زراعة النّور في كون منشور
النّظر إلى الآخر وتطوير الذّات والأداء
بقلم: د.سعاد الحكيم
إنّ علاقة الأنا بالآخر تشغل اليوم علماء الدِّين وفلاسفة الأخلاق وخبراء الاجتماع البشريّ وكلّ مهتمّ بشؤون الإنسان في الزّمان؛ على الصّعيد المحليّ أو العالميّ. ونشارك في هذا الانشغال بفتح نافذة متواضعة تبيّن دور الآخر في إعلاء بنيان الذّات، وتدلّ على نوع واحد من العلاقة بين الأنا والآخر، وهي: علاقة النّظر.
إنّ الآخر هو الشّريك الوجوديّ، الذي يتحرّك قبالة نظر العين أو نظر الفكر.. يتحرّك في فضاء قريتنا أو مدينتنا أو في فضاءٍ كونيّ عالمي. وهذا يدفعنا إلى طرح جملة أسئلة تتعلّق بعلاقة النّظر التي تجمعنا مع الآخر، ومنها: هل النّظر إلى الآخر ضروريّ لتحسين الذّات والأداء؟ أليس يكفيني النّظر إلى ذاتي وتحسينها باتّباع نهج فكريّ؟ بأيّ عين ننظر إلى الآخر؟ متى تكون النّظرة محرّمة ومتى تكون مباركة؟ أسئلة تحرّك نقاشات، نتشارك التّفكير فيها عبر الفقرات الستّ الآتية:
1 – أهميّة النّظر إلى الآخر:
يقول العقل للإنسان دون كلمات: أنظر إلى غيرك، أَدِرْ لَحْظَك فيمن حولك، واصْطفِ من النّاس واحداً تجعله بالنّسبة لك هو الآخر الذي تقيس نفسك به.. الآخر الذي يحرّك أعماقك ويفعّلها وتحرّضك إنجازاته على بذل مجهود أكبر في عملك. وربّما يظهر هذا الآخر أمام عينيك دون ترتيب أو اختيار ولوقت قليل، ومع ذلك يترك في ذاتك أثراً إلى آخر العمر.
إنّ الآخر الذي تربطنا به “علاقة النّظر”، قد يكون قريباً ملازماً، أو غريباً نلتقيه – ساعات قليلة – في محفل علم أو مكتبة عامة.. وفي كلّ الأحوال، فهو لا يعلم بأنّه تسرّب إلى الأعماق معياراً ومرآة. إنّها علاقة غيابيّة، تنفعل فيها ذات الرّائي بذات الآخر المشهود، وربما تنهض لتغيير الوجود.
وقد يقول إنسان: أنا صاحب همّة عالية، وصاحب قضيّة حقّة، ولا أحتاج إلى النّظر إلى أحد لبذل أقصى طاقتي في العمل. ولكن، إنّ الإنسان ومهما كانت نفسه تعشق عواليَ الأمور إلا أنّ لها فترات ولحظات، ورضوخ لتحدّيات والتزامات.. وربّما نظرة إلى آخر، صاحب همّة عالية وصاحب قضيّة، ولكنّه يتحرّك في فضاء آخر بثباتٍ وعناد، تشحذ الهمّة وتجعل الرّائي يجدّد العهد على نفسه بالعزيمة وعدم الفتور.
2 – نظرة الغيرة المباركة:
إنّ الغيرة تقع على مفترق خُلُقيّ: فإن نظر الرّائي إلى النّعمة التي يتنعّم بها الآخر أو إلى الإنجاز الذي حقّقه بعين اشتهاء المِثْل، أدّى ذلك إلى المنافسة وتطوير الأداء، وهذا مبارك. أمّا إن نظر الرّائي إلى النّعمة التي يتنعّم بها الآخر أو إلى الإنجاز الذي حقّقه بعين تمنّي زواله، أدّى ذلك إلى الحسد، وهذا محرّم ومرذول؛ عقلاً وشرعاً وخُلُقاً.
إذن، إنّ الغيرة البريئة من الحسد، هي نظرة محمودة وتدفع إلى تحسين الذّات والأداء. وهي الأداة التربويّة الأثيرة لدى الأمّهات، وخاصّة في القرى والأرياف. تقول مثلاً لولدها: أنظر فلان لقد كان الأوّل في صفّه، أريدك أن تكون مثله، لا سبب ليكون أحسن منك أو أشطر منك. وهي تدلّه – في الغالب – على ولد في عمره ويعيش الشّروط الحياتيّة نفسها. هذه النّظرة التي يخالطها شيء من الغيرة هي صحيّة غالباً لأنّها تحرّض على العمل والنّجاح وتحسين الواقع الإنسانيّ. ومن كان من أبناء القرى أو الرّيف، أو أتيحت له الفرصة لأن يعرف نمط العلاقات في هذه المجتمعات، فإنّه يلمس إلى أيّ مدى هذا النّظر إلى الآخر قد يغيّر حياة الطّفل، إن لم يُعاند ويتمرّد ويرفض المقارنة بالآخر. ونسمع كثيراً من أشخاص ناجحين من أبناء القرى، أشخاص وصلوا إلى أكثر ممّا حلمت أمّهاتهم يوماً، نسمعهم يتذاكرون بحنين هذا “الآخر” الذي كان معياراً للأمّ في النجاح، وكيف أنّهم “بفضل النّظر إليه” وصلوا إلى ما وصلوا إليه، وتجاوزوا هذا الآخر بمراحل.. لأنّ الدّرب عندما يُفتح فلا أفق للسير فيه.
3 – الحسد نظرة محرّمة:
قال رجلٌ للحسن البصريّ: هل يحسدُ المؤمن؟ فقال: ما أنساكَ بني يعقوب، إخوة يوسف. وقد نبّه سيّدنا رسول الله عليه صلوات الله من آفة الحسد، قال: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسد والبغضاء…))، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا))، وجاء الأمر النبويّ لعباد الله جميعاً، يقول صلوات الله عليه: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً…)).
إذن، إنّ الحسد يفكّك الروابط ويولّد البغضاء. لأنّ الشّخص إن نظر إلى آخر يتمتّع بكلّ ما هو محروم منه، فإنّه – إن لم يردع نفسه ويضبطها – قد تسرقه وتتمنّى زوال النعمة عن صاحبها، وربما تشعر ناحيته بشيء من البغضاء.
فالحسد هو كراهة إنجاز الآخر والنِّعم التي يتقلّب بها، وتمنّي زوالها. إنّ الحاسد لا ينظر إلى جهد الآخر وتعبه والدّرب الشاقّ الذي أوصله إلى ما هو فيه، ولكنّه فقط ينظر إلى قطاف العمر والسّنين، وربما يجد – ظلماً – أنّه أحقّ بهذا القطاف من هذا الآخر، لحديث نفس لا نعرفه.
إنّ التخلُّص من نظرة الحسد ممكن، وأنجع الأساليب لذلك هو تصريفها في مصارف شرعيّة وخلقيّة، في مصارف الغيرة الحميدة.. وهذا يتطلّب من الرّائي أن يترك دِعَة الكسل ودغدغة الأماني ليشمّر عن ساعد الجدّ والعمل.
4 – انتشال الذّات من القاع:
حاولنا في الفقرات السّابقة أن ندلّل على أنّ “علاقة النّظر” بآخر نعتبره في أعماقنا أنموذجاً ومثالاً وقدوة في أمر ما أو نشاط ما أو التزام ما، دون أن يكون هذا الآخر صديقاً أو رفيقاً أو عشيراً، ولكنّه فقط في مجال النّظر.. حاولنا أن ندلّل على ضرورة ذلك وأهميّته لتحسين الذّات والأداء الإنسانيّ. ولكن، قد نصغي أحياناً إلى قصص نجاح لا مرجعيّة لها، ولا أنموذج، إلا ذات الإنسان وكفاحه وثقته بربّه الجليل الأعلى. طبعاً لا ينكر هذا الإنسان، كما لا ينكر أي بطل لقصّة نجاح، أنّه يوجد العديد من الجنود المجهولين الذين دعموا مسيرة نجاحه، حتى وصل إلى ما وصل إليه.
وندقّق في قصص هؤلاء الّذين إن قارنّا بدايات حياتهم بنجاحات النّهايات فلربما نشعر بالدّوار، ويقف العقل مبهوتاً عاجزاً عن التّصوّر والتّصديق.. ويتساءَل، كيف حدثت هذه النّقلة العجائبيّة في زمن قصير هو عمر إنسان واحد؟!
نحدّق في الرّوايات فلا نجد أنّ أصحابها ربطتهم بآخر “علاقة النّظر”.. ربّما لأنّه لا وجود لهذا الآخر الموصوف في محيطهم، أو ربّما لأنّ الواقع المرير المراد تغييره احتلّ موقع الآخر، أو ربّما لأنّ قسوة واقعهم طبعَتْ على أبصارهم واستحوذَتْ على كياناتهم فلم يفكّروا إلا في انتشال ذواتهم من “الحفرة الوجوديّة”، التي عاينوها منذ فتحوا أعينهم على الحياة والكون.. حفرة الجهل والفقر وكثرة العيال وانسداد الأفق…
لقد رصدنا هذه الحالة لنقول؛ إنّ قسوة الوجود تعرّض العديد من النّاس للضّياع وترميهم في زوايا النّسيان، إلا أنّها تقف عند أعتاب أصحاب النفوس الكبيرة، الّذين لا يستسلمون ولا يرضخون، بل ينظرون إلى القمّة ويواصلون الصعود.. وربّما – فيما بعد – يصبحون في محيطهم هم “الآخر” الذي ينظر إليه جيل من النّاس، لتحسين ذواتهم وتغيير واقع حياتهم.
5 – الآخر جزء من معادلة تحسين الأداء:
من النّاس من يظلّ حبيس ذاته وأعماله، حتى ولو كان في مصافِّ النّخبة الفكريّة أو الشعريّة أو البحثيّة. فإن كان شاعراً – مثلاً – نراه مأخوذاً بتجربته منصاعاً لمعانيه وقوافيه، ولكنّه لا يقرأ لشاعر آخر من جيله، ولا يجد أن الاطّلاع على نتاج الآخر مفيدٌ له وقد يلقّح تجربته بأبعاد جديدة.. فهذا الشّاعر، ومع الوقت، فإنّه سيكرّر نفسه، لأنّ منابع الإبداع تنضب في الأعماق إن لم تتعرّض للتّغذية بالتّفاعل مع الآخر.
وكما في الشِّعر، كذلك في البحث؛ فإنّ الباحث الذي يظلّ مطرقاً على أوراقه الخاصّة ومنكبّاً على مواضيع بحثه، ولا ينظر فيما يكتب الآخرون حول الموضوعات نفسها، فإنه يظلّ بعيداً عن الحراك الثّقافي، وعن الولوج إلى دائرة النّقاش العالميّ حول أسئلة العصر..
إنّ الآخر هو جزء من معادلة تحسين الذّات والأداء؛ سواء نظرنا إليه في بداياتنا لننشئ على الجهد والعمل، أو نظرنا إليه في معترك حياتنا لنكسر الأحاديّة ونخرج إلى الفضاء الواسع الجامع.
6 – لماذا لا ننظر إلى الآخر؟
رغم الفوائد التي يجنيها الإنسان من النّظر إلى الآخر وإنجازاته، إلا أنّ من النّاس مَنْ ينفر من النّظر إلى أحد بعين الإعجاب والتّقدير. ولعلّ السبب الأكبر الذي يقوم في النّفس ويمنعها من الاستفادة من أشخاص محيطها هو: الكِبَر والعُجْب بالذّات.
وقد يعمد هؤلاء المتكبّرين إلى تهفيت إنجازات غيرهم، فإن ذُكر في محضرهم شاعر كبير أو باحث مشهور أو رجل أعمال معروف بنشاطه الاجتماعيّ، عمدوا إلى التّنقيب عن عيوبهم، وإلى ذكرهم بكلّ سوء، فإن لم يجدوا عمدوا إلى التّحليل النفسيّ واتّهموه في نواياهم وغاياتهم.
إنّ الكِبَر، هذا الخُلُق السّيء الثّاوي في نفس صاحبه، يجعله ينظر إلى عمله الشخصيّ بعين التّعظيم ويرى – ظلماً – أنّه أعظم من عمل غيره وأحسن وأفضل. كما يجعله ينظر إلى عمل غيره بعين التّحقير ويرى أنّ صاحبه لا يستحقّ كل ما يُقال عنه وما يُكتب..
إذن، الكِبَر مرضٌ يمنع الإنسان من تحسين ذاته وتطوير أدائه الشخصيّ، ويخلخل ميزانه الداخليّ، ويفسد علاقاته الاجتماعيّة..
ونختم بالقول؛
قد يكون النّظر إلى آخر معين هو أفق للإنسان في وقت من الأوقات وفي مرحلة كفاحيّة من مراحل عمره، ولكن يتعيّن عليه ليتقدّم، أن تكون البشريّة كلّها، القاصية والدّانية، هي مسرح نظره، بحثاً عن أنموذج جديد لخوض غمار تحدٍّ للذّات جديد.