زراعة النّور في كون منشور.. الحياء خلق يحتاجه الزمان

زراعة النّور في كون منشور.. الحياء خلق يحتاجه الزمان

زراعة النّور في كون منشور

  الحياء خلق يحتاجه الزمان

بقلم: د.سعاد الحكيم

 

الحياء هو صفة خُلُقية في الإنسان تجعله جميلاً في شؤون حياته كلها، في كلّ فِعْل وتَرْك؛ جميلاً في صمته وكلامه، في هزله وجدّه، في وصاله وخصامه، في منعه وعطائه، في معاشرته وهجرانه، في علانيته وخصوصيته.. فالحياء زينة كل شيء؛ كما يقول سيدنا رسول الله عليه صلوات الله: ((ما كان الحياءُ في شيء قَطْ إلا زانَهُ)).

وفي المقابل، إن خلا خُلُق الإنسان من صفة الحياء، فلا شيء يردعه عن الوقاحة والبذاءة والفحش والسبّ والشحّ، وعن الفجور عندما تسوء العلاقة مع الآخر وتصل إلى مشارف الخصومة والهجران. ومن هنا نفهم علاقة الحياء بالإيمان؛ يقول سيدنا رسول الله عليه صلوات الله: ((فإن الحياء من الإيمان)).

ولو نظرنا حولنا لوجدنا، أن الواحد منا عندما يستصفي لنفسه أصحاباً وخلاّناً، فإنه يحرص أولاً على أن يكونوا متّصفين بالعفة والحياء، بعيدين عن الوقاحة والفجور، لأن العلاقات الإنسانية لا تطيب إلا بحسن الخلق.. ثم من بعد توفّر شرط الخلق، يلتفت إلى المستوى المعرفي والاهتمامات وغير ذلك. والدليل؛ أن الإنسان إن لم يحرص على أن يكون صاحبه خلوقاً فإنه سيتركه عند منعطف أول خصام، لأن الخصومة كاشفة لمعدن الإنسان.. ومن المؤكد أنه سيرى منه ما يكره.

ورغم شموخ الحياء في فضاء الخلق الإنساني، إلا أنه لا يُستحب في مواطن، وقد يلتبس بغيره من الصفات كالخجل مثلاً.. لذا، نتشارك في النقاش حول الحياء عبر الفقرات الـست الآتية:

 

 

 

1 – الحياء غير الخجل:

يخلط بعض الناس بين الحياء والخجل، لذا نحاول بيان الفرق بينهما. فنقول: إن الحياء خلق يتولّد من إيمان المرء وطهارة نفسه وعفّته. أما الخجل فهو طَبْعٌ للنفس يظهر عند مواجهة الآخرين كخجل الفتاة من الدخول إلى مجلس يضم الكثير من الناس، أو خجل الفتى من إبداء رأيه في مجمع علم، وهكذا… ويختلف الخجل عن الحياء بأنه لا علاقة له بطهارة النفس، ولكنه يتكوّن على الأرجح من نقصان في الثقة بالنفس وعدم الدّربة على ممارسة الحياة الاجتماعية، لذا فقد يصاحبه أحياناً خوف الإنسان على مكانته بين الناس وعلى صورته الاجتماعية.

وخير مثال على هذا الخجل الطبيعي الاجتماعي ما حدث مع أمية بن أبي الصلت الثقفي، الشاعر المشهور قبل الإسلام. لقد نظر أمية في الكتب وقرأها، ولَبِسَ المسوح وتعبّد بالحنيفية، وحرّم الخمر وتجنّب الأوثان وطمع في النبوّة، لأنه قرأ في الكتب أن نبياً يُبعث بالحجاز، فرجا أن يكون هو. ولما بُعث المصطفى المجتبى صلوات الله عليه، نصح أمية أبا سفيان بأن يتَّبعه، وقال له: اتّبعه فإنه على الحق. ولكن عندما سأله أبو سفيان: لماذا لا تتبعه أنت؟ قال: لولا الاستحياء من صبيات ثقيف، إني كنت أحدّثهن أني هو ثم يرينني تابعاً لغلامٍ من بني عبد مناف.. إذن، إن ما سمّاه أمية هنا “الاستحياء” هو الخجل الاجتماعي من المحيط والخوف من نظرة الآخر والجبن عن اتباع ما يراه حقاً خوف اهتزاز المكانة.. وهذا لا علاقة له بخلُق الحياء.

 

2 – الله تعالى حييٌّ يحبّ الحياء:

يقول تعالى مخبراً عن ذاته العليّة في قرآنه الكريم: ﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ [الأحزاب 53]. كيف نفهم الحياء المنسوب إلى الله جل وعلا؟

أقول، بعد الاطلاع على أقوال المفسرين، إن الحياء الإلهي، غير معقول الكيف، ولكن يُفهم منه معنى الجود والسخاء، كما أخبر النبي الأمي صلوات الله عليه في أحاديث شريفة كثيرة. يقول صلوات الله عليه: ((إن الله عز وجل يستحي أن يبسط العبد يديه يسأله فيهما خيراً، فيردّهما خاليتين)). ويقول صلوات الله عليه: ((إن الله حييٌّ ستّير يحبّ الحياء)).

 

3 – الحياء المحمدي العظيم وعدم قولة “لا” لأحد:

لفت الخلق المحمدي العظيم أنظار الناس كلهم؛ المؤمنين وغير المؤمنين.. وأَسر عقولهم برقائق وداقائق خلقية لم يعهدوها في إنسان أو زمان. وحيث إنه لا يمكنني الإحاطة هنا بوسع الحياء المحمدي العظيم، فأكتفي بأن أدلّ على تجليّيْن له فقط وهما: الحياء من قولة “لا” لأحد، والحياء من مواجهة أي إنسان بما يكره.

أما قولة “لا”، فقد أجمع الصحابة الكرام على أن سيدنا رسول الله عليه صلوات الله، لم يردّ طالباً قط، حتى لو طلب منه ما على بدنه الشريف من ثياب، وبورك الشاعر أبو دهبل الجمحي عندما وصف الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم، فقال:

          عَقِمَ النساءُ فما يَلِدْنَ شَبيْهَهُ          إنّ النساءَ بمثلِهِ عُقْمُ

          متهللٌ بـ”نعم”، بـ”لا” متباعدٌ          سِيَّانِ منهُ الوَفْرُ والعُدْمُ

          نَزِرُ الكلامِ من الحياءِ تخالُهُ         سَقِماً، وليسَ بجِسْمِهِ سُقْمُ

أما الحياء من مواجهة مخلوقٍ بما يكره.. فيتجلّى هذا الحياء الحامل للرفق والرحمة والحرص على الآخر والخوف على مشاعره من التأذّي بكلمة أو نقد.. في ترك المصطفى صلوات الله عليه لحق نفسه في الراحة والخصوصية وعدم مواجهة أصحابه الذين يطيلون الجلوس في بيته بأنهم يصرفونه عن شؤونه ويضيّقون الدار على أهله.. فتولى الله تعالى بيان ذلك للمسلمين تعليماً لهم وتخفيفاً عن حبيبه ومصطفاه صلوات الله عليه، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ﴾ [الأحزاب 53].

ويتجلى أيضاً في كون رسول الله عليه صلوات الله إذا أراد توجيه ملاحظة لشخصٍ على شيء بلغه عنه، لا يوجّه إليه الحديث مباشرة، بل يكنّي ويورد النقد في مورد الرواية عن غائب. تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل ما بال فلان؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟”.

 

4 – الحياء رأس مكارم الأخلاق:

تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: “مكارم الأخلاق عشرة: صدق الحديث، وصدق اللسان، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، والمكافأة بالصنيع، وبذل المعروف، وحفظ الذمام للجار، وحفظ الذّمام للصاحب، وقِرى الضيف، ورأسهنّ: الحياء”.

وهذا التولُّد لمكارم الأخلاق عن صفة الحياء، رصده مفكرو العرب وشعراء المسلمين، في تعاملاتهم مع أترابهم، وأدركوا أن الحياء رادع عن كل رزيّة، وأن الفجور يفتح باب مساوي الأخلاق كلها على النفس والحياة الاجتماعية. يقول أبو الأسود الدؤلي مبيناً أثر الحياء في ردع الإنسان عن فعل مشين:

          وإني لَتَثْنِيْنِي عنِ الجهلِ والخَنَا وعن شَتْمِ ذي القرى خلائِقُ أربعُ

          حياءٌ وإسلامٌ وتُقْيَا وأنني             كريمٌ، ومثلي قد يضُرُّ وينفَعُ 

ويقول العرجي في المعنى نفسه:

          إذا حُرِمَ المرءُ الحياءَ فإنّه            بكل قبيحٍ كانَ منه جديرُ

ويذهب بشار بن برد إلى الاقتناع بأن الحياء هو خير الحياة كلها، وأنه لا خير في البقاء إن ذهب الحياء، يقول:

          فلا وأبيكَ ما في العَيْشِ خيرٌ        ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ

يعيشُ المرءُ ما استحيا بخيرٍ         ويبقى العُودُ ما بقيَ اللِّحاءُ

إذا لم تَخْشَ عاقبةَ الليالي            ولم تَسْتَحِ فاصنعْ ما تشاءُ

ويذم أبو الهلال العسكري صاحباً له، بما يدلّ على اعتباره الحياء رأس الفضائل ومنها: الوفاء، يقول له:

          عَرِيْتَ منَ الوفاءِ وليس بِدْعاً        لأنكَ قد عَرِيْتَ من الحياءِ

 

5 – الحياء من النفس:

إن أصحاب النفوس الكريمة لا يمشون بالحياء بين الناس فقط، بل يكون الحياءُ شاهدَ خلواتهم وحاكماً على علاقتهم بأنفسهم. فلا يتبدّل واحدهم أو يفجر إن غاب الرقيب الخارجي، بل يتعامل مع ذاته بكل الاحترام والحياء اللائقين بها.. ومن الأمثلة على هذا الفصام بين العلانية والخصوصية؛ أنه توجد فئة من الناس تتجمّل بالعفة والحياء في الخصومة عندما يكونون في محضر الناس. ولكن عندما يخلون إلى أنفسهم يبدأون بالسبّ واللّعن والشّتم والبحث عن خطط تدميرية للخصم.. ويقاس على الحياء في الخصومة كل تجليات الحياء في العلاقة بالآخر.

وقد انتبه أبو الحسن الماوردي إلى الحياء من النفس، فقال: واعلم أن الحياء في الإنسان قد يكون على ثلاثة أوجه: أحدهما حياؤه من الله تعالى. والثاني: حياؤه من الناس. والثالث: حياؤه من نفسه. ويكون الحياء من الله تعالى بامتثال أوامره والكفّ عن زواجره، والحياء من الناس يكون بكفّ الأذى وترك المجاهرة. أما حياء المرء من نفسه فيكون بالعفة وصيانة الخلوات. قال بعض الحكماء: ليكن استحياؤك من نفسك أكثر من استحيائك من غيرك. وقال آخر: من عمل في السر عملاً يستحي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر. وقال بعض الشعراء:

          فَسِرّي كإعْلاني وتلكَ حقيقتي               وظلمةُ ليلي مِثْلُ ضوء نهارِيا

 

6 – الحياء مذمومٌ في العلم:

إن الحياء خلق محمود في المواطن كلها، إلا في مجلس العلم. فالشخص الذي يغلبه الحياء عن السؤال يبيت على جهله ويفقد فرصته في المعرفة. ومن هنا، نجد العلماء يرددون في مجالسهم تشجيعاً للسائلين ليسألوا، أنه لا حياء في العلم. وذلك حتى لا يتحرّج شخص من طرح موضوع يمنع الحياء من التطرق إليه في المجالس.

يقول مجاهد رضي الله عنه: لا يتعلّم العلم مُسْتحٍ ولا مستكبر. فدلّنا على أن الحياء في العلم يمنع السؤال، وكذلك الاستكبار قد يمنع من الاعتراف بنقصان المعرفة فيخسر الإنسان فرصته في أن يتعلّم. وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها مثنيةً على نساء الأنصار في تحرّيهن للمعرفة: نِعْمَ النساء نساءُ الأنصار، لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدين. وفي السياق نفسه يروى عن الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، أنه قال: أربع لو ضُربت إليهن أباط الإبل، كان ذلك يسيراً: لا يرجونَّ إلا ربّه، ولا يخافَنَّ إلا ذنبه، ولا يستحي إذا لم يعلم أن يقول: لا أعلم، ولا يتكبّر إذا لم يعلم أن يتعلّم.

وخير ما نختم به هو مدح الفرزدق للإمام زين العابدين رضي الله عنه بالحياء.. يقول:

          هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطْأَتَهُ             والبيتُ يَعْرِفُهُ والحِلُّ والحَرَمُ

          إذا رأتْهُ قريشٌ قال قائلها:                  إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ

          يُغْضِي حياءً، ويُغْضَى من مهابَتِهِ          فما يُكَلَّمُ إلا حين يبتسمُ

 

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!