النزعة الصوفية في كتابات جبران خليل جبران
د.عبد العزيز بوشلالق
جامعة محمد بوضياف بالمسيلة الجزائر
ملخص الدراسة:
جعل جبران من الصّوفية مذهبه الخاصّ وذلك بتطويره إيّاها بتمرّده ورفضه لسنن المجتمع وهروبه من الواقع المعيش، فأصبح بذلك أدبه صورة طبق الأصل لحالته النفسية وتقريرا كاملا لإحساساته ومشاعره المرهفة. إنها ليست سوى تلك النزعة المتأصّلة في كل مشرقي كانت ما كانت ديانته، هذه المسحة الرّوحانية تجلت في أدب جبران، لقد نهج نهجا مخالفا للصوفيين، بل اعتمد على المذهب الرّومانسي في هروبه من الواقع، وتمرّده وثورته على التقاليد البالية، ونظرته إلى الوجود، والتأمّل فيه، ونظرته إلى الحبّ والعلاقات الإنسانية وما تزخر به النّفس البشرية. إن الوحدة والحلول عند جبران حالة نفسية يمتزج فيها المحبّ بمحبوبه امتزاجا كليا، وأداة الحبّ والمعرفة ليست الحواس والعقل، إنما هي شيء سام أطلق عليه اسم النفس أو الرّوح أو القلب، وبذلك يكون جبران قد عاد بالأدب إلى التراث ديباجة أصيلة وإلى الذات الخلاقة هبة شعرية أصيلة، فزاوج بين التراث والحداثة في عملية صوفية موغلة في الخيال المبتكر، بنظرته التأملية في الطبيعة والإفادة من مظاهرها خواطر وأفكارا، وفي فهم الحرية والدّعوة إليها، وفي النزعة الالتزامية حتى سمي أسلوبه بالجبراني، ودعوته بالجبرانية.
تمهيد
تعتمد الصّوفية أساسا على الوجود والله والحقيقة الإلهية واعتزال الدّنيا وملذاتها للحلول، أو فناء للظواهر في الحق الواحد الأبديّ، أو اندماج العبد بربّه، وجبران يلتقي مع كبار المتصوفة في نظرتهم إلى الوجود والله، وهو إذ يحمل نظرية خاصّة به نابعة من رومانسيته وفكره، حيث تتحول فيما بعد إلى صوفيّة مغرقة في الضبابيّة. هذه الصّوفية أوجدتها الثقافة العميقة الشاملة لمختلف أنواع المعرفة باختلاف أصحابها ولغاتهم من جهة، ومن معايشة الواقع المرير الذي عاشه سياسيا واقتصاديا واجتماعيا من جهة ثانية. لذلك تعدّ صوفيته مذهبا خاصّا به، طوره بتمرّده ورفضه لسنن المجتمع، وهروبه من الواقع المعيش، فكان أدبه صورة طبق الأصل لحالته النفسية، وتقريرا كاملا لإحساساته ومشاعره الرّهيفة.
لقد عبّر عن كل هذا في كتابه النّبي الذي نستشف منه صوفيته التي لا نبالغ إذ نقول إنّها مذهب أدبي فكري فلسفي ابتدعه جبران من نفسه وطبعه على نفسه في حياته اليوميّة، ومن ثمّ أراد للنّاس أن يسلكوا مسلكه في ذلك. إنّ صوفيته هذه انطلاق جديد يساير روح العصر الذي عاش فيه، وهي تكشف عن الكثير من حقيقته الغامضة.
الوحدة والحلول :
يبدو جبران متأثرا ببعض الصوفيين كابن الفارض صاحب نظرية وحدة الشهود التي تتمثل في مظاهر الكون المتعدّدة (حال الأذواق والمواجيد). وهي ليست الوحدة التي برهن عليها الفلاسفة والصّوفيّة المتفلسفون، وليست وحدة الحلول كما عند الحلاّج أو غيره، بل إنها اتحاد العبد بربّه. والاتحاد كما هو معلوم عند الصّوفيّة هو النظرة القائلة بأن اتحاد الخالق والمخلوق أمر ممكن، لكن المحافظين منهم على جوهر الدّين يقولون: إنه فناء في الذات العليا. وهذه الوحدة هي عند جبران خليل جبران كما عند ابن الفارض حالة نفسية يمتزج فيها المحبّ بمحبوبه امتزاجا كليا، وأداة الحبّ والمعرفة ليست الحواس والعقل، إنما هي شيء سام أطلق عليه اسم النفس أو الرّوح أو القلب. والتأثر واضح من خلال الموسيقى ، فهو يؤكّد على فكرة الناي لأن من يعزف الموسيقى، ويبث نغماتها يؤثر في عقول الآخرين، وهي أداة للتهذيب، كما هي أداة للازدواج مع الرّوح الكلية التي هي الله.
يوجد تشابه كبير بين ما رآه جبران وبين ما رآه المتصوّفة في الطّرب والغناء، ممّا انحدر بهم فيما بعد إلى الوقوف عند الأذكار وحلقات الرّقص والغناء دون الوصول عن طريقهما إلى الكشف، فرأيه مشابه لآرائهم، ولكن بمفهوم عصري لأن نظرته الشاملة إلى الكون تنطلق من أن الحياة انسجام والطّبيعة تناغم والوجود في جزئياته اللامحدودة واللامتناهية كل موحّد. لذلك يلتقي جبران مع نظرية الفيض الأفلاطوني للسّهروردي. ويظهر ذلك في قصيدته المطولة التي أسماها “المواكب”. وفي إعجابه بقصيدة النفس لابن سينا. ولعلنا لا نستطيع أن نحدّد ينبوعا صوفيا واحدا له، لأنه شرب من كل الينابيع، ولا مظهرا صوفيا واحدا، لأنه بدأ متعدّد المظاهر مختلف الجوانب، فهاهو يبدو متأثرا تأثرا كليا من خلال قوله هذا : “… كان عمر بن الفارض شاعرا ربّانيا، وكانت روحه الظمآنة تشرب من خمرة الرّوح، فتسكر، ثمّ تهيم سابحة مرفرفة في عالم المحسوسات، حيث تطوف أحلام الشعراء وميول العشاق وأماني المتصوّفين ..” [1] إنه ليس مجرّد رأي في أحد المتصوّفين. بل طريقة للكشف عن شدة التأثر، لما يحمله من حس مرهف ، وعاطفة رقيقة.
صوفيته من خلال نماذج شعرية:
جعل جبران خليل جبران الناي رمزا للخلود لأن الموجودات تغني، لكن الصّدى النابع من وجودها يبقى يغيب ويضعف، لكنه لا يضيع ولا يضمحل. فالمواكب ” صوتان أو صوت وصدى يرنان في داخله كأجراس الرّعيان في وادي أقانوين أو يئنان في قلبه كسواقي (بشرى) و “قاديشا”…تشكّل مواكب جبران تحوّلا في الشعر العربيّ بعد ابن عربيّ وابن الفارض بعد أبي نوّاس والمتنبّي لموسيقى كونيّة ومحتويات إنسانية تطل من غيومها رؤوس إلهيّة”[2]
يقول فيها : أعطني الناي وغنّ فالغنا سرّ الخلود
وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود
إلى أن يقول: هل تحممت بعطر وتنشقت بنور
وشربت الفجر خمر في كؤوس من أثير [3]
تعلّق جبران بالطّبيعة وكل ما تحتويه من زحمة الحضارة والمادّة، ومن ذلك الانطواء على الأشياء المتعلقة بذلك الجسم الأثيري ألا وهي الرّوح. كل ذلك يفعله جبران ليصل عن طريق تأمّله في الوجود وللوجود إلى التسامي عمّا حوله من عالم المادّة المثقل بالضجيج والفساد. ومن كل ذلك ينتقل إلى ذكر صراع الإنسان بين الخير والشر، ويجعل أسلوب التقابل أو المقارنة بين الأضداد مبهما لإبراز الحقائق حول هذه الأشياء المتضادّة، لتتضح حقيقة كل واحد منها. وذلك بين عالم المادّة وبين عالم الرّوح النقيّ الصّافي، مثلما يوضح في قصيدته ” ماذا تقول السّاقية “
سرت في الوادي وقد جاء الصّباح
معلنا سرّ وجود لا يزول
فإذا ساقية بين البطاح
تتغنى و تنادي و تقول
ما الحياة بالهناء إنما العيش نزوع وحرام
والممات بالغناء إنما الموت قنوط وسقام
إلى أن يقول: ما النعيم بالثواب إنما الجنة بالقلب السّليم
ما الجحيم بالعذاب إنما القلب الخليّ كل الجحيم. [4]
إنها حديث ساقية قلب جبران التي ترى الحياة والممات، والنعيم والجحيم بمنظارها الصّوفي الخالص، إنها تختلج في نفسه لتبرز لنا الأسس التي تعتمد عليها صوفيته، وبالتالي تعتبر الأسس التي يسير على منوالها وينظر للوجود من خلالها وبهذه الأفكار من ناحية أصلها لا يخرج عن نطاق مذهب المتصوّفة، لكنها تعتمد المنظار العصري الذي حدّده لها جبران وفق نظرته.
فاختلاجات نفسه تنبع من كون الصّراع الدّاخلي ممّا هو موجود في واقعه ومعاش من قبله وممّا هو في نظره في عالم الذات الذي بواسطته يسمو إلى مراتب أكثر سموّا وعلوّا ليتحد مع الذات العليا. وجبران كأيّ شاعر مهجري قاسى وعانى مرارة الغربة نجده مرهف الإحساس شديد التأثر بالطّبيعة وما هو موجود في رحاب الطّبيعة ولذلك فالقصيدة نابعة من ذاته وتنمّ عن عاطفة صادقة.
وهذا الحوار الذي نسجه على لسان السّاقية ما هو إلا ذلك الصّراع الذي يرسمه بأسلوبه الخاص والذي يجسّد ميوله وآراؤه تجاه ما قالته على لسان قلبه تلك السّاقية. أمّا في قصيدته “الشحرور” فيقول:
أيها الشحرور غرّد، فالغنا سرّ الوجود
ليتني مثلك حرّ من سجون وقيود
ليتني مثلك روح في فضا الوادي أطير
أشرب النور مداما في كؤوس من أثير
ليتني مثلك طهر واقتناع ورضى
معرض عمّا سيأتي غافل عمّا مضى
أيها الشحرور غنّ واصرف الأشجان عني
إنّ في صوتك صوتاً نافخا في أذن أذني [5]
يبرز جبران تبرّمه من عالم المادّة، ونفور روحه من هذا القفص الذي وضعت فيه وهو الجسد، فنفسه توّاقة إلى الالتحام بالذات العليا والاتحاد بها، لأن هذا الجسد أثقلها، وعالم الشهوات لا يوافقها، وهي تريد أن تكون مثل الشحرور تطير وتشرب من النور الإلهي، وتعيش عيشة الطّهر والنقاء في فضاء ليس له حدود. إنه متصوّف من خلال الأحاسيس الفيّاضة المملوءة روحانيّة. والقارئ لها ترتسم بداخله انفعالات تشدّه إلى عالم علويّ صاف، بعيد عن الفساد وعفن المادّة.
أما في قصيدته (بالأمس) فرومانسيّته تطوف به في عالم غير محدود، يذهب به إلى التأمّل في وجوده، ليجد نفسه قد طفرت فوق عالم الحسّ وطارت إلى رحب الفضاء، شأنه في ذلك شأن المتصوّفة في الانقطاع عن العالم الواقعي والاندماج كلية في عالم الخيال الذي يلائم روحه التوّاقة إلى التسامي عن دنايا الواقع حيث يقول :
كنت إن هبّت نسمات السّحر
أتلوّى راقصا من مرحي
وإذا ما سكب الغيم المطر
خلته الرّاح فأملأ قدحي
إلى أن يقول :
شاخت الرّوح بجسمي و غدت
لا ترى غير خيالات السّنين
فإذا الأميال في صدري فشت
فبعكّاز اصطباري تستعين [6]
ينطلق جبران من حبّه القديم الذي انقضى وعذبه طويلا، هذا الحبّ الذي سما بنفسه إلى مراتب الزاهدين، وعند تذكّره يتألّم كثيرا، ويبكي على تلك الحالة الرّوحيّة التي يعيشها في ذلك العالم الغيبي، فمشاعره تندمج مع المطر والنّسيم والرّياح ونفسه ترصد حركات هذه الأشياء بذات الطّبيعة، وتنفعل بها انفعالا كلّيا، ومن ثمّ ينتقل إلى حاضره فيرى أن روحه قد شاخت بواسطة جسده لأنّها رهينة حبيسة تتمنّى الابتعاد عن هذا الجسد بواسطة كشف الحقيقة الكبرى، حقيقة وجوده واتحاده بالذات العليا، فهي لا ترى غير أشياء تلفها ضبابيّة وغيوم، فيتحسّر على كل ما فاته وكل ما تمنّته نفسه ولم يتحقّق وهو لم يبلغ الأربعين سنة بعد. كما أن أسلوب التقابل بين الضدّين، جعل القصيدة تتسم بخاصّية انفعالية تشدّ القارئ إليها، مثل القديم والحديث، الواقع والخيال، وبذلك يظهر صدق عاطفته، وبثه جميع أحاسيسه بين ثناياها حتى غدت قطعة رائعة تعبّر عن صوفيّته ومذهبه الرّوحي، الذي طالما تلاءم معه وأصبح داعية إليه.
صوفيته من خلال نماذج نثرية:
أمّا نماذجه النثرية فأغنى من نماذجه الشعرية بالصّوفية، لأنها أكثر عددا وإيحاء بذلك، فالأجنحة المتكسّرة والنّبي ودمعة وابتسامة غنيّة بالنّزعة الصّوفية. يعيش جبران في الأجنحة المتكسّرة صراعا شديدا دائما ممثّلا في الهروب من عالم المادّة الذي ينتمي إليه بجسده، وبين العالم الذي تتوق نفسه إلى الاندماج فيه. لذلك يبرز من واقع حياته حبّه للمرأة وعلاقته مع نساء عديدات، فلا ينسلخ كليّة، ويبدو متصوّفا بمعنى عصري وبرؤياه الخاصّة. فالحبّ الصّوفي عنده مجال للأخذ والعطاء كما هو الحال عند المتصوّفة ، فهل هو بشري وسيلة، إلهي غاية ؟ أم هو بشري متضمّن المعنى الإلهي ؟ أم هو إلهي متجاوز البشري؟
لم يكن رأي جبران معروفا ومفهوما لدى معاصريه، إذ اتهمه بعضهم بالازدواجية والفسوق والانغماس في عالم الشهوات، وهو نفسه لم يدّع أنّه انصرف عن الحبّ بمفهومه البشري ولم يصرّح أنّه زاهد أو راهب، وفي معرض الحديث عنه نقول لعله كما فعل أكثر رجال المتصوّفة أو الصّوفية اتخذ من الحبّ البشري سلّما يرقى به إلى الحبّ الرّوحين، ومن ثمّ ينتقل إلى الحبّ الإلهي، ولعله اكتشف ذاته التوّاقة إلى العلا من خلال انغماسها في الحضيض واعتبارها بذلك يقول :
“إنّ الذين لم يهبهم الحبّ أجنحة لا يستطيعون أن يطيروا إلى ما وراء الغيوم، ليروا ذلك العالم السّحري الذي طافت به روحي وروح سلمى في تلك السّاعة…”[7](7) ويقول على لسان سلمى :
“لا تشفق عليّ يا حبيبي، ولا تحزن من أجلي لأنّ النّفس التي ترى ظل الله مرّة لا تخشى بعد ذلك أشباح الأبالسة، والعين التي تكتحل بلمحة واحدة من الملأ الأعلى لا تغمضها أوجاع هذا العالم”[8] فالحبّ والجمال في نظر جبران كما لدى المتصوّفة سبيل من أوضح السّبل لسلوك درب الخالق والوصول إلى الحقيقة الإلهية، إنّه مرتبة من مراتب البلوغ. كيف لإنسان مثله أن يندمج معهم، وقد ثار ضدّ كنائسهم وعاداتهم مجتمعه، ما يبرز انسحابه من عالمهم إلى عالم أصفى وأنقى، يقول في مقالته الجمال “ياأيّها الذين حاربوا في سبيل الأديان المتشعّبة، وهاموا في أودية الاعتقادات المتباينة فرأوا حرّية الجحود أوفى من قيود التسليم، ومسارح النّكران أسلم من معاقل الأتباع، اتخذوا الجمال دينا، واتقوه ربّا، فهو الظاهر في كمال المخلوقات، البادي في نتائج المعقولات.” [9] هناك صلة بين الجمال وبين الحبّ للوصول إلى الفيض الإلهي، فهي بين الطّبيعة والمخلوقات أو موجودات الطّبيعة. ولا سبيل للفصل بينها، فلابدّ من احتضانها وفتح العيون عليها لإدراك السّر الكامن بين حناياها وما تخفيه من أسرار بين طيّاتها.
إنه أكثر تعبيرا وأدق تصويرا بالنّسبة لمخاطبة النّفس في مقاله “رحماك يا نفس رحماك: “حتى متى تنوحين يا نفسي وأنت عالمة بضعفي؟ إلى متى تضجين وليس لديّ سوى كلام بشري أصوّر به أحلامك؟ انظري يا نفسي فقد أنفقت عمري مصغيا لتعاليمك……..لم يبق لي سواك، فاقضي عليّ بالعدل، فالعدل مجدك، أو استدعي الموت واعتقي من الأسر معناك. فقد حملتني من الحبّ ما لا أطيقه أنت والحبّ قوّة متحدة، وأنا والمادّة !رحماك يا نفس ضعف متفرّق، وهل يطول عراك بين قويّ وضعيف؟ “[10] يصرخ جبران ويهرب من عالم المادّة وقيدها، إن روحه جزء من الحبّ، الذي هو صفة سماوية سامية، وهي منبع النّور والفيض الإلهي، لذلك يشتد الصّراع بينها وبين الجسد، فتبقى ويندثر، وفي هذا دليل عميق على نزعة جبران الصّوفيّة التي بناها من خلال تصوّرات نفسه، وكذلك ثقافته الواسعة والعميقة، إضافة لفكره الذي يتسم بالعمق.
أمّا كتابه النّبيّ فهو غارق في الصّوفية يحمل لوائح كشوفاته، وأسرار تصوّفه ومكنونات تجربته ليعلنها للعالم وعلى أسماعه. اختار عنوان (النّبيّ) لكتابه لأنّه تشبّه بالمسيح، وأطلق على نفسه اسم المصطفى، وسمح للنّاس أن ينادوه أيّها المعلم، لكنّه في الحقيقة لم يتناول أمور الدّين أساسًا كما فعل الأنبياء، بل تناول مقولات هي ثمار الحقائق وقطاف الطّرائق. تحدّث عن المحبّة وعن الجمال والفرح والترح والحرّيّة ومعرفة النّفس، والألم والزمان، والخير والشر، والصّلاة واللذة، والموت، كما يتحدّث المتصوّفون عن جوهر الأشياء وعمقها، مثلما بدت له وعرفها وحتى عندما تناول موضوعات دينيّة أو دنيويّة كالغذاء والكساء والمساكن والبيع والشراء والأديان والشرائع، إنّما تناولها في هذا المنحى وفي هذا الاتجاه يقول في مقال له بعنوان الجرائم والعقوبات: “إنّ القتيل ليس بريئا من جريمة القتل، وليس المسروق بلا ملوم في سرقته، لا يستطيع البار أن يتبرّأ من أعمال الشرير، ولا الطّاهر النّقي اليدين بريء الذمّة من قذارة المدنّسين …أنتم أيّها الرّاغبون في سبر غور العدالة، كيف تقدرون أن تدركوا كنهها إن لم تنظروا إلى جميع الأعمال بعين اليقظة في النّور الكامل، في مثل هذا النّور تعرفون أنّ الرّجل المنتصب والرّجل السّاقط على الأرض هما بالحقيقة رجل واحد، واقف في الشفق بين ليل ذاته الممسوخة ونهار ذاته الإلهية…”[11] أليس في هذه النّظرة إلى الشرائع روح صوفي يخترق الشريعة ليصل إلى الحقيقة ؟ وهل يمكن أن تؤخذ هذه الأقوال أحكاما كما أخذ أمثالها النّاس من أفواه الأنبياء، وهل يمكن للنّاس على الأرض أن يطبقوا حكما ليس واضح الحدود ولا ثابت الأبعاد والمعالم؟
إنّ جبران في (النّبيّ) متصوّف، وليس نبيّا، لذلك فهو الذي سأل وهو الذي يجيب، والذين يريد لهم أن يقرؤوا (نبيّه) هذا عليهم أن يكونوا قد فهموا أسرار مذهبه الصّوفي، الذي اتخذه أسلوبا في حواره العميق مع الذات، لكنّه حوار بصوت عال يخترق الأسماع ويمزق الحجب، ويسجّل لصاحبه اسما خالدا على مرّ الأجيال. خلق لنفسه مذهبا متلائما مع نفسه وذاته، وممّا أخذه أو تأثر به، ثمّ أضفى عليه أحاسيسه وفكره العميق، حتى غدا مذهبا معاصرا، تجلى من سلوكاته الحياتية ثمّ ظهر في آثاره الكتابيّة والفنّية، يبث ذلك من خلال هذه الرسالة التي يبعث بها إلى مي زيادة: “إنما النبي يا ميّ أول حرف من كلمة… توهمت في الماضي أن هذه الكلمة لي وفيّ ومني، لذلك لم استطع تهجئة أول حرف من حروفها، وكان عدم استطاعتي سبب مرضي، بل وكان سبب ألم وحرقة في روحي، وبعد ذلك شاء الله وفتح عيني فرأيت النور، ثم شاء الله وفتح أذني فسمعت الناس يلفظون هذا الحرف الأول، شاء الله وفتح شفتي فرددت لفظ الحرف: رددته مبتهجا فرحا لأنني عرفت للمرة الأولى أن الناس هم كل شيء وأنني بذاتي المنفصلة لست شيئا” [12]
إنّ كتابه “النّبي” ليس كغيره من الكتب فقد تجلت فيه عبقرية جبران ومقدرته على الإتيان بالبديل لمشكلات العصر بحيث وضع الحلول في أيدي النّاس عن طريق نصائحه ونظرياته وإرشاداته. كل هذا جعل جبران يتأثر ويحسّ وينطلق متمرّدا على الأوضاع غير منسجم مع هذا العالم الذي طفت منه المادّة على الرّوحانيات. “كان من الطّبيعي لجبران المفطور على الصّدق، والرّفق واللين، المؤمن بكرامة الإنسان وألوهية عنصره، أن يصطدم في بدء تفتحه الفنّي والرّوحي، اصطداما عنيفًا، مؤلمًا بخشونة الواقع ورياء الحياة البشريّة المكبّلة بالتقاليد والشرائع …” [13]
هذا المنطلق هو الذي جعل جبران يعيش حياة مختلفة عن أصحابه من الأدباء في المهجر وحتى عن النّاس في ذلك الوقت، وهو الذي جعله يغرق في رومانسيته التي أدخلها إلى الأدب العربي، وتأثر به في ذلك الكثير من الأدباء العرب والذين نهجوا نهجه حيث كان بعيدا عن الواقع هاربا منه، نافرا من لهفة النّاس في الاندماج فيه، فلم يجد إلا السّكون والهدوء، يحلق في الفضاء الكوني ليكتشف حقيقته ومبدأها ومنطلقها، ثمّ مصيرها ودورها في هذه الحياة، وذلك باكتشاف الحقيقة الكبرى وهي الله، ثمّ الاندماج مع هذه الذات العلوية، وبالتالي وجد عالم الرّوح أوسع وأرحب من هذا العالم المادّي المختنق.
ولد جبران في هذا العالم في بيئة تميزت بسعة التراث واتساع المعارف المختلفة، لذلك عبّ من جميع الينابيع الموجودة آنذاك، ولمّا لم يجد ما يناسب نفسه أو بالأحرى نفسيته جعل من الكلمة سلاحا، ومن اللمسة قنبلة، ومن الإحساس بركانا، وكانت وسيلته في ذلك أن أوجد أسلوبه بنفسه ومن نفسه، بما هو معروف بالأسلوب الجبراني “إنّ أسلوب جبران ونغمته ودقة وصفه قد أعطتنا مفهوميّة جديدة عن الجمال في التنسيق والبيان، فنثره الشعري المترقرق المتناسب، المتوازن، المتجاذب، قد جعل القافية المتتابعة في أعيننا قذى ورنّتها في آذاننا دندنة ونقنقة، فيا ليت شعري هل من يقرأ قصيدة جبران أيّها الليل
يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين
يا ليل الأشباح والأرواح والأخيلة
يعود فيجد لذة في ثرثرة شعرائنا عن الليل وكوكبه…” [14] لذلك كانت ثورة جبران على كل التقاليد، بما فيها الأساليب، وهذا ممّا لا يوافق العصر وممّا لا يوافق نفسه الوثابة إلى الطّموح و إلى الإبداع. لذلك “لم يتقيد جبران بالقوانين والسّنن التي أذعن لها شعراؤنا وكتابنا منذ أجيال، لأنّه وجد نفسه أوسع منها، وعندما شعر بحاجة إلى البيان عمّا في نفسه الهائجة، أبى أن يلجأ إلى الأساليب البيانية المطروقة، فأعرض عنها ثمّ ثار عليها …لقد ثار لأنّ الحياة وضعت في صدره قلبًا، هو كتلة من الشعور الرّقيق والحسّ المتناهي.” [15]
خصائص الشكل :
يعتمد جبران خليل جبران في كتاباته النّثرية والشعريّة النّهجية الرّسوليّة، التي وضحت معالمها في الكتب الدّينيّة المعروفة، وبصفة خاصّة الإنجيل، إذ تقدم أسئلة وتعقبها الأجوبة الرّسوليّة.
أي تكون على شكل حوار، ممّا ولد لديه طابع القصصيّة، لكن هنا تغلب ألفاظه وتراكيبه للجمل على النّسق الدّيني، وخاصّة المسيحي منه، فتجيء كتاباته عبارة عن النّهجية الرّسوليّة. يضع اللفظة مكانها المدلولي، أي يشحنها بما تؤول إليه من معنى.فهو “استرسال لا ضابط له، يفسح المجال للوعظ وإبداء الملاحظات”[16] تحمل ألوانا متعدّدة، بعضها نثري مباشر، لا يحمل على غير محمله، بل يؤخذ في أدائه الشائع، وهذه الألفاظ ليست قوام العبارة الجبرانية فهو يلجأ إليها كغرض لابدّ منه، للولوج إلى الألفاظ الإيحائية الشعريّة التي يشتقها اشتقاقا، ويبث فيها المعنى بالخلق النّفسي. وبعدما كانت اللفظة أداة زخرفة أو أداة تعبير مباشر، جاء جبران ليذيبها في نفسه، ثمّ يخرجها منه جديدة مبتكرة في الشكل والمعنى. إنها تحمل طابع صاحبها، وهو الذي يبث فيها ماء الحياة، بعد أن جفت وماتت. وهنا تكمن صوفيّتها، لأنها تنبع من فيض إلهي، ولم يوظفها فيما هو موجود، بل سعى بها إلى ما وراء الوجود، لأنّها قطعة من نفسه ، تتركه يعيش في عالم غريب عن عالمنا بأهوائه وأفكاره وميوله، ويصبو بألفاظه تلك إلى ما وراء المحسوس.
كان لعظمة الخيال عند جبران أن أوحي إليه بكتابة القصّة، فإذا هو يعطيها رواية وقصصا وخواطر، ويكون له في ذلك الأجنحة المتكسّرة والأرواح المتمرّدة وبعض الفصول في دمعة وابتسامة ومناجاة الأرواح والعواطف، وقويّ تأثير نزعته الذاتية على نفسه في كتابته القصصية [17] ، وهي عبارة عن حبكة روائية ترتبط فيها الأحداث بعضها بالبعض الآخر، فتتوالد وتتنامى وتتطوّر، بحيث لا تحدث ردّة وتناقضا بينها، ولا تخرج عن السّياق، وعن الخطّ الذي تتطوّر به الأزمة في النّفوس.
كم طغت ملكة الرّسم على جبران خليل جبران، وطبعته بطابعها في كتابته وأزهت عنده الصّورة وعمقت وأغنت بالدّلالة والإيحاء، وزادت في حيويّة كتابته وجاذبيتها، حتى أصبحت بعض كتبه مسلسل لوحات فنّية رائعة، وإذا بجبران يكتب ويرسم في وقت واحد…” [18] ، واتّضحت تلك التصويرية في أسلوبه في العربية والانكليزية فهو يتقدم باستمرار إلى صفاء وقوّة سبك. فجملته تطول في “الأجنحة المتكسّرة” مثلا، ويشوبها أحيانا ضعف وغموض، وتقوى في كتابه “العواصف”، وتسلس وترق، وتزيد في النّغم .يتسلسل تعبير جبران تسلسلا طبيعيا، ويبرز صفاء وروعة، وينشرح الصّدر لها. ويحلو الكلام للنّفس فتأنس إليه، ويفعل الصّدق الفنّي فيها فعله، فهو ينسج خياله صورًا متسلسلة. لقد أمدّ هذه الصّور من العطاء والخلق والإبداع ليتجنح التعبير ويتسع مداه وشموله ويظل بسيطا وعذبا، و يتدفق حيويّة في أوصافه التي ينسجها من خياله الرّحب. وكذلك فما يستشفه من الواقع، فينقله إلى الأذهان في دقة و بلاغة متناهيين. محاولا طرق أبواب المعرفة، وأضربها المختلفة بسهم وافر، ومعالجا كثيرا من القضايا فأقاصيصه دعوة إلى الإصلاح، وتفهّم النّاس وقضاياهم من خلال واقعه وذاته، منطلقا إلى إيجاد حلول يعجز عنها كبار مفكري عصره، ومع دقة عباراته، يغوص في أعماق النفس البشرية ، ويعيد الإنسان إلى أعماقه السّحيقة. وإذا شئنا توضيحا نقول إن جبران يريد ألا يفصل التقدم الحضاري الإنساني عن فطرته التي جبل عليها أول ما انفصل عن روحه الكلية، التي تتخايل ظلالها في الطبيعة، “لكن هذه الفطرة ليست الانسياق الأعمى وراء الهوى الغريزي، بل إنها الفطرة الخلاقة التي تهدم زيف التمدن، لتولد حضورا إنسانيا، مثالي الكيان والقدرة” [19]
الرّسم كالموسيقى فن من الفنون يذيب فيه الفنان كل مشاعره، وبه يؤثر في نفس المشاهد، وتكون الرّموز هي اللغة المستعملة في ذلك. كما أن الرّسم يعبّر عن بعد تفكير، وتأمّل الرّسّام في سبر الأغوار والتحليق في أجواء الخيال الذي يساعد على قوّة الإدراك. لذلك مال جبران إلى الموسيقى وأحبّها، لتكون عنصرا بارزا في كتابته ما قاده إلى كتابة النّثر الشعري أو الشعر المنثور، حيث تتناسق الألفاظ وتتناغم فترق وتعذب، وتطرب وهذه الموسيقيّة هي التي جعلته يندمج بالجمال الكلي ويتناسق في اندماجه مع الذات العليا، لذلك ” ثار لأنّ فيه نفسا تحنّ إلى الجمال الكلي الذي انبثقت منه، وتعشقته في كل مظاهره “[20] ، كما أن الموسيقى رديفة الصّلاة، ووسيلة لبلوغ الكشف، وأداة للتعبير عن الذات.
كتابات جبران معطيات رمزيّة، وهي تعبيرية تتردّد كثيرا في آثاره مثل الجنون واليقظة الرّوحية، والغاب والبحر، وقد تميل إلى الإبهام والغموض، الذي يجعل منها بعيدة عن الفهم، حيث تؤول إلى أشياء بعيدة، وكلّ يؤوّلها حسب تصوّره لقد عزف عنه النّقاد في البداية، ولم يتناولوا كتاباته بالدّراسة، لعدم فهمهم هذا الأسلوب. وهذا ما جعل منه شخصيّة مميّزة في عصره، وفي هذا العصر أيضا.
خصائص المضمون.
يتحدّث عن نفسه في كثير من الأحيان بواسطة شخوص قصصية، ويبرز ذلك جليا في كثير من معطيات أدبية، فتكون صريحة حينا حيث أنّ الناظر إلى تلك القصص والخواطر يقارنها بحوادث حياته، فيجدها نفسها، وتكون مموّهة حينا آخر. ويكون هو نفسه أحد أبطال رواياته، يقول : “كنت في الثامنة عشرة عندما فتح الحبّ عيني بأشعته السّحريّة، ولمس نفسي لأوّل مرّة بأصابعه النّاريّة..”[21] لذلك كان جبران شاعرا ذاتيا، وأعني بالشاعر الذاتي، من طفح في داخله كيل الوجود، حتى لم يبق له من شاغل إلاّ محتويات نفسه، أو من تمدّدت نفسه لدرجة لم يعد يرى معها إلاّ نفسه، فلا يشعر إلا بآلامها، ولا يسمع إلا صوتها، ولا يسير إلا مع أشواقها ومطامحها…” [22]، ويلخص جبران ذلك في قوله: “كنت حائرا بين تأثيرات الطبيعة، وموحيات الكتب والأشعار، عندما سمعت الحبّ يهمس بشفتي سلمى في آذان نفسي….” [23]، وفي هذا دليل بارز على ذاتيته، أمّا التمويه فيبرز في العديد من كتاباته وخاصّة في كتابه النّبي.
زارت الآلام جبران مبكّرا، ومضى يعايشها في رومانسية شاحبة حزينة كأنّها جزء لا يتجزأ من كيانه وأدبه، ويخصب الحزن والكآبة في أكثر من أثر من آثاره، ويتدفق لوعة وأسى يقول: “تعالي أيتها المنية الجميلة، فقد اشتاقتك نفسي، اقتربي وحلي قيود المادّة، فقد تعبت من جرّها، تعالي أيتها المنية الحلوة، وأنقذيني من بين البشر الذين يحسبونني غريبا عنهم، لأنّني أترجم ما أسمعه من الملائكة إلى لغة البشر…”[24] يقول: قد غنّيت لكم فلم ترقصوا ونحت أمامكم فلم تبكوا، فهل تريدون أن أترنّم وأنوح في وقت واحد..”[25] ، لم يكن جبران يرفض أو يتمرّد لمجرّد الرّفض والتمرّد، فهو يثور ليهدم ويعتزم البناء، “لقد ثار لأنّ الحياة وضعت في صدره قلبا هو كتلة من الشعور الرّقيق والحسّ المتناهي. فلمّا التفت يمنة ويسرة لم ير حوله إلا قلوبا ختمت عليها التقاليد، فقتلت فيها الحقّ والإخلاص والحنين إلى ما هو خلف نقاب اليوم، فلم يغد من صلة بينها وبين ألسنة أصحابها وأدمغتهم…ثار لأنّ روحه قيثارة لا تمر لحظة إلا تلمس أوتارها أنامل الحياة الخفيفة، فتملأ كيانه أنغاما غريبة سحريّة..”[26]، لذلك تعمقت نزعة التفرّد والاستقلال عنده ، فإذا هو يعنف في تمرّده وثورته وهدمه ورفضه. ينطلق بذلك متأمّلا هذا الوجود وما ينطوي عليه، بفضل الثقافات السّابقة والمعاصرة له، من نزعات صوفية شرقية ومن مذاهب حديثة. إن له نزعة توكيدية شديدة للحياة، تتجاوز فرديته الضيقة إلى انفتاح واسع على الحياة الإنسانية، حتى صار ممتلكا “منتهى القوة على الضبط الذاتي”[27] ، وهي القدرة التي مكنته من الانتصار على نظرته التشاؤمية القاتمة، التي كانت تعيقه من قبل عن فهم ذاته الجوهرية.
يحتل جبران مكانة بارزة بين فناني الوطن والمهجر لأننا ” لا نجد بين فناني الوطن والمهجر صنوه، فهو رسّام، شاعر، قصاص، ومع كل ذلك، وعلى الرّغم من هذا جميعه، فليس بين فناني العرب قبل الخمسينات من القرن العشرين من يجاريه من ناحية تعدد الوسائل الفنّية…… وتعبيره الفريد بين الأساليب العربية الحديثة..”[28]، بهذا تظل لجبران منطلقاته المجدّدة في الأسلوب ومعطياته الجريئة، في الأدب الاجتماعي والوطني والإنساني. لما له من رغبة في الوحدة الاجتماعية والحاجة لأن يصبح مستقلا أو متفردا. وحتى يكون ناجحا وجب أن يجمع بين هاتين النزعتين المتعارضتين، لأنه فنان يشارك في العمل المبدع الذي يكون فيه واحدا مع الناس الآخرين، ويظل في نفس الوقت فردا مستقلا متميزا” [29] عاد جبران بالأدب إلى التراث ديباجة أصيلة، وإلى الذات الخلاقة هبة شعرية أصيلة، فزاوج بين التراث والحداثة، في عملية صوفية موغلة في الخيال المبتكر، وكل ذلك من نتاجه العظيم، حيث يقول عن نفسه : “إنّ في الأدب العربي أشياء كثيرة أعظم من آثاري. ولكن أقول بصراحة: إنّ آثاري هي أكبر آثار في اللغة العربية…”[30] ، يقول أحد النّقاد الأمريكيين في هذا المجال : “إنّ طابع جبران وعمق تأثيره في العالم العربي كله، ليستدل عليه من أنه خلق كلمة جديدة هي “الجبرانية”، ولكن القرّاء الانجليز لن يستطيعوا إدراك ما تعنيه هذه الكلمة، إنها تعني الرّؤى الصوفية والجمال الموزون والبساطة والحيرة في بحث مشاكل الحياة، كما أنّها تعني قوة دراماتيكية خارقة، وبراعة عميقة، وإيحاء كالبرق لمّاحا، وحياة غنائية، وجمالا شعريا كاملا، يتخلل كل ما يلمس بيده “[31]
خلاصة القول:
إن جبران هو الوشيجة بين الغدير والنور، له لمع شرقية تضرب في النورانية الصافية إلى ماض جلل، في أعماق هذا الشرق المغنّي، فإذا صوته المرنان تغاريق الإبداع في ذاته، يشيل من الأرض كوم ورد، تتلوّن كما الرّؤيا في العيون، وهي تنهض من كبوة نوم إلى السّماء..”[32]، لقد انطلق في هذا الاتجاه، ليجوبه ويحلق في أجوائه بعيدا عن تفاهات البشر، ليكون مع الذات العليا، ويسقط البعد بينه وبين الله، ويعود القبس إلى أصله وتكون الحلولية، لذلك نجده آمن بالتناسخ شأن أكثر من أديب عربي مهجري، وإذا هو يقول بالتقمّص، ويبرز عنده هذا الاتجاه في أكثر من واحد من كتبه ومن يتصفح كتابه عرائس المروج أو النبي يجدهما زاخرين بما قلنا سابقا.
الهوامش
[1] جبران خليل جبران”البدائع و الطّرائف” منشورات المكتبة العصرية.صيدا و بيروت د/ت، ص 96
[2] علي شلق، نقاط التطوّر في الأدب العربيّ، دار القلم، بيروت، لبنان ط1، 1975 ، ص 349 .
[3] جبران خليل جبران، المواكب، منشورات المكتبة العصرية،صيدا، و بيروت.د/ط، د/ت، ص 28.
[4] جبران خليل جبران، البدائع و الطّرائف، ص 172.
[5] جبران خليل جبران، البدائع والطّرائف، ص 160.
[6] جبران خليل جبران، البدائع و الطّرائف، ص 170.
[7] جبران خليل جبران، الأجنحة المتكسّرة، منشورات المكتبة العصرية، صيدا وبيروت، د/ط، د/ت، ص 55 .
[8] جبران خليل جبران، الأجنحة المتكسّرة، ص 93.
[9] جبران خليل جبران، دمعة وابتسامة، منشورات المكتبة العلميّة الجديدة، د/ط، د/ت، ص31.
[10] جبران خليل جبران، دمعة وابتسامة، ص 45.
[11] جبران خليل جبران، النّبيّ، منشورات المكتبة العلميّة الجديدة، بيروت، لبنان ، د/ط، د/ت، ص57-58-59.
[12] جبران خليل جبران، المجموعة الكاملة لمؤلفاته، الرسائل، تقديم أنطوان القوال، دار الجيل، بيروت، 1994، ص 229.
[13] محمّد يوسف نجم، القصّة في الأدب العربي الحديث، دار الثقافة، بيروت، لبنان، ط 2 ، 1966، ص78.
[14] ميخائيل نعيمة ، الغربال، مؤسّسة نوفل،.بيروت، لبنان، ط12، 1981، ص 223.
[15] ميخائيل نعيمة، الغربال، ص226.
[16] خليل حاوي، جبران خليل جبران، تر: سعيد فارس، دارالعلم، بيروت، 1982، ص 315.
[17] كاظم حطيط، دراسات في الأدب العربي، دار الكتاب اللبناني،.بيروت، لبنان، دار الكتاب المصري، القاهرة، ص341.
[18] كاظم حطيط، دراسات في الأدب العربي ، ص 341.
[19] غسان خالد، جبران الفيلسوف، مؤسسة نوفل، ط2، بيروت، 1983، ص 195.
[20] ميخائيل نعيمة، الغربال، ص227.
[21] جبران خليل جبران، الأجنحة المتكسّرة، ص7.
[22] ميخائيل نعيمة ، الغربال، ص 234.
[23] جبران خليل جبران، الأجنحة المتكسّرة، ص8.
[24] جبران خليل جبران، دمعة و ابتسامة، ص19.
[25] جبران خليل جبران، العواصف، منشورات المكتبة العلميّة، بيروت، لبنان، د/ط، ص 43.
[26] ميخائيل نعيمة، الغربال، ص 226 – 227.
[27] كولن ولسن، سقوط الحضارة، تر: أنيس زكي حسن، دار الأدب، ط2، بيروت، 1971، ص 305.
[28] علي شلق، نقاط التطور في الأدب العربي، ص 349.
[29] انظر لازاروس ريتشارد، الشخصية، تر:غنيم سيد محمد، دار الشروق، ط3، القاهرة، 1989، ص 120.
[30] ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، مؤسّسة نوفل، بيروت، ط6،1971، ص 236.
[31] أنيس الخوري المقدسي، الاتجاهات الأدبيّة في العالم العربي الحديث، دار العلم للملايين، بيروت، ط5، 1973، ص419.
[32] حسن محمد عبد الغنيّ، الشعر العربي في المهجر- أمريكا الشمالية، ط2،دار صادر،.بيروت، 1967، ص33 .