الوجود اللوني مقذوفا به في عالم اللوحة
L’être- couleur jeté dans le monde du tableau
محمد أمعارش
تؤكد جميع مرجعياتنا اللغوية والفلسفية والعلمية أن الألوان ليست لها حقيقة موضوعية وهوية ذاتية مستقلة، لأنه لا قيام لها إلا في مواد وأشكال وحوامل هي التي تكون ذوات ألوان، فذو اللون هو المسمى باللون، من أبيض وأسود وأحمر وأزرق… أما اللون نفسه الذي هو البياض والسواد والحمرة والزرقة، فلا يتجرد عن مظاهر تجليه المسماة به، إذ هو مجرد هيئة أو صفة قائمة بالغير، أو فكرة أو حساسية أو انطباع في العين أو شعاع في الرؤية لا وجود له في ذاته إلا بضرب من الحلول في محلات وذوات ومظاهر، ومن ثمة كررت الفيزياء على مسامعنا حقيقتها القائلة أنه لا وجود للألوان: Les couleurs n’existent pas . غير أن الأعمال التشكيلية المتسلسلة للفنانة نوال السقاط، تُصِر، من عمل إلى آخر ومن معرض إلى معرض، على تأكيد حقيقة مختلفة للون في العمل الفني، عبر رفع تحدي إثبات إمكان الوجود اللوني الذاتي، وذلك بسداد الفقر الذاتي في الوجود اللوني، remplir son manque d’être originel باستعارتنا لعبارة مارتن هيدجر، وهذه المهمة الأنطولوجية تجعل الفنانة راعية ألوان، ومربية أشكال، تطلقها من عمائها وهبائها، وتفتح لها الباب وترسم لها الطريق في اتجاه مرعاها، من لوحها المحفوظ إلى لوحتها المشهودة، فِعْل الفنانة التشكيلية في ذلك ـ رغم الصنعة الدقيقة التي أحاطت بها حرفة الرعاية هذه ـ لا يتعلق برسم الألوان والأشكال، بل بفعل خلاق أصيل ومتعال يتجاوز الرسم ذاته، وهو فعل النفخ في الصور، حتى تقوم الألوان من أجداثها، أو تنفصل عن أجسامها ومادتها، ويستوي النفخ في الصور بضربة الريشة، والخط في اللوح، والنقر في المادة، في إعطاء الوجود وفتحِه، كما في نزعه وإغلاقه. ليس مع الراعي إلا نايُه لتنشيط حركة رعيته، أو عصاه يهش بها على غنمه. ولا تتجاوز الفنانة التشكيلية هذه المهمة الأنطولوجية في أن تجود بريشتها أو فرشاتها، على ألوانها وتضعها رهن إشارتها، وتناديها منها كل باسمه، وتهش عليها لتخرج من ظلمة الإمكان إلى نور العيان، فتندفع مقذوفا بها إلى لوحة الظهور، حيث تنكشف منها هذه الحركة الوجودية الانفعالية بالجود الذي هو ولادة في عالم ما.
بهذا المنطق فإن نوال السقاط لا تشتغل على المادة في أعمالها التشكيلية إلا بالصقالة والتهيئة والإعداد لظهور هذا المنحجب فيها أو بها، أي برفع حجاب المادة لظهور اللون للعِيان وانكشاف عالمه، وسواء كان هذا اللون نورا أو شعاعا أو طيْفا أو ظلا أو صبغا، فإنه هو هذه الحركة والصيرورات والتحولات في المادة المُصَيَّرة خميرة وهيولى والمسماة تَلَوُّنا، وعملُها الحِرفي على تجلية المادة وصقالتها، ليس مقصودا لذاته للتعبير عن براعة حرفية ودقة صناعية في تخليق المادة وتطويعها وتثبيتها، بل هو عمل للنفي والمَحْوِ والتَّخْلِيَة أوَّلاً، كصنيع الصُّوفي بمادته القلبية حينما يعمد إلى صقلها وتخْلِيَتِها بَدْأً، قبل تحليتها، حتى تكون أكثر استعدادا لانتقاش ألوان العلوم والمعارف والحكم والغيوب فيها، ويصير لون هذه المعارف بلون إنائها القلبي المتقلب والمتحول والمتحرك، وسواء قلنا لون الماء والإناء، أو لون السماء والغطاء فهما سيان، إذ العبرة في الوجود المحجوب للون، والذي لا يظهره إلا عمل الصقالة والجلاء.
ليس اللون في الأعمال الفنية التشكيلية لنوال السقاط، هو الأشياء الملونة، كما ليس الشكل فيها هو الأشياء المتشكلة، بل هو هذه الأعماق التي تندفع في حرية جارفة إلى أسطح الأشياء لتلقي بكل حِمَمِها فوْقَها، وتغمرها بالكامل. ولهذا تبدو ألوان نوال خارجة من أعماق اللوحة، أو مقذوفة فيها من الآفاق، لا أنها داخلة فيها بالرسم والنقش والتخاطيط الصناعية، حتى لَكأَنَّ اللوحة رحمٌ لحظةَ طلق ولادة، أو بُركانٌ لحظةَ انفجار، أو حريقٌ لحظةَ اشتعال واندلاع، أو رذاذٌ عند ارتطام أمواج، أو نور لحظة انفهاق، أو فتيل لحظة انطفاء، أو بخار لحظة انبعاث، أو ظل لحظة تمدد، أو شمس لحظة شروق أو غروب. تولد الألوان وتنفجر وتندلع وترتطم وتنطفئ وتنبعث وتتمدد وتشرق وتغرب في عين حمئة. لحظة الانطلاق والخلاص هذه هي طريقتها الوحيدة في الخروج والوجود في العالم sa manière d’être et de naitre au monde ، بعبارة ميرلوبونتي، وما اللوحة في المشروع التشكيلي لنوال السقاط، إلا مهد هذه الألوان ولحدها المتجدد كذلك، أي عالم بقائها وفنائها في الآن نفسه، إذ لا تحكي اللوحة شيئا آخر غير تاريخ اللون في سيرورته بين الظهور والخفاء وفي جدل تلونه بين الصعود والهبوط، والشدة والرخاء، والقوة والضعف، والوجدان والفقدان.
سلسلة لوحاتها التشكيلية، أو بالأحرى التَّشَكُّلِيَّة، التي أبدعتها خلال 25 عاما من مسيرتها الفنية، بمختلف ملحقاتها وإضافاتها، ما هي إلا حكاية واحدة عن هذا الوجود اللوني بمختلف رواياتها وأسانيدها وطروسها، تروي مورفولوجيا هذه الألوان وشؤونها في العالم التشَكُّلي أو التَّكَوُّنِي الذي قذفت إليه وفيه. وإذ تَجُول العين المفكرة في هذه السلسلة من اللوحات فإنها لا تقوم في الحقيقة إلا بتتبع سفر الخروج اللوني عبر الاستماع من حجاب الرؤية إلى رواية ميلاد الحكاية، فهذا اللون الذي تبصره منكمشا أومنطفئا أو صريعا أومسجى في عالم لوحة، تعثر على خبره في عالم لوحة أخرى مرحا يشع فرحا وزهوا، واللون الذي يطفح وجودا وظهورا في عالم لوحة بقوته وسلطانه القاهر لكل الألوان، تفقده فجأة في عالم لوحة أخرى، ولا خبر عنه، وكأن الزمان فعل به الأفاعيل، وأحاله إلى مقهور معدوم الوجود، فلعل هذا البياض في اللوحة ابتلعه، أو لعل هذا اللون الآخر أذابه وأذهب بريقه وسلطانه. واللون الذي تجده في عالم لوحة متماسكا وآخذا طريقه المستقيم إلى وجهته ومقصده، قد تفرقت به السبل في عالم لوحة أخرى، فتمزق أيما تمزق، وتشتت وتشرد بين الطرقات، لا يهتدي إلى ما يجمعه على نفسه، يندب فُقْدانَه كما كان قبل ذلك يطرب بوجدانه. ويخيل إلى متتبع ميلاد الحكاية في تجوال العين البصيرة والمفكرة في هذه السلسلة من اللوحات، أن الوجود اللوني في العالم يشبهنا، ويشبه وجودنا وأحوالنا وشؤوننا في العالم، بل يشبه الحياة نفسها في صخبها وضجيجها وصراعها من أجل بقاء موهوم، في مواجهة فناء محتوم، وقد أحسن من قال: إن الحياة علبة ألوان، نحن مِن جُملتها.
انظروا إلى عدد من المشاهد اللونية التي تعرضها لوحات نوال السقاط، تسمعون هذا الضجيج والصراخ والأنين، وانظروا إلى غيرها من المشاهد حيث يستريح الموت والصمت في النزع الأخير للألوان، قبل أن تبعث مجددا من مرقدها، في دائرة تأويلية للحكاية التي يخبر بها جسد اللون. ثم ضاعِفوا النظر إلى هذه الألوان برؤيتها في وجوه زوار معارضها، وقد كَشفت تجاعيدَ الحياة على أبشارهم وجلودهم، وتكاد أعينهم تفيض مع كل سائل منها، وثغورهم تتفتح مع كل حركة انبعاث أو تبخر أو تبدد، بعضهم يمتلئ ألوانا ويُشرق أنوارا، وبعضهم يقف في سكون، لا رَهَبا، بل حذرا أن يدركه رذاذ من الزمن الذي تعظ به هذه الألوان في تسبيحاتها وبشاراتها ونذرها، أو تصيبه شظية منه، تنقذف من آفاق اللوحة، أو تصعد من أعماق لاوَعْيِه، فالرؤية الخارجية للحركة والزمن في الوجود اللوني بهذه اللوحات، تتحول إلى رؤيا داخلية، وتنقلب العين الباصرة إلى عين البصيرة الكاشفة عن اللوحة الغائبة فينا، التي تشير إليها اللوحة المنظورة، وكأننا في مهرجان لرجع صدى الألوان من داخل إلى خارج، ومن خارج إلى داخل، أو في حفل تنكري للألوان يلبس فيه الأبيض الأسود، والأسود الأبيض، فيخرجان رمادا، أو يتدثر فيه الأزرق بالأحمر فيخرجان بنفسجا، وحيث يتسمى اللون بالأشياء، وتكون هي صفته وهو الموصوف بها، فيقال أسود فاحم، وأخضر زمردي، وأزرق سماوي، وأبيض ثلجي، Bleu ciel, Bleu marine, Bleu roi، لم تعد السماء وغيرها هي الموصوفة باللون الأزرق، بل اللون الأزرق هو الموصوف بالسماوي والبحري والملكي…
أخشى على الناظر حديدِ البَصَر المُستَقْبِل للَّوحة أن يصيبه عَمى الألوان، كما أخشى على مستدبرها، الذي يوليها ظهره لالتقاط صورة له ضاحكة باسمة تحشره في ثناياها، أن تتضاعف لحظة التصوير بالتصوير، فيصير جُزْءا من اللوحة، تبتلعه رمالها، أو تذروه رياحها، أو تغرقه أمواجها، أو تذيبه نيرانها ويصهره لهيبها.
خذوا حذركم وأنتم تلجون مسرح العيون في مهرجان الألوان والفنون، أن يتخطفكم البريق والبهرج، ودعوا اللوحة تنظر إليكم وتَراكُم، فتستخرج منكم بنظرة مختلفَ ألوانكم المتجاورة، وألسنتكم المتحاورة، وقد تعودون من المعرض/ المسرح بآية عنكم أو بجذوة نار أو بقبس من نور، أو بأسئلة تنهار الإجابات عنها واحدة تلو الأخرى، محاكية انهيار الألوان وتساقطها في اللوحات المعروضة.
ليس لنا إلا أن نضع ثقتنا في اللوحة فإن لألوانها ألسنة حق ناطقة بحروف الوجود، مثلما للحروف نفسها ألوانٌ تنصبغ بها، صبغة أصيلة، كصبغة الله. أولم يقل آرثر رامبو Arthur Rimbaud ذات قصيدةٍ لوْحة: أن الألف سوداء والواو زرقاء والياء حمراء …
A noir, E blanc, I rouge, U vert, O bleu :voyelles, je dirai quelque jour vos naissances latentes…
تتلاقى الأصوات والحروف والألوان في اللسان والبَنان، والآذان والعِيان والجِنان، وتتخلخل الحواس، فيصبح ما بِه نَسمعُ هو ما بِه نَرى، وما به نرى هو ما به نسمع، سماعا ورؤية وجوديين لا طبيعيين، ومن شأن الفن الأصيل المقيم بجوار منابع الوجود، أن يكشف لنا عن هذه الحقيقة المغيبة في القسمة الطبيعية: لون /حرف /صوت… سمع/ بصر… تعرج الحواس بعضها إلى بعض، وتخرج من محابسها وعقالها، فتسمع الأذن بياض اللون، وترى العين هفيف النسيم، وصرصر الريح العاتية، بل ترى الأذن وتسمع العين. هكذا رأى آرثر رامبو الأصوات الصوائت Voyellesألوانا، وسمعت نوال السقاط الألوان حروفا وأصواتا، فجاءت قصيدةٌ على وزن لوحة، وجاءت لوحةٌ على رسم قصيدة، وقرأنا نحن اللوحة مثلما يُقرأ كتاب، كما لو أن وجودا لا يعبَّر عنه إلا بوجود آخر، وكما لو أنه لا يمكن لأبيض أن يظهر إلا في أسود، ولا لأسود أن يظهر إلا في أبيض، فكذلك تعلمنا لوحات نوال السقاط أن نرى الألوان تقع في مسامعنا وتغمرها، ونسمع إيقاعات صيرورتها وحركة خروجها تصُم أعيننا وتُصَدِّعها.
اجتماع الرؤية والسماع وتبادلهما الأدوار في عمل الألوان في اللوحة، هو ما يسمح بإدراك أفعال الحركة والتحول والتشكل والتكون، لا ذوات المتكونات والمتشكلات من الأعيان والأشكال المجسمة والمتجسمة، وهذا الجمع هو سِرُّ الصنعة الحوارية في عمل الألوان في المشروع التشكيلي لنوال السقاط: أن تُرِيَكُم ما لا يُرى، بل يُعاش ويشهد ويُذاق في كل نَفَسٍ وحِين، وهو التخلق والتحلل والتفسخ والتبخر والسيلان والجريان والذوبان والانبثاق والاختفاء والانخطاف والصعق… وندع ميتافيزيقا الترجمة تُسَمِّي هذا المتحوِّل والمتلوِّن بكل أسمائه وحالاته وشؤونه وأوصافه في اللغة.
أكاد أجزم، وأنا أحاوم ترجمة شجرة الألوان في أعمال نوال السقاط، أن كل لوحاتها تتقفى أثر لوحة مفقودة وضائعة، أو هي إعلان بشارة بميلاد لوحة قادمة à venir، ستفضي لا محالة سيرورة الألوان إليها، وكل ما تقوم به الفنانة التشكيلية هو الاستماع لنداء هذا القادم، والتقاط إشاراته، ورسم خرائط تلقيه واستقباله في لوحة أكثر استعدادا لنزوله، وحتما سَنَلْقَى هذه اللوحة يومًا ما، وفي معرض ما، وعلى غير موعد مضروب معها، ولعلها لوحتُنا الغائبة أو المغيبة فينا والقريبة منا، والتي توقظها أشباح الألوان وأقلام التكوين والتلوين.