صحبةُ إنسانٍ رَشْفةٌ من كأس البشرية

صحبةُ إنسانٍ رَشْفةٌ من كأس البشرية

زراعة النّور في كون منشور

  صحبةُ إنسانٍ رَشْفةٌ من كأس البشرية

بقلم: د.سعاد الحكيم

 

إنّ التمتُّع بصحبة إنسان ودوام التنعُّم بمودته وشهود صدقه ونصرته، هي مطلب كل شخص لا يريد أن يعيش وحيداً في هذا الكون الفسيح. وهذا المطلب وإن كان عزيزاً إلا أنه في كل لحظة، على مستوى العالم، تبدأ ـ ولأسباب عديدة ـ  علاقة إنسانية جديدة: علاقة زواج أو صحبة أو صداقة أو رفقة أو زمالة أو عشرة أو خلّة وغير ذلك.

وهذه العلاقات الإنسانية تكون – على الأغلب – في بداياتها بيضاء وعلى صفائها الأول، دون تاريخ من الخصومات والانجراحات ومواقف الامتحان.. وبالتالي يكون كل واحد من الطرفيْن منفتحاً على الآخر، واعد النّفس باستدامة الصّحبة ودوام المودّة، غير متوقّع لمحكّات الدّهر، أو ظانّاً بأنّها تصيب الآخرين ولا تصيبه لوثوقه من عمق مودّته وصدق صحبته.

ومن هنا؛ وحتى نحافظ على الصّفاء الأوّل لمودّة الصّحبة ، ولا تُصيبها محكّات الأيّام في مقتل، وتترك الصاحبَيْن حيارى، نقول: إنّ دوام الألفة ليس مجانيّاً، بل يتطلّب رعاية من الطّرفيْن. والرّعاية شبه الوحيدة هي: أخلاقيّات العِشْرة.

وبكلام آخر، فإّننا هنا، وإن لم نتعرّض إلى الظّروف التي تولّد علاقة بين طرفيْن، وإلى الأسباب الدّاعية إلى الصّحبة (لأن الكتابات في هذا الموضوع كثيرة)، إلا أنّنا معنيّين بالتفكُّر في علاقات الصّحبة المعقودة بين النّاس، وبالكشف عن الأساليب التي تمكّن الواحد منا من المحافظة على ودّ أصحابه نقيّاً صافياً، كيوم وُلد في اللّحظات الأولى. ونجعل هذا التفكّر على فقرات خمس، هي الآتية:

 

1 – الصّحبة بساط محبّة بين النّاس:

إن الصحبة تُطْلَب للمودّة التي تنشأ بين الصّاحبين، فهي تُشبع الإنسان عاطفيّاً. لذا، فالشّخص الذي لديه العديد من الأصحاب الأوفياء، تراه – في الغالب – سعيداً متبشّشاً ضحوكاً. وعلى العكس فإن نظرت إلى شخص ورأيته متجهّماً عبوساً، فالتفت إلى حياته، فلربّما تجد أنّه يعاني من شُحّ في الأصحاب والأصدقاء..

ومع ذلك؛ فالنّاس أنواع ومراتب في حاجتهم (الماديّة والمعنويّة) إلى الصّاحب والصّديق؛ فمنهم من يتّخذ زوجه صديقه ويقنع بعائلته الصّغرى رفيقاً، ومنهم من يحتاج إلى صديق واحد فقط، أو صديقيْن على الأكثر، صديق يرافقه في نشاطاته وتحرّكاته، ويجالسه أحياناً ويسامره في أوقات فراغه، ومنهم من يحتاج إلى العدد الكبير الذي يملأ السّمع والبصر..

وقد أشار شعراء كبار إلى الحبّ والمودّة القارّان في الصّحبة، وأنّ لهما لذّة تستطيبها النّفس ولا تكاد تعادلهما لذّة. يقول أحدهم:

          ما ذاقَتِ النّفسُ على شهْوَةٍ           ألذَّ من حُبِّ صديقٍ أمينْ

          ومن فَاتَهُ وُدُّ أخٍ صالحٍ             فذلكَ المغبونُ حقَّ اليقينْ

ويقول آخر واصفاً محبّته لأصحابه:

          أنتمْ سُروري وأنتمْ مُشْتَكى حزني      وأنتم في سوادِ اللّيلِ سُمَّاري

          أنتم وإن بَعُدَتْ عنّا منازِلُكُم          نوازِل بين أسْراري وتَذْكاري

ويذكر الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، أنّ صديقه وأخاه محمد بن الحَكَم مرض يوماً فأتاه عائداً، ونستشف من أبياته إلى أي مدى يمكن أن تكون المحبّة بين الإخوة والأصحاب عميقة الجذور قويّة الفعل؛ يقول:

          مرضَ الحبيبُ فعُدْتُهُ                فمرضتُ من حَذَري عليهِ

          وأتى الحبيبُ يعودُني                فبَرِئْتُ من نَظَري إليه

إذن، الصّحبة هي نهر محبّة يجري في دنيا النّاس، فيغرف كلّ واحد منه بقدر حاجته.. فمنهم شاكراً ومنهم كفوراً.

 

 

2 – الصحبة رَشْفَةٌ من كأس البشرية:

إنّ الإنسان – وبصفة عامة – يطلق أحكامه على البشرية كلها استناداً إلى تجاربه الشخصية في علاقاته بالناس.. فإن كان راضياً عما عَقَدَه من صحبة وصداقة، ويشعر بالأمن والامتلاء، تراه في مجالسه يُنكر على مَنْ يقول بأن الخل الوفي من عجائب الوجود، وتراه يشيد بالبشريّة وبأنّ الخير لا يزال متجذّراً في الأرض.. وعلى العكس؛ فإن صُدِمَ الإنسان في صداقاته وتعرّض للخيانة من بعض صحبه، تراه يفقد ثقته بالجنس البشريّ كلّه، ويذمّ الزّمان وينعي الخير والوفاء..

وهذا يلقي مسؤولية على كل صاحب، بأنه لصاحبه – في لحظة ما – يمثل البشرية كلها.. وأن ما يذوقه من صحبته وفي صحبته هو بمثابة رشفة من كأس البشرية جمعاء.

 

3 – هل تخلو صحبة من عثرة؟

إن الصحبة هي علاقة إنسانية، يعتريها ما يعتري الإنسان من ضعف وعجلة ونسيان للفضل وكفران للجميل.. من غضب ورضى، وإقبال وإدبار، وطمع وقناعة..

والإنسان هنا أمام عثرات الصديق يكون على الأرجح في موقف من أربعة: إمّا معاتباً، وإمّا غاضّاً الطرف، وإمّا مجافياً هاجراً، وإمّا متوقفاً متريثاً ينتظر أن يكتمل لديه ملف صاحبه قبل أن يصدر حكمه عليه.. وقلة قليلة من الناس، من إذا ظهر لها من الصديق جفاء وسوء أَغْدَقت عليه في المقابل، من الودّ والحبّ ما تسترجعه به إلى صفاء الصّحبة.

وفي سياق عتاب الصاحب عند عثرته، نستمع إلى بشار بن برد يقول:

إذا كُنتَ في كُلِّ الأمورِ مُعاتِباً              صَديقَكَ، لَمْ تَلقَ الذى لا تُعاتِبُه

فَعِشْ واحِداً، أو صِلْ أخاكَ فإنَّهُ            مُقارِفُ ذَنبٍ مَرَّةً ومُجانِبُه

إذا أنتَ لَمْ تَشرَبْ مِراراً على القَذى          ظَمِئْتَ، وأيُّ الناسِ تَصْفُو مَشارِبُه

ومَنْ ذا الذي تُرْضى سَجَاياه كُلُّها؟          كَفَى المرْءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ مَعَايِبُه

أمّا في سياق “غضّ الطرف” عن عثرات الصاحب، فنجد أن الإمام الشافعي رضي الله عنه يثني على الصديق الذي يغضّ الطّرف عن عثرة صديقه، يقول:

   أُحِبُّ مِنَ الإخْوانِ كُلَّ مُوَاتي         وَكلَّ غَضِيضِ الطَّرْفِ عَن عَثَرَاتي

يُوَافِقُنِي في كُلِّ أَمْرٍ أُرِيدُهُ           ويحفظني حَيَّاً وبعدَ مَمَاتي

فَمَنْ لِي بِهذَا؟ لَيْتَ أَنِّي أَصَبْتُهُ       لَقَاسَمْتُهُ مَالِي مِنَ الْحَسَنَاتِ

تَصَفَّحْتُ إخْوَاني فَكانَ أقلُّهُمْ         ـ على كثرة ِ الإخوان ـ أهلَ ثِقاتي

وفي سياق هجر الصديق المتعب واستبداله بآخر، يقول الإمام الشافعي:

   إِذا المَرءُ لا يَرعاكَ إِلّا تَكَلُّفاً                فَدَعْهُ وَلا تُكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا

فَفِي النَّاسِ أبْدَالٌ وَفي التَّرْكِ رَاحةٌ           وفي القلبِ صبرٌ للحَبِيْبِ ولوْ جَفَا

إذا لم يَكُنْ صَفْوُ الوِدادِ طبِيعَةً       فلا خَيْرَ في وُدٍّ يجيءُ تَكلُّفا

سَلامٌ عَلَى الدُّنْيَا إذا لَمْ يَكُنْ بِهَا             صَدِيقٌ صَدُوقٌ صَادِقُ الوَعْدِ مُنْصِفَا

وفي سياق التوقف عند ظهور ما يسوء من الصديق، فيقول سعيد بن حميد:

إذا كَثُرَتْ ذُنوبٌ مِنْ خليل                  فَقِفْهُ بينَ وَصْلٍ واجْتِنابِ

وأنْظِرْهُ، فللأيَّامِ حُكْمٌ                       بذلكَ كُلّ ماضي العَزْمِ نابي

وعَاتِبْهُ، فَكَمْ أبْدى عِتابٌ                   جَلِيَّةَ مُشْكِلٍ بَعْدَ ارْتيابِ

وَرَجِّ النَّفْعَ في الإِعْرَاضِ عَنْهُ               إذا أَخْفَقْتَ مِنْ نَفْعِ العِتابِ

وَراجِعْهُ بعَفْوِكَ حيْنَ يَثْنِي                   عِناناً للرُّجُوعِ أو الإيَابِ

 

4 – أخلاقيّات الصّحبة:

إنّ الصّحبة عندما تعقد مودّتها بين اثنين من النّاس، فهي بمثابة “عهد ودّ” متعارف عليه. وليس من الضروريّ أن يقول الواحد للآخر عند بداية الصّحبة: أصاحبك على ألا تفشي سرّي، وألا تسعى في تعطيل مراداتي، وألا تصادق أعدائي.. لأنّ ذلك في حكم البديهيّات الإنسانيّة.

ومن هنا، فإنّ للصّحبة بين النّاس منظومة خلقيّة خاصّة بها. وقد اعتنى علماء كبار بتدوين هذه المنظومة منهم الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، والسَّلمي في كتابه أداب الصّحبة، والسّهروردي في كتابه عوارف المعارف، وغيرهم كثير.

وإنّا إذ ندعو القارئ لأن يرجع إلى هذه الكتب القيّمة، نتشارك معه بإجمال أمهات أخلاق الصّحبة، وحقّ الصاحب على صاحبه، وأهمّها ثمانية:

1″- إنّ الصاحب ينتظر من صاحبه أن يقضي له حاجته، أو يسعى في قضائها ما استطاع لذلك سبيلاً.. وهذا القضاء للحاجة لا يعدّه الصاحب ديناً معنويّاً، بل هو فعل من أفعال الصّداقة.

يُروى أنّ ابن شبرمة قضى حاجة لصاحب له ، فجاءه بهديّة، فقال له:ما هذا؟ قال: لما أسديْتَه لي.فقال: خذْ مالك عافاك الله ، إذا سألت أخاك حاجةً فلم يُجْهد نفسه في قضائها، فتوضّأ للصلاة، وكبّر عليه أربع تكبيرات ، وعُدّه من الموتى.

2″ – إنّ من أخلاقيّات الصّحبة ، أن لا يذكر الصّاحب في مجلس من المجالس عيوب صاحبه أو أسراره التي اطّلع عليها بحكم العشرة . وأن لا يغتابه ، ولا يتجسّس عليه . قيل لأبي يزيد البسطامي: من أصحب؟ قال: من يعلم منك ما يعلم الله ، ثمّ يستر عليك كما يستر الله تعالى.

3″- إنّ من أخلاقيّات الصّحبة ، أن يذكر صاحبه في غيابه بالخير وبكلّ ما يحبّ، وأن يُثني عليه.

4″- من أخلاقيّات الصّحبة ، أن ينصر الصّاحب صاحبه في كلّ وقف يَقِفُه ، وفي كلّ مسألة يسعى لإنفاذها.

5″- من أخلاقيّات الصّحبة أن لا يصادق المرء عدوّاً لصديقه..لأنّ ذلك يسوء الصّديق ولربّما زرع في داخله شكّاً وشُبهة.

6″- من أخلاقيّات الصّحبة أن يكون المرء وفيّاً مخلصاً لعهد الودّ مع صديقه ، يُظهره بالزّيارة والمشاهدة وقضاء الأوقات النوعيّة معاً، دون إرهاق الصّاحب بالإكثار من الزّيارات المملّة.

7″- ومن أخلاقيّات الصحبة أن يحفظ المرء قلبه من سوء الظنّ بصاحبه ، لأنّهإن دخل الشكّ بين اثنيْن تسارعت الأوهام لقراءة الأحداث الحياتيّة قراءة خاطئة.

8″- ومن أشدّ ما يحتاجه الصّاحب من أخلاقيّات الصّحبة هو أن يتغاضى صاحبه عن الصّغائر ، عن زلّات وهفوات.. كأن ينشغل عنه لظرف، أو يعامله ببرود دون بيان سبب ، أو يعتذر عن استقباله دون مبرّر مقبول لدى الصّاحب.. وهكذا هفوات صغيرة لا تقتل المودّة ولا تدمّر الصّحبة .

 

 

 

كيف تهجر صديقاً؟

يصل أحياناً الصّاحبان، أو واحدٌ منهما ، إلى طريق مسدود ، ويصبح إنهاء الصّحبة أمراً لا مفرّ منه. كأن يلمس من صاحبه خيانة أو تآمراً على مصالحه أو أي فعل من الأفعال التي تصيب الصّحبة في مقتل، وتدلّ الصّاحب على نضوب محبّة صاحبه ، أو على كراهية الخير له..

والإنسان، إن تُرِك لهوى نفسه وموجة غضبه، فقد ينهي ردحاً طيّباً من الصّحبة بفعلٍ يزيل من التّاريخ كلّ لحظة فرح سبقت مع صاحبه ، وكلّ فضل كان بينهما.. ولربّما اتّهم صاحبه بأنّه لم يخلص في صحبته يوماً ، وأنّه كان غاشّاً له طوال الوقت.. وهذا على الأغلب ليس بصحيح .

وفي كلّ الأحوال ، وحتى إن صادق المرء شخصاً ظنّ به خيراً، ثمّ عند الاختبار ومحكّات الدّهر تبيّن له ضعف ودّه ، وقلّة اهتمامه بمصيره ، وقرّر إنهاء الصّحبة وهَجْر صاحبه . فإنّ لهذا الهجر ضوابط أخلاقيّة تماماًكما العِشْرة: عِشْرة بإحسان وهجران بإحسان.

وإحسان الهجران للصّاحب، من أخلاقيّاته ؛ أن لا يفشي سرّاً لصاحبه ؛ لأنّ الهجر حقّ وإفشاء السرّ اعتداء. وأن لا يجعله حديثاً في المجالس لذمّ أخلاقه والتّنبيه من غدراته، بل ينسحب من العلاقة متّشحاً برداء حضارة الإنسان؛ الدِّين والعقل والخُلُق والحسّ السليم.

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!