات، وهو نور عين الخيال،لا نور عين الحس. فافهم!. ([15])
ويصرح ابن عربي بانه يختلف مع كل من تصور ذلك القرن ضيقا من أسفله واسعا من أعلاه، وهو يرى انه على العكس تماما منهم، يذهب إلى أن القرن واسع من الأسفل لان الخيال –الذي هو القرن- يصور العالم كله من أسفله حيث توجد الكثرة، ثم يبدأ في الضيق كلما صعد إلى الأعلى، حتى يكاد ينتهي دوره تماما عندما يصل إلى تصور الحق.
وفي النهاية يذهب ابن عربي إلى الله تعالى إذا قبض الأرواح من الأجساد الطبيعية أو العنصرية أودعها صورا جسدية في مجموع هذا القرن النوري فجميع ما يدركه الإنسان بعد الموت في البرزخ من الأمور إنما يدركه بعين الصورة التي هو فيها في القرن وبنورها. وهو إدراك حقيقي ([16]).
ومن الصور هنالك ما هي مقيدة عن التصرف، ومنها ما هي مطلقة (كأرواح الأنبياء كلهم، وأرواح الشهداء)، ومنها ما يكون لها نظر إلى عالم الدنيا في هذه الدار. ومنها ما يتجلى للنائم في حضرة الخيال التي هي فيه، وهو الذي تصدق رؤياه ابدا ([17]).
ومن الأرواح المحبوسة في القرن: قوم فرعون يعرضون على النار في تلك الصورة غدوا وعشيا ولا يدخلونها، فهم محبوسون في ذلك القرن، وفي تلك الصورة ويوم القيامة يدخلون اشد العذاب، وهو العذاب المحسوس لا المتخيل، الذي لهم في حال موتهم بالعرض ([18]).
وفي النهاية: كل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه، محبوس في صورة أعماله، إلى أن يبعث يوم القيامة تلك الصورة في النشأة الآخرة. ويؤكد ذلك ما جاء في أول الباب الثالث والستين من شعر لابن عربي يقول فيه:
بين القيامة والدنيا لذي نظر
مراتب برزخيات، لها سور
تحوي على حكم ما قد كان صاحبها
قبل الممات عليه اليوم فاعتبروا ([19])
ثانيا: القيامة والبعث:
يرى ابن عربي أن سبب تسمية يوم القيامة أن الناس يقومون فيه من قبورهم لرب العالمين في النشأة الآخرة، وأيضا لقيامهم أيضا إذا جاء الحق للفصل والقضاء والملك صفا صفا ([20]).
فإذا قام الناس من قبورهم وأراد الله أن يبدل الأرض غير الأرض تمد الأرض بإذن الله تعالى، ويكون الجسر دون الظلمة، ليكون الخلق عليه عندما يبدل الله الأرض كيف يشاء، إما بالصورة وإما بأرض أخرى ما نيم عليها تسمى الساهرة، فيمدها سبحانه من الأديم. بقوله تعالى (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) ويزيد في سعتها ما يشاء أضعاف ما كانت من احد وعشرين جزءا حتى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ([21]).
ثم انه سبحانه يقبض السماء إليه فيطويها بيمينه كطي السجل (الكاتب) للكتب، ثم يرميها على الأرض التي مداها: واهية، وهو قوله (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ) (الحاقة: 16)
ويرد الخلق الذين مدها لهم فيقفون منتظرين ما يصنع الله بهم، فإذا وهت السماء نزلت ملائكتها على أرجائها.
فيرى أهل الأرض خلقا عظيما أضعاف ما هم عليه عددا، فيتخيلون أن الله نزل فيهم لما يرون من عظم الملائكة مما لم يشاهدوه من قبل، فيقولون:
-أفيكم ربنا؟
فتقول الملائكة:
-سبحان ربنا، ليس هو فينا، وهو آت
فتصطف الملائكة صفا مستديرا على نواحي الأرض محيطين بعالم الإنس والجن، وهؤلاء هم عمار السماء الدنيا.
ثم ينزل أهل السماء الثانية، بعدما يقبضها الله أيضا، ويرمي بكوكبها في الناس وهو المسمى كاتبا، وهم أكثر عددا من أهل السماء الأولى، فتقول الخلائق:
-أفيكم ربنا؟
فتفزع الملائكة من قولهم، ويقولون:
-سبحان ربنا، هو ليس فينا، وهو آت
فيفعلون فعل الأولين من الملائكة أي يصطفون خلفهم صفا ثانيا مستديرا ثم ينزل أهل السماء الثالثة، ويرمي بكوكبها المسمى الزهرة في النار، ويقبضها الله بيمينه، فتقول الخلائق:
-أفيكم ربنا؟
فتقول الملائكة:
-سبحان ربنا، ليس هو فينا، وهو آت.
فلا يزال الأمر هكذا، سماء بعد سماء. حتى ينزل أهل السماء السابعة، فيرون خلقا أكثر من جميع من نزل، فتقول الخلائق:
-أفيكم ربنا؟
فتقول الملائكة:
-سبحان ربنا، قد جاء ربنا، وان كان وعد ربنا لمفعولا.
فيأتي الله في ظلل من الغمام والملائكة. وعلى المجنية اليسرى جهنم، ويكون إتيانه إتيان ملك، فانه يقول: (ملك يوم الدين) وهو ذلك اليوم، فسمى بالملك، ويصطف الملائكة سبعة صفوف محيطة بالخلائق.
فإذا أبصر الناس جهنم، لها فوران وتغيظ على الجبابرة والمتكبرين، يفرون بأجمعهم منها لعظم ما يرونه خوفا وفزعا، وهو الفزع الأكبر.
(إلا الطائفة التي لا يحزنهم الفزع الأكبر فتتلقاهم الملائكة: هذا يومكم الذي كنتم توعدون). فهم الآمنون مع النبيين على أنفسهم.
غير أن النبيين تفزع على أممهم للشفقة التي جبلهم الله عليها للخلق.
فيقولون في ذلك اليوم: رب سلم، سلم!
وكان الله قد أمر أن ينصب للآمنين من خلقه منابر من نور متفاضلة بحسب منازلهم في الموقف، فيجلسون عليها آمنين مبشرين، وذلك قبل مجيء الملك.
فإذا فر الناس خوفا من جهنم وفزعا لعظيم ما يرون من الهول في ذلك اليوم، يجدون الملائكة صفوفا لا يتجاوزونهم، فتطردهم الملائكة، وزعة الملك الحق تعالى إلى المحشر، وتناديهم أنبياؤهم: ارجعوا! ارجعوا! فينادي بعضهم بعضا- فهو قول الله تعالى، فيما يقول صلى الله عليه وسلم:
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) (غافر 32: 33)
والرسل تقول: اللهم سلم، سلم! ويخافون اشد الخوف على أمهم، والأمم يخافون على أنفسهم، والمطهرون المحفوظون الذين ما تدنست بواطنهم بالشبه المضلة ولا ظواهرهم أيضا بالمخالفات الشرعية آمنون، يغبطهم النبيون في الذي هم عليه من الأمن، لما هم النبيون عليه من الخوف على أممهم..
فينادي مناد من قبل الله يسمعه أهل الموقف –لا تدرون أو لا ادري هل ذلك نداء الحق سبحانه بنفسه أو نداء عن أمره تعالى-
يقول في ذلك النداء: يا أهل الموقف.. ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؟
فانه قال لنا (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (الانفطار: 6) تعليما لنا وتنبيها ليقول (كرمك)
ويقول الحق في ذلك النداء:
-( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) (السجدة: 16)
فيؤتي بهم على الجنة.
ثم يسمعون من قبل الحق نداء ثانيا –لا ادري هل هو نداء الحق بنفسه أو نداء عن أمر الحق:
-أين الذين كانت (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (النور 37- 38) وتلك الزيادة من جنات الاختصاص كما سيأتي في باب الجنة، فيؤمر بهم على الجنة ثم يسمعون نداء ثالث- لا ادري هل هو نداء الحق بنفسه أو نداء عن أمر الحق –يا أهل الموقف، ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم؟ أين (صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ، لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (الأحزاب 23- 24) فيؤمر بهم إلى الجنة. فبعد هذا النداء (الثالث) يخرج عنق من النار، فإذا اشرف على الخلائق، وله عينان ولسان فصيح يقول:
-يا أهل الموقف، اني وكلت منكم بثلاث- كما كان النداء الأول ثلاث مرات لثلاث طوائف من أهل السعادة.
(وهذا كله قبل الحساب، والناس وقوف قد ألجمهم العرق واشتد الخوف وتصدعت القلوب لهول المطلع) فيقول ذلك العنق المستشرف والنار عليهم: اني وكلت بكل جبار عنيد!
فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حب السمسم، فإذا لم يترك أحدا منهم في الموقف، نادى نداء ثانيا.
-يا أهل الموقف، اني وكلت بمن آذى الله ورسوله!
فيلقطهم كما يلقط الطائر حب السمسم من بين الخلائق، فإذا لم يترك منهم أحدا نادى:
-يا أهل الموقف، اني وكلت بمن ذهب يخلق كخلق الله!
فيلقط أهل التصاوير، وهم الذين كانوا يصورون صورا في الكنائس لتعبد تلك الصور، والذين يصورون الأصنام نحو قوله تعالى (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ) (الصافات: 95) فكانوا ينحتون الأخشاب والأحجار ليعبدوها من دون الله، فهؤلاء هم المصورون، فيلقطهم من بين الصفوف كما يلقط الطائر حب السمسم، فإذا أخذهم عن أخرهم، بقي الناس وفيهم المصورون الذين لا يقصدون بتصويرهم ما قصد أولئك من عبادتها، حتى يسألوا لينفخوا فيها أرواحا تحيي بها، وليسوا بنافحين كما ورد في الخبر في المصورين.
فيقفون ما شاء الله ينظرون ما يفعل الله بهم، والعرق قد ألجمهم.. عندئذ يقول الناس بعضهم لبعض.
-تعالوا تنطلق إلى أبينا ادم فنسأله أن يسأل الله لنا أن يريحنا مما نحن فيه فقد طال وقوفنا:
فيأتون آدم فيطلبون منه ذلك، فيقول آدم:
-إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب مثله بعده، ويذكر خطيئته، فيستحي من ربه أن يسأله.
فيأتون نوحا، ويقولون له مثل ذلك، فيقول لهم مثل ما قاله آدم، ويذكر دعوته على قومه وقوله (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 27) فوضع المؤاخذة عليه قوله (وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) (نوح: 27) لا نفس دعائه عليهم من كونه دعاء:
ثم يأتون إبراهيم فيقولون له مثل مقالتهم لمن تقدم، فيقول كما قال من تقدم ويذكر كذباته الثلاث!
ثم يأتون موسى وعيسى وغيرهما ويقولون لكل واحد من الرسل مثل ما قالوه لآدم فيجيبونهم بمثل جواب أدم.
فيأتون محمدا، صلى الله عليه وسلم، وهو سيد الناس يوم القيامة، فيقولون له مثل ما قالوه للأنبياء، فيقول محمد:
-أنا لها!
وهو المقام المحمود الذي وعده الله به يوم القيامة.
فيأتي ويسجد ويحمد الله بمحامد يلهمه الله تعالى إياها في ذلك الوقت لم يكن يعلمها قبل ذلك، ثم يشفع إلى ربه أن يفتح الله باب الشفاعة للخلق، فيفتح الله ذلك الباب..
فيأذن في الشفاعة للملائكة والرسل والأنبياء والمؤمنين، فبهذا يكون (الرسول) سيد الناس يوم القيامة، فانه شفع عند الله أن يشفع الملائكة الرسل، ومع هذا تأدب صلى الله عليه وسلم وقال: أنا سيد الرسل، ولم يقل: أنا سيد الخلائق.
ويرى ابن عربي أن آدم عليه السلام إن كان قد ظهر نوره على الملائكة في قصة الخلق، فان محمد صلى الله عليه وسلم قد ظهر فضله على الأنبياء كلهم والملائكة والناس أجمعين لأنه الذي يفتتح باب الشفاعة في وقت اخرس القهر الإلهي والجبروت الأعظم الجميع، وبعدما يجيبه الحق إلى مطلبه في الشفاعة تعلق الموازين، وتنشر الصحف، وينصب الصراط..
فأول من يبدا بالشفاعة الملائكة ثم النبيون، ثم المؤمنون، ويبقي ارحم الراحمين، ثم أن الحق يتجلى –في ذلك اليوم- فيقول:
-لتتبع كل امة ما كانت تعبد..
حتى تبقي هذه الأمة (الإسلامية) وفيها منافقوها، فيتجلى لهم الحق في أدنى صورة من الصور التي كان يتجلى فيها قبل ذلك، فيقول:
-أنا ربكم.
فيقولون:
-نعوذ بالله منك، ها نحن منتظرون حتى يأتينا ربنا!
فيقول لهم لحق جل تعالى:
-هل بينكم وبينه علامة تعرفونه بها؟
فيقولون:
-نعم.
فيتحول لهم في الصورة التي عرفوه فيها بتلك العلامة، فيقولون:
-أنت ربنا.
فيأمرهم بالسجود،
فلا يبقي من كان يسجد له إلا سجد، ومن كان يسجد نفاقا ورياء جعل الله ظهره طبق نحاس، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، وذلك قوله تعالى (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) (القلم: 42- 43) يعني في الدنيا، والساق التي كشفت لهم عبارة عن أمر عظيم من أهوال القيامة..
فإذا وقعت الشفاعة، لم يبق في النار مؤمن شرعي أصلا، ولا من عمل عملا مشروعا من حيث هو مشروع بلسان بني ولو كان مثقال حبة من خردل فما فوق ذلك في الصغر إلا خرج بشفاعة النبيين والمؤمنين.
وبقي أهل التوحيد الذين علموا التوحيد بالأدلة العقلية، ولم يشركوا بالله شيئا، ولم يؤمنوا إيمانا شرعيا، ولم يعملوا خيرا قط فيخرجهم ارحم الراحمين، وقد ورد في الحديث المروي عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “من مات وهو يعلم انه لا إله إلا الله دخل الجنة”.
فلم يقل (وهو يؤمن)، ولا قال (وهو يقول)، بل أفرد العلم
ففي هؤلاء تسبق عناية الله.
فان النار بذاتها لا تقبل تخليد موحد لله بأي وجه كان، وأتم وجوهه الإيمان عن علم.
أما إبليس الذين كان (يعلم) التوحيد فانه لن يخرج من النار أبدا، لأنه هو الذي استن الشرك فيقع عليه إثم المشركين الذين لا يخرجون هم أيضا من النار!
مواطن القيامة السبعة:
يؤكد ابن عربي انه سوف يقتصر في الحديث على هذه المواطن السبعة التي هي (العرض، وأخذ الكتب، والصراط، والميزان، والأعراف، وذبح الموت، والمأدبة التي تكون في ميدان الجنة) أما سبب الاقتصار عليها فإنها هي أمهات الأبواب السبعة التي للنار، والأبواب السبعة التي للجنة. فان الباب الثامن هو لجنة الرؤية، وهو الباب المغلق الذي في النار، وهو باب الحجاب فلا يفتح ابدا، فان أهل النار محجوبون عند ربهم ([22]).
الأول: العرض
جاء في الخبر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سئل عن قوله تعالى (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) (الانشقاق: 8) فقال: ذلك العرض يا عائشة، من نوقش الحساب عذب. وهو مثل عرض الجيش، اعنى عرض الأعمال، التي هي زي أهل الموقف، والله ملك ذلك اليوم، فيعرف المجرمون بسيماهم، كما يعرف الجند بزيهم ([23]).
الثاني: الكتب:
قال تعالى: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) (الإسراء: 14) وقال (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) (الانشقاق: 7) وهو المؤمن السعيد (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ) (الحاقة: 25) وهو المنافق فان الكافر لا كتاب له.
والمنافق سلب عنه الإيمان، وما اخذ منه الإسلام، فقبل في المنافق (إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) (الحاقة: 33) فيدخل فيه المعطل (الذي لا يؤمن بوجود الله الملحد) والمشرك والمتكبر على الله ولم يتعرض للإسلام. فان المنافق ينقاد ظاهرة ليحظ ما له وأهله ودمه، ويكون في باطنه واحدا من هؤلاء الثلاثة.
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) (الانشقاق: 10) فهم الذين أوتوا الكتاب فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، فإذا كان يوم القيامة قيل له: خذه من وراء ظهرك، أي من الموضع الذي نبذته فيه في حياتك الدنيا!
فهو كتابهم المنزل عليهم، لا كتاب الأعمال، فانه حين نبذه وراء ظهره ظن بل تيقن انه لن يحور، وروى في الصحيح: يقول الله يوم القيامة: (ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ) (الحاقة: 20)
وقال تعالى: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) (فصلت: 23) ([24]).
الثالث: الموازين
توضع الموازين لوزن الأعمال، فيجعل فيها الكتب بما عمل أصحابها وأخر ما يوضع في الميزان قول الإنسان (الحمد لله)
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله تملأ الميزان.
فانه يلقي في الميزان جميع أعمال العباد، إلا كلمة لا اله إلا الله، فيبقي دون ملئه، فتجعل فيه، فيمتلئ بها.
فان لغة ميزان كل احد بقدر عمله من غير زيادة ولا نقصان،
وكل ذكر وعمل يدخل الميزان إلا (لا إله إلا الله)
وسبب ذلك أن كل عمل خير له مقابل من ضده ليجعل هذا الخير في موازنته، ولا يقابل (لا إله إلا الله) إلا الشرك، ولا يجتمع توحيد وشرك في ميزان واحد.
وأما المشركون فلا يقام لهم القيامة وزن، أي لا قدر لهم، ولا يوزن لهم يوم القيامة عمل ولا من هم أمثالهم ممن كذب بلقاء الله وكفر بآياته.
فإن أعمال المشرك محبوطة، فلا يكون لأعمال شره ما يوازنها.
قال تعالى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) (الكهف: 105)
وأما صاحب السجلات، أي الذي يتلقي كتابه، فانه شخص لم يعمل خيرا قط، إلا انه تلفظ يوما بكلمة (لا إله إلا الله) مخلصا، فتوضع له في مقابلة التسعة والتسعين سجلا من أعمال الشر، كل سجل منها ما بين المغرب والمشرق، وذلك لأنه لا يوجد له عمل خير غيرها، فترجح كفتها، وتطيش السجلات! ويؤكد ابن عربي أن الموازين لا يدخلها إلا أعمال الجوارح، شرها وخيرها، وهي السمع والبصر واللسان واليد والبطن والفرج والرجل.
وأما الأعمال الباطنة فلا تدخل الميزان المحسوس، ولكن معنى لمعنى: يقابل كل شيء بمثله، فلهذا توزن الأعمال من حيث هي مكتوبة ([25]).
الرابع: الصراط
يقول الله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153) وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه عندما تلا هذه الآية خط خطا وخط على جنبيه خطوطا، هكذا! وهذا هو صراط التوحيد ولوازمه وحقوقه، وهو صراط معنوي. أما المقصود في الآخرة فهو صراط حسنى محسوس وهذا الصراط على متن جهنم غائب فيها.
والكلاليب التي فيه بها يمسكهم الله عليه.
ولما كان الصراط على النار، وليس هناك طريق إلى الجنة إلا عليه، قال الله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا) (مريم: 71)
وقد أتى في صفة الصراط انه أدق من الشعر واحد من السيف.
ولا يزال (المصلي) في كل ركعة يقول (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة: 6) الذي هو إصابة الحكم عند الاجتهاد.
وظهوره في الآخرة محسوس أبين وأوضح من ظهوره في الدنيا، إلا لمن دعا إلى الله على بصيرة كالرسول وأتباعه.
وقد ورد في الخبر أن الصراط يظهر يوم القيامة للأبصار على قدر نور المآرين عليه فيكون دقيقا في حق قوم وعريضا في حق أخرين.
والمؤمن عندما يمشي على الصراط، نوره يسعى بين يديه وبيمنه، لأنه لا شمال له. كما أن هل النار لا يمين لهم.
وأما الكلاليب والخطاطيف والحسك فهي من صور أعمال بن آدم، تمسكهم أعمالهم تلك على الصراط، فلا ينهضون إلى الجنة، ولا يقعون في النار حتى تدركهم الشفاعة والعناية الإلهية، فمن تجاوزها هنا.. تجاوز الله عنه هناك.
ومن انظر معسرا أنظره الله، ومن عفا عفى الله عنه، ومن استقصى حقه هنا من عباد الله استقصي الله حقه منه هناك، ومن شدد على هذه الأمة شدد الله عليه..
وإنما هي أعمالكم ترد عليكم، فالتزموا مكارم الأخلاق.
فان الله غدا يعاملكم بما عاملتم به كان من كان، وكانوا ما كانوا.. ([26])
الخامس: الأعراف:
الأعراف عبارة عن سور بين الجنة والنار.
باطنه فيه الرحمة، وهو ما يلي الجنة منه،
وظاهره من قبله العذاب، وهو ما يلي لنار منه.
ويكون عليه من تساوت كفتا ميزانه، فهم ينظرون إلى النار والى الجنة، وما لهم رجحان بما يدخلهم إحدى الداربن.
فإذا دعوا إلى السجود –وهو الذي يبقي يوم القيامة عن التكليف- يسجدون، فيرجح ميزان حسناتهم، فيدخلون الجنة.
وقد كانوا ينظرون إلى النار بما لهم من السيئات، وينظرون إلى الجنة بما لهم من الحسنات، ويرون رحمة الله فيطمعون.
وسبب طمعهم أيضا انهم من أهل “لا إله إلا الله” ولا يرونها في ميزانهم، ويعلمون أن الله لا يظلم مثقال ذرة ولو جاءت ذرة لإحدى الكفتين لرجحت بها، لأنهما في الاعتدال، فيطمعون في كرم الله وعدله، وانه لابد أن يكون لكلمة “لا اله إلا الله” عناية بصاحبها، يظهر لها اثر عليهم ([27]).
السادس: ذبح الموت:
يقرر ابن عربي أن الموت نسبة، لكن الله يظهره يوم القيامة في صورة كبش املح، وينادي: يا أهل الجنة فيشرئبون، وينادي: يا أهل النار فيشرئبون، وليس في النار في ذلك الوقت إلا أهلها الذين هم أهلها، فيقال للفريقين:
-أتعرفون هذا؟ وهو بين الجنة والنار، فيقولون:
-هو الموت.
ويأتي يحي، عليه السلام، وبيده الشفرة فيضجعه، ويذبحه، وينادي مناد:
-يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت! وذلك يوم الحسرة.
فأما أهل الجنة فأنهم إذا رأوا الموت سروا برؤيته سرورا عظيما ويقولون له:
-بارك الله لنا فيك. لقد خلصتنا من نكد الدنيا، وكنت خير وافد علينا، وخير تحفة أهداها الحق لنا (يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الموت تحفة المؤمن).
وأما أهل النار فانهم إذا أبصروا الموت يفرقون منه، ويقولون له: -لقد كنت شر وارد علينا، أحلت بيننا وبين ما كنا فيه من الخير والدعة، ثم يقولون له:
-عسى تميتنا فنستريح مما نحن فيه!
وإنما سمى يوم الحسرة لأنه حسر عن الجميع، أي ظهر عن صفة الخلود الدائم للطائفتين.
ثم تغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده.
وتنطبق النار على أهلها، ويدخل بعضها في بعض، ليعظم انضغاط أهلها فيها، ويرجع أسفلها أعلاها، وأعلاها أسفلها.
وترى الناس والشياطين فيها كقطع اللحم في القدر، إذا كان تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم، فتدور بمن فيها علوا وسفلا، كلما خبت زدناهم سعيرا بتبديل الجلود! ([28])
السابع: المأدبة:
والمقصود بها مأدبة الملك لأهل الجنة، وفي ذلك الوقت يجتمع أهل النار في مندبة!
فأهل الجنة في المآدب، وأهل النار في المنادب!
أما طعام مأدبة أهل الجنة: فهو عبارة عن كبد الحوت، الذي يحتوى على خلاصة الدم، بينما يعطي طحاله، الذي يجتمع فيه أوساخ البدن، لأهل النار، فيورثهم أكله سقما ومرضا..بينما يتمتع أهل الجنة بالجنة، فما هم منها بمخرجين ([29]).
ثالثا: جهنم، ومراتب أهل النار:
يذكر ابن عربي أن جهنم من أعظم المخلوقات، وانها سجن اله في الآخرة: يسجن فيه المعطله (يقصد الملاحدة) والمشركون.
وهي لهاتين الطائفتين دار مقامة، ثم الكافرون والمنافقون وأهل الكبائر من المؤمنين، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) (الإسراء: 8)
ثم يخرج بالشفاعة منها بالامتنان الإلهي من جاء النص فيه ([30]).
وسميت جهنم لبعد قهرها، يقال: بئر جهنمام إذا كانت بعيدة القعر.
وهي تحتوى على حر شديد (حرور) وزمهرير (برد قارص) وكلاهما على أقصى درجاته، وبين أعلاها وأسفلها مسيرة سبعمائة وخمس سنوات ([31])!
وإذا كان قد جرى خلاف بين العلماء حول مسالة: هل خلقت أو لم تخلق بعد؟
فان ابن عربي يقول: وأما عندنا وعند أصحابنا من أهل الكشف والتعريف فهما (أي جهنم والجنة) مخلوقتان وغير مخلوقتين!
ثم يفسر ذلك، بأن ما خلق منها يشبه السور الخارجي لأحد المباني، بينما تركت بيوتها وغرفها وسراديبها ومهالكها ومخازنها وما ينبغي أن يكون داخلها تبعا لعذاب الداخلين فيها.
وهي دار حرورها هواء محترق، لا جمر لها سوء بني آدم، والأحجار المتخذة آلهة، والجن لهبها، قال تعالى: (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (سورة البقرة 24) وقال تعالى (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (سورة الأنبياء 98)، وقال تعالى: (فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) (سورة الشعراء 94- 95)
وتحدث الآلام في جهنم بحدوث أعمال الجن والإنس، الذين يدخلونها، وأوجدها الله بطالع الثور، لذلك كان خلقها في الصور كصورة الجاموس سواء. يقول ابن عربي: وهذا الذي يعول عليه عندنا، وبهذه لصورة رآها ابن برجان في كشفه، بينما تمثلت لابن قسى في صورة الحية.
والله تعالى خلق جهنم من تجلى قوله –في حديث مسلم- “جعت فلم تطمعني، وظمئت فلم تسقني، ومرضت فلم تعدني” وهذا أعظم نزول نزله الحق إلى عباده في اللطف بهم، فمن هذه الحقيقة خلقت جهنم –أعاذنا الله وإياكم منها- فلذلك تجبرت على الجبارين، وقصمت المتكبرين.
وجميع ما يخلق فيها من الآلام التي يجدها الداخلون فيها فمن صفة الغضب الإلهي، ولا يكون ذلك إلا عند دخول الخلق فيها من الجن والإنس متى دخلوها، وأما إذا لم يكن فيها احد من أهلها.. فلا ألم فيها في نفسها، ولا في نفس ملائكتها، بل هي ومن فيها من زباينتها في رحمة الله متنعمون ملتذون، يسبحون الله لا يفترون.
يقول الله تعالى: (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) (سورة طه 81) أي ينزل بكم غضبي، فأضاف الغضب إليه، وإذا نزل بهم كانوا محلا له، وجهنم إنما هي مكان لهم، وهم النازلون فيها، وهم محل الغضب، وهو النازل بهم، فان الغضب هنا هو عين الألم.
ويذكر ابن عربي نفسه انه سأل الله تعالى أن يمثل له من شان جهنم ما شاء ([32]). يقول: “فمثل لي حالة خصام أهلها فيها، وهو قوله تعالى: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (سورة ص 64) وقوله تعالى: (قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (سورة الشعراء 96- 97) لضلالهم وآلهتهم (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (سورة الشعراء 98- 99) وهم أهل النار الذين هم أهلها، الذين يقول الله فيهم (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (سورة يس 59) يريد بالمجرمين أهل النار الذين يعمرونها ولا يخرجون منها حيث يمتازون من الذين يخرجون بشفاعة الشافعين وسابق العناية الإلهية في الموحدين.. فهذا مثل لي في وقت منها، فما شبهت خصامهم فيها إلا كخصام أصحاب الخلاف في مناظرتهم إذا استدل احدهم، فإذا رأيت ذلك تذكرت الحالة التي أطلعني الله عليها، ورأيت الرحمة كلها في التسليم والتلقي من النبوة والوقوف عند الكتاب والسنة”..
ولما عاينت هذا المحل رأيت عجبا، وفي هذه الرؤية رأيت اعتماد الماء على الهواء، وهو من أعجب الأشياء في عمارة الأحياز، فان جوهرين لا يكونان في حيز واحد، وان الحيز لمن شغله..
وفي هذه الرؤية، علمت أن الألطف اقوى من الأكثف، فان الهواء ألطف من الماء بلا شك، وقد منعه، ولم يقاومه الماء في القوة، ومنعه من النزول، فاني رأيت نفسي في الهواء، والماء فوقي ويمنعه الهواء من النزول إلى الأرض!
وفي هذه الرؤية علمت علوما جمة كثيرة..
وفي هذه الرؤية رأيت من دركات أهل النار، من كونها جهنم لا من كونها نارا.. ما شاء الله أن يطلعني عليه منها..
ورأيت فيها موضعا يسمى المظلة، نزلت في درجة نحو خمس درج، ورأيت مهالكها، ثم زج بي في الماء علوا فاخترقته، وقد رأيت عجبا!
وعلمت مخاصمتهم حيث يختصمون في الجحيم، وان ذلك الخصام هو نفس عذابهم في تلك الحال، وان عذابهم في جهنم ما هو من جنهم، وإنما جهنم دار سكناهم وسجنهم، والله تعالى يخلق الآلام فيهم من شاء فعذابهم من الله، وهم محل له..
وخلق الله لجهنم سبعة أبواب، لكل باب جزء من العالم ومن العذاب مقسوم، هذه الأبواب السبعة مفتحة، وفيها باب ثامن مغلق لا يفتح، وهو باب الحجاب عن رؤية الله. وعلى كل باب ملك من ملائكة السماوات، عرفت أسماءهم هنالك، وذهبت عن حفظي، إلا إسماعيل فبقي على ذكري..
وأما الكواكب كلها فهي في جهنم مظلمة الأجرام، عظيمة الخلق، وكذلك الشمس والقمر، والطلوع والغروب لهما في جهنم دائما. فشمسها شارقة لا مشرقة، والتكوينات عن سيرها بحسب ما يليق بتلك الدار من الكائنات وما تعتريها من الصور في التبديل والانتشار. لهذا قال الله تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (سورة غافر 46) والحالة مستمرة..
وحد جهنم –بعد الفراغ من الحساب- من مقعر فلك الكواكب الثابتة إلى أسفل سافلين، وهذا كله يزيد من جهنم مما هو ليس مخلوقا فيها، ولكن ذلك معد حتى يظهر، إلا الأماكن التي قد عينها الله من الأرض فإنها ترجع إلى الجنة يوم القيامة، مثل الروضة التي بين منبر رسول الله وبين قبره، وكل مكان عينه الشارع وكل نهر فان ذلك يصير إلى الجنة، وما بقي فيعود نارا وهو من جهنم.
ولهذا كان عبد الله بن عمر إذا رأي البحر يقول: يا بحر متى تعود نارا؟! قال تعالى: (وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ) (سورة التكوير 6) أي أججت نارا، من سجرت التنور إذا أوقدته. وكان ابن عمر يكره الوضوء بماء البحر، ويقول التيمم أحب إلى منه. ولو كشف الله عن أبصار الخلق اليوم لرأوه يتأجج نارا، ولكن الله يظهر ما يشاء ويخفي ما يشاء، ليعلم أن الله على كل شيء قدير، وان الله قد أحاط بكل شيء علما، وأكثر ما يجري هذا لأهل الورع..
أما اشد الخلق عذابا في النار فهو إبليس، الذين سن الشرك وكل مخالفة. وسبب ذلك انه مخلوق من النار، فعذابه بما خلق منه ([33]).
ألا ترى النفس به يكون حياة الجسم الحساس فإذا منع بالشنق أو الخنق انعكس راجعا إلى القلب فأحرقه من ساعته فهلك لحينه، فبالنفس كانت حياته، وبه كان هلاكه!
فعذاب إبليس في جهنم بما فيها من الزمهرير (شدة البرد) فانه يقابل النار التي هي نشأة إبليس، فيكون عذابه بالزمهرير، وبما هو نار مركبة فيه من ركن الهواء والماء والتراب، فلابد أن يتعذب بالنار على قدر مخصوص، وعامة عذابه بما يناقض ما هو الغالب عليه في أصل خلقه.
والنار ناران: نار حسيه وهي المسلطة على إحساسه وحيوانيته وظاهر جسمه وباطنه، ونار معنوية وهي التي تطلع على الأفئدة، وبها يتعذب روحه المدبر لهيكله الذي أمر فعصى، فمخالفته عذبته وهي عين جهله بمن استكبر عليه، فلا عذاب على الأرواح اشد من الجهل، فانه غبن كله، ولهذا سمى “يوم التغابن” يريد: يوم عذاب النفوس، وهو أيضا يوم الحسرة حيث يقول الطائع لنفسه: يا ليتني ازددت من الطاعات، ويقول العاصي لها: ليتني ما اقتربت من المعاصي! ([34]).
وقد جعل الله في جهنم مائة دركة- في مقابلة درج الجنة (المائة أيضا). ولكل دركة قوم مخصصون لهم من الغضب الإلهي الحال بهم آلام مخصوصة، وان المتولي عذابهم من الولاه: القائم والإقليد والحامد والنائب والسادن والجائر، فهؤلاء الأملاك (الملائكة) من الولاة هم الذين يرسلون عليهم العذاب بإذن الله تعالى، ومالك هو الخازن ([35]).
مراتب أهل النار ([36]):
يرجع ابن عربي أساس تقسيم مراتب أهل النار إلى محاولة انتقام إبليس من بني آدم، الذي كرمه الله عليه، والسماح له بإغواء من قدر عليه منهم بكل وسائله، على أساس أن من يتبعه سوف يكون معه في النار، بينما تظل طائفة من المؤمنين لن يستطيع إبليس مهما فعل أن يفتنهم عن إيمانهم بالله تعالى، أما الذين خذلهم الله من العباد، فقد جعلهم طائفتين:
طائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم بسبب توبة الله عليهم، واستغفار الملائكة لهم.
طائفة أخذهم الله بذنوبهم، وهؤلاء على قسمين:
الأول: أخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، وهم أهل الكبائر من المؤمنين وبالعناية الإلهية، وهم أهل التوحيد بالنظر العقلي.
الثاني: أبقاهم الله في النار، وهم المجرمون الذين يستحقون البقاء فيها، ولا يخرجون منها أبدا. وهؤلاء المجرمون أربع طوائف:
المتكبرون على الله كفرعون وأمثاله ممن ادعى الربوينة لنفسه ونفاها عن الله، وكذلك نمرور وغيره.
المشركون الذين يجعلون مع الله إلها آخر.
المعطلة، وهم الذين نفوا الإله جملة واحدة، فلم يثبتوا إلها للعالم ولا من العالم.
المنافقون وهم الذين أظهروا الإسلام من إحدى هؤلاء الطوائف الثلاث للقهر الذي حكم عليهم، فخافوا على دمائهم وأموالهم وذراريهم، وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد هؤلاء الطوائف الثلاث!
فهذه أربع مراتب، لأصحابها جزء مقسوم من الأبواب السبعة لجهنم، فإذا ضربت (4× 7) وقع العدد (28) وهي تقابل المنازل الفلكية الـ (28) وكذلك الـ (28) حرفا، الذي تكونت منها اللغة العربية التي انزل بها القرآن الكريم.
ولما كانت دركات النار مائه (في مقابل درجات الجنة المائة) فان ضرب (28× 100) ينتج (2800) منزل.. وبذلك يصبح لكل طائفة من الطوائف الأربع المذكورة (700) نوع من العذاب.
لكن ابن عربي يعود فيؤكد انه لابد لأهل النار من فضل الله ورحمته في نفس النار، بعد الانقضاء مدة موازنة العمل، فيفقدون الإحساس بالآلام في نفس النار، لانهم ليسوا بخارجين من النار ابدا، فلا يموتون فيها ولا يحيون، فتخدر جوارحهم بإزالة الروح الحساس منها. وهناك طائفة يعطيهم الله بعد انقضاء موازنة المدة بين العذاب والعمل نعيما خياليا مثل ما يراه النائم! (انظر الحديث بتمامه في مسلم)
وأما أبواب جهنم فهي: باب جهنم، وباب سقر، وباب السعير، وباب الحطمة، وباب لظي، وباب الحامية، وباب الهاوية، وإنما سميت الأبواب بصفات ما وراءها مما أعد لهم، وكذلك بسبب ما ارتكبوه من آثام مختلفة.
رابعا: الجنة ومنازلها:
يفرق ابن عربي تفرقة أولى بين جنتين: جنه محسوسة، وجنة معنوية، والعقل يعقلهما معا. كما أن العالم عالمان: لطيف وكثيف، وعالم غيب وشهادة.
والنفس المخاطبة المكلفة لها نعيم بما تحمله من العلوم والمعارف من طريق نظرها وفكرها، وما وصلت إليه من ذلك بالأدلة العقلية، ونعيم آخر بما تحمله من اللذات والشهوات بما يناله النفس الحيواني من طريق قواها الحسية من أكل وشرب ونكاح ولباس وروائح ونغمات طيبة تتعلق بها الأسماع، وجمال حسي في صورة حسنة معشوفة يعطيها البصر في نساء كاعبات، ووجوه حسان، وألوان متنوعة، وأشجار وأنهار، كل ذلك تنقله الحواس إلى النفس الناطقة تلتذ به من جهة طبيعتها ([37]).
والله خلق الجنة المحسوسة بطالع الأسد الذي هو الإقليد، وبرجه هو الأسد، وخلق الجنة المعنوية التي هي روح هذه الجنة المحسوسة من الفرح الإلهي من صفة الكمال والابتهاج والسرور، فكانت الجنة المحسوسة كالجسم، والجنة المعقولة كالروح وقواه، وبهذا سماها الحق تعالى الدار الحيواني لحياتها، فأهلها يتنعمون بها حسا ومعنى، والمعنى هو اللطيفة الإنسانية.
وإذا كان جميع الناس يشتاقون إلى الجنة، فان الجنة اشد تنعما بأهلها الداخلين فيهان ولهذا تطلب ملأها من الساكنين، وقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم “أن الجنة اشتاقت إلى بلال وعلي وعمار وسلمان” فوصفها بالشوق إلى هؤلاء الأصحاب والمؤمنين!
لكن ابن عربي يعود فيفرق بين ثلاثة أنواع من الجنات: الأولى: جنة اختصاص إلهي، وهي التي يدخلها: الأطفال الذين لم يبلغوا حد العمل، وحدهم: من أول ما يولد إلى أن يستهل صارخا، إلى انقضاء ستة أعوام، ويعطي الله من يشاء من عباده من جنات الاختصاص ما شاء، ومن أهلها: المجانين الذين ما عقلوا. ومن أهلها: أهل التوحيد العلمي. ومن أهلها: أهل الفترات ومن لم يصل إليهم دعوة رسول. والجنة الثانية جنة ميراث ينالها كل من دخل الجنة من المؤمنين. وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها. والجنة الثالثة: جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، ومن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر.. فما من عمل من الأعمال إلا وله جنة. ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم.. فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم ومكروه إلا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها ([38]).
والتفاضل بين أهل جنة الأعمال على مراتب: فمنها بالسن إذا تساويا في المرتبة، ومنها بالزمان كالجهد الزائد من العبادة في رمضان ويوم الجمعة وليلة القدر وعشر ذي الحجة وعاشوراء، ومنها بالمكان كالصلاة في المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى بالترتيب على سائر المساجد، ومنها بالأحوال مثل صلاة الفريضة في جماعة، ومنها بالأعمال: فان الصلاة أفضل من إماطة الأذى، وقد يكون التفاضل في نفس العمل، كالصدقة على ذوي الأرحام أفضل من التصدق على غيرهم ([39]).
والرسل يظهر فضلهم على غيرهم في الجنة بجنة الاختصاص، وأما أهل العمل فانهم في جنات الأعمال، وكل من فضل غيره ممن ليس في مقامه فمن جنات الاختصاص، لا من جنات الأعمال. ومن الناس من يجمع في الزمن الواحد أعمالا كثيرة. فيصرف سمعه فيما ينبغي في زمان تصريفه بصره في زمان تصريفه يده في زمان صومه في زمان صدقته في زمان صلاته في زمان ذكره في زمان نيته في فعل وترك، فيؤجر في الزمن الواحد من وجوه كثيرة فيفضل غيره ممن ليس له ذلك.
يقول ابن عربي: واعلم أن جنة الأعمال مائة درجة، كل درجة تنقسم إلى منازل، وهذه المائة درجة في كل جنة من الجنات الثماني، وأعلاها جنة عدن، وفيها الكثيب الذي يكون اجتماع الناس فيه لرؤية الحق تعالى، وهي بمنزلة دار الملك، يلتف حولها ثمانية أسوار بين كل سورين جنة: فالتي تلي جنة عدن إنما هي جنة الفردوس، وهي أوسط الجنات التي دون جنة عدن وأفضلها، ثم جنة الخلد، ثم جنة النعيم، ثم جنة المأوى، ثم دار السلام، ثم دار المقامة.
وأما الوسيلة فهي أعلى درجة في جنة عدن، وهي لرسول صلى الله عليه وسلم حصلت له بدعاء امته، فعل ذلك الحق سبحانه حكمة أخفاها، فأمته بسببه نالت السعادة من الله، وبه كانت خير امة أخرجت للناس، وبه ختم لله بأمته الأمم، كما ختم النبيين ([40]).
ويذكر ابن عربي أن الجنة تحتوي على (5105) درجات لا غير، وقد تزيد على هذا العدد لاشك، ولكنا نذكر منها ما اتفق عليه أهل الكشف مما يجري مجرى الأنواع من الأجناس، والذي اختصت به هذه الأمة المحمدية على سائر الأمم من هذه الدرجات اثنتا عشرة درجة فقط، لا يشاركها فيها احد من الأمم ([41]).
ويقسم ابن عربي أهل الجنة إلى أربعة أصناف:
الرسل وهم الأنبياء.
الأولياء وهم إتباع الرسل على بصيرة وبينة من ربهم.
المؤمنون وهم المصدقون بهم، عليهم السلام.
والعلماء بتوحيد الله، انه لا اله إلا هو، من حيث الأدلة العقلية.
وهؤلاء الطوائف الأربع يتميزون في جنات عدن، عند رؤية الحق في الكثيب الأبيض، وهم فيه على أربعة مقامات:
طائفة منهم أصحاب منابر، وهي الطبقة العليا، الرسل والأنبياء.
طائفة الأولياء، ورثة الأنبياء قولا وعملا وحالا، وهم على بينة من ربهم، وهم أصحاب الأسرة والفرش.
طائفة العلماء من طريق النظر البرهاني العقلي، وهم أصحاب الكراسي.
طائفة المؤمنين المقلدين في توحيدهم، ولهم المراتب، وهم في الحشر مقدمون على أصحاب النظر العقلي، وهم في الكثيب عند النظر يتقدمون على المقلدين! ([42])
التجلي الإلهي لأهل الجنة:
أ- الرؤية
فإذا أراد الله أن يتجلى لعباده في النور العام.. نادى منادي الحق في الجنات كلها:
-يا أهل الجنات، حي على المئة العظمي، والمكانة الزلفي، والمنظر الأعلى.. هلموا إلى زيادة ربكم في جنة عدن!
فيبادرون إلى جنة عدن، فيدخلونها، وكل طائفة قد عرفت مرتبتها ومنزلتها،فيجلسون، ثم يؤمر بالموائد فتنصب بين أيديهم موائد اختصاص ما رأوا مثلها، ولا تخيلوه في حياتهم، ولا في جناتهم: جنات الأعمال. وكذلك الطعام ماذا قوا مثله في منازلهم، وكذلك ما تناولوه من الشراب..
-فإذا فرغوا من ذلك خلع عليهم من الخلع ما لم يلبسوا مثلها فيما تقدم..
فإذا فرغوا من ذلك قاموا إلى كثيب من المسك الأبيض فاخذوا منازلهم فيه على قدر علمهم بالله- لا على قدر عملهم، فان العمل مخصوص بنعيم الجنان، لا بمشاهدة الرحمن- فبينما هم على ذلك إذا هم بنور قد بهرهم، فيخرون سجدا، فيسري ذلك النور في أبصارهم ظاهرا، وفي بصائرهم باطنا، وفي أجزاء ابدأنهم كلها، وفي لطائف نفوسهم، فيرجع كل شخص منهم عينا كله، وسمعا كله، فيرى بذاته كلها، لا تقيده الجهات، ويسمع بذاته كلها، وهذا يعطيهم إياه ذلك النور، فيه يطيقون المشاهدة والرؤية، وهم أتم من المشاهدة… فيأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول لهم:
-تأهبوا لرؤية ربكم، فها هو يتجلى لكم..
فيتأهبون، فيتجلى الحق تعالى، وبينه وبين خلقه ثلاثة حجب:
حجاب العزة، وحجاب الكبرياء، وحجاب العظمة
فلا يستطيعون رؤيته بالنظر إلى تلك الحجب، فيقول الله تعالى لأعظم الحجبة:
-ارفعوا الحجب بين وبين عبادي حتى يروني!
فترفع الحجب، فيتجلى لهم الحق خلف حجاب واحد في اسمه الجميل اللطيف إلى أبصارهم، وكلهم بصر واحد، فينفهق عليهم نور يسري في ذواتهم، فيكونون به سمعا كلهم، وقد أبهتهم جمال الرب، وأشرفت ذواتهم بنور ذلك الجمال الأقدس ([43]).
ب-كلام الله تعالى لأهل الجنة:
ولا يتوقف التجلي الإلهي لأهل الجنة على تفضله عليهم برؤية وجهه الكريم، وإنما يزيد على ذلك بمخاطبته إياهم خطابا مباشرا، يجعلهم في حالة من النور والنشوة تنسيهم مدى النعيم الذي يتمتعون به في منازلهم بالجنة!
وهنا يعتمد ابن عربي على حديث أبي بكر النقاش، الذي يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه نص الحديث الطويل الذي يخاطب الله تعالى به عباده المكرمين في الجنة، وهو حديث يتميز بالعظمة والرحمة والكرم اللامتناهي، مع الوعد بحياة سرمدية، خالية للأبد من الحاجة والفاقة والبؤس والمسكنة والضعف والشيخوخة والسخط والحرج، إلى جانب استجابته تعالى لكل ما يتمناه أهل الجنة أو يخطر على بالهم.
يقول ابن عربي: ثم إن الحق بعد هذا الخطاب، يرفع الحجاب، ويتجلى لعباده، فيخرون سجدا، فيقول لهم:
-ارفعوا رؤوساكم، فليس هذا موطن سجود يا عبادي، ما عوتكم إلا لتتنعموا بمشاهدتي!
فيمكثون في ذلك ما شاء الله، فيقول لهم:
-هل بقي لكم شيء بعد هذا؟
فيقولون:
-ربنا، وأي شيء بقي، وقد نجيتنا من النار، وأدخلتنا دار رضوانك، وأنزلتنا بجوارك، وخلعت علينا ملابس كرمك، واريتنا وجهك؟! فيقول الحق تعالى:
-بقي لكم أمر؟
يقولون:
-يا ربنا، وما ذلك الذي بقي؟
فيقول:
-دوام رضاي عنكم، فلا اسخط عليكم أبدا.
ويعقب ابن عربي على ذلك قائلا: فما أحلاها من كلمة، وما الذها من بشرى! ويشرح ذلك بان الله تعالى بدأ بالكلام في خلقنا فقال (كن) فأول شيء كان لنا منه السماع، فختم بما به بدا، فقال هذه المقالة، فختم بالسماع، وهو هذه البشرى ([44]).
وبعد أن تنتهي مراسم تلك النعمة الكبرى لأهل الجنة، يقول سبحانه للملائكة: ردوهم إلى قصورهم، فلا يهتدون إليها بسبب ما طرا عليهم من سكر الرؤية وما أفاء عليهم من الخيرات في طريقهم فلم يعرفوها، فلولا أن الملائكة تدلهم على أماكنها ما عرفوها، فتتلقاهم أهلهم من الحور والولدان فيقولون لهم: لقد زدتم نورا وبهاء وجمالا على ما تركناكم عليه! فيرد أهلهم: وكذا انتم قد زدتم من البهاء والجمال، ما لم يكن فيكم عند مفارقتكم إيانا، فينعم بعضهم ببعض ([45]).
ويؤكد ابن عربي أن الراحة والرحمة مطلقة في الجنة، فكل من في الجنة منعم وكل ما فيها نعيم. فحركتهم ما فيها نصب، وأعمالهم ما فيها لغوب –إلا راحة النوم فليست عندهم لانهم لا ينامون، فما عندهم من نعيم النوم شيء. والله تعالى يعطي أهل الجنة من الأماني والنعيم المتوهم فوق ما هم عليه. وبمجرد أن يتوهم الشخص شيئا أو يتمناه يكون فيه بحسب ما توهمه. فان تمناه معنى كان معنى، وان توهمه حسا كان محسوسا. وذلك النعيم من جنات الاختصاص ([46]).
خاتمة:
يتضمن الجانب الأخرى Eschatologie عن ابن عربي المحاور الأربعة التي وردت معظم عناصرها في النصوص الدينية، وهي: البرزخ الفاصل بين الدنيا والآخرة، ثم القيامة والبعث، ثم جهنم ومراتب أهل النار فيها، وأخيرا الجنة ومنازلها.
ومن الواضح أن هناك هدفين من وراء هذا العرض، هما الهدف التعليمي، والهدف الوعظي، ولتحقيق الهدف التعليمي، حاول ابن عربي أن يستقصي قدر الإمكان كل ما ورد من نصوص دينية في الموضوع، أو حوله، وان يقوم بعرض ذلك في نظام متدرج، متدخلا عند الضرورة لملء فجوة هنا، أو إكمال معلومة هناك، ومستعينا بكل وسائل اللغة العربية، ودلالتها القريبة والبعيدة لجعل هذا النظام متماسكا، ومرتبط الحلقات.
أما الهدف الوعظى، فيبدو بوضوح من الأسلوب المتميز، الذي جمع فيه ابن عربي بين الطابع العقلي، والطابع الوجداني، ولا شك انه كشاعر قد وظف كل إمكانياته البيانية في هذا المجال، بل انه –كما هو مألوف في كتاباته- رضع حديثه النثري المتدفق ببعض أبيات من الشعر. والنتيجة أن القارئ لهذا الموضوع يشعر وهو يتابعه بأنه أمام “حكاء” بارع، ينجح في جذب انتباهه في كل سطر، ولا يكاد يفلته إلا عند الانتهاء من الحكاية الهامة جدا التي يرويها، كما أن التأثير النفسي العميق يحدث كلما استحضر القارئ مختلف الأحداث التي تقع للبشر في الآخرة، بدءا من البرزخ، وحتى الاستقرار في كل من النار والجنة!
إن مجرد العرض التفصيلي للأخرويات يدفع الإنسان –في هذه الدنيا التي يتكالب الجميع عليها، ويحسب معظمهم أنها “كل شيء –إلى الوقوف لحظة تأمل، بل لحظات، لكي يعيد تقييم موقفه منها، وهل هو على وعي بحقيقتها؟ وما دوره الأساسي فيها؟ ثم الموت: هل هو النهاية أم مجرد انتقال من حياة إلى أخرى؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا” وهي عبارة يمكن أن نفهم على مستويين. وما هي طبيعة تلك الحياة الأخرى؟ وهل يحس الميت فيها بشيء؟ وما الذي يراه أو يتخيله؟ أما القيامة والبعث وما يحتويه كل منهما من تفصيلات مرعبة فإنها كفيلة بتنبيه الغافلين، وتخويف الفاسدين والمفسدين والمتكبرين، وهي تضع كل إنسان أمام مسئوليته في هذه الحياة، وتحدد له الطريق المستقيم لكي يسير فيه، كما تحذره من المسالك الملتوية التي تؤدي به إلى سوء المصير.
لاشك أن الواقع والخيال يتداخلان في عرض ابن عربي للأخرويات. والخيال لا يبعد كثيرا عن الواقع لكن المزج بينهما يؤدي في نهاية الأمر إلى النتيجة المرجوة من خلال أسلوب يعتمد على التدرج العقلي، والتحليل المنطقي المحكم، حتى وهو يبتعد عن الدلالات القريبة للغة العربية فانه يظل مرتبطا بها. وكثيرا ما تسعفه النصوص الدينية بما يريد أن يصل إليه.
وأخيرا فان اختيارنا لهذا الموضوع، لا يرجع فقط إلى أهميته في نطاق الفكر الديني الإسلامي المكتوب باللغة العربية ولدى احد كبار فلاسفة الصوفية، وإنما أيضا لكي يصبح –فيما بعد- أساسا للدراسة المقارنة مع نظائره لدى المفكرين الدينيين في كل من اليهودية والمسيحية، وربما في سائر الديانات الأخرى.
أهم المراجع:
*أسين بلا ثيوس، ابن عربي: حياته ومذهبه.
ترجمة د. عبد الرحمن بدوي. الأنجلو المصرية. القاهرة 1965
*إخوان الصفا، الرسائل (4 أجزاء). ط. القاهرة 1928
*بالنثيا (آنخل جنثالث)، تاريخ الفكر الأندلس
ترجمة د. حسين مؤنس. النهضة المصرية. القاهرة 1955
*جولد تسيهر، العقيدة والشريعة في الإسلام.
ترجمة محمد يوسف موسي وآخرين. دار الكتاب المصري. القاهرة 1946.
*الحكيم الترمذي، ختم الأولياء.
تحقيق د. عثمان يحي. المطبعة الكاثوليكيكية، بيروت 1965.
-نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول- دار صادر. بيروت (د. ت).
*شيدر (ه. ه) نظرية الإنسان الكامل عند المسلمين. مصدرها وتصويرها الشعري.
ضمن كتاب: الإنسان الكامل في الإسلام ترجمة د. بدوي القاهرة 1950
*الصفوري (الشيخ عبد الرحمن الشافعي)، نزهة المجالس ومنتخب النفائس ط. المكتبة السعودية. القاهرة 1354ه
* ابن عربي،
إنشاء الدوائر، تحقيق نيبرج، ليدن 1914
التدبيرات الإلهية، تحقيق نيبرج. ليدن 1914
الرسائل (في مجلدين) حيدر آباد 1948.
روح القدس في مناصحة النفس تحقيق ودراسة د. حامد طاهر. القاهرة 2005
عقلة المستوفر. تحقيق نيرج. ليدن 1914
الفتوحات المكية (4 مجلدات) المطبعة الأميرية 1269ه.
وصورتها دار الكتب كما هي. القاهرة 2008.
فصوص الحكم. تحقيق وشرح د. أبو العلا عفيفي –دار إحياء الكتب العربية- القاهرة 1946
* الغزالي، المقصد الأسني في شرح أسماء الله الحسنى –دار المشرق. بيروت 1971.
-كيمياء السعادة. مطبعة السعادة. القاهرة 1343ه
*مدكور (د. إبراهيم)
-وحدة الوجود بين أبن عربي واسبينوزا، ضمن الكتاب التذكاري عن ابن عربي، الهيئة المصرية للكتاب. القاهرة 1969.
*محمود قاسم (د.)
-الخيال في مذهب محيي الدين بن عربي. ط. معهد الدراسات العربية. القاهرة 1969.
*ابن النفيس، الرسالة الكاملية
تحقيق عبد المنعم عمر. المؤتمر العاشر لمجمع البحوث الإسلامية. القاهرة 1985
*Affifi, A. E.
The mystical philosophy of Muhid dtn Ibn “Ararot Cambridge uniw. 1939
*Corbin, H.
L’imagination Créatrice dans le soufism d’Ibn ‘Arabi Paris 1977
*Jeffery, A.
Ibn al. ‘Arabi’s Shajarat al- Kawn, Studia Islamica 10 (1959).
*Takeshita, M.
Ibn ‘Araloi’s theory of the perfect man and its place in the history of Islamic thout. Tokyo 1987