كتاب جديد في التصوّف: كتاب البياض والسواد لأبي الحسن السيرجاني
بقلم: لينا الجمّال
يتضمّنُ هذا العملُ دراسةً وتحقيقًا لكتاب البياض والسّواد من خصائص حِكَم العباد في نعت المريد والْمُراد لأبي الحسن علي بن الحسن الكرماني السّيرجاني (ت نحو 470هـ/1077م). وقد تعاون على تحقيق الكتاب ودراسته د. بلال الأرفه لي من الجامعة الأميركيّة في بيروت ود. ندى صعب من الجامعة اللبنانيّة الأميركيّة. وقد صدر الكتاب لأوّل مرّة عن دار نشر بريل المروموقة والتي لها باع طويل في الاهتمام بالتراثين العربيّ والإسلاميّ. ويصدر الكتاب عن شركة القدس للنشر والتوزيع ومركز طواسين، وقد ترجمت دراسة الكتاب إلى العربيّة لينا الجمّال.
والكتابُ عبارةٌ عن دليلٍ أساسيّ للمتصوّف، وضعَهُ أحدُ مشايخ التّصوّف الكبار، وجمع فيه الإرثَ الصّوفيّ لمن سبقَهُ من المتصوّفين الكبار. ويضمُّ الكتابُ مجموعةً من أخبارهم وأقوالهم التي من شأنها أن ترشد المريدينَ التّوّاقين إلى الهداية. ويُشكّلُ كلُّ بابٍ من أبوابه الثّلاثة والسّبعين بحثًا مستقلًا يتناولُ مفهومًا من مفاهيم التّصوّف أو قاعدةً في السّلوك، يشرحُها السّيرجاني من خلال حشدِ آراء كبار المتصوّفة وآيات القرآن والأحاديث النّبويّة والحِكَم المأثورة وعددٍ من الأبيات الشّعريّة. وكتاب البياض والسّواد من المجاميع التي عبَّرَ فيها المؤلِّفُ عن مذهبِهِ وآرائِهِ بلسانِ غيره، فجمعَ لذلك أقوال المتصوّفين بين القرنين الثّامن والعاشر للميلاد. وتظهر براعة السّيرجاني من خلال بناء هذا الكتاب على نحوٍ متّسقٍ ومتكامل، وفي تركه لنفسِه فسحةً في بعضِ المواضع للتّعبير عن آرائه الخاصّة. وإنّ “صوتَ المؤلّف” هذا “ليُسمعُ” بشكلٍ واضحٍ في اختياره لعنوان الكتاب، وفي مقدّمته له، وفي تخلّصه من بابٍ إلى آخر بعبارةٍ تربطُ السّابق باللاّحق. لقد أوجد هذا “الصّوت” وحدةً داخليّةً بين عناصر الكتاب المختلفة، وشكّل هيكلًا تامًّا واضحَ المعالم، رسّخته الأقوال والآراء التي ساقَها.
ويضمُّ الكتاب مجموعةً لا يُستهانُ بها من الأخبار والأقوال التي لا وجودَ لها في أيٍّ من المصادر الأخرى، ما يمنحهُ قيمةً عاليةً في دراسة تاريخ التّصوّف بدءًا من نشأته، ووصولًا إلى دراسةٍ معمّقةٍ لتعاليمه. ويصف الكتاب بدقّةٍ قواعد هذا المذهب، ما يجعلهُ دليلًا للمريدين الباحثين عن معرفةٍ حقيقيّةٍ بالله. يعرّف السّيرجاني فيه الإيمان والتّوبة من وجهة نظرٍ صوفيّة، ويعرّج على ذكر الزّهد والتّقشّف ونكران الذّات في سبيل الاستغراق في الذّكر. ويسلّطُ الضّوءَ على العلاقة بين الشّيخِ والمريد من خلال استعراض خصائص العالِمِ “وارثِ النّبوّة”، وما تقوم عليه التّربية من مبادئ السّلوك والخصال، يُضافُ إلى ذلك الحديثُ عن الفقر والجوع والصّحبة والفتوّة، ورفقِ المشايخ المتصوّفين بمريديهم. ويطرح الكتاب مفاهيم شتّى لعقيدة المتصوّفة منها: الجمع والتّفرقة، والفناء والبقاء، وعلم الباطن، والفراسة، وعالم الغيب، وأحوال النّفس ومقامات الطّريق. هذا إلى جانب عناوين أخرى مثيرةٍ للجدل كالمشاهدة والوَجْد والكرامات. ويتجلّى ميلُ السّيرجاني الأدبيّ وتذوّقُه للشّعر في تخصيصه بابًا لأشعار المتصوّفين.
يقع كتابُ البياض والسّواد ضمن نمطٍ من التّأليف شاع في منتصفِ القرن الرّابع للهجرة/العاشر للميلاد واستمرّ حتّى نهاية القرن الخامس للهجرة/الحادي عشر للميلاد، وشملَ تراجمَ للمتصوّفين وكتبًا متخصّصة تتناولُ جانبًا من جوانب التّصوّف. قدّمت هذه الأعمال نموذجًا واضحًا ومحكمًا للتّعلّم والورع والتّصوّف. وقد شهدت مدينة خراسان على ولادة معظمِها، من بينها كتاب اللّمع في التّصوّف لأبي نصر السّرّاج (ت 378هـ/ 988م)، وطبقات الصّوفيّة وغيره من أعمال أبي عبد الرّحمن السّلمي (ت 412هـ/1021م)، وتهذيب الأسرار للخركوشي (ت نحو 407هـ/1016م)، والرّسالة القشيريّة لأبي القاسم القشيري (ت 465هـ/1072م)، وسلوة العارفين وأنس المشتاقين لأبي خلف الطّبري (ت 470هـ/1077م). وكلّ هؤلاء المصنّفين الذين سبقَ ذكرُهم أقاموا في نيسابور، باستثناء السّرّاج الذي عاشَ في طوس. ويُضافُ إلى قائمة المؤلَّفات كتاب التّعرّف لمذهب أهل التّصوّف لأبي بكر الكلاباذي (ت 380هـ/990م أو 385هـ/995م) وهو المقيمُ في بُخارى، وقوت القلوب لأبي طالب المكّي (ت 386هـ/996م) الذي تنقّل بين البصرة وبغداد، وحلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نُعيم الإصبهاني (ت 430هـ/1038م) الذي أقامَ في إصبهان وزار نيسابور والعراق والحجاز، وكشف المحجوب للهجويري (ت نحو 467هـ/1075م) الذي وُلد في غزنة وتوفّي في لاهور، وطبقات الصّوفيّة لعبد الله الأنصاري (ت 481هـ/1089م) الذي عاشَ في هراة. أمّا السّيرجاني صاحبُ كتاب البياض والسّواد فعاش في مدينة سيرجان ضمن إقليم كرمان، ما يؤكّد لنا من جديد انتشار الصّوفيّة خارج حدود خراسان في القرن الخامس للهجرة/الحادي عشر للميلاد.